نص الشريط
أصالة الصحة | الدرس 6
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 30/8/1437 هـ
مرات العرض: 2531
المدة: 00:33:56
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (988) حجم الملف: 7.7 MB
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

المعنى الثالث: أصالة الصحة بمعنى حمل الغير على فعل الحسن، مثلاً: إذا وجدنا شخصا يفطر في شهر رمضان واحتلمنا ان يكون عاصياً أو أن إفطاره عن عذر فمقتضى الأصل حمل فعله على الحسن بمعنى انه لم يعص في إفطاره، وقد ذكر في كتاب «العناوين» أن أصالة الصحة في هذا المعنى من الضروريات، وفي قباله النراقي الذي انكر ذلك في العوائد وقال: بأن الأخبار في المقام متعارضة.

وقبل الدخول في أدلة هذا الأصل نتعرض لعدة أمور:

الأمر الأول: إن المراد بهذا الأصل والمقصود به هو الأثر الجوانحي لا الجوارحي، بمعنى أن المنظور فيه هو عقد القلب على أن المؤمن لم يفعل قبيحاً، فإذا رأينا المؤمن يفطر في شهر رمضان فمقتضى أصالة الصحة عقد القلب على أنه لم يفعل قبيحاً، أي انه لم يفعل معصية. لا ان المنظور هو ترتيب آثار العدالة عليه من قبول شهادته أو الصلاة خلفه أو جواز تقليده ونفوذ قضائه وأمثال ذلك، فإن هذا الأثر العملي الجوارحي منوط باستصحاب العدالة، أو بمحرز آخر من محرزات العدالة، وأما أصالة الصحة بالمعنى الذي نبحث عنه فليس المنظور فيه ترتيب الأثر العملي الجوارحي وإنما المنظور فيه الأثر الجوانحي، بمعنى: عقد القلب على انه لم يفعل قبيحاً.

الأمر الثاني: ان هناك فرقا بين القبيح والفاسد، والحسن والصحيح، حيث إن بين هذين المتقابلين عموما من وجه، فربما يكون العمل قبيحاً ولكنه صحيح شرعاً، كالبيع وقت النداء، فإنه عمل محرّم والمحرّم قبيح الا انه صحيح شرعاً.

وقد يكون العمل فاسداً وليس بقبيح، فالمعاملة الفاقدة لبعض شروطها معاملة فاسدة مع أنها ليست عملاً قبيحاً، لذلك ليس البحث في المقام عن ترتيب آثار الصحة والفساد بالمعنى الشرعي، وإنما البحث في المقام عن عقد القلب على كون الفعل الصادر قبيحاً أو عدم كونه قبيحاً وليس المنظور هو الصحة والفساد بالمعنى الشرعي، أي مطابقة العمل للمأمور به أو مطابقة العمل لم اعتبر فيه بنظر الشارع، أو عدم مطابقته.

الأمر الثالث: إن المنظور فيه في المقام وهو عقد القلب على أن المؤمن لم يفعل قبيحاً قد استدل عليه بوجوه من الآيات والروايات ولكن سيأتي أن مفاد هذه الأدلة على نوعين: أي ان بعض الادلة مفادها كما ادعي هو عدم الحكم على الغير بالقبح، وبعض الادلة مفادها حسن المعاشرة. فهناك مفادان في الأدلة:

المفاد الأول: عدم الحكم على المؤمن بالقبح. وهذا اثر جوانحي قلبي.

المفاد الآخر: هو حسن المعاشرة مع المؤمن أو مع المسلم، مع غمض النظر عما في القلب، فلا ملازمة بين المفادين. إذ قد ينعقد القلب على الحكم على الغير بالقبح ولكن المكلف في مقام العمل يحسن المعاشرة مع الآخر وقد يحصل العكس، فلا ملازمة بين المفادين كما توهمه بعض العبارات في كلمات بعض العلماء.

الأمر الرابع: قد يقال بأن الظن أمر قهري لا يعقل التكليف به حتى يطلب من المكلف الظن بالخير ظناً حسنا.

ولكن الجواب عن ذلك واضح، فإن المقصود بالتكليف هنا التكليف بعقد القلب على الخير أو بعدم عقد القلب على القبح، لا التكليف بالظن، بل حتى الظن الحسن يمكن التكليف به بلحاظ اسبابه الاختيارية فإنه ربما ينشأ الظن عن سبب اختياري.

وبعد بيان هذه الأمور التي ذكرناها نتجه إلى الأدلة في المقام التي استدل بها على أصالة الصحة بهذا المعنى، وقد استدل من القرآن بآيتين، ومن الروايات بعدّة أحاديث:

أمّا من القرآن:

فالآية الاولى: هي قوله «عزّ وجل»: ﴿وقولوا للناس حسناً. والاستدلال بهذه الآية على نحوين: النحو الأول: أن يستدل بالآية مع غض النظر عن الروايات. والنحو الثاني: الاستدلال بالروايات الواردة في تفسير الآية المباركة.

أما النحو الأول: فقد يقال بأن الآية وإن عبّرت بالقول الظاهر في التلفظ ولكن قوله ﴿وقولوا للناس حسنا بمقتضى مناسبة الحكم والموضوع مما يلغي العرف خصوصية التلفظ ولا يرى ان المدار على التلفظ، فقوله﴿فقولوا للناس حسنا أي تعاملوا مع الناس بالقول الحسن والظن الحسن، فمقتضى الأمر المولوي في الآية بأن المكلف مأمور بأن يظن بالغير حسنا أو يعقد قلبه على أن الغير لم يفعل قبيحاً من دون خصوصية للتلفظ والقول بمقتضى مناسبة الحكم للموضوع.

ولكن هذا الاستدلال ممنوع. فإن المستفاد من الآية الشريفة هو أن يوصل الإنسان للغير الحسن، ففرق بين أن يؤمر المكلف بأن يوصل للناس الحسن وبين أن يؤمر بأن يعقد قلبه على حسن فعل الغير، فالآية على فرض إلغاء العرف لخصوصية القول وهذا الإلغاء محل لو فرضنا ان العرف يلغي خصوصية القول فإن مفادها «اوصلوا الحسن للناس، اوصلوا الخير للناس» وإيصال الحسن والخير للناس لا يستلزم ان يعقد المكلف قبله على الحكم على الغير بالحسن فإن المكلف لو عقد قلبه بين وبين ربه على الحكم على فعل الغير بالقبح إن هذا لا يتنافى مع كونه بحسب عمله الجوارحي من قول أو فعل موصلاً للحسن للغير، فما هو مكلف به في الآية ان يوصل الحسن والخير للغير، وهذا يجتمع مع عقد القلب على الحكم على الغير بفعل القبيح ولا تنافي بينهما. مضافاً إلى أن مفاد الآية عدم اختصاص أصالة الصحة بالمؤمن بل مطلق الغير حيث قالت ﴿وقولوا للناس حسنا ومقتضى اطلاقها: عدم الفرق بين كون الغير كافراً أو مسلماً، مؤمناً أم مخالفاً، وهذا مما لم يقل به أحد.

النحو الثاني: هو الاستدلال بالروايات الواردة في تفسير هذه الآية، فهناك رواية صحيحة ذكر في الكافي عن عدة عن اصحابنا عن البرقي عن ابن فضال عن ثعلبة ابن ميمون عن معاوية ابن عمار عن أبي عبد الله× في قوله تعالى: ﴿وقولوا للناس حسنا قال: قولوا للناس حسنا ولا تقولوا الا خيرا حتى تعلموا ما هو.

فيقال بأن قوله في الذيل: «ولا تقولوا الا خيرا حتى تعلموا ما هو» ظاهر في أن المكلف مامور بظن الخير حتى يعلم خلاف ذلك.

ولكن قد يشكل على الاستدلال بهذه الروايات بإشكالين:

الإشكال الأول: ان الرواية ليست ظاهرة في التفسير وإنما هي ظاهرة في العطف، أي قال × قولوا للناس حسنا، وهذا هو تقرير لمفاد الآية المباركة ثم عطف عليه: «ولا تقولوا الا خيرا حتى تعلموا ما هو» فلم يتضح ان الفقرة الثانية واردة تفسيرا للفقرة الأولى بل لعلها مطلب آخر أراد بيانه الإمام وهو مختص بالالفاظ، فكأنه قال: اوصلوا للناس الحسن، ولا تقولوا... أي لا توصلوا لهم سوءاً بأن لا يسمعوا منكم الحكم عليهم بالسوء حتى تعلموا. فليس المنظور في الجملة الثانية هو عقد القلب على الحكم بالحسن، بل غاية مفادها ان الإنسان مأمور بأن لا يقول للناس أمامهم الا خيراً، فلا ملازمة بين تكليف الإنسان بأن لا يقول إلا خيراً، وبين إن يعقد قلبه على الحكم بالخير أو الحكم بالفعل الحسن بالنسبة لأفعال الآخرين.

الإشكال الثاني: دعوى المعارضة، وهو أن هذه الرواية معارضة برواية أخرى وهي: «عن جابر عن ابي جعفر × في قوله تعالى: ﴿وقولوا للناس حسنا قال×: قولوا للناس احسن ما تحبون ان يقال لكم، فإن الله يبغض اللّعان السبّاب الطّعان على المؤمنين الفحّاش المتفحش السائل الملحف، ويحب الحليم العفيف المتعفف».

حيث يقال بأن ظاهر الرواية الثانية ان المنظور في الآية هو التلفظ، أي أن الإنسان مأمور بأن يتجنب السباب واللعن والطعن في الناس، أي ان المقصود بقوله ﴿وقولوا للناس حسنا العنصر السلبي ان لا يكون لعّاناً ولا سباباً لا طّعان، لا العنصر الإيجابي، ولو فرضنا أن المقصود هو العنصر الإيجابي بلحاظ قوله «قولوا للناس احسن ما تحبون» فإن ظاهر هذه الرواية ان المنظور هو عالم اللفظ، لا أن خصوصية اللفظ ملغاة، وبالتالي تقع المعارضة بين الروايتين. بل استظهر بعض الاعلام في المنتقى ان الظاهر من الآية هو أنها في مقام النهي عن السب واللعان والأمر بالقول الطيب الحسن.

ولكن لو فرضنا ان العرف يلغي خصوصية القول في الآية المباركة بمقتضى مناسبة الحكم للموضوع فلا يرى معارضة بين الروايتين فإن كلا المفادين في كلتا الروايتين من مصاديق إيصال الحسن للغير، فالتفسير تفسير مصداقي وليس تفسيرا مفهومياً كي تقع المعارضة بين الروايتين، فإن القول للناس بأحسن ما يحبه الإنسان مصداق لإيصال الحسن اليهم، كما ان عدم قوله لهم إلا خيرا حتى يعلم خلاف ذلك من مصاديق إيصال الحسن اليهم، فهما متضمنان لتفسير مصداقي للآية وليس تفسيراً مفهومياً. هذا بلحاظ الآية الاولى.

وإذا نظرنا إلى الآية الثانية: وهي قوله «عزّ وجلّ»: ﴿يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إنّ بعض الظن إثم ولا تجسسوا.

بدعوى: ان مفاد الآية الشريفة أنه يجب على المكلف أن يظن بالآخرين من المؤمنين الظن الحسن، فإن بعض الظن إثم.

ويشكل على الاستدلال بهذه الآية بوجوه:

الوجه الأول: أن يقال: بأن الآية إرشاد إلى الاحتياط والحذر، أي ان الأمر فيها امر ارشادي لا أمر مولوي، فالآية ترشد إلى أنه ينبغي الاحتياط في الظنون لأن بعض الظنون ظنون آثمة كأن يقول لك المولى: اجتنب الكثير من اللحوم فإن بعض اللحوم ميتة. ﴿يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إنّ بعض الظن إثم أي هذا امر إرشادي لحسن الحذر والاحتياط تخلصاً عن الوقوع في الظن المساوق للإثم وليست أمراً مولوياً للمكلف بعقد قلبه على حمل الغير على عدم فعل القبيح.

الوجه الثاني: أن يقال: لو سلمنا أن الآية مفادها الأمر المولوي فإن غاية ما يستفاد منها: حرمة الظن بالسوء لا وجوب عقد القلب على عدم السوء فإن هناك فرقا بين المفادين، فلو رأى مؤمنا يفطر في شهر رمضان المبارك فهو مكلف بأن لا يظن ظن السوء لا أنه مكلف بأن يعقد قلبه على ان الغير لم يفعل معصية أو لم يفعل قبيحا فإن عقد القلب أمر وجودي لا دلالة في الآية على لزومه. فإذا كان المقصود بأصالة الصحة هو هذا المعنى السلبي بمعنى أن لا يظن ظن السوء لا أن يظن ظن الخير ولا أن يعقد قبله على عدم فعل القبيح فدلالة الآية حينئذٍ تامة من هذه الجهة.

الإشكال الثالث: ما تعرض له الشيخ الطوسي في التبيان: حيث قال: >إنما قال كثيرا لأن في جملته ما يجب العمل عليه ولا يجوز مخالفته، وقوله ﴿إن بعض الظن إثم فالظن الذي يكون إثما إنما هو ما يفعله صاحبه وله طريق إلى العلم بدلا منه مما يعمل عليه، فهذا ظن محرم لا يجوز فعله، وإما ما لا سبيل له إلى دفعه بالعلم بدلا منه فليس بإثم<.

وظاهر كلام الشيخ الطوسي: أن الآية لا علاقة لها بأصالة الصحة بهذا المعنى، وإنما مفادها انه: من كان له طريق لتحصيل العلم بالواقع لم يجز له العمل بالظن. إن العمل بالظن مع وجود طريق لتحصيل العلم بالواقع من دون حرج إثم. فالآية حينئذٍ لا ربط لها بأصالة الصحة بالمعنى الجوانحي.

ولكن حمل الشيخ الطوسي في «التبيان» للآية على هذا المعنى مما لا قرينة عليه. ومجرد وجود آيات تنهى عن العمل بالظن مع إمكان العلم لا يعني أن الآية في نفس السياق وفي نفس المفاد.

الوجه الرابع: ما نقل عن السيد الأستاذ «دام ظله» في بحثه في أصالة الصحة، حيث أفاد بأننا ذكرنا في بحث حجية خبر الثقة أن الظن في القرآن ليس بالمعنى المنطقي وهو الاعتقاد الراجح، حيث إن هذا التقسيم وهو تقسيم الاعتقاد إلى علم وظن وشك ووهم إنما هو تقسيم منطقي وحمل القرآن على المصطلح المنطقي من دون قرينة ولا شاهد، بل الظن في القرآن بمعنى النسبة الإيجابية أو السلبية أو فقل: إن الظن في القرآن بمعنى الاعتقاد بالنسبة الإيجابية أو السلبية الناشئ هذا الاعتقاد عن منشأ غير ضروري، وبيان ذلك:

إن الاعتقاد بأي نسبة سلبية أو إيجابية قد يكون مستنداً لمقدمات ضرورية أو بديهية فهذا علم، وليس مذموماً ولا منهيا عنه، وقد يكون الاعتقاد سواء كان اعتقاداً قاطعاً أو اعتقاداً راجحاً قد يكون ناشئا عن مناشئ أخرى ثلاثة:

المنشأ الأول: العواطف العالية، كأن ينشأ الاعتقاد عن حب الله أو حب الناس.

المنشأ الثاني: ان ينشأ الاعتقاد عن برهان أو عن دليل حساب الاحتمالات.

المنشأ الثالث: ان ينشأ الاعتقاد عن عواطف شهوية. وما هو المقصود بالظن وما هو المذموم والمنهي عنه هو هذا القسم الأخير، أي الاعتقاد الناشئ عن العواطف الشهوية سواء كان اعتقاداً جازماً أو كان اعتقاداً راجحاً.

فالمتلخّص: أنه ليس المراد بالظن في القرآن الاعتقاد الراجح، وثانيا: بأن ما هو الظن المذموم في القرآن هو الاعتقاد الناشئ عن العواطف الشهوية، سواء كان اعتقاداً راجحاً أو اعتقاداً جازماً. وبالتالي فالآية الناهية عن العمل بالظن وقوله ﴿إن بعض الظن إثم كلها ناظرة إلى هذا الصنف من الظن لا مطلقاً. والآية حينئذٍ أجنبية عن محل الكلام وهو عقد القلب على عدم فعل القبيح من قبل الغير، بل مفادها: أنّ ترتيب أي أثر جوانحي أو جوارحي على اعتقاد راجح أو قاطع ناشئ عن عواطف شهوية فإن هذا الامر مذموم، هذا المنهج في نفسه مذموم.

ويلاحظ على ما أفيد:

أولاً: بأن حمل الظن في القرآن على هذا المعنى لا ينسجم مع بعض الآيات، منها قوله: ﴿ما لهم به من علم إلا اتباع الظن أو قوله: ﴿إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً. فإن الظاهر من هذه الآيات الشريفة أن المراد بالظن ما قابل العلم وأن المراد بالعلم هو الجزم البات، مضافاً إلى ان مناسبة الحكم للموضوع أن المراد بالظن المذموم ما لا يشمل فرض الاعتقاد الجازم حيث لا معنى للنهي عن الاعتقاد الجازم الا بلحاظ النهي عن مقدماته وأسبابه.

ويأتي الكلام في بقية الكلام إن شاء الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين.

أصالة الصحة | الدرس 5
أصالة الصحة | الدرس 7