نص الشريط
رياض الجنة، في دعاء زين العابدين (ع)
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 19/1/1438 هـ
مرات العرض: 3406
المدة: 00:44:45
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (956) حجم الملف: 10.2 MB
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي

صدق الله العلي العظيم

أرشدتنا الآية المباركة إلى أنَّ الهدف من وجود الإنسان أن يكون ذاكرًا لله، لأنَّ ذكر الله كمالٌ للإنسان، فالإنسان الذي يعيش ذكر الله يتحوّل إلى إنسان إلهي، بدل أن يكون إنسانًا أرضيًا ترابيًا، يصبح إنسانًا إلهيًا، بمعنى أنه يحكي الله في صفاته، في عظمته، في نزاهته، يكون صورة معبّرة عن الله، الإنسان الذاكر لله في نزاهته عن المعاصي يعبّر عن نزاهة الله تبارك وتعالى عن كل عيب وعن كل خلل، فهو مرآة لله، وحاكٍ لله. لذلك ورد عن النبي : ”تخلّقوا بأخلاق الله“، وورد عنه عن الله عز وجل: ”عبدي أطعني تكن مثلي“، ذكر الله يجعل الإنسان مرآة لله، حاكيًا لله تبارك وتعالى. من هنا نتعرّض إلى محاور ثلاثة في حديثنا:

المحور الأول: هدفية ذكر الله.

الله جعل لنا هدفًا، وهو ذكره، فالسؤال المطروح هنا هو أنَّ هذا الهدف من الطبيعي أنه لم يحققه كل إنسان، هناك من ذكروا الله، وهناك من تخلّفوا عن هذا الهدف وعاشوا كفارًا وماتوا كفارًا وأصبحوا وقودًا لجهنم، كما قال تبارك وتعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ، فالناس على قسمين: قسم حقّق الهدف، وأصبح ذاكرًا لله، وقسم لم يحقّق الهدف.

وهنا يأتي السؤال الذي يطرحه علماء الكلام: ما هو الهدف من خلق الكافر الذي يعلم الله من الأول أنه لن يذكره؟ الله يعلم أنّ هذا الذاكر لن يذكره، لن يطيعه، أنّ هذا الكافر مصيره إلى النار، فما هو الهدف من وجود الكافر؟ إن كان الهدف من وجود الكافر أن يكون ذاكرًا لله إذن وجوده لغو لأنه لم يتحقق فيه هذا الهدف، وإن كان الهدف من وجود الكافر أن يصبح وقودًا للنار فهذا ظلم، أن يخلق الإنسان حتى يصبح وقودًا للنار، إذن ما هو الهدف من وجوده؟

ثانيًا: الله رسم لنا هدفًا، وهو ذكره، وجعل الطريق لذكره عبادته، قال: ﴿فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي يعني إذا أردت أن تصل إلى الهدف - وهو ذكري - اعبدني وأقم الصلاة، أليس الله قادرًا على أن يوصلنا للهدف بدون هذا الطريق؟ أليس الله قادرًا على أن يخلقنا نزيهين ذاكرين له من دون حاجة إلى أن نقطع أعمارنا في العبادة، من دون حاجة إلى أن نقطع أوقاتنا في العبادة، أليس الله قادرًا على أن يبلغنا الهدف بلا حاجة للعبادة، فلماذا يكلّفنا بالعبادة وهو قادرٌ على أن يوصلنا من دون حاجة إلى هذا الطريق؟

الجواب عن هذا السؤال:

الإنسان وجود مادي، لأن الإنسان صُنِع من الأرض فهو وجود مادي، ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ، ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى، الإنسان من الأرض إذن الإنسان وجود مادي، عندما نتأمل في الوجود المادي نرى أنّ الوجود المادي متقوّم بعنصرين: صراع الأضداد والحركة الناقلة من القوة إلى الفعل، أشرح لك هذه القاعدة الفلسفية، كل وجود مادي متقوم بعنصرين: صراع الأضداد والحركة الناقلة من القوة إلى الفعل، كيف؟

نأتي مثلًا إلى نواة شجرة التفاح، هذه النواة وجود مادي، هذه النواة حتى تصبح شجرة مثمرة تعيش العنصرين: صراع الأضداد، والحركة، هناك عوامل للإثمار، التربة، الماء، السماد، هذه عوامل تساهم في الإثمار، لكن هناك عوامل مضادة لها، تلوث البيئة، الحشرات المميتة، هذه عوامل مضادة لعوامل الإثمار، فالنواة وهي تتفرع إلى شجرة مثمرة تعيش صراعًا بين العوامل المتضادة، فإذا انتصرت في الصراع أصبحت شجرة مثمرة، وإلا فشلت وأصبحت حياة عقيمة لا حياة فيها ولا ثمرة فيها.

العنصر الثاني: الحركة، هذه الشجرة المثمرة التي نراها كانت موجودة، أين كانت موجودة؟ كانت مختصرة في النواة، كما أنك عندك مكتبة كاملة مختصرة في CD، هذه الشجرة كلها مختصرة في تلك النواة، إذن كيف تحولت؟ بالحركة، انتقلت هذه الشجرة من عالم الإجمال إلى عالم التفصيل، كانت مجملة فأصبحت مفصلة، كانت CD وأصبحت الآن مفصلة، انتقلت من الإجمال إلى التفصيل، وهذا ما يعبَّر عنه بالحركة الجوهرية، يعني أنّ النواة عاشت حركة في جوهرها إلى أن أصبحت شجرة مثمرة.

هذا لا يختص بالنبات، الحيوان، الإنسان، نفس النقطة، كل الوجودات المادية، كل موجود مادي يعيش هذين العنصرين: صراع الأضداد، والحركة الجوهرية التي تنقلك من الإجمال إلى التفصيل. تعال للإنسان، الإنسان أين كان؟ هذا الإنسان الذي تراه يصنع الأعاجيب، هذا الإنسان العملاق كان مختصرًا في CD، وهو الحويمن المنوي، من بين ملايين الحويمنات المنوي هو كان مختصرًا في ذلك الحويمن المنوي، حتى يتحول إلى إنسان مرّ بالعنصرين: صراع الأضداد، والحركة. هذا الحويمن المنوي من بين الملايين التي تعيش حالة صراع، صراع الوجود، صراع التحول، هناك عوامل تدعو هذا الحويمن لأن يلتصق هو بجدار الرحم، وهناك عوامل تدعو لإلغاء هذا الحويمن وإلصاق حويمن آخر، هنا صراع بين الأضداد يعيشه هذا الحويمن المنوي. التصق الحويمن المنوي بجدار الرحمن، الآن بدأ يعيش العنصر الثاني، وهو عنصر الحركة، يعيش حركة جوهرية نقلته من حياة نباتية إلى حياة حيوانية إلى حياة إنسانية، ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ.

إذن كل وجود مادي يعيش عنصرين: صراعًا وحركة، بعد أن فهمنا هذه القاعدة نجيب عن الأسئلة، نقول: هذا الإنسان وُجِد لكي يكون ذاكرًا لله، لكن تخلّف عن هذا الهدف أناس كثيرون، وعاشوا كفارًا وماتوا كفارًا، السؤال: لماذا لا يعطي الله الإنسان الهدف من أول يوم؟ لماذا هذه الدوخة كلها؟ يوجده وهو ذاكر لله بلا حاجة إلى أن يمر عبر العبادة! نقول: مستحيل، لا لعجز في الفاعل، وهو الله، بل لقصور في القابل، وهو الإنسان، الإنسان نفسه لا يمكن أن يصل إلى كماله الروحي بدون حركة، لا يستطيع، لأنه وجود مادي، كل وجود مادي لا يصل إلى أي نوع من أنواع الكمال إلا عبر حركة، إلا أن يخرج عن كونه إنسانًا.

تقول: لماذا لم يعطه الله من أول يوم؟ كأنك تقول بعبارة أخرى: لماذا خلقه إنسانًا؟! لأنه بمجرد أن تفرضه إنسانًا إذن هو وجود مادي، المادي لا بد له من الحركة، أنت عندما تقول: لماذا لم يخلقنا الله من الأول مؤمنين؟ لماذا لم يخلقنا الله من الأول ذاكرين؟ غيّر كلامك وقل: لماذا لم يخلقنا الله من البداية ملائكة؟! هذا معناه، وإلا إذا صرنا إنسانًا فلا بد من أن نصبح وجودًا ماديًا، والوجود المادي يحتاج إلى الحركة، لا يمكن للإنسان أن يبلغ الكمال الجسمي إلا بحركة، حتى يصبح كاملًا جسميًا، نطفة وعلقة وعظام ولحم وهكذا، ولا يمكن للإنسان أن يملك الكمال العلمي إلا بحركة، لا يستطيع أن يكون دكتورًا من أول يوم، لا بد من أن يمر بحركة عقلية تعليمية حتى ينال الكمال العلمي، لا يمكن للإنسان أن يصل للكمال الاجتماعي، يصبح ناضجًا اجتماعيًا، خبيرًا اجتماعيًا، إلا بالحركة، حركة المعاصرة مع المجتمع، إلى أن يصل إلى سن النضج، سن الحكمة، سن الأربعين، ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ.

إذن، ما دام وصولك للكمال الجسمي يحتاج إلى حركة، وصولك للكمال العلمي يحتاج إلى حركة، وصولك للكمال الاجتماعي يحتاج إلى حركة، إذن وصولك إلى الكمال الروحي - وهو أن تكون ذاكرًا لله - يحتاج إلى حركة، لا يمكن أن تصل قفزة مرة واحدة، تولد هكذا، غير ممكن، لأنك إنسان فأنت وجود مادي، لأنك وجود مادي تحتاج إلى الحركة، لا يمكنك أن تصل إلى كمال من الكمالات إلا بالحركة، ولذلك قال تعالى: ﴿فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي لكي تصل إلى الهدف وهو ذكري.

الهدف من وجود الكافر:

السؤال الثاني: هذا الكافر الذي عاش كافرًا ومات كافرًا، ما هو الهدف من وجوده؟ إذا كان الهدف من وجوده أن يكون ذاكرًا إذن وجوده لغو لأنه لم يحقق الهدف، إذا كان الهدف من وجوده أن يكون حطبًا لجهنم إذن هذا ظلم، كيف يخلقه الله لكي يكون وقودًا لجهنم؟!

الجواب: هذا الكافر وُجِد، لكن وجوده ليس لغوًا، الهدف من وجوده أن يكون ذاكرًا لله عز وجل، لماذا لم يصبح ذاكرًا؟ لفشله في العنصر الأول، وهو صراع الأضداد، تمامًا مثل النواة التي لا تنشئ شجرة، هي نواة، سقيتها وأعطيتها سمادًا ولم تصبح شجرة مثمرة، لماذا؟ لفشلها في صراع الأضداد ما صارت شجرة مثمرة، حيوان خرج من بطن أمه مشوهًا ميتًا نتيجة صراع الأضداد، فشل في صراع الأضداد، كما أن نواة شجرة التفاح لم تثمر لفشلها في صراع الأضداد، والحيوان خرج مشوهًا لفشله في صراع الأضداد، هذا الإنسان خرج كافرًا لفشله في صراع الأضداد، ما هي الأضداد؟

الشهوة والعقل، الإنسان عنده جزء تراب وجزء سماء، جزء إلهي وجزء أرضي، جزء سماوي وجزء أرضي، الجزء الأرضي هو الشهوة، والجزء السماوي هو العقل، خُلِق الإنسان مؤلفًا من ضدين: ضد أرضي، وهو الشهوة، وضد سماوي، وهو العقل، وهو يعيش صراعًا بين هذين الضدين، قال الإمام أمير المؤمنين علي : ”إنّ الله خلق الملائكة عقلًا بلا شهوة، وخلق البهائم شهوة بلا عقل، وركّب في الإنسان عقلًا وشهوة، فمن غلب عقلُه شهوتَه فهو خيرٌ من الملائكة، ومن غلبت شهوتُه عقلَه فهو أدنى من البهائم“، إذن لماذا فشل الكافر؟ فشل الكافر في صراع الأضداد، فشل بسوء اختياره وبسوء إرادته، لا بعجز منه ولا بتعجيز من الله، هو يستطيع أن يصل لكنه لم يرد أن يصل بسوء إرادته.

إذن، عندما نقول: وجود الكافر لغو، هذا خطأ، لماذا لغو؟ هل هو لغو بالنسبة إلى الله أم لغو بالنسبة إلى الكافر؟! ليس لغوًا بالنسبة إلى الله لأن الله خلق الكافر جودًا وتفضلًا منه لا لحاجة منه إلى خلقه، خلقه جودًا وتفضلًا، والجواد لا يقال لجوده لغو، خلق الكافر جودًا وتفضلًا، والجود ليس لغوًا، بل هو كمال وكرم وعطاء، خلقه وأعطاه العقل والرزق والإرادة، فليس وجوده لغوًا بالنسبة إلى الله. وليس وجوده لغوًا بالنسبة إلى نفسه، لأنه عاش الدنيا وحقّق أهدافه في الدنيا وأقام صرحه وكيانه في الدنيا، فلا وجوده لغو بالنسبة إلى الله لأن وجوده كان كرمًا وتفضلًا، ولا وجوده لغو بالنسبة إليه لأنه عاش في الدنيا وحقّق أهدافه التي يريد تحقيقها في الدنيا، فلا يصح أن نقول بأن وجود الكافر لغو، هو بسوء اختياره فشل في الصراع، وقاد نفسه إلى أن يكون من أهل النار.

المحور الثاني: آثار الذكر.

قال تبارك وتعالى: ﴿فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي، ما هو الذكر؟ الذكر حضور الله في القلب، هذا هو الذكر، ليس المقصود بالذكر الذكر اللساني، بل المقصود بالذكر الذكر القلبي، الذكر الروحي، الذكر اللساني مجرد أثر وعلامة على الذكر القلبي، الهدف أن تذكر الله في قلبك، أن تعيش الله في قلبك، الهدف الحضور الإلهي في القلب، هذا هو الهدف، لكن ما هي آثار هذا الهدف؟ القرآن يذكر أثرين:

الأثر الأول: الاطمئنان.

قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، ما معنى الاطمئنان؟ الاطمئنان يعالج أمرين:

الأمر الأول: أنَّ الاطمئنان يعالج حالة القلق، نحن في عصر التكنولوجيا، نحن في عصر الحضارة، لكننا نعيش في أكثر العصور قلقًا، نحن نعيش قلقًا أكثر مما كان يعيشه آباؤنا وأجدادنا، عصر التكنولوجيا عصر القلق، القلق من الأمراض الخطيرة، القلق من الحروب، القلق من الأسلحة الفاتكة، القلق من الفقر، القلق من تدهور الأوضاع الاقتصادية، الإنسان يعيش قلقًا في عصر التكنولوجيا أكثر من العصور الأخرى، هذا القلق إذا لم يعالَج يتحوّل إلى مرض، كيف يعالَج هذا القلق؟ علاج القلق بذكر الله، علاج الذكر بالأنس بالله عز وجل، ذكر الله من أجمل آثاره أنه يقتلع القلق من قلبك، يقتلع القلق من روحك، يعيشك إنسانًا مطمئنًا.

ربما يقول إنسان: نحن نرى آيات أخرى تذكر أنّ الذكر يوجب الوجل، لا يوجب الاطمئنان، هذه الآية تقول: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، لكن عندنا آية أخرى تقول: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، كيف نوفق بين الآيتين؟ آية تقول: ذكر الله يعطيك اطمئنانًا، آية تقول: ذكر الله يعطيك وجلًا، كيف نوفق بين الآيتين؟

الإنسان إذا ذكر الله يمرّ بمرحلتين وهو يذكر الله: المرحلة الأولى: إذا ذكر الله تذكّر ذنبه، تذكّر تقصيره، تذكّر معصيته، فأصابه الوجل، ثم ينتقل من ذلك إلى ذكر الرحمة الإلهية، صحيح أنا مذنب، صحيح أنا مسيء، صحيح أنا مقصر، لكن هو رحيم، هو عطوف، هو غافر، كما قال الشاعر:

أنا مذنب، أنا مخطئ، أنا عاصي
قابلتهن       ثلاثة       iiبثلاثةٍ
  هو  راحم،  هو غافر، هو iiعافي
وستغلبن    أوصافه    iiأوصافي

إذن، إذا ذكر الذنب وجل، وإذا ذكر الرحمة اطمأن، فلذلك يقول القرآن الكريم يصف الحالتين: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ، أولًا تقشعر لذكر الذنب، ﴿ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، إذن الاطمئنان يعالج القلق.

والاطمئنان يشرح الصدر نحو العبادة، ما معنى تطمئن قلوبهم؟ يعني تنشرح صدورهم للعبادة، لاحظوا قوله عز وجل: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ، ذكر الله يعطيك انشراحًا، بحيث تقبل على العبادة، تقبل على الصلاة، تقبل على الدعاء، تقبل على النافلة، هذا أثر ذكر الله، وأما أثر الإعراض عن ذكر الله فأن تعيش قسوة وجفافًا بحيث لا تميل إلى العبادة ولا تميل إلى الطاعة ولا تميل إلى المناجاة والابتهال.

الأثر الثاني: الشعور بالقناعة.

لاحظ قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى، أنا أتعهّد له أنه لن يضل ولن يشقى، ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، ربما تتصور أنت المعيشة الضنك يوم القيامة، لا، في الدنيا المعيشة الضنك لا يوم القيامة، يوم القيامة مسألة أخرى، تحشَر أعمى، المعيشة الضنك قبل يوم القيامة، المعيشة الضنك في الدنيا، ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، ما هي المعيشة الضنك؟ ربما يقول قائل: نحن نرى الكفّار ليس عندهم معيشة ضنك، بل يعيشون متنعمين بلذائذ الدنيا وزخارف المادة، فكيف يقال لهم معيشة ضنك؟! الكفار يعيشون متنعمين فأين هي المعيشة الضنك التي يتحدّث عنها القرآن؟

الجواب: الإنسان الذي لا يعيش ذكر الله في حياته يلهث وراء الدنيا، حياته كلها حياة لهث لهث لهث لهث لهث، يلهث وراء بطنه، يلهث وراء جيبه، يلهث وراء فرجه، يلهث وراء الشهوات، ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، من لا يعيش ذكر الله يعيش لهثًا، كلما أشبع شهوة تطلع إلى شهوة أخرى، أشبع شهوة بطنه تطلع إلى شهوة جيبه، أشبع شهوة جيبه تطلع إلى شهوة فرجه، أشبع شهوة فرجه رجع إلى شهوة بطنه، يعيش عالمًا من الشهوات، يعيش حالة من اللهث والزحف نحو الثروة، نحو المنصب، نحو الشهرة، نحو الجاه، كل حياته حياة لهث وتعب وكدح، لا يشعر بالقناعة أبدًا، ولا يشعر بالراحة أبدًا، لأنه دائمًا يريد أن يشبع شهواته، ولن يستطيع إشباعها كلها، فهو يعيش دائمًا حالة من اللهث والركض وراء بطنه وجيبه وفرجه، لذلك لا يشعر بالقناعة، يشعر بحالة الاستفزاز واللهث، هذه هي المعيشة الضنك، ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا.

أما من يعيش ذكر الله، من يعيش حياته ذاكرًا لله، يدرك أن الحياة درب قصير، وأن الخط خط صغير، وأن حياته الحقيقية هي قبره، وأن حياته الحقيقية هي آخرته، لذلك هذا الإنسان لأنه يعيش ذكر الله يعيش مصداق الآية المباركة: ﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي، ليست هذه حياتي، هذه حياة صغيرة فانية، حياتي قبري، حياتي آخرتي، ﴿وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ، الإمام أمير المؤمنين علي يقول: ”يا دنيا، إليكِ عنّي! غرّي غيري؛ فخطركِ كبير، وعمركِ قصير، وعيشكِ حقير، آهٍ من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق“، نحن في سفر طويل، ملايين السنين نمشي في هذا السفر. إذن، ذكر الله أثره الاطمئنان، وأثره الراحة والشعور بالقناعة والشبع من هذه الدنيا الزائلة الفانية.

المحور الثالث: الذكر الخفي.

ما هو الذكر الخفي؟ خُلِقنا للذكر، وأروع صور الذكر الذكر الخفي، ما هو الذكر الخفي؟ نقرأ كلمات من مناجاة الإمام زين العابدين علي ، زين العابدين له 15 مناجاة من أروع الأدعية، ينبغي للمؤمن المواظبة عليها، من هذه المناجات مناجاة الذاكرين، نحن نتكلم عن الذكر، وهذا زين العابدين يتحدث لنا عن الذكر، يقول: ”إلهي، لولا الواجب من قبول أمرك لنزّهتك عن ذكري إياك“، ذكري لا يليق بمقامك وجلالك، كيف أذكرك بلسانٍ عصيتُك به؟! كيف أذكرك بقلب ملئ بعدًا عنك؟! كيف أذكر بجسدٍ ملئ معصية، ملئ رذيلة؟! ذكري لا يليق بمقامك وجلالك، ”لنزّهتك عن ذكري إياك، على أنَّ ذكري لك بقدري لا بقدرك، وما عسى أن يبلغ مقداري حتى أجعَل محلًا لتقديسك“، جرى ذكرك على لساني لأنك وفّقتني لذلك، فذكرك منك وليس مني، أنت الذي وفّقتني لذكرك.

يقول: ”ومن أعظم النعم علينا جريان ذكرك على ألستنا، وإذنك لنا بدعائك وتنزيهك وتسبيحك. إلهي، فألهمنا ذكرك في الخلأ والملأ والليل والنهار والإعلان والإسرار وفي السراء والضراء، وآنسنا بالذكر الخفي، واستعملنا بالعمل الزكي والسعي المرضي، وجازنا بالميزان الوفي“، ما هو الذكر الخفي؟ الذكر الخفي هو الذي يوقظك من النوم، جرّب إذا كنت في ظلام الليل ووعيت فجأة ورأيت نفسك تحب أن تصلي، رأيت نفسك تحب أن تقرأ القرآن، رأيت نفسك تحب أن تقرأ دعاء، فهذا هو الذكر الخفي، الذكر الخفي هو الذي يوقظك وأنت نائم، الذكر الخفي هو الذي إذا خلوت مع ربك في ظلام الليل وصرت تصلي تشعر بجمال الوقت، وتشعر بجمال الدعاء، وتشعر أنك تعيش جوًا جميلًا من الذكر والدعاء، هذا هو الذكر الخفي، هذا الذي يؤنسك في قبرك، ويؤنسك في حشرك ونشرك. الذكر الخفي هو الذي يعبّر عنه رسول الله ، يقول: ”ارتعوا في رياض الجنة، قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: مجالس الذكر، اغدوا وروحوا واذكروا فإنّ الله يقول: أنا جليس من ذكرني، فاذكروني أذكركم بنعمتي“.

الذكر الخفي هو الذي يمنعك عن المعصية، إذا اشتهت نفسك المعصية الذكر الخفي يمنعك، إذا عزمت نفسك على الرذيلة الذكر الخفي يوبّخك، الذكر الخفي هو الذي يحضر عندما تقترف المعصية، هو الذي يحضر في قلبك عندما تعزم على الرذيلة، هذا هو الذكر الخفي الذي يتحدّث عنه الإمام زين العابدين «صلوات الله وسلامه عليه»: ”إلهي، بك هامت القلوب الوالهة، وعلى معرفتك جُمِعَت العقول المتباينة، فلا تطمئن القلوب إلا بذكراك، ولا تسكن النفوس إلا عند رؤياك، أنت المسبَّح في كل مكان، والمعبود في كل زمان، والموجود في كل أوان، والمدعو بكل لسان، والمعظَّم في كلّ جنان“، الأئمة من أهل البيت عاشوا ذكر الله بكل جوانحهم، بكل أرواحهم، بكل قلوبهم، لأنهم عاشوا ذكر الله عاشوا الذكر الخفي. الإمام أمير المؤمنين الذي كان قلبه مشعلًا لذكر الله عز وجل كان آخر لفظٍ تلفّظ به قبل أن يسقط في محرابه، قال: ”فزت ورب الكعبة“، الحسين الذي عاش ذكر الله في قلبه وامتلأت روحه بذكر الله، يذكر الله وهو رأس مفصول عن الجسد، يذكر الله وهو رأس على رأس رمح طويل.

العبادة عنصر جيني
الفقه وَالعرفان في صراع أم وئام