نص الشريط
القرآن وطبيعة الإنسان تناغم أم تصادم؟
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 4/1/1440 هـ
مرات العرض: 4373
المدة: 01:16:58
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1481) حجم الملف: 22 MB
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ

صدق الله العلي العظيم

انطلاقاً من الآية المباركة نتحدث في نقطة جوهرية وهيَ: هل أن الدين الذي أتى به محمد يتمتع بصفتين:

  • صفه أنه منسجم مع الطبيعة الإنسانية.
  • وصفة أنه فوق مستوى الظروف التي برز منها وجاء فيها.

لأن حديثنا عن موقع النبوة. كيف نثبت صدق النبي في نبوته. فهناك عوامل تثبت لنا صدق النبي في نبوته:

  • استقامة سيرة النبي.
  • دين النبي.

العامل الأول: استقامة سيرة النبي.

«قد تحدثنا عن هذا العامل في الليلة السابقة.»

العامل الثاني: دين النبي.

أن يكون نفس الدين هو دليل على الصدق. أن تكون الأفكار التي طرحها النبي هي دليل على صدقه. هل الفكر الذي طرحه النبي متمثلاً في القرآن الكريم، هل هذا الفكر يدل على صدق النبي أم لا؟ إنما يكون الفكر دليلاً على صدق النبي إذا كان جامع لصفتين:

  • فهو فكرٌ ينسجم مع الطبيعة الإنسانية. لا ينافرها ولا يعارضها.
  • وهوَ فكرٌ سبق الظروف البشرية المحيطة به.

لماذا؟ العقل البشري بمقتضى التراكم المعرفي والثقافي، العقل البشري دائماً ابن بيئته. دائماً ابن حضارته. أي; نحن نعيش في حضارة قبل خمس مئة سنة، يكون منتجنا منسجم مع الحضارة التي عشنا فيها. نحن الآن نعيش في حضارة القرن الواحد والعشرين. منتجنا الفكري أيضاً منسجم مع الحضارة التي نحن فيها. دائماً المنتج البشري هو ابن بيئته. ابن حضارته.

بينما المنتج الإلهي، فوق الظروف. فوق مستوى الظروف التي ينطلق منها، فوق مستوى الظروف التي يجيء منها. لذلك، هل الدين، هل المنتج الذي طرحه النبي من خلال القرآن الكريم، هل هذا المنتج كان ابن بيئته أم كان فوق مستوى الظروف التي جاء منها النبي؟ حتى نكتشف أنه منتج الهي، وأن النبي صادق في دعوته، حينما قال: ”هذا الدين ليس مني، بل من الله“ لابد أن نحلل هذا الدين، نحلل هذا الفكر، هل هو منطلق من الظروف الموضوعية التي عاشها النبي أم أنه أعلى وأسمى من تلك الظروف التي انطلق منها نبي الإسلام محمد .

نحنُ نريد أن نثبت أن هذا الدين، وهذا المنتج القرآني دينُ ينسجم مع الطبيعة البشرية، ودينُ فوق مستوى الظروف التي عاشها النبي ، لذلك فهو منتج الهي. لذلك، نفس الدين هو دليل على صدق النبي في دعوته التي أتى بها، ألا وهي دعوى النبوة. كيف نثبت ذلك؟ الدين أقسام:

  • معتقدات.
  • تشريعات.
  • قيم.

الجانب الثالث: الجانب القيمي من الدين.

هل الجانب القيمي من الدين يتوافق مع الطبيعة الإنسانية؟ هو فوق الظروف الموضوعية أم لا؟ حديثنا في الجانب القيمي، وحتى نعرف ذلك نقارن بين الرؤية البشرية وبين الرؤية الدينية. على مستوى بناء الشخصية الرشيدة. وعلى مستوى بناء المجتمع الرشيد. فلدينا محوران:

  • المحور الأول: الرؤية الدينية على مستوى بناء الشخصية الرشيدة.
  • المحور الثاني: الرؤية الدينية على مستوى بناء المجتمع الرشيد.
المحور الأول: الرؤية الدينية على مستوى بناء الشخصية الرشيدة.

لدينا رؤيتان:

• رؤية بشرية بضعية.

• رؤية دينية.

الرؤية الأولى: الرؤية البشرية البضعية.

الرؤية الأرضية. الرؤية الوضعية. ما هي رؤيا المجتمع البشري في بناء الشخصية الرشيدة؟ نذكر معالم هذه الرؤية:

  • الصحة النفسية.
  • تصنيف الأمراض النفسية.

المعلم الأول: الصحة النفسية.

ما هي الصحة النفسية؟ من الطبيعي، نحن عندما نبني شخصية رشيدة، لابد أن نبني أولاً صحة نفسية. منطلق الإنسان الرشيد صحته النفسية. منطلق الإنسان السوي أن يعيش صحة نفسية. لنعرّف ما هي الصحة النفسية؟ نعود إلى كتاب «الطب النفسي المعاصر» للدكتور: أحمد عكاشة. نعود إلى كتاب «المرشد في الطب النفسي»: لمجموعة من النخب المتخصصة في هذا المجال. ما هي الصحة النفسية التي هي منطلق للشخصية الرشيدة؟ الصحة النفسية يعرّفها علماء النفس: القدرة على تحقيق عناصر أربعة:

  • فاعلية.
  • توازن.
  • تكيف.
  • إبداع.

كل إنسان يمتلك القدرة على أن يحقق هذه العناصر الأربعة، هذا إنسان يعيش صحة نفسية. ليس لديه هذه القدرة، يعيش مرض نفسي. هذه العناصر الأربعة موجودة في شخصيتك أم لا؟ القدرة على تحقيق العناصر الأربعة.

العنصر الأول: الفاعلية.

هل يستطيع هذا الإنسان يمارس نشاطه اليومي بفاعلية؟ يخرج من المنزل، يذهب إلى العمل، يمارس عمله، من دون اضطراب، من دون قلق. هذا هو معنى الفاعلية. يمارس نشاطه اليومي من دون قلقٍ واضطراب.

العنصر الثاني: التوازن.

أن يكون لدى هذا الإنسان توازن. إنسان متوازن. عندما يغضب، يغضب بحدود وفي محله. عندما يكرم يكرم بحدود وفي محله. عندما يقيم علاقات، علاقات بحدود وفي محلها. هل هو متوازن في مشاعره؟ هل هو متوازن في علاقاته أم لا؟ التوازن عنصر من عناصر الصحة النفسية. يقول المتنبي:

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا = مضرٌ كوضعِ السيف في موضعِ الندى

كل شيء تضعهُ في موضعه. الحكمة أن تضع الأشياء في مواضعها. كرمك في موضعه. غضبك في موضعه. علاقاتك في موضعها. هذا يسمى التوازن.

العنصر الثالث: التكيف.

هل نحن منفتحون على المجتمع؟ أم نحن أُناس منغلقون؟ أُناس منطويون؟ التكيف علامة على الصحة النفسية. ورد عن الرسول محمد : ”المؤمن يألف ويؤلف“، وورد عنه : ”أفاضلكم أحاسنكم أخلاقا، الموطؤون أكنافا، الذين يألفون ويؤلفون“ الإنسان الذي لديه قدرة على التكيف مع الناس، هذا إنسان يعيش صحة نفسية، هذا العنصر الثالث.

العنصر الرابع: الإبداع.

هل لدى هذا الإنسان قدرة على أن يستغل الفرص في الإبداع؟ في العطاء؟ في الإنتاج؟ أم ليس لديه هذه القدرة؟ إذا كان يمتلك القدرة على الإبداع والإنتاج، فهو سليم نفسياً. ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليٍ : ”قيمة كل امرئٍ ما يحسنه“ قيمتك بإنتاجك. بعطائك. قيمة الإنسان ليس في شكله، وليس في نسبه، وليس في منصبه الوظيفي. قيمتك في إنتاجك وعطاءك. ولذلك ورد عنهُ أيضاً : ”المرء مخبوء تحت طي لسانه، لا تحت طيلسانه“ قيمته بإنتاجه. قيمته بعطائه.

إذن، الصحة النفسية هي القدرة على العناصر الأربعة، فاعلية، توازن، تكيف، إبداع. إذا كان لدينا قدرة على العناصر الأربعة، فنحن أصحاء نفسياً. أما إذا الإنسان لديه خلل يعوقه عن الفاعلية، أو عن التوازن، أو عن التكيف، أو عن الإبداع، الخلل المعيق يعني أنه يعيش ماذا؟ يعيش مرض نفسي. هذا المعلم الأول من معالم الرؤية البشرية.

المعلم الثاني: تصنيف الأمراض النفسية.

علماء النفس يقولون الإنسان بين عنصرين دائماً:

  • مثير.
  • استجابة.

كل لحظة نحن نتعرض لمثير ويراد منا ماذا؟ استجابة لهذا المثير. إذا حصل المثير كيف تستجيب للمثير؟ مثير جنسي كيف نستجيب إليه؟ مثير عدواني: أحدهم يعتدي علينا، كيف نستجيب إليه؟ مثير أخوي: أحدهم يقيم معنا علاقة، كيف نستجيب لها؟ كيف تكون الاستجابة للمثير إذا كانت الاستجابة ضمن المبادئ الإنسانية هذي تسمى سلوك سوي، هذا إنسان سوي. أما إذا كانت الاستجابة شاذة، إذن هذا يعيش ماذا؟ يعيش مرض نفسي. هذا المرض النفسي يُقسم إلى:

  • عُصاب.
  • ذهان.
  • شخصية سيكوباتية.

الأول: العُصاب.

العصاب هو اضطراب في الشخصية، لكن يقترن بالوعي. هو إنسان واعي لم يفقد وعيه، لكن يعيش اضطراب في شخصيته. هذا يقال عنده عصاب.

الثاني: الذهان.

الذهان هو اضطراب مع فقد الوعي. صار يتصرف تصرف المجانين. هذا عنده ذهان.

الثالث: شخصية سيكوباتية.

هي التي تعيش اضطراباً في مشاعرها وعلاقاتها. مرة يفرح، مرة يحزن، مرة يغضب، مرة يهدأ. لا يعيش توازن في مشاعره وعلاقاته. هذا شخصية سيكوباتية.

هذي الأمراض، مرض العصاب الذي هو اضطراب مع وعي. قد يكون اضطراب هلع، قد يكون اضطراب رهاب، قد يكون اضطراب هستيريا، قد يكون اضطراب وسواس قهري، كل هذه أمثلة للعصاب. هذه الأمثلة، المدرسة الفرويدية تقول بينها أعراض مشتركة. ما هي الأعراض؟ ثلاثة أعراض نتعرض لها.

العرض الأول: أنه يسقط المسؤولية على غيره.

دائماً لا يتحمل المسؤولية، دائماً يقول غيري هو المخطأ، أنا ليس مخطأ. دائماً يلقي الأخطاء على الآخر. يلقي المسؤولية على الآخر. يلقي العيوب على الآخرين. هذا لديه مشكلة نفسية الذي دائماً يلقي العيوب والأخطاء على غيره. لذلك، النصوص الشريفة تؤكد على أن الإنسان يحاسب نفسه، ينقد ذاته. ﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ

لسانك  لا  تذكر  به عورة iiامرئ

وعينك   إن  أبدت  إليك  معايباً

 
فكلك   عورات   وللناس  iiألسن

فصنها وقل يا عين للناس أعين

عليك بنفسك. ”حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا“ لا تلقي المسؤولية على الآخرين. حاسب نفسك أولاُ.

العَرَض الثاني:

أن ترى هذا المريض نفسياً لا يعتذر من أخطاءه، دائماً يبرر لنفسه، دائماً يبرر لتصرفاته، لا يعتذر. لا يمتلك روح الاعتذار. مع أن روح الاعتذار عظيمة. الإنسان الذي يعتذر، إنسان عظيم. يعيش سمو في النفس. إذا أخطأت على أحد فاعتذر منه، بادر بالاعتذار. هذا دليل على سمو نفسك. ورد عن الإمام علي : ”المعذرة برهان العقل“ الذي يعتذر إنسان عاقل. اعتذر. قدم اعتذارك عن خطأك.

العَرَض الثالث:

أن هذا الإنسان قد يعيش نكوص. بعض المرضى النفسيين يتحول إلى طفل، دائماً يبكي ويجتلب العطف ويجتلب المحبة من الآخرين، لأنه لا يستطيع أن يبرر إحباطه، ويبرر فشله، فيصبح لديه حالة نكوص وارتداد إلى مرحلة الطفولة. هذي أعراض مشتركة بين أمراض العصاب.

المعلم الثالث: أسباب الأمراض النفسية وطرق علاجها.

من أين تنشأ هذه الأمراض؟ ليست هذه الأمراض يعني أن يلزم الذهاب بالمريض إلى المستشفى، لا. زمننا هذا، عصرنا هذا هو عصر الأمراض النفسية. الحضارة اليوم ملأى بأمراض الكآبة، وأمراض القلق، وأمراض الفزع، وأمراض الهلع. عصر الحضارة هو عصر انتشار الأمراض النفسية. أسبابها:

  • عامل وراثي جيولوجي.
  • عامل تربوي.
  • عامل بيئي.

العامل الأول: العامل الوراثي الجيولوجي.

أحياناً، يولد الطفل وهو يعيش عقدة نتيجة انحداره من أبويين يعيشان عقدة. أو نتيجة انحداره من أجداد يعيشون عقدة. العامل الوراثي البيولوجي قد يؤثر في المرض النفسي. لذلك، عندما نقرأ قول النبي محمد : ”تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس“ لا يقصد فقط الشرف، هناك ناس تتوجه فقط للشرف. أي ; لابد أن ينتخب عائلة شريفة. أو المرأة لابد أن تنتخب زوج من عائلة شريفة. لا، ليس فقط الشرف. لابد أن نقرأ العائلة، هل لديها مشاكل نفسية؟ هل لديها عقد؟ هل لديها أمراض أم خالية؟ العامل الوراثي البيولوجي مؤثر علينا. على أبنائنا، على ذريتنا.

العامل الثاني: العامل التربوي.

كيف الطفل عاش؟ هل عاش الطفل جواً مستقرًا بين أبويه؟ إذا عاش الطفل أجواء محبة في الأسرة. وعاش الطفل احترام لشخصيته ولموقعيته، حينئذٍ ينشأ الطفل صحيح نفسياً. أما إذا عاش الطفل في أسرة تعيش خلافات بين الأبويين، أو عاش الطفل في أسرة لا تحترم شخصيته، دائماً تعامله معاملة النبذ والقهر واستخدام القوة، طبيعي هذا الطفل سينشأ مضطرب نفسياً. قد يتحول إلى إنسان مريض نفسياً. لذلك ورد عن الرسول محمد : ”لاعب ابنك سبعاً، وأدبه سبعاً، وصاحبهُ سبعاً، ثم أترك له الحبل على الغارب“

السبع السنوات الأولى العب معه، املأه بالحب، املأه بالرحمة، املأه بالعطف.

العامل الثالث: العامل البيئي.

هذا طفل أسرته أسرة سليمة، وتلقى تربية سليمة، لماذا أصبح مريضاُ نفسياُ؟ العامل البيئي. كيف العامل البيئي؟ العامل البيئي يعني أمرين:

  • أصيب بضغوط اجتماعية.

فشل في الدراسة، فشل في العمل، أصابه مثلاً فشل في الزواج. نتيجة انتكاسة اجتماعية أصيب بالإحباط. أصيب بشخصية مضطربة.

  • أو أنه تلقى ثقافة منحرفة.

ونحن هذه مشكلتنا في الغرب، أبناؤنا أين يذهبون؟ من أين يتلقون الثقافة؟ ما هو الإعلام الذي يسترفد منه الثقافة أبناؤنا وأجيالنا؟ هل يتلقى ثقافة سليمة تنشئهُ على شخصية مستقرة سوية. أم أنه يتلقى ثقافة المجون؟ أم أنه يتلقى ثقافة العنف؟ أم أنه يتلقى ثقافة داعشية؟ يتحول إلى إنسان داعشي، متطرف. الثقافة عامل بيئي مؤثر على كون الإنسان شخصية سليمة أو شخصية مريضة.

طرق العلاج، طرق ثلاثة يذكرها علماء النفس:

  • الاتجاه التحليلي.
  • الاتجاه السلوكي.
  • الاتجاه الإرشادي.

الاتجاه الأول: الاتجاه التحليلي.

الاتجاه التحليلي أن تستنطق المريض، عندما يأتي المريض النفسي إلى الطبيب، يحاول يستنطق عقله الباطن. يحاول يستنطق مرحلة اللاشعور. إما من خلال تنويم مغناطيسي يستنطق مرحلة اللاشعور، أو من خلال أسئلة استدراجية إلى أن يكتشف ما في داخله. بعض المرضى النفسيين عندما كان طفل تعرض لاعتداء جنسي، أو تعرض لاعتداء حاد من أحد أفراد الأسرة، واختبأ أثر هذا الاعتداء في أين؟ في مرحلة اللاشعور. وعندما كبر أصبح مريض مرضاُ نفسياُ. هذا عندما يأتي إلى الطبيب، يحاول الطبيب أن يستدرجه، وأن يستنطق مرحلة اللاشعور إلى أن يكتشف بذرة المرض حتى يعالجه. هذا يسمى الاتجاه التحليلي ; أن تستنطق مرحلة اللاشعور.

الإمام زين العابدين علي في دعاءه في مناجاته مناجاة الشاكين، عندما يستنطق النفس، يستنطق مرحلة اللاشعور: ”اِلهي إليك أشكو نفساً بالسوءِ أمارة، وإلى الخطيئة مبادرة، وبمعاصيك مولعة.. تسلك بي مسالك المهالك، وتجعلني عندك أهون هالك، كثيرة العلل طويلة الأمل،.. ميالة إلى اللعب واللهو، مملؤة بالغفلة والسهو“ هذا استنطاق للنفس. استنطاق لمرحلة اللاشعور. التفات للعيوب والأخطاء التي تحملها نفس الإنسان.

الاتجاه الثاني: الاتجاه السلوكي.

الاتجاه السلوكي عبارة عن خطوات عملية لعلاج هذا الإنسان المريض. حتى يعود إنسان طبيعي. كيف هذه الخطوات العملية؟ إما خطوات تدريجية. كما ورد عن النبي محمد : ”إن لم تكن حليماُ فتحلم“ أي ; تعود على الحلم، تعود على الصبر، تعود على ضبط الأعصاب. هذه عملية تدريجية أو عملية مثلاً دفعية. كيف العملية الدفعية؟ مثلاً عندما نسمع قول الإمام أمير المؤمنين علي : ”إذا هِبتَ أمراُ، فقع فيه“ لا نتردد، نقع، نقتحم، لماذا؟ ”فإن شدة توقيه أعظم مما تخاف منه“، فإن انتظارنا له أشد من الوقوع فيه.

نحاول أن نهجم. نحاول أن نقتحم. أي ;نحاول أن تكون لدينا روح المبادرة. لا نستسلم للأوهام، للهواجس، للخيالات. لتكن لدينا روح المبادرة. ”إذا هِبتَ أمراُ، فقع فيه“ ; خائفون من أن ندخل الامتحان أو لا؟ ندخله. خائفون أن نقابل هذا الإنسان؟ نقابله. خائفون أن نقدم على هذه الوظيفة؟ نقدم عليها. هذه الخطوة الجريئة هي علاج نفسي يخلصنا من التوترات والاضطرابات والاحتقانات. هذا اتجاه سلوكي.

الاتجاه الثالث: الاتجاه الإرشادي.

الاتجاه الإرشادي عبارة عن وصايا عامة. القرآن الكريم في سورة لقمان يتعرض لوصايا جداً مهمة على مستوى العلاج الإرشادي:

الوصية الأولى: ارجع إلى ما يوجب لك الاستقرار والهدوء.

﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ لماذا؟ لأن الوحدانية توفر لنا الاطمئنان والهدوء. نحن محتاجون إلى الاستقرار، محتاجون إلى الهدوء النفسي. التوحيد يوفر لنا الاستقرار النفسي والهدوء. يقول القرآن الكريم: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ. إذن، النصيحة هي: أن نعود إلى ما يوجب لنا الاستقرار والهدوء. لا نشرك بالله.

الوصية الثانية: تربية الإنسان على روح الشكر.

﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ.

الوصية الثالثة: تربية الإنسان على روح الأمل والطموح.

﴿يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ. ما المقصود بهذه الوصية؟ تربية الإنسان على روح الأمل والطموح. تقول له: لا تفقد الأمل. فإلى أي مدى تطلب، ستحصل على ما تطلب. ليكن عندك أمل، ليكن عندك طموح.

الوصية الرابعة: تربية الإنسان على تنظيم الحقوق.

﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ. حق الله: نقيم الصلاة. حق المجتمع: نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر. حق شخصياتنا ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ حقوق متعددة: حق لله، حق للمجتمع، حق للإنسان.

الوصية الخامسة: التكيف الاجتماعي.

كيف نتكيف مع المجتمع؟ ﴿وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ

الوصية السادسة: الوصية بالاعتدال.

أن نكون معتدلين في أمورنا. ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ.

هذه الإرشادات القرآنية اتجاه إرشادي في علاج الأمراض النفسية.

الرؤية الثانية: الرؤية الدينية «الرؤية السماوية».

ماذا قدمت الرؤية السماوية في بناء الشخصية الرشيدة؟ في بناء الصحة النفسية؟ ماذا قدمت؟ هنا ثلاث ركائز للرؤية الدينية.

  • الركيزة الأولى: الركيزة الفكرية.
  • الركيزة الثانية: الركيزة العملية.
  • الركيزة الثالثة: مبادئ تأجيل اللذة.

الركيزة الأولى: الركيزة الفكرية.

الدين يقول لا يمكن الفصل بين البناء العملي والبناء الفكري. فبدل أن نصنع شخصية رشيدة’ نصنع فلسفة للحياة أولاً. لا يمكن أن نحقق شخصية سوية رشيدة، إلا إذا صنعنا له فلسفةً للحياة. ما لم يكن لدى الإنسان فلسفة للحياة لا يمكن أن يصبح شخصية رشيدة. فالدين لا يفكك بين البناء العملي والبناء الفكري. الشخصية العملية متفرعة على الشخصية الفكرية ;لا يمكن الفصل بينهما، وهذا الفارق الجوهري بين الرؤية البشرية والرؤية الدينية. الرؤية البشرية: تفكر كيف تعالج المرض النفسي؟ كأن المرض النفسي منفصل. بينما الرؤية الدينية: تقول: أولاً، حقق لهذا الإنسان فلسفة في الحياة. أولاً، أعطِ هذا الإنسان هدفاً في الحياة. بعد ذلك، انطلق إلى علاج أمراضه النفسية. لا يمكن الفصل بين البناء العملي والبناء الفكري.

لذلك الركيزة الفكرية مهمة في الرؤية الدينية. ما هي الركيزة الفكرية؟ أولاً، لدينا أسئلة: هل للحياة هدف أم لا هدف لها؟ الرؤية المادية تقول ماذا؟ هدفك في الحياة أن تتسابق حتى تحصل على الوظيفة، صح؟ هدفك في الحياة أن تتصارع حتى تحصل على المعدل الدراسي. هدفك في الحياة.. وهكذا. أي ; الهدف المادي هو الهدف لهذه الحياة. هذه الرؤية البشرية. الحياة بنظر الرؤية البشرية: صراع. صراع على ماذا؟ وتسابق على المناصب، على الوظائف، على المعدلات، على هذه المواقع المادية. لذلك القرآن يتعرض إلى هذه الجهة، أنهم ينظرون إلى الحياة بهذا المنظار.

يقول القرآن الكريم: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا نحن نركز على هدف قصير. أو عندما يقول القرآن: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ التكاثر يعني ماذا؟ الصراع على الكثرة. ما مقدار ما أملك، ما مقدار ما تملكه أنت. ما مقدار ما أحصل عليه، ما مقدار ما تحصل عليه أنت. ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ إلى أن جاءكم الموت وأنتم مشغولون بهذا الصراع المادي.

إذن الرؤية البشرية ترى أن الهدف هو التسابق المادي. بينما الرؤية الإسلامية ترى أن الهدف أسمى من ذلك. ما هو الهدف؟ أن تكون خليفة الله في الأرض. هذا هو الهدف. ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. الهدف ليس السباق المادي، الهدف أسمى من كل ذلك، هناك هدف أسمى من ذلك. أن تكون خليفة لهذا الخالق العظيم في الأرض. أن تكون ممثلاً له في الأرض. ما هي معالم الخلافة في الأرض؟ معالم الخلافة أربعة عناصر:

العنصر الأول: الإعمار.

نحن خلقنا لنعمر الأرض، لنبني الحضارة. ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا.

العنصر الثاني: العدالة.

حضارة من دون عدالة، حضارة فاشلة. ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ

العنصر الثالث: العبادة.

﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ليس المقصود بالعبادة سوى الصلاة والصوم، الصلاة والصوم مظهر للعبادة، ليست العبادة الحقيقية. العبادة الحقيقية أن نعيش الله في قلوبنا. أن يكون الله حاضراً في أنفسنا. لذلك يقول القرآن الكريم: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي. الصلاة لها هدف، وهي أن يعيش ذكر الله في قلوبنا. هذه العبادة الحقيقية.

العنصر الرابع: الأخوة.

لم يخلق المجتمع البشري ليتقاتل. خلق المجتمع البشري ليتلاقى. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا لا لتقاتلوا، لا لتحاربوا. إذن هذه عناصر الخلافة في الأرض.

السؤال الثالث: ما هو الطريق لتحقيق الخلافة في الأرض؟

الدنيا التي نعيشها هي طريق امتحان وابتلاء. الدنيا هي طريق امتحان عويص. القرآن الكريم يركز على هذه النقطة، يقول: ﴿هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ أي; نحن في موضع ابتلاء دائماً. ﴿فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ويقول القرآن الكريم: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ كل واحد حسب مقامه. واحد خوف، واحد جوع، واحد نقص ﴿وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ.

الدنيا طريق ابتلاء وامتحان. نحن بين جزيرتين. الإنسان بين جزيرتين: جزيرة عالم الذر، جزيرة عالم ما بعد الموت. الدنيا بحر بين جزيرتين. الإنسان جاء من جزيرة ويسبح إلى جزيرة أخرى. نحن جئنا من جزيرة لا نذكرها، لا نتذكر شيئاً من أخبارها، جزيرة عالم الذر. عندما كنا أرواحا في عالم الذر، عندما كنا في ذلك العالم نقدس الله ونسبحه، من ذلك العالم نزلنا إلى هذا البحر. ونحن نسبح ونسبح ونسبح حتى نصل إلى الجزيرة الأخرى ألا وهي: عالم ما بعد الموت. القرآن يعبر عن هذه السباحة، يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ نحن نعيش سباحة، نحن نعيش نصارع الأمواج، نحن في حالة صراع مع الأمواج العاتية، نحن في حالة كدح إلى أن نلقى ربنا. ﴿كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ. أما الآن نحن في البحر، بحر عالم الدنيا، كيف نسبح هذا البحر؟ كيف نقطعه؟ الناس ثلاثة:

  • هناك شخص يسبح بمهارة، هو فوق الأمواج. هذا يقول عنه القرآن الكريم: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ العمل الصالح يرفعك فوق الأمواج. تسبح بمهارة.
  • وهناك إنسان لا، سقط إلى عمق البحر. خسر. ﴿وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ هوى إلى عمق البحر. لم يعرف السباحة.
  • وهناك إنسان مثلنا، تارة فوق وتارة تحت. تارة يصعد فوق الموج، تارة يأكله الموج. ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ.

إذن عالم الدنيا عالم سباحة. عالم ابتلاء. عالم امتحان. هذا العالم كيف نحقق فيه خلافة الله في الأرض؟ كيف ننجح في الامتحان؟ كيف ننجح في الابتلاء؟ هذا هو المحك، هذا هو المصب.

الركيزة الثانية: الركيزة العملية.

محور الشخصية الرشيدة، لكي نصبح شخصية رشيدة: تأجيل اللذة. ليس واجب أن نأخذ كل لذة. لابد من تأجيل اللذة. كيف؟ اللذة على ثلاثة أقسام:

  •  لذة حسية.

مثل لذة الطعام. مثل لذة الجنس.

  • لذة نفسية.

مثل لذة التقدير الاجتماعي: الأم إذا وجدت من أولادها تقدير لجهودها وشخصيتها تحصل على لذة. ليست لذة حسية ولكن لذة نفسية.

  • لذة عقلية.

هي اللذة بالمعلومات. نصبح علماء رياضيات، علماء فيزياء، أي عالم من العلوم. كلما فككنا المعادلات نحصل على لذة عقلية.

إذن اللذة على ثلاثة أقسام، المهم أن نؤجل اللذة. وليس المهم أن نستوفي اللذة. تأجيل اللذة يعلمنا على قوة الإرادة. تأجيل اللذة يعلمنا على الصبر. محور الشخصية السوية الرشيدة هو تأجيل اللذة. قد يؤجل الإنسان لذة حسية، كالمضربين عن الطعام. لماذا يضرب عن الطعام؟ حتى يحقق هدف سياسي. الإضراب عن الطعام تأجيل للذة الحسية من أجل لذة أسمى. من أجل هدف أسمى. وقد يؤجل الإنسان اللذة النفسية، الأم تتعب، تنهك، تربي وبعدها أولادها لا يقدرونها، فلا تحصل على اللذة النفسية. لكنها تقول: عزائي ليس مهما أن يشكرني أولادي، المهم أن أرى أولادي ناجحين، موفقين. إذا رأيت أولادي ناجحين فهذه لذتي. فهي تؤجل اللذة النفسية في سبيل هدف أسمى.

وأحياناً تؤجل اللذة العقلية، الدعاء الذي نقرأه في صلاة العصر: ”اَللّهُمَّ إني أعوذ بِكَ مِنْ نَفْس لا تَشْبَعُ وَمِنْ قَلْب لا يَخْشَعُ وَمِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ وِ مِنْ صلاةٍ لا تُرْفَعُ“ علم السحر، علم الشعوذة، علم الطلاسم، علم لا ينفع. إذا نحن نترك هذا العلم فنحن أجلنا لذة عقلية لهدف أسمى وأعلى. تأجيل اللذة هو المحك في بناء الشخصية الرشيدة. لذلك القرآن الكريم يركز على تأجيل اللذة ﴿فَأَمَّا مَن طَغَىٰ * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ القرآن يركز على تأجيل اللذة. لماذا؟ لأن تأجيل اللذة يبني التوازن في الشخصية.

الإنسان مكون من عقلٍ وشهوة. ورد عن الإمام أمير المؤمنين علي : ”إنّ الله عزّ وجلّ ركّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة، وركّب في البهائم شهوةً بلا عقل، وركّب في بني آدم كلتيهما، فمن غلب عقله شهوته، فهو خيرٌ من الملائكة، ومن غلب شهوته عقله فهو شرٌّ من البهائم“ التوازن بين العقل والشهوة لا يتحقق إلا بتأجيل اللذة. لذلك القرآن الكريم يقول هناك نفس أمارة ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ وهناك نفس لوامة ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ وهناك نفس مطمئنة ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةَ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً كيف نحقق النفس المطمئنة؟ بتقديم النفس اللوامة على النفس الأمارة. تحكيم النفس اللوامة على النفس الأمارة ينتج نفساً مطمئنة، وهذا لا يتحقق إلا بتأجيل اللذة. أجل لذتك الجنسية إلى الزواج المبارك. أجل لذاتك الحسية إلى الطعام المباح، الطعام الحلال. أجل لذتك النفسية إلى الصلاة إلى العلاقة مع الله. تأجيل اللذة هو مصب الشخصية الرشيدة.

الركيزة الثالثة: مبادئ تأجيل اللذة.

هنا يكمن الفرق الثاني بين الرؤية البشرية والرؤية الدينية. الرؤية البشرية والرؤية الدينية متفقان على أن تأجيل اللذة مهم. أن بناء التوازن في الشخصية الإنسانية يتوقف على تأجيل اللذة. كلا الرؤيتين متفقتان على هذا. لكن الرؤية الدينية تكامل للرؤية البشرية. نحن لا ندعي أن الدين يصارع علم النفس الأرضي، الدين تكامل مع علم النفس الأرضي. الدين يعطي علم النفس البشري تكاملاً ونمواً. علم النفس البشري يحتاج إلى الدين حتى يقدم الحلول الناجحة لبناء الشخصية الرشيدة ولعلاج الأمراض النفسية. ولذلك نحن نقول: الدين سبق الظروف البشرية. الدين فوق مستوى الظروف البشرية. لأن الدين قدم حلولاً للأمراض النفسية لم يقدمها علم النفس البشري.

الدين قدم بناءً للشخصية الرشيدة لم يقدمها علم النفس البشري. فالدين تكاملٌ لعلم النفس البشري الوضعي. لذلك، ما هي مبادئ علم النفس البشري؟ ما هي مبادئ الدين؟ الآن نحن نأتي بمريض نفسي، ندخله على طبيب نفسي، يقول له: أفصح عن أخطاءك، صارح نفسك، افعل كذا.. افعل كذا. يقول له: لماذا؟ يقول له: حتى ترجع إنسان طبيعي. لماذا أعود إنسان طبيعي؟ لماذا تريد مني أن أعود إنساناً طبيعياً؟ يقول له: حتى تحقق السعادة المادية. إذن المبدأ الذي ينظر إليه علم النفس البشري هو السعادة المادية. بينما الدين يقول لا، السعادة المادية ليست الهدف، لأن السعادة المادية قد تتحقق وقد لا تتحقق. لو جعلنا الهدف فقط أن نحصل على منصب، لو جعلنا الهدف فقط أن نحصل على معدل دراسي، لو جعلنا الهدف فقط أن نحصل على ثروة، امتلأ المجتمع بالكثير من الفاشلين والمحبطين.

لأن كثيراً من الناس لا تساعده الظروف على تحقيق المعدل الدراسي. لا تساعده الظروف على استلام الوظيفة المرموقة. لا تساعده الظروف على أن يحصل على السعادة المادية. فهذا يعني أن يمتلأ المجتمع بالمحبطين والفاشلين. إذن، هناك مبادئ أسمى وأرقى من ذلك. ما هي تلك المبادئ؟ ما هي المبادئ الدينية لتأجيل اللذة. من خلال تلك المبادئ نعرف الفارق بين الرؤية البشرية والرؤية الدينية. المبادئ:

  • التوكل على الله.
  • الزهد.
  • الفناء في الله.

المبدأ الأول: التوكل على الله.

ورد عن الرسول محمد : ”مَن أُعطي ثَلاثاً لم يُمنَع ثلاثاً، مَن أُعطي الدعاءَ أُعطي الإِجَابة، لأن الله تعالى يقول: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ،“ ومَن أُعطي الشكرَ أُعطي الزيادة ”لأن الله تعالى يقول: ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ، ومَن أُعطي التوكُّلَ أُعطي الكفاية“ لأن الله تعالى يقول: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ من أعطى التوكل أُعطيَ الكفاية. أول مفردة، أول مبدأ من مبادئ تأجيل اللذة: التوكل على الله. أن نثق بالله.

كل الأمور، كل الأسباب المادية قد تقطعنا يوم من الأيام قد نصبح يوم من الأيام وحيدين لا ينفعنا أي سبب مادي. فنحن محتاجون إلى أن ننقطع إلى تلك القوة الأقوى. إلى تلك القوة الغيبية، إلى أن نرتبط بذلك الموجود الذي لا حد لقدرته ولا لقوته. إذا ارتبطنا بذلك الموجود الأقوى شعرنا بالأمن، شعرنا بالاستقرار. ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.

المبدأ الثاني: الزهد.

هل يعني ألا نلبس جيداً؟ ولا يصبح أثاث منزلنا جيداً؟ ولا نركب سيارة فارهة؟ لا ليس هذا. ليس المقصود بالزهد هذا. كثير من الناس إذا سمع كلمة ”الزهد“ يلبس ثوب بالي، يصعد سيارة تالفة، يرتب له أثاث في البيت تالف. لا ليس هذا الزهد. أمير المؤمنين علي يقول: ”الزُّهْدُ كُلُّهُ بَيْنَ كَلِمَتَينِ مِنَ الْقُرْآنِ: قَالَ اللهُ سبحانه: ﴿لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ“ هذا هو الزهد. أي ; أن ننظر إلى الدنيا وكأنها وسيلة وليست غاية.

هذا هو الفرق بين الرؤية الدينية والرؤية البشرية. الرؤية البشرية ترى الدنيا غاية، المنصب غاية، الوظيفة غاية، الثروة غاية. أما الدين يقول هذه كلها أدوات ووسائل. نحن في فترة امتحان واختبار. ”الدنيا دار ممر لا دار مقر“، ﴿وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ هذه كلها وسائل. فإذا اعتبرنا الدنيا وسيلة، إذن لن نأسى على ما فات ولن نفرح بما أتى لأنها مجرد وسائل تذهب ويأتي غيرها. هذا هو الزهد الحقيقي.

المبدأ الثالث: الفناء في الله.

ورد عن الرسول محمد : ”تخلقوا بأخلاق الله“ كيف يعني نتخلق بأخلاق الله؟ كيف؟ أي; نكون صادقين، نكون أنقياء، نكون سليمين، أخلاق الله الصدق. أخلاق الله الحلم. أخلاق الله البذل والجود. إذا تخلق الإنسان بأخلاق الله أصبح مرآةً لله، أصبح مظهراً لله، أصبح خليفة الله في أرضه. هذا معنى الخلافة: أن نتخلق بأخلاق الله. أن نكون مظهراً لله. التخلق بأخلاق الله يجعلنا شخصية رشيدة’ يجعلنا شخصية سليمة، يجعلنا خاليين من الأمراض النفسية.

ورد عن الإمام الصادق : ”فإنّ الرجلَ منكُم إذا ورَع في دينِه، وصدقِ الحديثِ، وأدّى الأمانةَ، وحسَّنَ خُلُقَه مع الناسِ، قيلَ هذا جعفريٌّ، فيسرّني ذلك، ويدخلُ عليَّ منه السرورَ، وقيلَ: هذا أدبُ جعفر“ الجعفري: الصادق، الأمين، حسن الخلق، الورع في الدين. وإذا كان على خلاف ذلك قالوا فعل الله بجعفر ما فعل، ما كان أسوء ما يؤدب به أصحابه. إذن، أخلاق الله هي هذه الصفات العظيمة.

النتيجة:

هذا الدين الذي عرضناه، هذا الدين بركائزه الفكرية والعملية ومبادئه، هل هذا الدين مستوى الظروف البشرية أم فوق مستوى الظروف البشرية. إنسان وهو محمد ابن عبدالله ، هذا الإنسان الذي عاش بيئة صحراوية وثنية متخلفة، تعيش القتال والحروب، كيف استطاع أن يصدر منه هذا المنتج؟ لو كان هذا المنتج بشرياً، لكان هذا المنتج بمستوى ثقافة مكة، بمستوى ثقافة الصحراء، بمستوى ثقافة الحضارة التي عاش فيها النبي . لأن الإنسان لا يستطيع أن يصدر منتج إلا من خلال ثقافته، إلا من خلال بيئته، إلا من خلال حضارته، بينما المنتج الذي جاء به النبي من خلال القرآن الكريم نراه فوق مستوى البيئة التي عاشها الرسول، فوق مستوى الظروف التي برز منها النبي، فوق مستوى البشرية التي انطلق منها النبي.

هذا دليل على أن المنتج الهي وليس بشري. إذن، نفس الدين، نفس الجانب القيمي من الدين هو دليل على صدق النبي في دعوته. عندما يسألنا إنسان: ما هو الدليل على أن محمد نبي؟ نقول له الدليل واضح، نفس الدين الذي أتى به اقرأه قراءة تحليلية، تجد أن هذا الدين ليس منتج بشري وإنما هو منتج الهي. لأن الدين الذي أتى به ويتمثل في تعاليم القرآن الكريم كما تحدثنا في بناء الشخصية الرشيدة، هذا الدين من جهة موافق للطبيعة الإنسانية، من جهة أخرى هو فوق مستوى الظروف الموضوعية التي برز منها النبي وجاء منها النبي محمد . ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا.

يوجد في موقع منظمة الصحة العالمية تقريرات عن نسبة الانتحار. يقول نسبة الانتحار في المجتمعات المتحضرة غير المتدينة أكثر من نسبة الانتحار في المجتمعات المتخلفة لكنها متدينة. يقول نسبة معدل الانتحار في السويد، فنلندا، اليابان، فرنسا، هذه المجتمعات المتحضرة، المتقدمة تكنولوجياً، نسبة ظاهرة الانتحار فيها أضعاف أضعاف نسبة الانتحار في المجتمعات العربية المتخلفة. لماذا؟ تبين من هذه الإحصاءات السنوية أن الدين يلعب دوراً في بناء الشخصية الهادئة. في بناء الشخصية المستقرة. الدين يلعب دوراً في بناء هذا الإنسان. الدين يلعب دوراً في مقاومة الإنسان لظروف الإحباط ولضغوطات الحياة، فلا يستسلم لها، لأنه يعيش مبدأ التوكل، مبدأ الزهد، مبدأ الفناء في الله تبارك وتعالى.

نراجع ما يذكره الدكتور هارولد فينك، هذا قام بثلاثة وتسعين بحثاً، وصل نتيجة هذه الثلاثة وتسعين بحث إلى أن الأشخاص المتدينون أقل كآبة من الأشخاص الغير متدينين. استنتج من ثلاث وتسعين بحث أن الدين يساعد الإنسان على التخلص من أمراض الكآبة. على التخلص من الشخصية السيكوباتية. على التخلص من الشخصية الانهزامية. الدين علاج للأمراض النفسية، لماذا؟ هو نفسه الدكتور يقول: ”لأن الدين يعطي هدفاً للحياة، ومعنىً للحياة، بخلاف الرؤية الغير الدينية للإنسان وللحياة“.

من هنا يتبين لنا أن الدين الذي جاء به النبي منسجم مع الطبيعة البشرية. يبنيها’ يعالج أمراضها، يرفع الاحتقانات والتوترات منها ومن جهة أخرى هذا الدين فوق مستوى الظروف التي برز منها النبي مما يدل على أنه منتج الهي وليس منتجاً بشرياً. هذا الدين بنى علي ابن أبي طالب، هذا الدين بنى الحسن والحسين، هذا الدين هو الذي جعل علي ابن أبي طالب يمتلك تلك الطاقة الجبارة من قوة الإرادة. يقول: ”والله لو أعطيتُ الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها، على أن أعصي الله في نملةٍ أسلبها جلب شعيرةٍ ما فعلته“، ”وَ لَوْ كَانَ اَلْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ فَكَيْفَ وَ إِنَّمَا اَلْمَالُ مَالُ اَللَّه“ هذا الدين هو الذي بنى الحسين وجعل من الحسين شخصية صامدة، شامخة، لا تتراجع ولا تتنازل وإذا هو إلى آخر لحظة من لحظات حياته والدم يشخب على جسده كالميزاب وهو يقول: ”الهي.. رضاً بقضائك، صبراً على بلائك، تسليماً لأمرك.. يا غياث المستغيثين“

تركت الخلق طراً في هواكا

فلو قطعتني في الحبِّ إرباً

 
وأيتمت  العيال  لكي iiأراكا

لما  مال الفؤاد إلى iiسواكا

هكذا الحسين ابن علي ماشياً صامداً، إلى أين؟ إلى هدفه.

والحمدلله رب العالمين

الخلق المحمدي برهان النبوة
علاقة المصطفى (ص) بالسماء في دليل حساب الاحتمالات