نص الشريط
متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 3/1/1438 هـ
مرات العرض: 3339
المدة: 01:00:06
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2136) حجم الملف: 13.7 MB
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدّث في دلائل العظمة الإلهية في هذا الوجود، وذلك عن طريق تطبيق دليل حساب الاحتمالات على مظاهر العظمة في هذا الوجود. لذلك، نتحدث في محاور ثلاثة:

المحور الأول: بيان مفهوم دليل حساب الاحتمالات.

دليل حساب الاحتمالات دليلٌ رياضيٌّ، أصبح الدليل المستخدم في مجالات العلوم المختلفة لإثبات النتائج والحقائق. دليل حساب الاحتمالات أهمّ خطواته خطوات ثلاث: جمع الظواهر، والمقارنة بين الفرضيات، والتناسب العكسي بين هذه الفرضيات من حيث درجة الاحتمال.

أضرب لك مثالًا: الكواكب السيّارة التسع التي تدور حول الشمس، ومنها الأرض، هل أنَّ هذه الكواكب - ومنها الأرض، نأخذ الأرض بصفة خاصة - كانت جزءًا من الشمس وانفصلت عنها، أم أنها وجود مستقل عن وجود الشمس من أول الأمر؟ الخطوة الأولى من خطوات دليل حساب الاحتمالات أن نجمع الظواهر.

الخطوة الأولى: جمع الظواهر.

ماذا تقول هذه الظواهر؟ أولًا: عمر الأرض يساوي عمر الشمس، هذه الظاهرة الأولى. ثانيًا: عندما نتأمّل في حركة الأرض حول نفسها وحول الشمس نجد أنها منسجمة مع حركة الشمس حول نفسها، كلاهما يسير من الغرب إلى الشرق. أيضًا عندما نلاحظ السرعة، سرعة حركة الأرض ودورانها حول نفسها مع سرعة دوران الشمس حول نفسها نجد تناسبًا في درجة السرعة. أيضًا عندما نأتي للعناصر التي تتكوّن منها الأرض نجد أن الشمس تتكون منها، كعنصر الهيدروجين مثلًا، نرى أنه العنصر الحاكم في كليهما، في الأرض وفي الشمس. عندما نأتي للحرارة نجد أن الأرض باطنها حرارة عالية كما هو باطن جرم الشمس. هذه الظواهر جمعناها، هذه الخطوة الأولى.

الخطوة الثانية: المقارنة بين الفرضيات.

أمامنا فرضيتان: إما أن الأرض جزء انفصل من الشمس، وإما أن الأرض موجود مستقل، أمامنا فرضيتان، الفرضية الأولى أن الأرض جزء من الشمس فرضية صالحة لأن تفسر الظواهر التي جمعناها، إذ أن تلك الظواهر التي جمعناها تصب في صالح هذه الفرضية، أن الأرض كانت جزءًا من الشمس فانفصلت عنها، لأجل ذلك تساوتا في العمر، تساوتا في السرعة، تساوتا في اتجاه الحركة، وهكذا.

بينما الفرضية الأخرى، أن الأرض وجدت مستقلًا، لكن صدفة تساوتا في الحركة، صدفة تساوتا في السرعة، صدفة تساوتا في العناصر، صدفة تساوتا في الحرارة، هذه كلها فرضيات تجعل احتمال كون الأرض موجودًا مستقلًا من أول الأمر احتمالًا ضئيلًا، لأن هذا الاحتمال يعني أن تفرض صدفًا متعددة حتى يتحقق هذا الاحتمال، ألا وهو أن الأرض وُجِدَت مستقلة عن الشمس منذ أول الأمر.

الخطوة الثالثة: التناسب العكسي.

هناك تناسب عكسي بين الفرضيتين، كلما تضاءلت درجة احتمال الفرضية الثانية، وهي فرضية الاستقلال، تصاعدت درجة احتمال الفرضية الأولى، وهي فرضية الجزئية، بينهما تناسب عكسي، كلما قلّ احتمال الفرضية الثانية صعد احتمال الفرضية الأولى، فإذا افترضنا أن الفرضية الثانية - وهي الاستقلال - ضئيلة، 1% أو 1/1000 إذن درجة احتمال الفرضية الأولى تصل 99% إذا كانت تلك 1%، إذن الفرضية العلمية الصحيحة أن الأرض جزء من الشمس انفصلت عنها. دليل حساب الاحتمالات لا يؤدي إلى اليقين بمعنى 100%، بل يؤدي إلى ما يسمّى اليقين الرياضي، اليقين العلمي، يعني اليقين المعتد به في مجالات العلم من أجل الاستنتاج والبناء عليه، فهو دليل يعتمد عليه في مجالات العلوم المختلفة، هذا شرح مبسط لدليل حساب الاحتمالات.

المحور الثاني: تطبيق دليل حساب الاحتمالات على الكون.

نريد الآن تطبيق دليل حساب الاحتمالات على الظواهر الكونية التي أمامنا لاستنتاج العظمة الإلهية من خلال هذه الظواهر الكونية. نأتي ونطرح سؤالًا: هل أننا نعيش في كون متميّز؟ نحن نعيش في مجرة، فيها مجموعة شمسية، فيها أرض، فيها نجوم، هل نحن نعيش في كون متميز أم لا؟

«نيكوس» بعد أن أثبت أنَّ الأرض متحركة، وأنَّ الأرض ليست مركز الكون، قلّل من أهمية الأرض، بل قلّل من أهمية المجرة التي نعيش فيها، قال: الأرض كوكب تقليدي يدور حول نجم تقليدي في أحد ذراعي مجرة تقليدية، يعني بالنتيجة المجرة التي نعيش فيها لا تحمل دلالات مهمة تستحق البحث والعناء وأن يستدل بها على خالق أو على صانع، أبدًا لا قيمة لها. هل هذا الكلام صحيح أم لا؟

في مقابل هذا الكلام، عدة من العلماء يقولون: كوننا الذي نعيش فيه متميز بصفات ثلاث:

الصفة الأولى: أنَّ هذا الكون قابلٌ للفهم.

نقرأ كلام «آينشتاين» عن هذا الكون، يقول: إنَّ أكثر الأمور استعصاءً على الفهم أنَّ الكون قابل على الفهم. ما معنى هذا الكلام؟ هو يشرح كلامه، يقول: إنَّ كونًا فوضويًا لا يمكن إدراك أحداثه ولا التنبّؤ بمساره هو النتيجة البديهية للانفجار الكوني الأعظم، فالنظام والقابلية للفهم والتوقّع الذي تظهره جاذبية «نيوتن» مثلًا مبهر ومعجزة لا يمكن توقّعه من سيناريو بداية الكون.

يريد أن يقول: نحن إذا نظرنا إلى بداية الكون، نجد أن بداية الكون انفجار، ونتيجة الانفجار فوضى، نتيجة الانفجار كون فوضوي، لا يمكن التنبؤ بأسراره ومساراته، لكن الذي حصل بالعكس، حصلت معجزة، الذي حدث كون منظم قابل للفهم يمكن التنبؤ بأحداثه ومساراته، هذا دليل على ماذا؟ هذه معجزة مبهرة، وهي أن الكون الذي نعيش فيه كون قابل لأن نفهمه، كون قابل لأن نحلله، وهذه نتيجة ذلك الانفجار، لا يوجد تناسب بين النتيجة والسبب الانفجار يولّد فوضى، الذي حصل هو نظام، إذن عدم التناسب هو جهة الإعجاز ونقطة الإعجاز في هذا الكون، فكيف يقول «نيكوس» أن المسألة مسألة تقليدية؟! بل المسألة مسألة إعجازية وليست تقليدية.

الصفة الثانية: أن الكون قابل للفهم الرياضي.

«ديفيز» يزيد على «آينشتاين»، يقول: ليس الكون قابلًا للفهم فحسب، بل هو قابل للفهم الرياضي، هذه ميزة لا بد من أن نعرفها، كوننا قابل للفهم الرياضي لا أنه قابل للفهم فحسب، أي أن بإمكاننا أن نتوصّل إلى قوانين بحسابات رياضية موجودة في أذهاننا، ومع ذلك نرى أن هذه الحسابات الرياضية تتطابق مع واقع الكون، تتطابق مع حقيقة الكون. ذكرت هذه النقطة فيما سبق، «آينشتاين» توصّل إلى نظرية النسبية العامة طبق حسابات رياضية فقط، ثم رأى أن هذه الحسابات الرياضية تتناسب مع واقع الكون، تتناسب مع حقيقة الكون، هذا دليل على ماذا؟ دليل على أننا نستطيع أن نفهم الكون فهمًا رياضيًا.

الصفة الثالثة: التوافق بين العقل البشري والكون.

وهي التي يؤكد عليها «بنروز»، وهي أنَّ هناك توافقًا بين عقولنا وبين الكون، يقول: أنا لا أستطيع أن أقتنع أنَّ هذه النظريات الرائعة نشأت بشكل تلقائي. يعني صدفة أو انتخاب طبيعي، لماذا لم تنشأ بطريقة تلقائية؟ يقول: فإنها الأنسب جدًا، فلا يمكن نسبتها للتلقائية، فلا بد أن يكون هناك عقل شديد الذكاء يربط بين الفيزياء والرياضيات ويمكننا من فهم العالم فهمًا رياضيًا حتى صار انضباط الكون رياضيًا من بديهيات العلم الأولية.

يقول: نحن عندما نلاحظ التوافق، نحن نخترع نظريات بحسابات رياضية نجدها تتطابق مع الكون، عندما نقرأ الكون نجده يتطابق مع حساباتنا، هذا التوافق بين عقولنا وبين الكون، هذا التوافق نفسه يكشف لنا أن عقلًا ذكيًا هو الذي صنع الكون وصنع عقولنا، بحيث تتوافق مخترعات عقولنا الرياضية مع واقع الكون، هناك عقل ربط بين الفيزياء والرياضيات، الفيزياء عبارة عن القوانين، الرياضيات عبارة عن المعادلات التي تخترعها أذهاننا، إذن بين معادلات ذهنية وبين قوانين فيزيائية يوجد توافق وتناسب، الذي ربط الفيزياء بالرياضيات، ربط الكون بعقولنا، عقلٌ ذكيٌّ ومصمّمٌ ذكيٌّ.

إذن، بعد أن فهمنا هذا، نريد أن نقول: ما ذكره «نيكوس» من أنَّ الأرض كوكب تقليدي، وتدور حول نجم تقليدي، والمجرة تقليدية... إلخ، هذا ليس منطقًا علميًا، بل هذه المجرة تتميز بأنها قابلة لفهم رياضي دقيق يكشف عن توافق بين عقولنا وبين واقع الكون، وهذا التوافق يؤدي إلى أن نكتشف أن وراء تصميم الكون عقلًا ذكيًا وتصميمًا ذكيًا.

تطبيق دليل حساب الاحتمالات:

الآن نأتي إلى المهم، وهو تطبيق دليل حساب الاحتمالات على الكون. بعد أن فهمنا أنَّ الكون قابلٌ للفهم الرياضي، نحن نريد الآن أن نفهمه فهمًا رياضيًا، كيف نفهم الكون فهمًا رياضيًا يؤدي بنا إلى الاعتقاد بأن للكون خالقًا، بأن للكون مصممًا ذكيًا؟ كيف نصل إلى ذلك؟

نأتي الآن ونطبّق هذا، فنقول: هناك كتاب ل «مارتن ريز»، هذا الكتاب اسمه «ستة أرقام فقط»، عندما نرجع إلى هذا الكتاب نجده يقول: هناك ستة ثوابت رياضية في هذا الكون تدلّنا على الله، هذه الثوابت الرياضية الستة ترتبط بصفات كونية فيزيائية هي المسؤولة عن نشأة الكون والحياة، وهي المسؤولة عن استمرار الكون والحياة في البقاء، ما هي هذه الثوابت الستة؟

الثابت الأول: التمدد.

ذكرنا في الليلة السابقة أنه فور حدوث الانفجار الكوني حصل تمدد في الكون، الكون تمدد بسرعة أكثر من سرعة الضوء بمليار مليار مرة، هذا التمدد هو المحرك الرئيسي لبقاء الكون وبقاء الحياة ومراحل النشأة، هذا التمدد له حد رياضي، لا يمشي التمدد اعتباطًا، بل هناك حد رياضي دقيق لهذا التمدد، أي أن تمدد الكون وتباعد المجرات بعضها عن البعض يخضع لمعادلة رياضية دقيقة، ليس تمددًا اعتباطيًا، هو التمدد لا زال مستمرًا ويستمر، منذ 10 بليون سنة اتضح هذا التمدد إلى يومنا هذا، لكنه يمشي آنًا آنًا بمعادلة رياضية دقيقة جدًا.

لاحظ كيف يتحدث الفيزيائيون عن هذه المعادلة الرياضية، يقولون: لو أبطأ هذا التمدد بنسبة «1 * 10^ - 17» لارتطم الكون وتهدّم على نفسه، ولو زادت هذه النسبة ب «1 * 10^ - 6» لتبعثرت محتويات الكون ولم تتشكّل المجرات. الرياضي يحصر نفسه بين هاتين النسبتين، بينهما هو الحد الرياضي الذي يضبط تمدد الكون، هذا الحد الرياضي بين هاتين النسبتين، لو زاد هذا الحد لتبعثر الكون وما نشأت المجرات، ولو قل لارتطم الكون بنفسه وانهدم وانقرض منذ زمن بعيد. إذن، هنالك حد رياضي دقيق لسرعة تمدد هذا الكون وتوسعه، وهو الثابت الأول.

الثابت الثاني: نشأة المجرات.

ذكرنا ليلة البارحة أنَّ بعض مناطق الكون تزيد فيها كثافة المادة عن مناطق أخرى، ونتيجة ازدياد كثافة المادة في بعض المناطق تولّدت بذرة المجرّات، لكن ما هو مقدار هذه الزيادة؟ حتى هذه الزيادة محسوبة رياضيًا، هذه الزيادة بنسبة 1 إلى 100 ألف جزء، هذه النسبة هي البذرة لولادة المجرات، لو فرضنا أن هذه النسبة قلّت عمّا هي عليه لبقي الكون على حالته الغازية، ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ، لو أن النسبة التي حددناها قلّت عن ذلك لبقي الكون على حالته الدخانية، على حالته الغازية، ولم تتكون المجرات. ولو زادت هذه النسبة لتولدت ثقوب سوداء، والثقوب السوداء وظيفتها ابتلاع كل ما حولها، تبتلع كل مادة الكون، فينتهي الكون وينقرض. إذن، هنالك حد رياضي دقيق.

الثابت الثالث: قوة الجاذبية.

من أهم القوى العاملة في الكون قوة الجاذبية، قوة الجاذبية أيضًا مضبوطة رياضيًا، ضُبِطَت قوة الجاذبية بحيث تبلغ 1 إلى 10^ - 40، وبذلك - أي لأنها بهذا الحد - تستطيع الربط بين أجرام الكون والتوازن بين مساراته، لو كانت قوة الجاذبية أقوى لارتطم الكون بنفسه، لو كانت قوة الجاذبية أقل لتبعثر الكون ولم تنشأ المجرات والنجوم.

الثابت الربع: مصدر الطاقة.

الكون فيه طاقة، من أين تأتي الطاقة؟ الطاقة تأتي من الاندماج النووي بين ذرات الهيدروجين في قلب النجوم، كالشمس، الشمس مصدر للطاقة نتيجة الاندماج النووي بين ذرات الهيدروجين في قلب هذا الجرم، في قلب هذا الجسم الناري، ألا وهو الشمس. نحن كم نحتاج من هذه الطاقة؟

يقولون: ما يحتاجه الكون من هذه الطاقة، الذي يحتاج إلى استغلاله هو 0.7، نحتاج له للربط بين مكونات ذرّات الهيليوم، هذا الذي نحتاجه، لو زاد وصدر أكثر مما يحتاجه الكون - 0.8 مثلًا - لكان معنى ذلك نفاذ الهيدروجين، نفاذ طاقة الكون، ولو قل وصار 0.6 مثلًا فحينئذ ينقضي الكون، أصلًا الشمس لا تستطيع أن تبعث حرارتها وضوأها إذا لم تستغل هذا المقدار، ألا وهو 0.7، إذن هناك حد رياضي دقيق.

الثابت الخامس: الروابط الكهربائية والجاذبية.

هناك عندنا قوتان: روابط كهربائية والجاذبية، هاتان القوتان بينهما تجاذب، الروابط الكهربائية وظيفتها أنها تمسك بالذرات لتكوين الجزيئات، الجاذبية وظيفتها بالمقابل أنها تحفظ التوازن فيما بينها، فهما قوتان متجاذبتان، لكن قوة الروابط الكهربائية أكبر بكثير من قوة الجاذبية، لو اختلت النسبة بين هاتين القوتين، صارتا متساويتين مثلًا، أو صارت قوة الجاذبية أكثر، فحينئذ يقل عمر الكون، إما أن تنتفخ أجسام الكائنات الحية إلى حد الانفجار، أو تصغر أحجام الكائنات الحية وتصل إلى حجم الحشرة الصغيرة، وكلاهما عائق أمام الحياة.

الثابت السادس: نسبة بنية الكون الفراغية.

هذا الفراغ الذي نعيش فيه، هذا الفضاء الذي نعيش فيه، البنية الفراغية للكون لها أبعاد، طول، عرض، عمق، زمن، هناك أبعاد محددة لهذه البنية، لو كانت البنية أكثر من هذه الأبعاد لم نتمكن من الحياة، لو كانت البنية أقل من هذه الأبعاد لم نتمكن من الحياة.

إذن، عندنا ستة ثوابت رياضية لها حدود دقيقة لا تزيد ولا تنقص. بعد أن فهمنا هذا يأتينا السؤال: هل هذه كلها صارت صدفة؟! جميع هذه الثوابت بهذه الأرقام الرياضية الدقيقة حصلت صدفة؟! نأتي نحن ونطبّق دليل حساب الاحتمالات، أمامنا ظواهر، وأمامنا احتمالات، احتمال أن هذه الظواهر نشأت عن مصمم ذكي، واحتمال أن هذه الظواهر نشأت صدفة، يعني وجود كل واحد صدفة! وكونها بهذه النسب الرياضية الدقيقة صدفة! واجتماعها في كون واحد صدفة! والتناسق فيما بينها في العمل صدفة! صدفة في صدفة في صدفة في صدفة! هذا احتمال لا قيمة له.

إذن، عندما نقارن بين هذين الاحتمالين: أن هذه الثوابت الستة الرياضية الدقيقة وجودها صدفة، حدودها صدفة، اجتماعها صدفة، التناسق فيما بينها صدفة، وبين احتمال أنها صممت من قِبَل مصمم ذكي، نرى أن الاحتمال الأول ضئيل، الاحتمال الثاني أكبر، بينهما تناسب عكسي كما قلنا، كلما قلّ احتمال الصدفة ارتفع احتمال فرضية الخالق القدير، إلى أن تصل درجة الاحتمال إلى مستوى اليقين الرياضي.

أنقل لك الكلام الذي نقلته سابقًا عن «كولينز»، هذا الفيلسوف يقول: إنَّ تأثير ثبات القيم في نشأة الحياة صدفة 1 * 10^ - 123! هذه الأصفار إلى ما لا نهاية، هو رقم لا يمكن كتابته فضلًا عن أنه يمكن تحققه! إذن بالنتيجة: بين احتمال الصدفة وبين احتمال الخالق القدير لا مناسبة أصلًا، لا مقايسة أصلًا، ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.

المحور الثالث: غائية الكون.

هل لهذا الكون غاية وهدف، أم لا؟ نحن في المحاور السابقة أثبتنا أنَّ للكون فاعلًا، الآن نريد أن نثبت شيئًا آخر، ليس فاعلًا فحسب، بل للكون فاعل هادف، للكون فاعل له غاية وهدف، أي أننا أثبتنا فيما سبق العلة الفاعلية، والآن نثبت العلة الغائية.

الفلاسفة يقولون: لكل موجود مادي أربع علل: فاعلية، مادية، صورية، غائية. مثلًا: هذا الكرسي الذي أنا عليه له فاعلية، وهو النجار الذي صنعه، وله علة غائية، يعني هدف، وهو من أجل الجلوس عليه، وله علة مادية، وهي الخشب الذي تكوّن منه، وله علة صورية، وهي الهيئة التي بني عليها، كل موجود مادي له علل أربع، هذا الكون ثبت لنا من خلال المحور السابق أنَّ له علة فاعلية، ولكن هل له علة غائية؟ يعني هل له غاية؟ هل له هدف؟ أم هذا الكون بدون هدف وبدون غاية؟ هذا ما نريد أن نتحدث عنه في هذا المحور. نقول: نعم، للكون غاية من خلال قراءة زاويتين:

الزاوية الأولى: إعداد الأرض لحياة الإنسان.

هل الأرض صُنِعَت بلا هدف؟ هل الأرض مثل أي حجرة ملقاة هكذا في الطريق؟! هل الأرض أوجدت بلا هدف، أم أن الأرض صنعت لهدف، وهو الإنسان، لتكون مهدًا لحياة الإنسان، لتكون مهدًا للإنسان العاقل الكامل، أم أن الأرض بلا هدف؟

طبعًا نحن نذكر الأرض كمثال، ونريد الكون كله. نقول: الأرض لهدف، ونثبت ذلك من خلال جمع الظواهر وتطبيق دليل حساب الاحتمالات.

الصفة الأولى: قطر الأرض.

قطر كوكب الأرض 6 كيلو و400، محيطها 40 ألف كيلو تقريبًا، سمك القشرة الأرضية حوالي 20 كيلو، طبعًا من هذه الأبعاد نستطيع أن نستنتج حجم الأرض، فالأرض لها حجم معين. لو قلّ حجم الأرض عما هو عليه، صار حجمها مثل حجم القمر، القمر أصغر من الأرض بكثير، لو صار حجم الأرض بحجم القمر لقلت جاذبيتها إلى السدس، سدس هذه الجاذبية، وإذا قلت الجاذبية لم تستطع الأرض أن تمسك بالغلاف الجوي المحيط بها، وإذا لم تستطع أن تمسك بالغلاف الجوي المحيط بها لضعف جاذبيتها وتبعثر هذا الغلاف لكان معنى ذلك تجمّد كلّ ما على الأرض ليلًا؛ لأنه يفقد الدفء تمامًا، واحتراق كل ما على الأرض نهارًا؛ لتأثير حرارة الشمس عليها.

الصفة الثانية: دوران الأرض.

نأتي الآن إلى الدوران، الأرض تدور حول الشمس بسرعة، كل ثانية 30 كيلو، يعني 110 آلاف كيلو في الساعة الواحدة، من دون أن نسقط، مع هذا الدوران السريع نحن لا نسقط منها بحكم الجاذبية وضغط الهواء المحيط بنا، لو انخفضت السرعة عما هي عليه لطال الليل والنهار بنحو يعيق الحياة على الأرض.

الصفة الثالثة: المسافة بين الأرض والشمس.

حرارة الشمس تبلغ 7 آلاف درجة مئوية، والمسافة بين الأرض وبين الشمس 165 مليون كيلو مترًا، لو اقتربت الأرض أكثر لاحترقت، ولو ابتعدت الأرض أكثر لتجمدت.

هذه الحدود الرياضية لحجم الأرض، لدوران الأرض، للمسافة بين الأرض والشمس، كل هذه الحدود الرياضية تدلّ دلالة واضحة على العلة الغائية، يعني أن الأرض خُلِقَت للحياة، أن الأرض خُلِقت لكي يعيش عليها الكائن الحي، وبدون هذه الحدود لا يمكن أن يعيش عليها الكائن الحي. لذلك قال تبارك وتعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا، الفرس الذلول هو الفرس الطيّع الليّن الذي تستطيع أن تصعد عليه وتمشي، بخلاف الفرس الجموح الصعب، الأرض جُعِلَت ذلولًا، يعني طيعة لينة، يستطيع الإنسان أن يبني فيها، أن يزرع فيها، أن يمشي فيها، أن يعيش عليها.

وقال تعالى: ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا، أنتم ماذا تظنون أنفسكم؟! أنتم أعظم من السماء والأرض؟! ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا، لماذا كل ذلك؟ ﴿مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ، يعني حتى تعيش الكائنات الحية على الأرض. لذلك، نرى «برونلي» يتحدث عن كوكب الأرض، يقول: كوكب فريد، هو الكوكب الوحيد في مجرتنا - بل ربما في الكون كله - الذي يمهّد للحياة عليه.

هنا سؤال، قد يسأل سائل: لماذا القرآن يركز على الأرض؟ السماوات الأرض، السماوات الأرض، كلما ذكر السماوات ذكر الأرض، لماذا؟! ما هي قيمة الأرض؟! حجم الأرض بالنسبة للكون كحجم حبة رمل بالنسبة للأرض كلها، حجمها لا قيمة له، لكن القرآن يركز عليها، لماذا؟ هذا التركيز لأن الأرض تتميز بأنها مهد الكائن الحي، لأن الأرض تتميز بأنها مهد الكائن العاقل، وهو الإنسان، الأرض تتميز بأنها مهد خلاف الله في الكون، ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ.

الزاوية الثانية: إعداد الإنسان لإعمار الكون.

كما أعدّ الأرض أعدّ الإنسان أيضًا، أعدّ الإنسان لأن يكون مستعمرًا للكون، خلق الإنسان وأعطاه صفتين: عقلًا وإرادة، بهاتين الصفتين يستطيع الإنسان أن يتحكم في الكون، وأن يستعمره، وأن يستخرج كنوزه، وأن يستخرج آثاره، ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا.

عندما نقارن بين كيفية إعداد الأرض وكيفية إعداد الإنسان نستوحي الغائية، إعداد الأرض بهذه الطريقة وإعداد الإنسان بهذه الطريقة دليلٌ على وجود هدفية من الأرض إلى الإنسان، دليل على وجود غائية من الأرض إلى الإنسان. لذلك، هناك غاية لا مجال للفرار منها، أذكر لك أقوال عدة علماء غربيين تركز على هذه الهدفية:

1/ «تيمبيلتون» - صاحب كلية في جامعة أكسفورد، كلية باسمه - يقول: كيف يستطيع كونٌ خالٍ من الغائية أن يخلق إنسانًا له غاية؟! بمعنى: فاقد الشيء لا يعطيه، الإنسان عاقل، صاحب غاية، صاحب أهداف، فكيف يستطيع كونٌ أعمى خالٍ من الغائية والأهداف أن يخلق كائنًا له غاية وأهداف؟! هذا دليلٌ على أنَّ الكون كله خُلِق لغاية، وخُلِق على طريق الهدفية.

2/ «مارتن ريف» يقول: إنَّ الكون تمَّ تفصيله على مقاس الإنسان. يعني: أنا عندما أقرأ الكون أراه فُصِّل على الإنسان بالضبط.

3/ «ديسون» يقول: يبدو أنَّ الكون كان يعلم أننا قادمون! لماذا الكون سار بهذه الطريقة إلى أن أصبح قابلًا للحياة؟ يقول: يبدو أنَّ الكون كان يعلم أننا قادمون.

كلّ هذا يؤكّد على الهدفية، أن الكون يعيش روح الهدفية، وهذا ما يؤكده القرآن الكريم: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وقال في آية أخرى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً. إذن، كل هذا الكون يعيش روح الهدفية، الهدف من هذا الكون أنت، الهدف من هذا الوجود أنت، أنت أيها الإنسان العاقل تستطيع أن تصل إلى أعلى درجات الكمال، وتستطيع أن تعمر هذا الكون بقدراتك العقلية، وبقدراتك النفسية، أنت الهدف، أنت الغاية. لأجل ذلك، ركز القرآن على هذا الهدف: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا. أنت صاحب الأمانة، أنت صاحب الخلافة، أنت القادر على إعمار الكون كله.

وقفة مع حديث الكساء:

لذلك، تأتي مثلًا أنت وتسأل، تقول: أنا أسمع في حديث الكساء: ”ما خلقتُ سماء مبنية، ولا أرضًا مدحية، ولا قمرًا منيرًا، ولا شمسًا مضيئة، ولا فلكًا يسري، ولا بحرًا يجري، إلا لأجل هؤلاء الخمسة الذين هم تحت الكساء. قيل: ومن تحت الكساء؟ قال: هم فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها“، يأتي إنسان ويتساءل: هل من المعقول أنَّ هذا الكون كله من أجل خمسة؟! هذا الكون كله من أجل خمسة؟! ما هي ميزة هؤلاء الخمسة؟!

افهم الحديث جيّدًا، ذكرنا في المحاضرة أنّ كل الكون خُلِق لأجل الإنسان الكامل، غاية الكون كله وجود إنسان كامل، كامل في علمه، كامل في قدراته العقلية، كامل في قدراته الروحية، كامل في قدراته النفسية، الهدف من هذا الكون وجود الإنسان الكامل، وبما أن أكمل البشر هم الخمسة لذلك صح أن يقول: ما خلقت وما خلقت وما خلقت وما خلقت... إلا لأجل هؤلاء الخمسة الذين هم تحت الكساء.

هؤلاء الخمسة، هؤلاء الصفوة، هؤلاء النور الواحد، تجتمع فيهم صفات عظيمة، من أهم تلك الصفات في هؤلاء الخمسة: قوة الإرادة. عندما نقرأ صفات محمد، صفات علي، صفات الحسين، هناك جامع واضح مشترك، قوة الإرادة، النبي يخوض المصاعب، 23 سنة من دون أن يتنازل، حتى يرسّخ دعوته، ”والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه“. الإمام علي يقول: ”والله لو أعطيت الأقاليم السبعة على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت“ ".

تأتي إلى الشخص الثالث: يحرّك نفس المسار، يكرّر نفس الموقف، يجسّد نفس الإرادة، ”والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر إقرار العبيد“، ”ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة! يأبى الله لنا ذلك، ورسوله، والمؤمنون، وجذور طابت، وحجور طهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية، أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام“، ويخرج من مكة مصرًا على طريقه، مصرًا على هدفه.

كيف نشأ الكون
اللهم إني أسألك بالوحدانية الكبرى