نص الشريط
الدرس 133
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 20/7/1436 هـ
تعريف: الطولية بين العلوم الإجمالية
مرات العرض: 2696
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (430)
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ما زال الكلام في ما إذا وقع الشك في أن الشبهة المحصورة غير محصورة، وذكرنا أنّ لهذا الشك مناشئ، ووصل الكلام إلى المنشأ الذي ذكره المحقق النائيني «قده»، وهو ما إذا شكّ المكلّف في أنّه قادرٌ على المخالفة القطعية بارتكاب جميع أطراف العلم الإجماليّ أم ليس بقادر.

وهنا وجهان لجريان البراءة، ووجهان لجريان الاحتياط، ونبدأ أولًا بوجهي جريان الاحتياط في عدم شمول دليل الأصل لهذه الشبهة:

أما الوجه الأول لعدم شمول دليل الأصل لهذه الشبهة: أن يقال كما ذكر المحقق العراقي «قده» أنّ المقام من صُغريات الشكّ في القدرة، والشكّ في القدرة مجرىً لأصالة الاحتياط، فهل أنّ ما أفاده تامٌّ صغرويًّا أم لا؟ ويلاحظ على ما أُفيد بأنّ المقام ليس من موارد الشك في القدرة، وبيان ذلك منوطٌ ببيان ما هو معنى أصالة القدرة التي التزم بها الفقهاء في مورد الشكّ في القدرة، فإنّ القدرة على قسمين: تارةً تكون دخيلةً في الملاك، وتارةً تكون دخيلةً في استيفاء الملاك، فمثلًا: القدرة المأخوذة في الصوم «وعلى الذين يُطيقونه فِدْيةٌ طعامُ مسكين» يُستفاد منها أنّ القدرة دخيلةٌ في الملاك، بمعنى أنّ الصوم الذي فيه ضيقٌ لا مِلاك فيه من الأصل، فاتّصاف الصوم بالملاك فرع القدرة، فالقدرة هنا دخيلةٌ في الملاك، فضلًا عن الوجوب. ولأجل ذلك لا يشرع الصوم أصلًا من غير القادر، وهذا ما يعبّر عنه بالقدرة الشرعية، فإنّ القدرة الشرعيّة هي القدرة الدخيلة في أصل اتّصاف الفعل بالملاك. وفي مثل هذا المورد، إذا شكّ المكلّف في القدرة، كما لو شكّ أنّه قادرٌ على الصوم أم ليس بقادر، لا مانع هنا من جريان البراءة، لأنّ الشك في القدرة شكٌّ في الملاك، والشكُّ في الملاك شكٌّ في التكليف، والشكُّ في التكليف مجرىً للبراءة.

المورد الثاني: ما إذا كانت القدرة ليست دخيلة في الاتّصاف بالملاك، وإنّما هي دخيلة في استيفائه وفعليّته، مثلًا: إذا أُمر المكلّف بدفن الميّت، فدفن الميّت ذو ملاك، أي ذو مصلحة، سواءً كان هناك قادرٌ على دفنه أم لم يكن، فالقدرة هنا ليست دخيلةً في الملاك، نعم هي دخيلةٌ في استيفائه وتحصيله، فإذا شكّ المكلّف في مثل هذا المورد، كما لو كان ميّت بين يديه، ونتيجةً لنزول الثلج من السماء شكّ في أنّه قادر على حفر الأرض ودفن الميت أم ليس بقادر، فهل الشك هنا مجرىً للبراءة أم لا؟ بناءً على المسلك المشهور من أنّ القدرة دخيلة في التكليف وإن لم تكن دخيلةً في الملاك، فالشك في القدرة شك في التكليف، لأن فعلية التكليف منوطةٌ بالقدرة، فمع الشّكّ في القدرة فالشّكّ في التكليف، والشّكّ في التكليف مجرىً للبراءة، وإن كان يحرز أن لا دخل للقدرة في الملاك، لكنّها دخيلة في التكليف.

وأمّا على مسلك السّيّد الإمام «قده»، من أنّ التكليف الفعليّ يشمل القادر وغير القادر، وإنّما إحراز العجز مانعٌ من التنجّز، وليس مانعًا من فعليّة التكليف، أي من أحرز أنّه عاجز فلا عقوبة عليه، ولا دخل لذلك في فعليّة التكليف، فالتكليف الفعليّ كما يشمل العالم والجاهل يشمل القادر والعاجز. فلا محالة، على مبنى السّيّد الإمام، إذا شكّ في أنّه قادرٌ أم لا فلا أثر لشكّه لأنّ التكليف فعلي، فعليه المبادرة إلى أن يحرز العجز، وحينئذٍ يكون إحراز العجز مؤمِّنًا ومعذِّرًا.

ولكن على مبنى المشهور الذي يقول بأنّ القدرة دخيلةٌ في فعليّة التكليف، والشكّ في القدرة شكٌّ في التكليف، ومقتضى القاعدة جريان البراءة، إلّا أنّ المشهور لم يلتزموا هنا بجريان البراءة، مع أنّ الشّكّ موردٌ لها، وقالوا بجريان ما يسمّى بأصالة القدرة، وهذا الأصل له وجوهٌ، نكتفي منها بما ذكره السيد الحكيم «قده» في المستمسك مع تقريبه، بيان ذلك:

أنّ المرتكز العقلائيّ بعد أن لاحظ أنّ القدرة غالبًا لا دخل لها في الملاك، وإنّما غالبًا ما تكون دخيلة في الاستيفاء والتحصيل، فهذه الغلبة أوجبت ظهور الأدلة في مدلولين عرضيين: أحدهما المطلوبيّة، والآخر اتّصاف الفعل بالملاك سواءً بقي الطلب أم سقط، مثلًا: إذا قال المولى يجب تجهيز الميّت المسلم، فهذا الخطاب ينعقد له مدلولان بمقتضى غلبة عدم دخل القدرة في الملاك:

المدلول الأول: أنه يجب دفن الميت عند القدرة عليه، بمقتضى حكم العقل بلزوم دخل القدرة في فعليّة التكليف.

والمدلول الثاني: أنّ دفن الميّت ذو ملاك سقط الطلب أم بقي، فإذا كان الخطاب ظاهرًا في أنّ الفعل ذو ملاك على كلِّ حال، كان مطلوبًا أم لم يكن، فهنا المرتكز العقلائيّ في طول ظهور الخطاب في هذين المدلولين، المرتكز العقلائيّ قام على أنّ الشّكّ في القدرة ليس معذِّرًا، وإن كان الشَّكُّ في القدرة مقتضى القاعدة مجرىً للبراءة، لكن لأجل حكومة المرتكز العقلائي، القائل بأن الشّكّ في القدرة غير معذِّر ما لم تُحرِز العجز.

فهذا المرتكز العقلائيّ سرُّه وجدان الملاك، أي أنّ المرتكز العقلائيّ يقول: لو كنت لا تحرز الملاك، فحينئذ يكون شكُّك في القدرة معذِّرًا، أما إذا أحرزت أن دفن الميت ذو مصلحة مُلزِمةٍ على كل حال، وإن كنتَ تشكُّ في أنّك قادرٌ أم لست بقادر، لكنّه فعل ذو ملاك، فمع العلم أنّه فعل ذو ملاك، فالمرتكز العقلائي يقول: يجب عليك تحصيل الملاك الملزِم، ولست معذورًا في أنّك شاكٌّ في القدرة أم غير شاك، نعم إذا أحرزت العجز وأعياك بدنك فأنت معذورٌ، وأما ما لم تحرز فمقتضى لزوم تحصيل الملاك الملزِم المبادرة لذلك. وهذا المرتكز العقلائي حافٌّ بأدلّة البراءة، موجبٌ لانصرافها عن مورد الشكّ في القدرة. فبناءً على الأساس، يُقال بأنّه في مورد الشكّ في القدرة لا مجرىً للبراءة في المورد الذي يُحرَز فيه عدم دخل القدرة في الملاك. فعليه، مورد ومجرى الارتكاز العقلائيّ ما إذا شكّ في القدرة على الامتثال، أي هل هو قادر على دفن الميّت أم لا؟ لا ما إذا شكّ في القدرة على العلم بالامتثال، فهذا مطلبٌ آخر، ومحلّ كلامنا من الشكّ في القدرة على العلم بالامتثال، لا من الشكّ في القدرة على أصل الامتثال. فإذا عَلم المكلّف بوجود نجس في أحد بيوت قم فشكّ، هل هو قادر على ارتكاب جميع العصيرات النّجسة في قم أم لا؟ فإذا شكّ في القدرة فهو لا يشك في القدرة على أصل الامتثال، لعلّه بترك عشرة بيوت يكون قد اجتنب النّجس واقعًا، لكنّه يشكّ في القدرة على إحراز الامتثال، أي هل هو قادرٌ على المخالفة القطعية أم لا؟ لو أراد أن يخالف هل هو قادرٌ أم لا؟ وهذا ليس موضوعًا، - أو لا أقلّ - لا نُحرز أنه موضوع لأصالة القدرة.

الوجه الثاني: ما ذكره السيد الشهيد «قده» من أنّ دليل الأصل الترخيصيّ كأصالة الطهارة وأصالة الحلم وأمثال ذللك مقيَّدٌ لبًّا بأن لا يستلزم الترخيص في المخالفة القطعية، وإلّا فدليل الأصل مطلق، وإنّما يَمنع من إطلاقه لأطراف العلم الإجمالي استلزامه للترخيص في المخالفة القطعية، فهو مقيدٌ لبًّا بهذا بأن لا يستلزم الترخصي في المخالفة القطعيّة. وهذا من المقيِّد اللبّيّ، سواءً اعتبرناه متصلًا أو منفصلًا، أي سواءً كان هذا المقيِّد اللبّيّ واضحًا ارتكازًا فيكون من المقيِّدات المتّصلة، أو أنّه أمر نظريٌّ يحتاج إلى اعتمال والتفات، فإنه يُعَدُّ مقيِّدًا لبّيًا منفصلًا. فإنّه إذا وقع الشكّ في المقيِّد على نحو الشبهة المصداقية، إذ تارةً يقع الشكّ في أصل التقييد، وهذا لا إشكال بأنه شكٌ منفيٌّ بإطلاق الدليل إذا كان الشكّ في المقيِّد المنفصل.

وأما إذا وقع الشكّ في مصداق المقيِّد لا في أصل المقيِّد، فمع كون الشبهة مصداقية لا مكان للتمسك بالإطلاق، سواءً كان المقيِّد اللبَيّ متّصلًا أم منفصلًا، والمقام من هذا القبيل، فإن دليل الأصل قُيّد لبًّا بأن لا يستلزم المخالفة القطعية، فإذا شككنا في أننا قادرون على المخالفة القطعية بارتكاب جميع الأطراف أم لسنا قادرين، فنحن نشك في المصداق، أي أنّ المقيِّد اللبي، وهو عدم استلزام الجريان للمخالفة القطعية متحقِّق في المقام أم ليس بمتحقَق؟ فتوجد شبهة مصداقيّة للمقيِّد اللبّيّ.

وهناك فرقٌ بين الشكّ في المعارِض والشكّ في المقيّد، بيان ذلك: إذا وُجد لدينا دليل، كما لو قامت لدينا رواية على أنّ العصير العنبيّ يحرم شربه بعد غليانه وقبل ذهاب ثُلُثَيه، وتوجد رواية أخرى موهمةٌ للدلالة على الحلّيّة، فهنا نشكّ في مصداق المعارِض، أي أنّ هل الرواية الأخرى مصداقٌ للمعارض لهذا الدليل أم ليس مصداقًا للمعارض؟ فلا تُرفع اليد حينئذٍ عن حجّيّة الرواية الدالّة على الحرمة بالشكّ في مصداق المعارِض، والسرّ في ذلك أنّ عدم المعارِض لم يؤخَذ في موضوع الحجّيّة، وإن كان وجود المعارِض مانعًا من الحجّيّة الفعليّة، فبما أنّ عدم المعارِض لم يؤخذ في المقتضي، إذًا المقتضي للحجّيّة تامٌّ، أي أنّ المقتضي لحجية الرواية الأولى تامٌّ، وإنّما نشكّ في المانع، ألا وهو مصداق المعارِض، فنتمسّك بإطلاق دليل الحجّيّة، حيث إنّ المقتضي تامٌّ والشكّ في المانع منفيٌّ بالإطلاق.

أمّا إذا شككنا في مصداق المقيّد، فهو شكٌّ في المقتضي وليس شكًّا في المانع، والسّرُّ في ذلك أن المقيِّد يكون دخيلًا في الموضوع، لأنّ الموضوع يتعَنْوَن بعدم المقيِّد، فمثلًا إذا قال «أكرِمْ كلَّ عالم»، وثبت بدليلٍ لبّيٍّ أن العالم الأموي لا يُكرم، وشككنا في أنّ زيد بن حفص هل هو أُمويٌّ أم ليس بأمويّ على نحو الشبهة المصداقية؟ فهنا لا يمكننا أن نتمسّك بدليل «أكرمْ كل عالم»، لأن نتيجة وجود هذا المقيد أصبح الموضوع العالم الذي ليس بأمويّ، فإذا شككنا في أنّ هذا أُمويٌّ فهو شكٌّ في انطباق موضوع الدليل عليه، فمع الشكّ في الموضوع يوجد شكٌّ في المقتضي وليس شكًّا في المانع، ومع الشكِّ في المقتضي فلا مجال للتمسُّك بإطلاق الدليل.

فهذا هو الفرق بين الشكّ في مصداق المقيِّد أو مصداق المعارِض، فلأجل ذلك في المقام نقول: بما أنّنا نشكُّ هل أنّ جريان الأصل في أطراف هذه الشبهة مستلزِم للترخيص في المخالفة القطعية أو ليس مستلزمًا، فهو شكٌّ في مصداق المقيِّد، وبما أنّ الشّبهة مصداقيّة للمقيِّد، فالشكّ في المقتضي، فلا مجال لنفي الشك ّبالتمسّك بإطلاق الدليل، فإذا سقط إطلاق دليل الأصل الترخيصيّ، كانت النتيجة الاحتياط في أطراف الشبهة. هذان هما الوجهان لإثبات الاحتياط في أطراف الشبهة المشكوك في أنّها محصورة أم غير محصورة.

وهنا المحقق الإصفهاني «قده» أشار إلى ذلك: إذا شكّ في الشّبهة لأنّه يشكُّ في قدرته على المخالفة القطعيّة، فقال في ص 277: وأما الشكّ في بلوغ الكثرة إلى حدٍّ يمتنع معه ارتكاب الجميع بناءً - يعني بناءً على مطلب النائيني من أنّ هذا هو الملاك في المحصور وغير المحصور -، فالأمر فيه - في هذا الشك - كالعسر والحرج الذي لا دخل له بمتعلّق التكليف، بل في العلم بامتثاله، فكذا هنا، فإنّه لا دخل له إلّا في العلم بالمخالفة المتأخّر عن مرتبة التّكليف. ثم قال: بل لو فُرض الشكّ في القدرة على متعلَّق التكليف أيضًا، لا مجال للتّمسّك بإطلاق الدليل، وهو قوله «اجتنب النجس»، مع أنّني أشكّ في أصل القدرة على الاجتناب، مع ذلك لا أستطيع التمسّك بإطلاق «اجتنب النجس»، لما مرّ سابقًا، من أنّه لا دخل لها - للقدرة - في الملاك، ولا في حُسن التكليف وقبحه المنبعثين عن المصلحة والمفسدة. نعم إذا كانت قضية التكليف خارجيّة فالتكليف الجدي كاشفٌ عن تماميّة علّته من باب كشف المعلول عن علّته، لا من باب كشف الإطلاق عن المراد الجدّيّ.

والحمد لله رب العالمين

الدرس 132
الدرس 134