نص الشريط
النبوة تجربة بشرية أم انتخاب سماوي
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 6/1/1438 هـ
مرات العرض: 3267
المدة: 01:05:59
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1605) حجم الملف: 15.1 MB
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدّث في محورين:

  • حقيقة النبوة.
  • الشواهد البشرية على حقيقة النبوة.
المحور الأول: حقيقة النبوة.

هناك فرقٌ بين الإرادة السياقية والإرادة الاستثنائية، مثلًا: يولد الطفل ويتعلّم ويدخل المراحل الدراسية المختلفة، إلى أن يصبح رجلًا متخصصًا في الطب أو في الفيزياء أو في الرياضيات، هذه المسيرة لا تخرج عن إرادة الله عز وجل، الله لو لم يرد له أن يصبح أستاذًا في الطب أو في الفيزياء أو في الرياضيات لم يصبح، إلا أن إرادة الله هنا سياقية، بمعنى أن الله اختار له هذه الصفة وهذا التخصص، لكن ضمن الظروف، ضمن العوامل الطبيعية، ضمن الظروف الموضوعية، فهو أصبح أستاذًا لا بشكل استثنائي، وإنما بشكل طبيعي، ضمن الظروف، ضمن العوامل الطبيعية أصبح متصفًا بهذه الصفة، هذه تسمى إرادة سياقية.

نأتي إلى طفل آخر، خلال شهر أو شهرين يتكلم مثلًا، أو خلال أربع سنوات من عمره يصبح أستاذًا في الفيزياء أو أستاذًا في الطب، هذه ليست إرادة سياقية، بل إرادة استثنائية، الله شاء له أن يكون أستاذًا في الفلسفة أو في الرياضيات لكن على نحو خرق الظروف الطبيعية، خرق العوامل الاعتيادية، فأراد الله له هذه الصفة بشكل الإرادة الاستثنائية لا بشكل الإرادة السياقية.

عندما نأتي إلى نبوة الأنبياء، ومنها نبوة النبي محمد ، هل أن النبوة من قبيل الإرادة السياقية، أم من قبيل الإرادة الاستثنائية؟ وصول النبي إلى مقام النبوة، موسى أو عيسى أو غيرهم، هذا من قبيل الإرادة الاستثنائية، يعني أصبح نبيًا خرقًا للظروف والعوامل الطبيعية، أم من قبيل الإرادة السياقية؟

هنا لدينا اتجاهان أطرحهما: الاتجاه الأول هو أن النبوة إرادة استثنائية، الله يختار بشرًا، ويرسل له الوحي مادة جاهزة، لا يمكن لهذا البشر أن يتصرف فيها بحذف ولا بإضافة، ووظيفة هذا البشر إيصال هذه الرسالة للمجتمع البشري. لكن هناك اتجاه آخر يقول: النبوة إرادة سياقية، كيف؟

معالم نظرية سروش:

الباحث الإيراني الدكتور السيد عبد الكريم سروش عنده كتاب «بسط التجربة النبوية»، يقول: مسألة النبوة مسألة طبيعية، النبوة هي تجربة بشرية تكاملية، كسائر التجارب الأدبية أو العرفانية. مثلًا: الإنسان عندما يتعلّم الأدب، يخوض تجربة في عالم الأدب، هذه التجربة البشرية يتكامل بها وينضج بها سنة فسنة فسنة، إلى أن يصبح أديبًا ماهرًا، ويبدع لنا شعرًا أو نثرًا من منجزاته، التجربة الأدبية هي تجربة بشرية تكاملية، صحيح هذا الأديب سيصل إلى درجة يُلهَم أروع المقاطع الأدبية من قبل الله، لكن بالنتيجة هو وصل إلى هذه المرحلة بعد تجربة ومخاض إلى أن أصبح أديبًا ملهمًا.

نأتي مثلًا إلى التجربة العرفانية، العرفاء الذين يخوضون تجربة روحية من تجلية إلى تخلية إلى تحلية، يمارسون مع أنفسهم سلوكًا معينًا، إلى أن يصلوا في تطهير الروح وتهذيب النفس وبلوغ الكمالات، إلى أن يصلوا إلى درجة يلهمون من قبل الله بعض الحكم، بعض الكمالات، بعض المقالات، بل يصل العبد إلى درجة أنه يعتقد أنه ما يسمعه هو كلام الله، ما يقوله هو كلام الله، ما يفكر فيه هو وحي الله.

سروش يقول: النبوة هكذا، ليست مسألة إرادة استثنائية أو إعجازية، بل هذا النبي إنسان هذّب نفسه وطهّر روحه وخاض تجرية روحية تكاملية، إلى أن وصل بعد أربعين سنة، مثل النبي ، ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ، هذا بعض الأنبياء، كذلك النبي، بعد أربعين سنة، يعني بعدما خاض تجربة روحية وثيقة، وصل إلى درجة أنه يشعر أن ما يسمعه هو كلام الله، وأن ما يقوله هو كلام الله، وأن ما ينقدح في ذهنه هو وحي الله عز وجل، إلا أنَّ المسألة هي مسألة تجربة بشرية، النبوة هي تجربة بشرية، فالنبوة داخلة ضمن الإرادة السياقية لا ضمن الإرادة الاستثنائية. حتى أوضح الموضوع أكثر، هنا ثلاثة أمور ترتبط بنظرية سروش:

الأمر الأول: ليس النبي وسيلة، إنما النبي صانع. نحن في الاتجاه الأول نعتقد أن النبوة إرادة استثنائية، نعتقد أن النبي وسيلة، أخذ الوحي من الله، أوصله إلى المجتمع البشري، النبي وسيلة نقل. هو يقول: لا، النبي ليس وسيلة، النبي دوره الصنع، هو صنع مادة الوحي، مادة الوحي منه وإليه، صنعها عبر تجربته الروحية، فهي منه وإليه، مثل الشاعر، الشاعر هو الذي يصنع القصيدة، وإن كان يحتاج إلى إلهام من الله، لكن دوره دور الصنع، وليس دور الوسيلة.

الأمر الثاني: المادة - مادة القرآن مثلًا - مادة إلهية، لكن الصورة والكيفية والصياغة من النبي ، هو الذي قام بالصياغة، هو الذي قام بتشكيل الصورة.

الأمر الثالث: ليس المقصود بالصياغة الصياغة اللغوية، يعني النبي عبّر عن الوحي بلسان عربي، بل أكثر من هذا، لم يقم النبي بصياغة الوحي بصياغة عربية فحسب. طبعًا هو يعتقد أن اللغة العربية ما نزلت من السماء، هذه لغة النبي، النبي هو الذي صاغ الوحي بلغته. أكثر من ذلك: النبي أضاف رتوشات، تقريبات، حتى يبرز الوحي بصورة مثالية جذّابة، أضاف إلى الوحي ثقافته الخاصة، موروثاته الاجتماعية، مخزوناته الروحية، أضافها إلى الوحي، فخرج القرآن بهذه الصورة، فليس كل ما في القرآن هو إلهي، وليس كل ما في القرآن هو من الله، بل النبي أضاف له من ذاتياته وثقافته ومخزوناته ما جعل القرآن بهذه الصورة، كأن القرآن قصيدة صاغها النبي بإلهام من الله عز وجل.

الرد على هذه النظرية:

إذن، النبوة بحسب هذا الاتجاه هي إرادة سياقية، هي تجربة بشرية روحية لا أكثر، فهي ليست غريبة، بل من الممكن أن تحدث لأي إنسان، وليس شيئًا صعبًا! نحن نرى الاتجاه الأول، وهو أن الوحي إرادة استثنائية، يُختار بشرٌ فيلقى إليه الوحي بمادته وصورته، بمادته ولغته، النبي لا يتصرف في الوحي بشيء، الوحي مادة جاهزة، تنزل إليه فيتلقاها، فدوره دور إبلاغ ما نزل إليه إلى المجتمع البشري ليس إلا، ولكن كيف نثبت كلامنا؟ نحن تحدثنا عن إثبات الله عز وجل في ليالٍ، تحدثنا عن التوحيد في ليلة، الآن نتحدث عن النبوة، الأصل الثالث من أصول الدين. كيف نثبت أن النبوة إرادة استثنائية وليست إرادة سياقية، وليست تجربة بشرية؟ نذكر دليلين: دليلًا رياضيًا، ودليلًا عقليًا من علم الكلام.

الدليل الأول: الدليل الرياضي.

عندما نرجع إلى دليل حساب الاحتمالات، هذا الدليل الذي تحدّثنا عنه قبل ليالٍ، دليل حساب الاحتمالات في علم الرياضيات من جملة بنوده: إذا كانت النتيجة أكبر حجمًا من العوامل الموضوعية فسوف يكتشف العقل أن هناك عاملًا آخر تدخّل في صياغة النتيجة. مثلًا: كيف اُكْتُشِفَت الإلكترونات؟ قام العالم المختبِر بإيقاد نوع معين من الأشعة في أنبوب مغلق، ثم جاء بمغناطيس في وسط الأنبوب، لنفترض أن هذا المغناطيس بشكل نعل فرس حتى يكون له جانبان، رأى أن الأشعة داخل الأنبوب تنجذب إلى القطب الموجب من المغناطيسي دون القطب السالب، فدرس هذه الظاهرة.

إذا جئنا للظروف الاعتيادية نجد أن المغناطيس لا يجذب النور، بحسب الأشعة الاعتيادية المغناطيس لا يجذب ضوءًا ولا يجذب شعاعًا، إنما يجذب المغناطيس أجسامًا، هنا كيف جذب المغناطيس هذا النوع من الأشعة، مع أن المغناطيس لا يجذب شعاعًا ولا ضوءًا، وإنما يجذب أجسامًا؟ هنا هذا العالم قام بمقارنة بين النتيجة وبين المقدمات، المقدمات ما هي؟ المقدمات أن هناك نوعًا من الأشعة داخل الأنبوب، النتيجة أن الشعاع انجذب إلى أحد طرفي المغناطيس، القطب الموجب منه، كلما قارن بينهما لا يرى علاقة، لأنه في الظروف الاعتيادية المغناطيس لا يجذب شعاعًا، إذن اكتشف أن هناك عاملًا آخر ساعد على الانجذاب.

إذا سرنا على الصورة الأولية سنقول: لا يمكن، هذه المقدمات لا تولّد هذه النتيجة، شعاعٌ بإزاء مغناطيس، هذه المقدمات لا تولّد انجذابًا، إذن هناك عامل آخر مخفي هو الذي ساهم في تكوين هذه النتيجة، ما هو هذا العامل الآخر؟ اكتشف أنَّ في هذا النوع من الأشعة جسيمات دقيقة هي التي جذبها المغناطيس من خلال القطب الموجب، هذه الجسيمات هي الإلكترونات، فتوصّل إلى هذا المنتَج عبر هذه التجربة.

نأتي إلى مثال أبسط وأوضح بكثير: عندما نأتي إلى أمورنا الطبيعية، أنت تأتيك رسالة من ابن أخيك، ابن أخيك طفل يدرس في الصف الرابع الابتدائي، أنت فتحت هذه الرسالة، وجدت الرسالة باهرة، مقطوعة أدبية رائعة، مقطوعة أدبية تضمّ معاني ومضامين أدبية رائعة جدًا، أنت ماذا تفعل؟ تقارن بين النتيجة وبين المقدمات، المقدمات أنه طفل، لم يتعلم قواعد الأدب، لم يعطَ فرصة من العمر، لم يمتد به العمر إلى أن يكتسب تجربة أدبية ناضجة، هذه المقدمات لكن النتيجة أنه أتى بمقطوعة أدبية رائعة، مثل مقطوعة جبران خليل جبران مثلًا.

أنت بم يحكم عقلك؟ تقول: بالمقارنة بين النتيجة والمقدمات أنا أقطع جزمًا أن هناك يدًا أخرى هي التي كتبت هذه القصيدة، النتيجة لا تناسب المقدمات، النتيجة أكبر حجمًا من المقدمات، هنا يأتي دليل حساب الاحتمالات، كلما كانت النتيجة أكبر حجمًا من المقدمات فهناك عامل مطوي وراء هذه المقدمات هو الذي ساهم في صياغة هذه النتيجة، هكذا يقرر دليل حساب الاحتمالات.

نأتي ونطبّق هذا الدليل على نبوة نبينا محمد ، ما هي المقدمات؟ رجل عاش في مجتمع متخلّف حضاريًا وفكريًا، المجتمع العربي لم يكن يملك حضارة آنذاك، لم يكن مثل المجتمع الروماني أو المجتمع الفارسي، في ذلك الوقت المجتمع العربي مجتمع قبلي، مجتمع لا يمتلك حضارة، لا يمتلك فكرًا علميًا، يمتلك فكرًا أدبيًا، كالمعلقات السبع أو العشر، لكن لم يكن يمتلك فكرًا علميًا، يعني ليس عنده مخترعات، ليس عنده منتجات علمية، مجتمع لا يمتلك حضارة ولا فكرًا علميًا. المقدمة الثانية: أن الرجل أمي، يعني لم يقرأ ولم يكتب، كما ذكر القرآن الكريم: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ.

المقدمة الثالثة: أن الرجل ليس له سند تاريخي ولا أدبي ولا علمي، لم يحضر عند مؤرخ حتى يكتسب قصة التاريخ، لم يحضر عند أديب حتى يتعلم الأدب، ولذلك الرسول لم يشارك في أي موسم أدبي من مواسم الجاهلية، ولا عرف عنه الشعر ولا الأدب ولا شيء، لم يحضر عند عالم سواء كان عالم دين أو عالم طب أو عالم رياضيات أو عالم فلسفة أو أي عالم آخر. إذن، رجل مقطوع من جميع الجهات، ليس له سند أدبي، ليس له سند تاريخي، ليس له سند علمي، ليس له سند لغوي.

ابن المجتمع المتخلّف الأمّي الذي لا يمتلك سندًا، هذه هي المقدمات، ما هي النتيجة؟ النتيجة أنه جاءنا بكتاب، هذا الكتاب يحمل قصة الإنسانية من يوم آدم إلى يوم محمد ، من أين أتى بهذه القصة التاريخية المفصَّلة؟ تفاصيل ما حصل للأنبياء منذ ذلك الزمان إلى هذا اليوم، مع أنه لم ينقل ولا مؤرخ واحد أنه حضر عند علماء اليهود أو النصارى واستفاد منهم أو اكتسب منهم، خصوصًا أنه كان أمّيًا.

كتاب من حيث المادة القانونية، القرآن يعتبر بالنسبة إلى زمانه - على الأقل - كتابًا قانونيًا فريدًا، كتاب يضع تشريعات للعبادات، للمعاملات، للقضاء، للقصاص، للديات، للميراث، كتاب يشتمل على قوانين مفصلة للفرد وللمجتمع، هذه المادة القانونية تحتاج إلى عقل قانوني، تحتاج إلى عقل متخصص في القانون حتى يبدع هذه المادة القانونية، من أين أتى بها؟!

كتاب من الناحية التربوية وضع أسسًا لتربية النفس وتهذيب السلوك، بأساليب مختلفة ليس هذا مجال ذكرها، ترغيب وترهيب وتمثيل واستقراء، كما ذكرها العلماء في محله. كتاب من الناحية العلمية يتحدث عن حقائق علمية لم يكتشفها الإنسان إلا بعد 1400 سنة أو 1300 سنة، العربي ظلّ 1300 سنة يقرأ الآية ولا يفهمها، ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ، ما معنى توسعة السماء؟! لا يفهمها العربي. ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ، كيف تمر الجبال مرّ السحاب؟! ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ، هل يفهم العربي من هذا مبدأ الموجب والسالب في كل شيء؟! أو عندما يقول مثلًا: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، هل يفهم العربي الفرق بين النجم وبين موقع النجم، وأن موقع النجم يقاس بالسنين الضوئية الفاصلة بينه وبين الأرض؟!

إذن، الكتاب الذي أتى به من الناحية التاريخية لا ينسجم مع شخصية النبي، من الناحية العلمية لا ينسجم مع مستوى معلوماته، من الناحية التربوية لا ينسجم مع المستوى التربوي آنذاك، من الناحية القانونية لا ينسجم مع هذه المقدمات. إذا قارن العقل بين المقدمات وبين النتيجة ماذا يقول؟ بحسب دليل حساب الاحتمالات، تمامًا كالقصيدة البديعة التي جاء بها صبي يدرس في الصف الثالث، إذا قارن العقل بين النتيجة وبين المقدمات حكم العقل بشكل يقيني أنَّ هذه النتيجة لا تصدر من هذا الشخص؛ لأن المقدمات والمؤهلات التي يمتلكها لا توصل إلى هذه النتيجة، إذن بالمقارنة بينهما يحكم العقل أنَّ وراء هذه المقدمات يدًا أخرى نسخت هذا الكتاب، ألا وهي يد الغيب، ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ.

إذن، دليل حساب الاحتمالات أوصلنا بشكل علمي إلى أنَّ النبوة إرادة استثنائية وليست إرادة سياقية، ليست المسألة مسألة تجربة بشرية خاضها النبي ووصل إلى هذا المستوى، مهما خاض ومهما وصل، المقدمات التي كان يمتلكها وعمره أربعون سنة، لم تكن هذه المقدمات مناسبةً لتوليد هذه النتيجة، ولوصول هذه النتيجة. ولذلك، القرآن يقول: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ، لو كنت قارئًا كاتبًا لدخل الشك فيك، لارتاب فيك المبطلون. هذا هو الدليل الأول - وهو الدليل الرياضي - على أن النبوة إرادة استثنائية، وليست إرادة سياقية.

الدليل الثاني: الدليل العقلي.

وهو الذي يذكره علماء الكلام، وهو يتكون من ثلاث مقدمات:

المقدمة الأولى: أن الله هادف، لأنه خلق الإنسان الهادف، فكيف يعقل أن الخالق ليس بهادف؟! المخلوق إنسان هادف، الإنسان مخلوق عاقل هادف، كل أعماله ضمن هدف معين، فإذا كان المخلوق عاقلًا هادفًا، إذن فالخالق أيضًا هادف، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، مقتضى المسانخة أن يكون الله عز وجل هادفًا، له أهداف، لا أنه يخلق اعتباطًا وعبثًا، ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ، ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا.

المقدمة الثانية: بما أن الله له هدف، مقتضى الحكمة أن يختار الوسيلة المضمونة لتحقيق هدفه، الإنسان العادي إذا كان عنده هدف فإنه يبحث عن الوسيلة المضمونة التي تحقق هدفه، لا يختار أي وسيلة، فكيف بمصدر الحكمة تبارك وتعالى؟! إذن، مقتضى حكمته جل وعلا أن يختار الوسيلة المضمونة لتحقيق أهدافه، وإلا فليس بحكيم، وإلا فليس بكامل، إذا لم يختر الوسيلة المضمونة لتحقيق أهدافه.

المقدمة الثالثة: الله له هدف من الدين، هو ذكره في القرآن الكريم: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، يعني لتحقيق العدالة، الدين نزل لأجل تحقيق العدالة، إذا كان هناك هدف من نزول الدين ألا وهو تحقيق العدالة فلا بد من أن يختار الله الوسيلة المضمونة لتحقيق هذا الهدف، فما هي الوسيلة المضمونة؟

أن يكون الرسول إنسانًا مضمونًا، أن تكون أداة الإرسال أداة مضمونة، أن تكون المادة المرسَلة مادة مضمونة، لا بد أن يكون الضمان من جميع الجهات حتى يحرَز تحقق الهدف، لا بد أن يكون الرسول مضمونًا، يعني يختار إنسانًا معصومًا، لأنه إذا لم يكن معصومًا فليس بمضمون، إذا كان إنسانًا يخطئ في تصوّر المعلومات، أو يخطئ في تبليغ المعلومات، فكيف ستصل الرسالة إلى المجتمع البشري، وكيف سيتحقق الهدف؟! تحقق الهدف متوقفٌ على وصول الرسالة، ووصول الرسالة متوقّفٌ على أن يكون المتلقي للرسالة إنسانًا لا يخطئ في معلوماته ولا يخطئ في تبليغه للمعلومات.

لذلك، المسألة مسألة عقلية، نحن عندما نقول: يجب أن يكون النبي معصومًا علمًا وعملًا، هذه مسألة عقلية، إذ لو لم يكن معصومًا علمًا وعملًا لم تصلنا الرسالة على حقيقتها، وإذا لم تصلنا الرسالة على حقيقتها لم تكن محققة لأهدافها، فلا بد أن يكون معصومًا علمًا، يعني لا يتصور خطأ، دائمًا أي معلومة تصل إلى ذهنه يتصورها كما هي، وعملًا لا يبلغ الرسالة خطأ، ولذلك قال تبارك وتعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، وهناك آية أوضح من هذه الآية: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا، الرسول ليس يتصرف كما يشاء، هناك رصد، هناك رقابة عليه، أمامه وخلفه، ملائكة تراقبه، هل بلّغ الرسالة بحذافيها أم لا، ﴿فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا، وقال في آية ثالثة: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، إذن المسألة يجب أن يكون معصومًا.

أداة الإرسال أيضًا مضمونة، من هو أداة الإرسال؟ جبرئيل، ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. ثالثًا: المادة المرسلة يجب أن تكون مضمونة، وهنا يأتي السؤال، هنا نسأل السيد عبد الكريم سروش الباحث الإيراني: المادة الوحيانية القرآنية المرسلة أرسلت لتحقيق هدف، ألا وهو تحقيق العدالة، فلا بد أن تكون المادة مضمونة، فلو خضعت المادة للظروف البشرية، ولو خضعت المادة للتجربة البشرية، لم تكن مضمونة، مثل أي تجربة أخرى، هل جميع تجارب الشعراء مضمونة؟! هل جميع تجارب العرفاء مضمونة؟! هل جميع تجارب الفلاسفة مضمونة؟! لا، فيها أخطاء، وفيها مصائب، وفيها نوائب.

إذن، لكي تكون المادة المرسَلة مضمونة - يعني محققة لهدفها - لا بد أن تنزل المادة المرسَلة بمادتها وصورتها على النبي ، من دون أن يتدخل النبي في صياغتها، من دون أن يتدخل النبي في إنشائها، وإلا لم تكن مضمونة، لا بد أن تكون متجرّدة عن كل تجربة بشرية حتى تكون أمرًا مضمونًا. لأجل ذلك، مقتضى الدليل الكلامي العقلي أن نقول بأن المادة الوحيانية نزلت بالمضمون وباللفظ أيضًا، حتى اللفظ جاء من السماء، النبي ما صاغ شيئًا، جاءه لفظ جاهز من السماء، ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.

المحور الثاني: شواهد بشرية القرآن.

ذكر الدكتور سروش في كلامه أنَّ هناك شواهد على بشرية القرآن، يعني أن القرآن صياغة بشرية، هناك شواهد على ذلك، ومنها: أنَّ قسمًا كبيرًا من القرآن انفعالي لا فعلي. هناك قسم كبير من القرآن هو تعليق على الأحداث، أحداث تحدث فيعلّق عليها، هذا انفعال، مثلًا: صارت حادثة الإفك فعلّق عليها، ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ، أبو لهب علّق عليه، ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ، حادثة حنين علّق عليها، ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ، المنافقون في المدينة علّق عليهم، ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ. أيضًا جزء كبير من القرآن هو جواب أسئلة، أسئلة وردت على الرسول والقرآن يجيب، ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ، ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وهكذا... أسئلة والقرآن يجيب.

عندما ننظر إلى هذا القسم - الذي هو تعليق على الأحداث وإجابة عن الأسئلة - نفهم أنَّ القرآن ليس مادة مسبقة، هذا معناه أنه لا يوجد شيء مسبق، لأنه يعلق على أحداث موجودة، معنى ذلك أنه لولا حصول هذه الأحداث ما نزل هذه الآيات، لو لم يكن أبو لهب موجودًا لما نزلت ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ، لو لم تحدث غزوة حنين، لو لم تحدث حادثة الإفك... لفقدنا هذه الآيات التي تتعلق بأبي لهب وبحادثة الإفك وبغزوة حنين.

إذن، أنتم أصحاب الإرادة الاستثنائية تقولون: هناك مادة مسبقة من الله أعدّها بمضمونها وألفاظها وأنزلها على النبي، بينما نحن نقول: المسألة مسألة تجربة بشرية، النبي انطلق من مجتمعه ومن الأحداث التي عاصرها، فسأل ربه عن حكمها، فاستلهم منه ذلك الحكم، المسألة مسألة تجربة بشرية لا أكثر.

الجواب عن هذا الشاهد:

أولًا: القرآن الكريم قسّم الآيات إلى محكمات ومتشابهات، قال: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، الآيات المحكمات هي القواعد العامة، توجد في القرآن قواعد عامة، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ هذه قاعدة، ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ هذه قاعدة، ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا هذه قاعدة، كل آية تتضمن قاعدة عامة تعدّ من المحكمات.

أما الآيات التي تتحدث عن التفاصيل، الآيات التي تتكلم عن أحداث وعن تفاصيل معينة، هذه تدخل في المتشابهات، لأنها تحمل أكثر من معنى، وأكثر من تفسير، عندما يقول مثلًا: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ، يتكلم عن حادثة معينة، ما معنى عفا الله عنك؟ وكيف النبي أذن لهم؟ تتحدث عن واقعة معينة، هذه من المتشابهات.

بعد أن بيّن القرآن أن فيه محكمات وفيه متشابهات، هذه المتشابهات التي تتحدث عن التفاصيل، التي تعلق على الأحداث التي حصلت، تعلق على أبي لهب وعلى حادثة الإفك وعلى حادثة النفاق وأشباهها، هل توجد لها مادة مسبقة، بمعنى أن الله وضع أحكام هذه الحوادث المفصلة، وضعها ضمن قواعد عامة قبل أن تحدث؟ نعم، صحيح هي تفاصيل حدثت بعد ذلك، لكن أحكام هذه التفاصيل جُعِلَت كقواعد عامة مسبقًا أعطيت للنبي المصطفى محمد .

أشرح لك ذلك من القرآن نفسه، اقرأ هذه الآية وتأمّل فيها: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، كيف أحكمت وفصلت؟ يعني القرآن مر بمرحلتين: مرحلة إحكام، وهو وضع القواعد العامة، ومن هذه القواعد الإجابات العامة التي تجيب عن التفاصيل التي ستحدث في المستقبل، ثم انتقل إلى مرحلة التفصيل، وصار يعلق على الأحداث، تعليق القرآن على الأحداث هو ضمن مادة مسبقة، وهي القواعد العامة التي أسّست قبل حصول هذه الأحداث، وكانت هذه القواعد العامة من ضمن المحكمات.

إذن، مسألة أن القرآن يعلّق على الأحداث ويواكب الأحداث، هذا لا ينافي أن القرآن وحي من الله، هذا لا يناف أن القرآن وحي بالمضمون وباللفظ نزل من الله، لأن كل هذه الأحداث أحكامها نزلت ضمن قواعد عامة بشكل مسبق، وكانت ضمن الآيات المحكمات.

ولذلك، تجد النبي لم يعلق على كل الأحداث، أنت عندما تستقرئ الأحداث التي علق عليها النبي تجدها عشرين حدثًا لا أكثر، بينما عاش بعد البعثة 23 سنة، كم حدثًا حدث خلالها؟ مئات الأحداث إن لم يكن آلاف الأحداث، مع أن القرآن لم يعلق إلا على عشرين حدثًا، لماذا؟ هذا يدلك على أن هذه الأحداث هي التي وُضِعَت لها أحكامٌ في مادة مسبقة ضمن آيات محكمات منذ نزول القرآن أول مرة على قلب النبي محمد . إذن، فليس القرآن مجرد تجربة بشرية خاضها النبي، بل هو تنزيلٌ من الله على قلب المصطفى .

هذا القرآن العظيم يستحقّ منّا اهتمامًا، يستحقّ منا عناية. ورد في الحديث عن النبي : ”ثلاثة يشكون إلى الله يوم القيامة: مسجد مهجور، ومصحف معطّل، وعالم ضاع بين جهّال“، المصحف المعطل الذي لا يعتنى به، نحن نستخدم القرآن أيام الفواتح فقط! نقرأ بضع آيات ونهديها للمرحوم! وإلا فالقرآن في بيوتنا معلق في الرفوف من دون أن تكون لنا علاقة روحية تربوية مع القرآن الكريم، مع أنه ورد عن النبي : ”إنَّ درجات الجنة بعدد آيات القرآن، فكلما قرأ العبد آية رقى درجة“، وورد عن الصادق : ”من قرأ عشر آيات لم يكتب من الغافلين، من قرأ عشرين آية كتب من الذاكرين، من قرأ ثلاثين آية كتب من القانتين، من قرأ خمسين آية كتب من الخاشعين“. نحن ليس لدينا علاقة مع القرآن، على الأقل يوميًا خمس دقائق تقرأ خمسين آية من القرآن، أو تستمع وأنت في السيارة ذاهبًا إلى العمل أو الدراسة، تستمع القرآن وتتلو معه.

القلب السقيم وَالقلب السليم
القيم الخلقية فطرة أم اكتساب