نص الشريط
القراءة المنسية في عقيدة الامامة
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 9/1/1438 هـ
مرات العرض: 3502
المدة: 01:05:26
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1410) حجم الملف: 14.9 MB
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدّث حول مبدأ الإمامة في محاور ثلاثة:

المحور الأول: الفهم البشري والقدسي لمنصب الإمامة.

هل الإمامة لدى الشيعة الإمامية فيها قراءات واتجاهات مختلفة، أم لا؟ هل الشيعة الإمامية متفقون على اتجاه واحد في فهم الإمامة، أم لهم اتجاهات متعددة في فهم موقع الإمامة ومنصب الإمامة؟ نتعرّض هنا إلى بحث الدكتور محسن كديور أحد الباحثين الإيرانيين حول مسألة الإمامة، في كتابه «القراءة المنسية» يتحدّث عن مفهوم الإمامة، يقول: الإمامة فيها اتجاهان لا اتجاه واحد: الفهم البشري، والفهم القدسي، هناك من يفهم الإمامة فهمًا بشريًا، وهناك من يفهم الإمامة فهمًا قدسيًا. يقول: هناك نظريتان:

النظرية الأولى: نظرية العلماء الأبرار.

هذه النظرية كانت هي النظرية السائدة بين الشيعة حتى أواخر القرن الرابع الهجري، يعني إلى 400 سنة بعد الهجرة، كانت هذه هي النظرية السائدة، ومثّلت الفكر الشيعي في القرن الثالث والرابع، ما هي هذه النظرية؟ قال: هذه النظرية تعتقد أنَّ الأئمة مرشدون في الدين متقدّمون على من سواهم في العلم والعمل، لذلك تجب طاعتهم، ويعتبرون روايتهم للإسلام النبوي أقرب الروايات إلى إسلام رسول الله وأكثرها واقعية.

يعني هذا الفهم فهم بشري، الإمامة ليس فيها نص ولا تنصيب من الله، هؤلاء أوثق الرواة، الأئمة علماء أتقياء، وهم أوثق الطرق إلى رسول الله ، فيجب اتباعهم لا لأنهم منصوبون من الله، ولا لأنهم منصوص عليهم بالإمامة، إنما يجب اتباعهم لأنهم أوثق الطرق إلى حديث رسول الله ، لأنهم أكفأ الناس علمًا وعملًا. إذن، تتلخص هذه النظرية في أنه لا يوجد نص على الأئمة، وإنما النبي عيّن الإمام عليًا لأنه أعلم الناس لا لأنه منصوب من قبل الله، والإمام علي عيّن أولادهم لأنهم أعلم الناس، وهكذا كل إمام سابق يعيّن الإمام اللاحق لا لأنه منصوص عليه من قبل الله، بل لأنه أعلم الناس وأكفؤهم، ولا عصمة إلا للنبي، يعني الأئمة غير معصومين، علماء أتقياء أبرار، لكنهم غير معصومين، وليس لديهم علم لدني، بل كل علومهم اكتسابية، نشأت عن التعلم والدراسة لدى آبائهم، هذه هي النظرية الأولى، وهي الفهم البشري لمنصب الإمامة.

النظرية الثانية: الفهم القدسي لمنصب الإمامة.

قال في ص42 من كتابه «القراءة المنسية»: كان أتباع هذه النظرية موجودين زمن الأئمة، لكن لم يكونوا كثيرين، إلى أن تمكّنت النظرية في عصر غيبة الأئمة أن تمثّل الفكر الشيعي، منذ مطلع القرن الخامس حتى اليوم أصبحت هذه النظرية هي الممثل للفكر الشيعي، بل اعتبرت من ضروريات المذهب، يعني الآن إذا قال شيعي الأئمة غير منصوص عليه فهو ليس شيعيًا، اعتبرت هذه النظرية من ضروريات المذهب. ما هي معالم هذه النظرية؟

المعلم الأول: النص، أن الأئمة منصوص عليهم بالإمامة من قبل الله عز وجل، وإنما جعلهم أئمة دون غيرهم لعلمه عز وجل أنهم أصبر الناس وأقوى الناس إرادة، كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ. المعلم الثاني: العصمة، الأئمة معصومون عصمة مطلقة، يعني معصومون من المعصية، ومعصومون من الخطأ والسهو. المعلم الثالث: أنّ لديهم علمًا لدنيًا، كما ورد عن الإمام علي : ”علّمني رسول الله ألف باب من العلم في كل باب يفتَح لي ألف باب من العلم“ يعني هناك علم لدني مضافًا إلى العلم الاكتسابي.

إذن، نحن أمامنا نظريتان بحسب كلام الدكتور كديور: فهم بشري: الإمامة ليست بالنص، ولا توجد عصمة، ولا علم لدني. فهم قدسي: أنَّ الإمامة بالنص، وهناك عصمة، وهناك علم لدني، فنحن بين هاتين النظريتين. ما هي الشواهد التي أقامها هذا الدكتور لإثبات أنّ هناك اتجاهين في الإمامة؟ نحن من صغرنا منذ ولدنا نعرف أن الإمامة يعني النص، إمام يعني منصوص عليه بالإمامة، الإمامة تعني النص والعصمة، هذا الذي نعرفه من صغرنا، فما هي الشواهد على أنّ هناك اتجاهًا آخر في الإمامة عند الشيعة - لا عند الآخرين - يرى أنّ الإمامة ليست بالنص، وإنما الأئمة مجرد جماعة هم أعلم الناس، أتقى الناس، لذلك يجب الأخذ بقولهم، لأنهم أقرب الطرق إلى رسول الله ، ما هي الشواهد؟ ذكر عدة شواهد من أقوال العلماء، نكتفي بثلاثة منها.

الشاهد الأول: كلام العلامة المامقاني.

تعرّض إليه في ص24 من كتابه «القراءة المنسية»، في كتاب «تنقيح المقال في أحوال الرجال» للعلامة المامقاني، الشيخ عبد الله المامقاني، قال في ترجمة محمد بن سنان وعبد الله بن عبد الرحمن الأصم، قال: «إنَّ أكثر ما يعدُّ اليوم من ضروريات المذهب كان القول به معدودًا في العهد السابق - يعني عهد قدماء الشيعة - من الغلو»، يعني نحن اليوم نعتقد أنَّ الأئمة يعلمون الغيب، نعتقد أنَّ الأئمة لديهم علم لدني، هذا الذي نعتقد به ونراه من ضروريات المذهب كان القدماء من علماء الشيعة يعتبرونه غلوًا في الأئمة، إذن بين النظريتين 180 درجة.

هذا الشاهد لا يستفاد منه ما أراد الدكتور أن يصل إليه، عندما تراجع كلام العلامة المامقاني في ترجمة محمد بن سنان وعبد الله بن عبد الرحمن الأصم وغيرهم، يقول أنَّ قدماء الشيعة اختلفوا في ثلاث مسائل: في التفويض، هل أنَّ الأئمة فوِّض إليهم التصرّف في الكون أم لا؟ يعني يخلقون، يرزقون، هذا موطن خلاف. موطن الخلاف الآخر: نفي السهو، هل الأئمة لا يطرأ عليهم السهو أبدًا أم لا؟ والخلاف الثالث في العلم اللدني، هل لديهم علم لدني أم لا؟ فالخلاف في أمور جانبية، وليست في الإمامة نفسها.

يعني لا خلاف بين القدماء والمتأخرين في أنَّ الإمامة بالنص، وفي أنَّ الإمامة مساوقة للعصمة، لا خلاف في هذين الأمرين، وإنما الخلاف في أمور تختلف عن هذا الموقع، هل الأئمة لديهم علم لدني أم لا؟ هل الأئمة لا يعرض عليهم السهو أم لا؟ يوجد خلاف بين القدماء أنفسهم فضلًا عن القدماء والمتأخرين، هل الأئمة مفوّضون أم لا؟ الخلاف في أمور، وإن كانت هي الآن من عقائدنا الأساسية، لكن ليس الخلاف في عقيدة الإمامة، وليس الخلاف في عقيدة العصمة، لا بد من الالتفات إلى ذلك.

الشاهد الثاني: كلام الوحيد البهبهاني.

تعرّض إليه في ص29 من هذا الكتاب، كلام العلامة الوحيد البهبهاني، الوحيد البهبهاني في كتابه «الفوائد الرجالية» قال: «اعلم أنَّ الظاهر أنَّ كثيرًا من القدماء سيما القميّين منهم - يعني علماء قم في تلك الفترة، فترة الإمام الجواد والإمام الهادي والعسكري - كانوا يعتقدون للأئمة منزلة خاصة، وكانوا لا يجوّزون التعدّي عنها، ويعتبرون التعدّي ارتفاعًا وغلوًا، حتى أنّهم جعلوا نفي السهو عنهم غلوًا، وجعلوا مطلق التفويض إليهم غلوًا، والمبالغة في معجزاتهم ونقل العجائب عنهم».

هذا كلام الوحيد البهبهاني، الدكتور كديور ماذا استفاد منه؟ قال: «يستفاد من كلامه نقاط: أولًا: كان القدماء وهم علماء الشيعة في منتصف القرن الخامس ينظرون إلى الأئمة على نحوٍ مختلفٍ عمّا ننظر إليه»، البهبهاني قال: الظاهر - يعني لا يقطع - أنَّ كثيرًا من القدماء، لكن الدكتور عمّمها لكل القدماء، وهذا خطأ في الاستفادة من كلام الوحيد البهبهاني.

الخطأ الآخر: قال: «كان ممثلو التشيّع في القرون الأولى لا يجيزون هذه الأوصاف الفوق بشرية»، يعني لا يجيزون للأئمة علم الغيب، ولا العلم اللدني، ولا العصمة، هذا من أين؟! من قال أنهم يمثّلون التشيّع؟! الوحيد البهبهاني يتحدّث عن القميّين، والقميّون مدرسة من المدارس، كانت مدرسة الحجاز موجودة، كانت مدرسة الكوفة موجودة، كانت مدرسة بغداد موجودة. حصر التشيع في المدرسة القمية، وأن المدرسة القمية كانت تمثل التشيع في تلك الفترة، هذا الحصر غير علمي.

الوحيد البهبهاني نحن قرأنا كلامه، لا يوجد فيه خلاف في الإمامة، نحن الذي نريد أن نركّز عليه مسألة الإمامة، لم يذكر الوحيد البهبهاني أنَّ هناك خلافًا في منصب الإمامة، يعني أنَّ هناك من يرى أنّ الإمامة ليست بالنص، لم يذكر ذلك، وإنما ذكر خلافًا في أمور أخرى، ولم يذكر خلافًا في نفس موقع الإمامة، فهذا الشاهد الثاني أيضًا لا يصلح.

الشاهد الثالث: كلام الشهيد الثاني.

في ص33 من كتابه، ما نقله عن الشهيد الثاني، وهو زين الدين بن علي المتوفى عام 955 صاحب كتاب «الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية»، قال الشهيد الثاني: «الأصل الرابع: التصديق بإمامة الأئمة الاثني عشر، وهذا الأصل اعتبره في تحقّق الإيمان الطائفة المحقّة الإمامية، حتى أنّه من ضروريات مذهبهم، ثم إنه لا ريب يشترط التصديق بكونهم أئمة يهدون بالحق، وبوجوب الانقياد إليهم في أوامرهم ونواهيهم، ولكن أما التصديق بكونهم معصومين مطهّرين من الرجس كما دلّت عليه الأدلة العقلية والنقلية، والتصديق بكونهم منصوصًا عليهم، وأنهم حافظون للشرع، وأنّ علمهم ليس عن رأي واجتهاد، بل عن يقين، هل يعتبر في تحقّق الإيمان؟ فيه وجهان» ثم يقول: «لكن ليس ببعيد الاكتفاء بالأخير، بمعنى التصديق بذلك إجمالًا». ماذا يستفاد من كلام الشهيد الثاني؟

الدكتور كديور رأى كلام الشهيد الثاني فرصة ثمينة، الشهيد الثاني يقول: لا يشترط التصديق بالنص، ولا بالعصمة، ولا... إلخ، هذا لا يشترط في الإيمان، بل يكفي التصديق الإيماني، فهذا شاهدٌ على أنَّ هناك اتجاهًا آخر في الإمامة، وعلى أنَّ هناك قراءة أخرى في الإمامة.

هناك فرقٌ بين مسألة الإمامة وكونهم أوثق الطرق إلى رسول الله، تارة نقول: يجب إطاعة أهل البيت لأنّهم أوثق الطرق إلى رسول الله، هذه فكرة، وهذه لم يقلها الشهيد الثاني أصلًا، وتارة نقول: يجب إطاعة أهل البيت لأنهم منصوصٌ عليهم بالإمامة، هذه الفكرة الثانية. هذه الفكرة الثانية صرّح بها الشهيد الثاني في أول كلامه، قال: «الأصل الرابع من أصول الإيمان التصديق بإمامة الأئمة الاثني عشر حتى أنه من ضروريات المذهب»، إذن لماذا ذكر التصديق التفصيلي والتصديق الإجمالي؟

التصديق التفصيلي ما معناه؟ هل يجب أن تعتقد أنَّ الله نصّ على الأئمة بأسمائهم، يعني الله أنزل وحيًا على النبي بأسماء الأئمة تفصيلًا، هذا معنى الاعتقاد التفصيلي، أم يكفي أن تعتقد أنَّ الله أوكل إلى النبي تعيينهم، والنبي عيّن عليًا والحسن والحسين، والحسين عيّن التسعة من بعده، فالجميع منصوصٌ عليه، الجميع معيَّن من قبل الله، لكن ليس هناك نص تفصيلي من الله، وإنما هناك نص إجمالي. هذا ما يقصده الشهيد الثاني، لا يقصد أنَّ هناك خلافًا في النص، بل الجميع يقرّ بأن الإمامة بالنص وبالتعيين، إنما هل يشترط الإيمان التفصيلي، أن تعتقد أنّ الله نصّ عليهم بأسمائهم، وأنزل وحيًا بذلك على النبي، أم أنّ الله أوكل للنبي ذلك، النبي عيّن الإمام عليًا والحسن والحسين، والحسين عيّن التسعة من بعده، إذن الجميع عيّن لأنهم منصوص عليهم بالإمامة، ومنتجبون ومختارون من قبل الله عز وجل؟ هذا هو الفرق بين التصديق التفصيلي والإجمالي، لا أنّ هناك خلافًا في النص وعدمه.

نعم، ظاهر كلام الشهيد أنه لا يجب الاعتقاد بعصمتهم، لكن هذا الظاهر لا يمكن الأخذ به، وإن كان هو ظاهر كلام الشهيد الثاني، لماذا؟ لأن الإمامة ملازمة للعصمة عقلًا، لا يمكن أن يكون إمامًا حتى يكون معصومًا، لماذا؟ الإمامة تعني الحجية، ما معنى الإمام؟ الأتقياء والأبرار والعلماء كثيرون، فما معنى الإمامة؟! الإمام من يكون حجة على الناس في قوله وفعله وتقريره، الإمامة تعني الحجية، والحجية ملازمة للعصمة، لا يمكن أن يكون حجة على الناس في قوله وفعله وتقريره إلا إذا كان معصومًا، وإلا لو كان الخطأ يتطرق إليه في كلامه أو فعله لم يكن حجة مطلقة على الناس، فالإمامة تعني الحجية، والحجية تعني العصمة، فهناك تلازم عقلي بين الإمامة والعصمة.

لذلك الظاهر أنّ الشهيد لا يقصد عدم التصديق بالعصمة، لعله يقصد عدم التصديق بالعصمة المطلقة، هل الأئمة معصومون عن المعصية فقط، أم معصومون حتى عن السهو؟ لعلّ الشهيد الثاني ناظرٌ إلى الخلاف في حجم العصمة ومقدارها، لا أنه يناقش في أصل الاعتقاد بالعصمة، كما يُجْمَع به بين أطراف كلامه. نكتفي بهذه الشواهد التي ذكرها، وتبيّن لنا أنّ هذه الشواهد ليست كافية لإثبات أنَّ هناك اتجاهًا آخر في الإمامة.

المحور الثاني: الإمامة في العقل والنقل.

نحن تحدّثنا عن إثبات الخالق، وعن التوحيد، وعن النبوة، الآن نتحدّث عن الإمامة، وليلة الحادي عشر من المحرم نتحدّث عن العدل، فيتم كلامنا حول أصول الدين. حديثنا أولًا عن الإمامة في العقل ثم في النقل.

الدليل الأول: الدليل العقلي.

علماؤنا استدلوا على منصب الإمامة بقاعدة اللطف، وأول من استدل بها هشام بن الحكم - أحد تلامذة الإمام الصادق - في رسالته «الألطاف»، وكتب المفيد «عليه الرحمة» المتوفى سنة 413 كتاب «الإنصاف»، وكتب السيد المرتضى المتوفى سنة 426 كتاب «الشافي في الإمامة»، الإمامة مسألة عقلية، كيف؟ الدليل العقلي الذي دلّ على النبوة هو نفس الدليل العقلي الذي دلّ على الإمامة، ضرورة الإمامة كضرورة النبوة تمامًا، ما هو هذا الدليل العقلي المعبّر عنه بقاعدة اللطف؟ أذكر لك أمورًا ثلاثة:

الأمر الأول: المجتمع البشري يحتاج إلى نظام يطبّق العدالة، ويوفّق بين المصالح الخاصة والمصالح العامة، ويصلح لجميع الأزمنة ولجميع المجتمعات، والعقل البشري وحده لا يستطيع أن يخترع هذا النظام، لأن العقل البشري محدود ببيئته، ومحدود بزمانه، ومحدود بثقافته، فلا يستطيع أن يخترع نظامًا يصلح لكل الأزمنة ولكل الحضارات ولكل المجتمعات، إذن المجتمع البشري يحتاج إلى نظام سماوي، لأن النظام السماوي هو الصالح لجميع الحضارات ولجميع المجتمعات، ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ، ما هو الخير للناس؟ يختاره الله، لا أن البشر تختاره.

الأمر الثاني: بما أن المجتمع البشري محتاج إلى النظام، فهل الله جاهل بهذه الحاجة أم عالم؟ طبعًا مقتضى علمه أن يكون عالمًا بحاجة المجتمع البشري، فإذا كان عالمًا فهل هو قادرٌ على أن يوصل النظام إلى المجتمع البشري أم عاجز؟ طبعًا مقتضى كونه قادرًا على كل شيء أن يوصل النظام إلى المجتمع البشري، إذا هو عالم بالحاجة وقادر على إيصال النظام، فما الذي يمنعه عن إيصاله؟ عبث أم بخل؟! كلاهما لا يتصوران في الحكيم تعالى، إذن مقتضى علمه بالحاجة، وقدرته على تلبيتها، وحكمته، أن يرسل نظامًا سماويًا إلى المجتمع البشري، هذا ما يعبّر عنه بقاعدة اللطف، ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، نظام يحقق العدالة.

الأمر الثالث: المجتمع البشري محتاج إلى النظام، الله أرسل النظام، لكن المجتمع البشري لا يستطيع تطبيق هذا النظام ما لم يكن هناك حجة يقوم بتبليغ النظام وتفسيره وحفظه وتطبيقه، أربع مهمات: تبليغ، تفسير، حفظ، تطبيق. لا يمكن للمجتمع البشري أن يقوم بنفسه، إذن يحتاج إلى حجة لله على الأرض يقوم بتبليغ النظام وتفسيره وحفظه وتطبيقه، هذه الأدوار الأربعة قام بها النبي المصطفى لمدة ثلاث وعشرين سنة، لكن هذه المدة غير كافية لتفسير جميع نقاط النظام، وهي غير كافية لحفظ النظام عن التحريف والتغيير، لذلك كما احتاجت الأمة إلى النبوة من أجل التبليغ والتفسير والحفظ والتطبيق، احتاجت إلى الإمامة لتقوم بنفس الأدوار خلفًا للنبي المصطفى محمد ، فكانت مدة الأئمة الاثني عشر كافية للتفسير، كافية للحفظ، كافية للتبليغ. إذن، الدليل الذي دلّ على ضرورة النبوة هو نفس الدليل الذي دلّ على ضرورة الإمامة، فهناك دليل عقلي يفترض الإمامة، وهو قاعدة اللطف.

الدليل الثاني: الدليل النقلي.

الآيات معروفة، آية الولاية ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ تدلّ على الولاية بمعنى الإمامة، آية التبليغ: قوله عز وجل لرسوله: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ وفسّرت الروايات التبليغ بتنصيب الإمام علي بالإمامة، قوله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ. ثم تأتي للأحاديث: حديث الغدير المستفيض المتواتر المعروف بين الفريقين، ”من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله“، حديث المنزلة الحديث المستفيض: ”أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي“. إذن، الإمامة ثابتة منذ ذلك الزمان بالنص على مستوى العقل وعلى مستوى القرآن وعلى مستوى السنة.

المحور الثالث: اٌلإمامة في تراث أهل البيت.

الدكتور كديور قال: نحن عندما نراجع النصوص لا نجد التصريح بالإمامة، لاحظوا ص115 من كتابه «القراءة المنسية»، قال: عندما نراجع النصوص نجد أنَّ الأئمة الأوائل - أمير المؤمنين والحسنين - ما كانوا يقولون نحن أئمة، ما كانوا يقولون نحن معصومون، ما كانوا يقولون نحن منصوص علينا بالإمامة من قبل الله، إذن هذه الدعاوى والأفكار جاءت متأخرة، وإلا الأئمة الأوائل لم يدّعوا أنهم أئمة منصوص عليهم وأنهم معصومون، كيف؟

نقرأ ما ورد عن الإمام الحسين: ”فلعمري ما الإمام إلا الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحق، الحابس نفسه على ذات الله“، ولم يقل: الإمام هو المنصوص عليه وهو المعصوم! وعندما نأتي للإمام علي في نهج البلاغة أول ما استلم الخلافة قال: ”أمّا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء - اعتبر نفسه من العلماء الذين عليهم وظيفة، ولم يقل: أنا إمام - ألا يقاروا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها“، فالأئمة لم يذكروا العصمة والنص أبدًا، وإنما قالوا: نحن علماء، وهذه وظيفة العلماء.

ثم يقول في ص132: إذا نظرنا إلى الأدعية الشيعية، حتى الأدعية الشيعية التي نقرؤها نحن أسبوعيًا أو يوميًا، يقول: إذا نظرنا إلى الأدعية الشيعية لرأينا أن هناك نمطين من الأدعية: النمط الأول يتعلق بالفهم البشري للإمامة «يعني لا يوجد فيه نص ولا عصمة»، والنمط الثاني يتعلق بالتفكير الثاني «أن الإمامة بالنص والعصمة»، فمن النمط الأول: دعاء كميل، ليس في دعاء كميل توسّل بالأئمة، دعاء أبي حمزة الثمالي ليس فيه توسل بالأئمة، أدعية الصحيفة السجادية، المناجاة الشعبانية، دعاء يوم عرفة، لا تجد في هذه الأدعية حتى كلمة واحدة فيها توسّلٌ بغير الله! كلّ هذه الأدعية ليس فيها إلا توسل بالله.

بينما النمط الثاني من الأدعية، دعاء التوسل ”يا وجيهًا عند الله، اشفع لنا عند الله“، دعاء الفرج، زيارة عاشوراء، دعاء الندبة. يقول: هذه الأدعية حصلت بعد ذلك، يعني كأنها موضوعة ومدسوسة. النمط الأول من الأدعية هو الذي يحكي واقع الإمامة، يعني الأئمة ليسوا وسيلة حتى! هذه أدعيتهم ليس فيها توسّلٌ بغير الله عز وجل.

مناقشة هذه الدعوى:

نحن نناقش كلامه هذا، بعد أن ذكرنا أنَّ الإمامة العقل دلّ عليها، والعصمة ملازمة للإمامة عقلًا، وذكرنا الدليل العقلي والنقلي من الكتاب والسنة النبوية، نأتي إلى تراث أهل البيت، ارجعوا إلى الصحيفة السجادية، دعاء السجاد يوم عرفة، قال: ”اللهم وصل على أولياء محمد وآل محمد، المعترفين بمقامهم، المتبعين منهجهم، المقتفين آثارهم، المستمسكين بعروتهم، المتمسّكين بولايتهم“، الإمام السجاد يصرّح بأنَّ للأئمة ولاية، ويصلّي على المتمسكين بولاية الأئمة الطاهرين .

وفي الصحيفة السجادية أيضًا: ”فجعلتهم الوسيلة إليك“، يقول عن محمد وآل محمد أنهم الوسيلة إلى الله. وفي دعاء 41 من أدعية الصحيفة: ”اللهم إني أتقرب إليك بالمحمدية الرفيعة، والعلوية البيضاء، وأتوجّه إليك بهما“، يتوسّل بالنبوة وبالإمامة، فكيف لا يوجد في أدعية الصحيفة توسّل؟!

وفي المناجاة الشعبانية الواردة عن الإمام زين العابدين: ”اللهم صل على محمد وآل محمد، شجرة النبوة، وموضع الرسالة“، إذا لم ينص عليهم ولم يكونوا معصومين فكيف صاروا موضع الرسالة؟! ”ومختلف الملائكة، ومعدن العلم، وأهل بيت الوحي“. وفي دعاء الحسين يوم عرفة: ”اللهم إنا نتوجه إليك في هذه العشية بمحمد نبيك“، ثم يقول الحسين في دعاء يوم عرفة: ”فصل عليه وعلى آله المنتجبين“، الانتجاب عبارة عن النص، اجتباهم وانتجبهم، يعني اختارهم لهذا الموقع، موقع الإمامة.

تعال إلى تراث الإمام علي في نهج البلاغة، يقول لأهل الكوفة: ”أتتوقعون إمامًا غيري يطأ بكم الطريق ويرشدكم السبيل؟!“، فهو يعبّر عن نفسه بأنه إمام. عاصم بن زياد لبس اللباس الخشن، وترك الطعام، وهجر الدنيا بأسرها، أخبروا الإمام عليًا بذلك، فجاء إليه يعاتبه، قال: أتظن أنَّ الله الذي أباح لك هذه الأمور حرّمها عليك؟! ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ، العاص اعترض على الإمام علي ، قال له: ها أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك، أنت لا تلبس إلا اللباس الخشن، وتأكل الطعام الجشب، وأنا مقتدٍ بك، فماذا قال له الإمام؟ قال: ”إني لست كأنت، إنَّ الله فرض على أئمة العدل أن يساووا أنفسهم بضعفة الناس، كي لا يتبيّغ بالفقير فقره“، ولذلك ترى مراجعنا الأعلام يعيشون عيشة الزاهدين، لأنه في موقع زعامة، في موقع إمامة، فيساوي نفسه بضعفة الناس.

أيضًا هناك رواية مشهورة أنتم تعرفونها وهي موجودة في نهج البلاغة، الإمام علي يخاطب الناس: ”ألا وإنّ لكل مأموم إمامًا يقتدي به، ويستضيء بنور علمه، ألا وإنّ إمامكم - يقصد نفسه - قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعامه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينونا بورع واجتهاد وعفة وسداد“، يمكن التأسّي بالأئمة لكن لا يمكن الوصول إلى مقامهم، التأسّي بهم في بعض صفاتهم، الورع والاجتهاد والعفة والسداد. هذا كلام الإمام علي، عبّر عن نفسه بالإمامة.

نأتي إلى كلام الإمام الحسين، الحسين في كتابه لأهل البصرة قال: ”أما بعد، فإنَّ الله اصطفى محمدًا على خلقه، وأكرمه بنبوته، وكنّا أهله وأوصياءه وأولياءه وورثته وأحقَّ الناس بمقامه في الناس“، يعني نحن الأحق لأننا منصوص علينا، ”فاستأثر علينا قومنا بذلك“. وقال للوليد بن عتبة أمير المدينة: ”يا أمير، إنا أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا يختم“، يعني محمد منا الفاتح ومحمد الخاتم منا أيضًا، ”أولنا محمد، أوسطنا محمد، آخرنا محمد“، وعندما وقف على قبر جده رسول الله مودعًا قال: ”أنا الحسين فرخك وابن فرختك فاطمة، والثقل الذي خلّفته في أمتك“، يعني الحسين هو الثقل الذي خلّفه النبي في الأمة في قوله : ”إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي“.

إذن، عندما نراجع تراث أهل البيت، وخصوصًا تراث الإمام علي والحسين، نجد التصريح بالإمامة والوصية أمرًا واضحًا. وأما قول الحسين: ”ولعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب، الدائن بالحق“ قاله في قبال المقاتلين له، في قبال المعتقدين ببني أمية، هؤلاء ما كانوا يعتقدون بإمامته، جاؤوا لقتاله، لا معنى لأن يقول لهم: أنا الإمام المنصوص عليَّ بالإمامة، وهم قد جاؤوا لحربه وقتاله، لذلك أراد أن ينبّه عقولهم إلى أنَّ الإمام الحق من كان عاملًا بالكتاب ودائنًا بالحق وحابسًا نفسه على ذات الله، وهم أهل بيت النبوة «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين».

تنبيه:

أريد أن أنبّه الإخوان إلى أنني في الليلة الثالثة عشرة سأتعرّض إلى جميع الملاحظات التي كُتِبَت إليّ حول محاضراتي السابقة واللاحقة، كل ملاحظة وصلت إلي سأتعرض إليها في ليلة الثالث عشر، الملاحظة التي عندي جواب عنها سأجيب، والملاحظة التي ليس عندي جواب نقول بأنها ملاحظة صحيحة وإشكال صحيح، هناك ملاحظات فيزيائية، رياضية، فلكية، علمية، فلسفية، سأذكرها وأتعرّض إليها في ليلة الثالث عشر، ما أردت أن أشغلكم في كل ليلة أتعرض للملاحظات، أجّلتها كلها لليلة الثالثة عشرة في نفس المكان وفي نفس الزمان.

الأخطاء العلمية في القرآن الكريم
الحسين مشروع السماء في الارض