نص الشريط
الدرس 43
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 14/3/1437 هـ
تعريف: انحلال العلم الإجمالي
مرات العرض: 2648
المدة: 00:35:12
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (177) حجم الملف: 16.1 MB
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

ما زال الكلام في الصورة الثانية: وهي: خروج أحد طرفي العلم الإجمالي عن القدرة العادية، كما لو علم إما بنجاسة ثوبه أو ثوب جاره، وكان مساورة ثوب الجار نوع مشقة وحرج، ففي مثل هذ ا الفرض ذكرنا أنه لا يوجد انحلال حقيقي للعلم الإجمالي، وإنما البحث في أن هناك انحلالاً حكمياً للعلم الإجمالي أم لا؟. وذكرنا أن هناك وجوهاً لبيان انحلال العلم الإجمالي حكماً، وصل الكلام إلى:

الوجه الثالث: وهو ما تعرض له السيّد الشهيد. وبيانه:

أنه على مسلك العلية يكون العلم الاجمالي منجزاً، لأن خروج أحد الطرفين عن حيّز القدرة العادية لا يوجب انقسام الملاك، نظير ما ذكره «قده» في الصورة الأولى، حيث أفاد: أن ما فيه المفسدة لا يخرج عن كونه ذا مفسدة بالعجز عنه، وما كان مبغوضاً فلا يخرج عن المبغوضية بالعجز عنه، فكما أن القدرة غير دخيلة في اتصاف المورد بالمفسدة والمبغوضية فكذلك القدرة العادية. فإن المبغوض مبغوض قدر عليه المكلف عادة أم لم يقدر عليه. فالقدرة العادية لا دخل لها في الاتصاف بالملاك ولا في المبدأ، أي المبغوضية.

وبناءً على ذلك: فاذا علم اجمالا اما بغصبية اللحم الذي بين يديه أو غصبية اللحم الذي بين يدي جاره فإنه يعلم إجمالاً بمبغوضية فعلية لأكل أحد اللحمين، ولا يخرج لحم الجار عن المبغوضية لو كان هو المغصوب لمجرد ان تناوله ذو مشقة، فعلى مستوى مسلك العلية لا يوجد انحلال في العلم الاجمالي وانما يتصور الانحلال على مسلك الاقتضاء، بمعنى جريان الأصل في أحد الطرفين بلا معارض، أي يجري الاصل الترخيصي بما تحت يده بلا معارض فلا يجري الاصل في الطرف الذي هو خارج عن ابتلاءه لأنه لا يقدر عليه عادة كاللحم الذي عند جاره. والسر في ذلك:

أن حقيقة الاصل العملي هي تحديد الموقف عند التزاحم الحفظي بين الأغراض، مثلاً: إذا كان لدينا لحم ميتة، ولحم مذّكى ففي لحم الميتة غرض لزومي، وفي اللحم المذكّى غرض ترخيصي، فاذا اشتبه لحم الميتة باللحم المذكّى، حصل تزاحم لكن تزاحم حفظي بمعنى ان المولى نتيجة اشتباه المكلف بين لحم الميتة ولحم المذكّى إما أن يحفظ الغرض اللزومي فيأمر بالاحتياط فيهما أو يحفظ الغرض الترخيصي فيرخص في كليهما، فالأصل الجاري ما هو إلا تحديد للموقف العملي عند التزاحم الحفظي بين الغرض اللزومي والغرض الترخيصي. هذه هي حقيقة الاصل العملي.

وبناءً على ذلك: فلا يجري الاصل العملي إلا في مورد التزاحم، فاذا كان هناك تزاحم بين غرضين محتملين، غرض لزومي وغرض ترخيصي كان المورد مورداً للأصل العملي، اما لو كان العقلاء لا يرون تزاحما لأن الغرض اللزومي مضمون ومصون فلا موقع للاصل العملي، كما إذا افترضنا ان أحد الطرفين غير مقدور عليه اما عقلا أو عادة، فاذا افترضنا ان المكلف علم اجمالا اما بغصبية ما تحت يده أو بغصبية ما تحت يد جاره والوصول إلى ما تحت يد جاره غير مقدور اما عقلا أو عادة. ففي هذا المورد لا تزحم بين الغرضين، الترخيصي واللزومي، لأنه لا يقدر على ارتكاب الطرفين، فبما انه لا يقدر على ارتكاب الطرفين إذا لم يضيع الغرض اللزومي، وهو المفسدة في المغصوب. فما الغرض اللزومي مضمون محفوظ، لأن المكلف لا يقدر على ارتكاب الطرفين ولو عادة. فالنتيجة: لا وجه لجريان الاصل في الطرف الخارج عن قدرته، إذ الاصل عبارة عن تحديد الموقف العلمي عند تزاحم الأغراض، فإذا لم تتزاحم الأغراض لأن الغرض اللزومي محفوظ، إذا لا معنى لجريان الاصل العملي فيما تحت جاره، فيجري الاصل فيما تحت يده بلا معارض. والنتيجة: هي انحلال العلم الاجمالي حكماً.

ويلاحظ على ما أفيد:

مضافاً لما ذكرناه عند مناقشته في الصورة الأولى: وانه يمكن دخل القدرة العقلية والعادية في اتصاف المورد بالملاك أو المبغوضية: أن حقيقة الاصل العملي هي التأمين من التكليف الإلزامي المحتمل مع القدرة على ارتكابه، فمتى ما شك في تكليف إلزامي وكان قادرا على الاقتحام كان مورداً للاصل العملي، والمفروض في المقام: ان كون ما تحت يد الجار مغصوب مشكوك، وهو قادر على ارتكابه وان كان في ارتكابه نوع كلفه الا انه قادر على ارتكابه فما دام يحتمل الزجر عن ارتكابه لأنه مغصوب وهو قادر على الارتكاب إذا هو مورد للبراءة أو اصالة الحل، والشاهد على ذلك: ان الغرض من الاصل العملي الترخيصي نفي وجوب الاحتياط، فهل الاحتياط هنا معقول وعرفي، إذا قال المولى قال: اجتنب عما تحت يد جارك احتياطا، فهل يكون الاحتياط هنا معقولا وصحيحا عرفا أم لا؟.

نعم، الأمر بالاحتياط هنا في المورد بهدف صون المكلف عن وقوعه في المفسدة وما فيه المبغوضية، الأمر بالاحتياط معقول وصحيح؛ فاذا كان الامر بالاحتياط معقولا وصحيحاً صح ايضا جريان الاصل العملي الترخيصي، بأن يقول المولى: «رفع عن امتي ما لا يعلمون»، حيث إن الغرض من الأصل العملي نفي وجوب الاحتياط، فمتى ما صح وضع وجوب الاحتياط صح رفعه بالأصل العملي.

فتبين بذلك: ان هذا الوجه الذي طرحه السيد الشهيد لجريان الاصل العملي الترخيصي في أحد الطرفين وهو محل الابتلاء دون الآخر غير تام.

الوجه الرابع: _لدعوى الانحلال الحكمي_: التمسك بإطلاق «صحيحة ابن سنان»: «كلِّ شيءٍ فيه حلال وحرامٌ فهو لك حلال حتى تعلم الحرام منه بعينه فتدعه» فقد يقال: بأن هذه الرواية بإطلاقها شاملة لموارد العلم الإجمالي، حيث قال «فيه حلال وحرام»، «فهو لك حلال حتى تعلم الحرام منه بعينه» يعني تعلمه تفصيلاً. خرجنا عن هذا الاطلاق ب «موثق سماعة»، حيث قال: «سألته عن الرجل يكون لديه إناءان يقع في احدهما قذر ولا يدري ايهما؟ كيف يصنع؟ قال: يهريقهما ويتيمم».

حيث ان موثقة سماعة دالة على منجزية العلم الإجمالي فهي مخصصة لصحيحة ابن سنان، الدالة بإطلاقها على الترخيص حتى في موارد العلم الإجمالي، إلا أن هذا المخصص وهو موثق سماعة لا إطلا له في فرض خروج أحد الطرفين عن القدرة العادية، فإن مورد موثق سماعة فيما إذا كان قادرا على مساورتهما معاً بلا كلفة ومشقة، ولذلك قال: «يهريقهما ويتمم». وأما إذا افترضنا ان احدهما خارج عن مورد قدرته، كإناء السلطان أو إناء الجار فلا تشمله موثقة سماعة، فبما أن المخصص لا يشمله، يشمله اطلاق صحيحة ابن سنان: «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعلم الحرام منه بعينه فتدعه».

فإن قلت: «كما قال به السيد الشهيد»: ان هذا الاطلاق لا ينعقد من الاساس لأنه محفوف بارتكاز عقلائي على انه نقض للغرض اللزومي المعلوم بالاجمال، فبما ان هذه الصحيحة محفوفة بارتكاز قطعي على أن لا ترخيص مع العلم بغرض لزومي لأن الترخيص نقض لذلك الغرض اللزومي المعلوم بالاجمالي، إذا أساساً الصحيحة منصرفة عن الشبهة المحصورة، وتختص بالشبهة غير المحصورة، صحيح أنها واردة أو شاملة للعلم الاجمالي، لكن بعد خروج الشبهة المحصورة بالارتكاز العقلائي تنحصر الشبهة في الشبهة غير المحصورة.

والصحيح: أن غاية ما يفيد هذا الارتكاز العقلائي انصراف صحيحة ابن سنان عن الشمول لكلا الطرفين، لأصل العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة.

وبعبارةٍ أخرى: غاية هذا الارتكاز سقوط الارتكاز الاحوالي، أي أن «صحيحة ابن سنان»، ليس له اطلاق يشمل كل طرف حتى مع شموله للطرف الآخر، فلأجل ذلك _أي لأجل احتفاف الصحيحة بهذا الارتكاز_ سقط الاطلاق الاحوالي لها فلا شمول فيها لكل طرف حتى مع ارتكاب الآخر، لأنه نقض للغرض اللزومي.

وأما شمولها لأحدهما لا لكليهما وهو المعبر عنه بالاطلاق الافرادي فهو باق ولا موجب لتخصيصها بالشبهة غير المحصورة.

فتلّخص بذلك: ان هذا الوجه للانحلال الحكمي وهو دعوى شمول صحيحة ابن سنان لموارد العلم الاجمالي وان خرج أحد الطرفين عن القدرة العادية باجراءها في احدهما وهو ما تحت يد دون الآخر. هذا الوجه متين. مع اختصاصها بالشبهة الموضوعية، لأن مورد «صحيحة ابن سنان» الشبهة الموضوعية، بل ربما يقال: مورد اختصاصها بالشبهة الموضوعية التي يتصور فيها الانقسام للحلال والحرام.

هذا تمام الكلام في الصورة الثانية: وتبين بذلك عدم منجزية العلم الاجمالي فيها بدعوى الانحلال الحكمي بمعنى: جريان الاصل الرخيصي بما تحت يده دون ما خرج.

الصورة الثالثة: أن لا يكون له داعي لارتكاب الطرفين، وإلا كلا الطرفين مقدور له عرفا وعادة، لكن لا داعي له الا بارتكاب احدهما، اما لعدم الداعي النوعي أو لعدم الداعي الشخصي، مثلاً: إذا علم اجمالا اما بنجاسة ثوبه أو ثوب زوجته لا يوجد داعي للناس ان يلبس الرجل ثوب المرأة. أو داع شخص كأن يكون مع زميل له في الغرفة ويمكن له ان يلبس ثوب زميله، ولكن لا داعي له ان يلبسه.

إذا علم إجمالاً بنجاسة أحد الثوبين ولم يكن له داع للبس الآخر اما لعدم الداعي النوعي أو لعدم الداعي الشخصي، فهل العلم الاجمالي منجز أم لا؟.

والأصوليون إذا عبّروا عن الخروج عن محل الابتلاء: يقصدون هذه الصورة الثالثة، أي ما ليس له داعي نوعي أو شخصي لاقتحامه، فهذا هو المعبر عنه بخروج أحد الطرفين عن محل الابتلاء.

هنا عدة وجوه في كلمات الاعلام لبيان عدم منجزية العلم الاجمالي. «كصاحب الكفاية، سيد المستمسك، سيد السيد الشهيد».

الوجه الاول: ما ذكره صاحب الكفاية «قده»:

ومحصّله: أنّ النهي ما كان بغرض قدح الداعي للترك، فإذا قيل لك لا تشرك الخمر فالغرض من النهي ان يقدح في المكلف داعيا نحو ترك شرب الخمر، فبما ان الغرض من النهي توليد الداعي نحو الترك فلا شمول للنهي لفرض خروج المورد عن محل الابتلاء، لأنه إذا خرج عن محل الابتلاء لم يكن هناك داع إلى الفعل أصلاً.

كما إذا فرضنا ان هناك اناء في أقاصي إيران مثلاً، فهو خارج عن محل ابتلائي، إذا فلا يوجد داعٍ عندي نحو مساورته، فهنا في مثل هذا الفرض، لو قال لي المولى: لا تساور ذلك الإناء الذي في همدان؛ فيقال: ان هذا النهي لغو عرفا، باعتبار ان الغرض من النهي تحصيل الداعي نحو الترك، وأنت تارك له بطبعك فالنهي لغوٌ، لأنه من قبيل تحصيل الحاصل.

فما دام النهي لا يشمل موارد الخروج عن محل الابتلاء، إذا إذا علمت اجمالا اما بنجاسة الاناء الذي بيدي أو الاناء الذي في اقصى «قم» فهذا العلم الاجمالي غير منجز، لأنه لو فرض كون النجس هو هذا الاناء لم تكن حرمته فعلية، لأن حرمة ما خرج عن محل الابتلاء لغو. فلا علم إجمالي بحرمة فعلية كي يكون منجزاً.

وقد اشكل على كلام الكفاية من قبل السيد الإمام «قده» بما يشمل الصور الثلاث. ويأتي الكلام عنه مفصلاً.

والحمد لله رب العالمين.

الدرس 42
الدرس 44