نص الشريط
الدرس 15
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 29/11/1436 هـ
تعريف: انحلال العلم الإجمالي
مرات العرض: 2683
المدة: 00:31:42
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (237) حجم الملف: 7.25 MB
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ما زال الكلام في التعليق على مسلك السيّد الشهيد «قده» الذي أفاد في البحوث «ج5، ص82»: بأن مسلكنا يختلف عن مسلك المشهور من الأصوليين، حيث إننا نرى التنافي بين الأحكام الظاهرية في حدّ ذاتها وإن لم تصل. مثلاً: إذا كان في الواقع بالنسبة الى شرب العصير العنبي بعد غليانه وقبل ذهاب ثلثيه إذا كان في الواقع توجد امارة أو خبر ثقة على حرمته، ولكن هذه الامارة لم تصل الينا بعد. فهناك في الواقع تنافٍ بين إطلاق دليل البراءة عن حرمة شرب العصير العنبي لعدم وصول إمارة تدل على حرمته، وبين نفس الامارة الدالة على الحرمة. والسر في التنافي بينهما مع أن الامارة لم تصل للمكلف: أنّ مآل حجية الامارة الى الاهتمام بالواقع ضمن الإمارة، ومآل حجية الاصل النافي الى عدم الاهتمام بالواقع على طبق الاصل، فعندما يقال: خبر الثقة حجة، فمرجع حجية خبر الثقة لا الى ما ذكره الاصوليون من ان الحجية بمعنى جعل العلمية أو جعل المنجزية والمعذرية أو جعل المؤدى، فهذه كلها صياغات، مجرد اختلاف في الصياغة والا فمآل حجية خبر الثقة أو روح حجية خبر الثقة في اهتمام المولى بالواقع على طبق خبر الثقة.

وعندما نأتي للأصل النافي كأصالة البراءة أو اصالة الطهارة أو أصالة الحل فإن روح حجيته يرجع الى عدم الاهتمام بالواقع في مورده، فبما أن مآل حجية الامارة الى الاهتمام ومآل حجية الأصل لعدم الاهتمام فلا محالة حتى لو لم يصلا الى المكلف لاغتشاش الامور في ذهنه واختلاطها فإن بين اطلاق دليل الاصل واطلاق دليل حجية الامارة تلاف في الواقع وان لم يصلا، لانه لا يمكن الجمع بين الاهتمام واللا اهتمام، فهو مهتم بالواقع على طبق الامارة وغير مهتم في الواقع في مورد الاصل، فهذان لا يجتمعان واقعاً وثبوتاً. فلاجل ذلك - اي لأجل هذه النظرية التي يراها «قده» -: التي يراها «قده» لا فرق بين الشبهات الحكمية والشبهات الموضوعية، فإن الاحكام الظاهرية كما تثبت بخبر الثقة في الشبهة الحكمية تثبت بالشبهة الموضوعية، وكما ان الاصل ينفي الحكم في الشبهة الحكمية، ينفيه في الشبهة الموضوعية.

فلأجل ذلك يقال: في مورد العلم الاجمالي سواء كان العلم الاجمالي في شبهة حكمية أو موضوعية، إذا اكتشفنا أنّ الامارة كانت موجودة منذ حدوث العلم الاجمالي فالعلم الاجمالي منحل، بيان ذلك: إذا علمنا اجمالاً إما بوجوب صوم يوم الغدير أو حرمة صوم يوم عاشوراء. وحين حدوث العلم الإجمالي لم نجد إمارة على أحدهما، ولكن بعد مدة اكتشفنا أن هناك خبر ثقة على حرمة صوم عاشوراء منذ ذلك الوقت، هذا في الشبهة الحكمية.

وفي الشبهة الموضوعية: لو علمنا اجمالا بنجاسة احد الاناءين يوم الجمعة، وفي يوم الاحد اكتشفنا أن هناك بيّنة على نجاسة اناء الف منذ يوم الجمعة، فهنا في هذين الفرضين: اي ما لو وجدنا أمارة أو خبر ثقة على أحد طرفي العلم الاجمالي، وأن هذا منذ الاول، فحينئذ نقول: بأن هذه الامارة كشفت لنا أن الاصل النافي لا يجري في موردها من أول الامر. أي أصالة الطهارة في إناء باء لا تجري منذ يوم الجمعة لا من الآن؛ إذ لا يعقل الجمع بين الاهتمام واللا اهتمام. فمعنى وجود الامارة «خبر الثقة» على نجاسة اناء باء منذ يوم الجمعة معناه ان الشارع مهتم بالواقع على طبق خبر الثقة منذ يوم الجمعة، فكيف يجتمع ذلك مع عدم اهتمامه بهذا الواقع على طبق أصالة البراءة مثلا عن شرب هذا الإناء. أو على طبق اصالة الطهارة، لا يجتمعان في مورد واحد. فلا محالة حيث ان بين اطلاق دليل البراءة بالنسبة لشرب اناء با، واطلاق دليل حجية خبر الثقة بالنسبة الى هذا الاناء بين الاطلاقين تناف وان لم تصل الينا الامارة، اذاً فيعني ذلك: ان دليل الاصل وهو البراءة مقيد لبّاً بعدم قيام امارة في مورده.

فإذا شككنا قبل ان تأتي الامارة، شككنا قبل يوم الاحد، هل هناك امارة على نجاسة اناء باء أم لا؟. فلا تجري اصالة البراءة عن حرمة شربه، لأنّ دليلها مقيد بعدم قيام الامارة، فمع الشك في قيام الامارة يكون التمسك بدليلها تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية لموضوعه. فإذا لم تجري اصالة البراءة في اناء باء منذ يوم الجمعة جرت اصالة البراءة في اناء الف منذ يوم الجمعة بلا معارض. فانحل العلم الاجمالي. وقد بحثنا كلامه في مبحث حجية القطع وناقشنا هذه الكبرى وهي: ان التنافي بين الاحكام الظاهرية ثابت قبل وصولها.

الملّخص في الاشكال على كلامه:

أولاً: بأن هناك فرقا بين الاحكام الواقعية والظاهرية. فالاحكام الواقعية لها مقامان: ثبوت، وإثبات. وإثباتها غير ثبوتها، فحرمة شرب العصير العنبي لها واقع غير تنجزها بقيام دليل عليها، فلأجل ذلك يقع التنافي بين الاحكام الواقعية قبل وصولها لأن له ثبوتا وتقررا في حد ذاتها مع غمض النظر عن اثباتها بدليل أو اصل. فلا يعقل ان يكون شرب العصير العنبي محطا للحرمة والحلية واقعا وان لم يصلا.

وأما الاحكام الظاهرية: فالحكم الظاهري ليس الا الطريقية للواقع، أو لحال الواقع من المنجزية أو المعذرية، فبما ان الحكم الظاهري متقوم بالطريقية ولا نفسية له مقابل الواقع، بل هو محض طريق، فلا محالة الحكم الظاهري وهو الحجية، سواء كان اصلا أو امارة ليس الا الطريقية اما الطريقية للواقع أو الطريقية لحال الواقع من تنجز أو تعذر، فبالتالي ليس لها مقامان: ثبوت واثبات، بل ثبوتها في اثباتها ليس شيئا آخر، إذ لا معنى للطريقية مع الوصول. إذاً روح حجية الحكم الظاهري مع وصوله وليس روح حجيته في الاهتمام بالواقع على طبق مفاده وان لم يصل، فإن هذا خلف الطريقية خلف كونه طريقا محضاً.

وعلى هذا الاساس: لا تنافي واقعا اصلا بين اطلاق دليل البراءة واطلاق دليل حجية الامارة. بل لا معنى لهما مع عدم الوصول. من دون فرق في ذلك بين الشبهة الحكمية أو الشبهة الموضوعية، وانما قلنا في الشبهات الحكمية: بأن الامارة حجة اذا كانت في معرض الوصول إما لقيام المرتكز المتشرعي على منجزية الاحتمال قبل الفحص أو لاطلاق ادلة وجوب التعلم. فنفس ادلة وجوب التعلم وهو قوله: «هلا تعلمت حتى تعمل» هي التي جعلت احتمال التكليف قبل الفحص منجزاً لا لأن الامارة التي لم تصل حجة قبل وصولها، بل حجيتها بوصولها، ولكن لأن احتمال التكليف قبل الفحص منجز لم يكن مجال لإجراء البراءة.

ولو سلّمنا جدلاً: أنّ الاحكام الظاهرية كالاحكام الواقعية متنافياً ثبوتاً وإن لم تصل فإن ما نسلمه في الشبهات الحكمية، واما في الشبهات الموضوعية التي لم يقم دليل مقيد لإطلاق أدلة الاصول الترخيصية فيها فلا نسلم بأنه البيّنة على الموضوع كالنجاسة والزوجية والملكية... الخ. وإن لم تصل تتنافى مع إطلاق دليل الاصل الترخيصي بالبراءة أو الحلية أو الطاهرة، بحيث تكون مقيداً لبيّاً له. فإنه لا شاهد على ذلك اطلاقاً كما سبق بيانه.

وثانياً: حتى على طبق مسلكه «قده» ونظريته: فإن التعارض بين الاصلين في طرفي العلم الإجمالي حاصلٌ ولا انحلال. بيان ذلك:

إذا علمنا إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين يوم الجمعة، وفي يوم الأحد اطلعنا على وجود بيّنة تشهد بنجاسة إناء باء منذ يوم الجمعة لكننا لم نكن ندري عنها، فحينئذٍ: أفاد السيد الشهيد: بأن الامارة وهي البينة، كشفت لنا أن اصالة الطهارة في هذا الاناء الا وهو اناء باء لم تكن تجري منذ يوم الجمعة، إما عدم جريان الاصل العرضي لا يعني عدم جريان الاصل الطولي، فإن هناك اصلين: تارة نشك في الواقع وهو ان الواقع النجاسة أم لا فتجري اصالة الطهارة فهذا اصل عرضي لانه في عرض البينة، وتارة ما نشك في الواقع، نشك في البينة، هل قامت بينة على النجاسة في هذا الاناء أم لا؟ ففي طول الشك في البينة يجري الاصل ايضا لأن الاصل مورده الشك سواء كان الشك في الواقع أو في قيام الطريق عليه وهذا الاصل الجاري عند الشك في البينة اصل طولي يعني في طول البيّنة في طول الامارة، فهنا عندما نشك: هل يوجد في اناء باء بيّنة على النجاسة أم لا؟ يقول السيد: لا تجري اصالة الطهارة عن النجاسة لان دليل اصالة الطهارة مقيد بعدم قيام البينة وانتم تحتملون قيام البنية؟!. نقول: لا باس: نتمسك باستصحاب عدم قيام البينة، لأننا لا ندري هل قامت بينة في اناء باء أم لم تقم نستصحب عدم قيام البينة، أو بالنتيجة: لاندري هل اهتم الشارع على طبق البينة في البين أو ما اهتم؟. لانه لو كانت هناك بينة لكان الشارع مهموماً على طبق البيّنة. فإذا شككنا هل قامت بينة فنشك هل ان الشارع اهتم هنا على طبق البينة أم لا؟ فنجري البراءة عن اهتمامه على طبق البينة. وهذا الاصل الطولي في إناء باء يتعارض مع الاصل العرضي في اناء الف، لانه اذا علمنا اجمالا اما بنجاسة الف أو باء. في ألف: تجري اصالة الطهارة كعدم وجود بينة، في باء نحتمل وجود بينة، نجري استصحاب عدم قيام البينة، أصالة الطهارة اثرها عدم تنجز النجاسة. استصحاب عدم البينة ايضا ينفي تنجز الواقع، وهو النجاسة، لان استصحاب عدم البينة يقول: الواقع في المقام لا بينة عليه، والواقع الذي لا بينة عليه لا يتنجز.

إذاً بالنتيجة: لو اجرينا الاصل في كلا الطرفين اصالة الطهارة في اناء الف استصحاب عدم البينة في اناء باء. فنتيجة الأصلين معاً الترخيص في المخالفة القطعية فالعلم الاجمالي منجز وليس منحلاً، فقيام البينة في يوما الاحد وان كشف عن ان اصالة الطهارة لا تجري في اناء منذ يوم الجمعة لكنه لا يشكف عن عدم قيام استصحاب عدم قيام البيّنة منذ يوم الجمعة، وبالتالي منذ يوم الجمعة كان هناك تعارض بين اصالة الطهارة في الف واستصحاب عدم البينة في باء، فالعلم الاجمالي منجز.

فتلّخص بذلك: أنّ ما أفاده السيد الشهيد «قده» من انه يعتبر في انحلال العلم الاجمالي بقيام منجز في احد طرفيه أن لا يكتشف ان هذا المنجز كان معارصا ومقارنا للعلم الاجمالي منذ حدوثه فانه اذا اكتشفنا ذلك فإن العلم الاجمالي ينحل فيعتبر في عدم الانحلال أن لانكتشف ذلك وإلا انحل.

نقول: هذا البيان غير تام. والصحيح ما ذكره المشهور: من ان العلم الاجمالي لا ينحل حكما حتى نحرز وجود منجز تفصيلي حين حدوث العلم الاجمالي، فما لم نحرز المقارنة بين المنجز التفصيلي والمنجز الاجمالي فلا ينحل حكماً.

والحمد لله رب العالمين.

الدرس 14
الدرس 16