نص الشريط
الحلقة 3 | هل يمكن أن نكتشف التشريع السماوي بعقولنا؟
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 7/11/2019 م
مرات العرض: 3276
المدة: 00:43:35
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (280) حجم الملف: 19.9 MB
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ذكرنا في الجلسة السابقة أن تغير الحكم الشرعي مع بقاء موضوعه أو ولادة حكم شرعي ليس عليه دليل، كل ذلك يعتمد على حكم العقل؛ حيث إن العقل البشري هو الذي يحكم بأن الحكم الشرعي قد زال وإن كان موضوعه باقياً.

كما ادعي ذلك في مسألة عدم حجية شهادة المرأة أو فتوى المرأة، إذ قد يقول بعض الباحثين بأن الحكم الشرعي بعدم حجية شهادة المرأة أو فتوى المرأة قد تغير أو زال، وإن كان موضوعه الجعلي مازال باقياً.

أو أن العقل البشري يمكنه أن يتوصل إلى أحكام شرعية ليس عليها دليل من الكتاب والسنة؛ كأن يدرك العقل البشري أن للمخترع حق البراءة وإن كان هذا الحق لم يقم عليه دليل من الكتاب والسنة، ففي كلا هذين الفرضين «سواء قلنا إن العقل البشري يدرك زوال الحكم الشرعي وإن بقي موضوعه، أو إن العقل البشري يدرك ولادة حكم شرعي جديد وإن لم يقم عليه دليل» في كل هذين الموردين نحتاج إلى أن نثبت الاعتماد على العقل البشري.

إذا أثبتنا أن العقل البشري حجة في إدراكاته اليقينية والقطعية أمكن أن نعوّل عليه في إدراكه زوال الأحكام الشرعية أو في إدراكه ولادة الأحكام الشرعية.

وقد ذكرنا أن هناك فريقا من الإمامية من لا يرى حجية العقل ولا يرى صحة الاعتماد على الحكم العقلي في مدركاته المرتبطة بالأحكام العقلية، وذكرنا في الجلسة السابقة أيضاً أن ما يدعيه هذا الفريق وهم بعض المحدثين أو بعض الأخباريين من أن العقل لا حجية له في الوصول إلى الأحكام الشرعية، وهذه الدعوى تتصور على ثلاثة أنحاء:

النحو الأول: أن الحكم الشرعي متقيد بعدم الوصول إليه عن طريق عقلي، وهذا النحو تحدثنا عنه في الجلسة السابقة مفصلاً.

النحو الثاني: الضيق في الكاشفية.

بأن يدعى أن العقل لا كاشفية له عن الحكم الشرعي، أي أن هناك قصوراً في الكاشفية، بمعنى أن كل دليل عقلي لا يؤدي إلى اليقين بالحكم الشرعي، حتى لو كان هذا الدليل العقلي يقينيا وقطعياً.

وهذه الدعوى تارة تُبحث بلحاظ العقل النظري وأخرى بلحاظ العقل العملي، وحديثنا هذه الليلة عن قصور العقل النظري في إيصاله إلى اليقين بالحكم الشرعي، فعندنا جهتان في البحث.

الجهة الأولى: قصور العقل النظري في إيصاله إلى اليقين بالحكم الشرعي.

وهنا أفاد السيد الشهيد السيد محمد باقر الصدر:

قال - في بحوثه في الأصول في الجزء الرابع - أن اليقين الذي يرفض بعض المحدثين الاعتماد عليه على معنيين: اليقين بالمعنى المنطقي واليقين بالمعنى الأصولي.

أما اليقين بالمعنى المنطقي: فهو اليقين المضمون الحقانية.

أي اليقين بلحاظ مطابقته للواقع أو عدم مطابقته للواقع، فإن ما يبحث عنه علم المنطق ليس كل يقين، وإنما اليقين المضمون الحقانية، أي اليقين الذي ندرك مطابقته للواقع، وإنما ندرك مطابقته للواقع لأنه مدعوم بالبرهان، اليقين المدعوم بالبرهان الذي نتيجة دعمه بالبرهان ندرك مطابقته للواقع هذا هو المسمى باليقين المنطقي.

ولذلك بعد صناعة البرهان ذكروه في المنطق في بحث مقدمات البرهان وقسموا المقدمات إلى مقدمات يقينية وغير يقينية، وقسّموا المقدمات اليقينية إلى قضايا بديهية ونظرية كسبية تنتهي لا محالة إلى البديهيات، وقسّموا البديهيات إلى فطريات ومتواترات وتجريبيات وحسيات وحدسيات ومشاهدات، وقالوا: إذا استند البرهان إلى هذه المقدمات اليقينية الست فهو برهان ندرك مطابقته للواقع وإلا فلا.

إذاً: اليقين الملحوظ في علم المنطق، الذي له قيمة في علم المنطق، هو اليقين المضمون الحقانية، أي المدعوم بالبرهان.

هذا اليقين إذا كان بعض المحدثين ينكر حجيته ويقول هذا اليقين المدعوم بالبرهان لا قيمة له في مجال استنباط الأحكام الشرعية هنا أجاب السيد الشهيد الصدر: ما يراه الأصوليون حجة ليس هو اليقين بهذا المعنى.

لنفترض ونسلم مع بعض المحدثين أن هذا اليقين لا قيمة له، لكن هذا لا يضرنا؛ لأن ما يراه الأصوليون حجة ليس هذا النحو من اليقين، بل اليقين بالمعنى الثاني الذي نذكره هنا، وإلا فاليقين بهذا المعنى لا يقول الأصوليون بحجيته، يعني لا يثبتون ولا ينفون، لا علاقة لهم به.

وأما اليقين بالمعنى الأصولي: فهو اليقين بمعنى عدم الشك.

هذا هو النوع الثاني من اليقين الذي يقول الأصوليون بحجيته وهو الذي يجب أن يتحدث عنه الأخباري أو المحدث بالقيمة أو بعدم القيمة.

بغض النظر أن البرهان يدعمه أو لا يدعمه، بغض النظر أن ندرك مطابقته للواقع أو لا ندرك مطابقته للواقع، اليقين عند الأصوليين الذي يرونه حجة هو اليقين بمعنى القطع وعدم الشك، لا اليقين المضمون الحقانية وهو اليقين المنطقي، فهذا اليقين بهذا المعنى - وهو اليقين بمعنى عدم الشك - هل له قيمة أم لا؟ هذا ما يجب أن يتحدث عنه بعض المحدثين لا اليقين بالمعنى الأول. هكذا أفاد السيد الشهيد قدس سره.

الملاحظة على ما أفاده السيد الشهيد:

هذه النظرة محل ملاحظة من جهتين:

الجهة الأولى: لم يتفق الأصوليون على أن اليقين بمعنى عدم الشك حجة، هذا محل بحث عندهم.

المشهور لدى الأصوليين ما ذكره السيد الشهيد، ولكن هناك مسلك آخر وتبنّاه السيد السيستاني - دام ظله - ودافع عنه في أصوله.

إذاً: الأصوليون بعضهم يرون أن موطن الحجية هو الحسم وعدم احتمال الخلاف، وبعضهم يرون أن موطن الحجية هو استناد اليقين إلى المناشئ العقلائية، فهناك اتجاهان في بحث حجية القطع في الأصول وما هو القطع الحجة، هل موطن حجية القطع أن لا يوجد معه احتمال الخلاف؟ كل إدراك ليس معه احتمال الخلاف فهو الحجة؟ فالحجية في عدم احتمال الخلاف، في نقطة الحسم، هذه هي الحجية؟ هذا هو المشهور عند الأصوليين.

أما المسلك الآخر يقول ليست نقطة الحجية هي عدم احتمال الخلاف، موطن الحجية نُشؤ اليقين واستناده إلى المناشئ العقلائية، لا أن موطن حجيته عدم احتمال الخلاف.

ولأجل ذلك نقول: متى ما تمت المناشئ العقلائية التي تقتضي حصول اليقين لولا المانع فهو حجة، سواء حُسم الخلاف وانتهى أم لم ينتهي، ليست القيمة في عدم احتمال الخلاف، القيمة والحجية في استناد هذا اليقين إلى المناشئ العقلائية، احتمل الخلاف أو لم يحتمل الخلاف هذا لا يضر بحجيته، بخلافه على المسلك الأول، فإن الحجية ترتكز على عدم احتمال الخلاف.

فلو فرضنا مثلاً أن الفقيه قطع بعدم حجية فتوى المرأة أو الصبي غير البالغ، بناء على المسلك المشهور قطع الفقيه حجة يصح أن يستند إليه في مقام الإفتاء، المهم أن لا يحتمل الخلاف، بغض النظر عن مناشئ قطعه ويقينه، هذا القطع حجة يمكنه أن يستند إليه في مقام الإفتاء، والفتوى على طبقه فتوى بعلم وليست فتوى بغير علم، بينما على المسلك الثاني لابد من النظر إلى مناشئ هذا القطع، هل أن مناشئ هذا القطع مناشئ عقلائية أم غير عقلائية؟

فلو فرضنا أن الفقيه قطع بعدم حجية فتوى المرأة استناداً إلى تجربته هو، عاشر النساء كثيراً، ومن خلال معاشرته وتجربته مع مجتمع المرأة أدرك أن المرأة كثيرة الخطأ مثلاً أو كثيرة الانحياز إلى عاطفتها، نتيجة هذه التجربة حصل له القطع، فإنه بحسب المسلك الثاني هذا القطع غير حجة، يعني هذا القطع ليس مبرراً للفتوى ولا معذراً، لابد أن يستند القطع إلى مناشئ عقلائية، بمعنى أن هذا الفقيه استقرأ عالم العقلاء فرأى بحسب عالم العقلاء قصور قرارات المرأة في أغلب الموارد، أو أن الفقيه راجع كل الأدلة الشرعية فاستنطق من مذاق الأدلة الشرعية أن لا قيمة لرأي المرأة، فإننا نقول هذا القطع استند إلى مناشئ عقلائية.

إذاً: ليس هناك اتفاق لدى الأصوليين على أن موطن الحجية القطع بمعنى عدم احتمال الخلاف، حتى نقول لابد أن يُبحث هذا النوع من القطع ولا يهمنا البحث عن نوع آخر من القطع. هذه الجهة الأولى في الملاحظة على كلام السيد الشهيد.

الجهة الثانية: هناك فرق بين القطع بالحكم الشرعي والقطع بالمبادئ التصديقية التي توصل إلى القطع بالحكم الشرعي.

مثلاً: عندما نأتي إلى بحث اجتماع الأمر والنهي، هل يمكن أن يجتمع الأمر والنهي على مصب واحد؟

مثلاً: السجود على الأرض المغصوبة.

يقولون: هذا السجود مأمور به؛ لأنه سجود، وهو منهي عنه؛ لأنه غصب، فإن وضع الجبهة على المكان المغصوب تصرف فيه، فهو غصب، والغصب منهي عنه، إذاً: اجتمع الأمر والنهي على مصب واحد ألا وهو السجود على المكان المغصوب.

هل اجتماع الأمر والنهي ممكن عقلاً أم لا؟

قالوا: إذا كان المعنون واحداً، أي السجود بما هو سجود هو مأمور به وهو منهي عنه فلا يُعقل اجتماع الأمر والنهي فيه، أي لا يعقل فعليتهما معاً؛ لأنها تعني فعلية الضدين، حيث إن الأمر ينشأ عن محبوبية ومصلحة، والنهي ينشأ عن مبغوضية ومفسدة، ففعلية الأمر والنهي تعني فعلية المصلحة والمفسدة في موضع واحد وهو محال، أو اجتماع المحبوبية والمبغوضية في فعل واحد وهذا محال.

إذاً: لأجل إدراك العقل استحالة اجتماع الضدين أدرك على نحو القطع أنه لا يمكن فعلية الأمر والنهي، وفي طول إدراك العقل أنه لا يمكن فعلية الأمر والنهي في متعلق واحد كالسجود مثلاً، إذاً لابد أن يكون أحدهما فعلياً دون الآخر، إما النهي أو الأمر، وقالوا حيث إن النهي شمولي والأمر بدلي قُدّم النهي على الأمر فأصبح السجود منهياً عنه وليس مأموراً به، وبما أنه منهي عنه والمنهي عنه مبغوض، والمبغوض لا يصلح للمقربية، إذاً هذا السجود لا يقع مقرباً ولا يقع امتثالاً للأمر الإلهي.

فنحن سلكنا عدة مقدمات ونظرنا لعدة أحكام عقلية وعدة قطوعات: القطع باستحالة اجتماع الضدين، القطع باستحالة فعلية الأمر والنهي، القطع بأن أحدهما فعلي دون الآخر، القطع بأن المبغوض لا يصلح للمقربية.

عندما نقارن هذه العملية «عملية الاستنباط» نقول: القطع بالمعنى الأصولي، الذي يبحث الأصوليون عن حجيته بمعنى منجزيته ومعذريته هو القطع بالحكم الشرعي، أي القطع بأن هذا السجود منهي عنه وليس مأموراً به، هذا هو القطع بالمعنى الأصولي، وأما القطع بالمبادئ التصديقية التي وقعت في طريق الوصول إلى القطع بالحكم الشرعي، كالقطع باستحالة اجتماع الضدين والقطع بأن الأمر والنهي لا يكونان فعليين في مصب واحد، هذا كله من المعنى الأول لليقين، اليقين بالمعنى المنطقي، لولا أنه يقين مدعوم بالبرهان مضمون الحقانية لم يكن له قيمة.

إذاً الأصوليون لم يقتصروا في اعتمادهم على اليقين باليقين بالمعنى الأصولي، وهو اليقين بمعنى عدم احتمال الخلاف، بل اعتمدوا أيضاً على اليقين بالمعنى المنطقي، وهو اليقين المضمون الحقانية، اعتمدوا عليه في المبادئ التصديقية التي تؤدي إلى القطع بالحكم الشرعي.

إذا اتضح ذلك نقول: ما هي الأدلة التي اعتمد عليها بعض المحدثين لإثبات أن اليقين لا قيمة له في كاشفيته عن الحكم الشرعي؟

أدلة المحدثين على أن ما يدركه العقل النظري لا قيمة له في الكشف عن الحكم الشرعي:

هنا تعرض السيد الصدر إلى وجهين:

الوجه الأول: أن نسبة الخطأ في الأحكام العقلية تفرض نفسها على كل قضية عقلية ترد على ذهن الإنسان.

بيان ذلك: أنا لو قمت باستقراء لكل الأحكام العقلية التي يتداولها المجتمع البشري، فأدركت أن 20% من هذه القضايا العقلية انكشف خطؤه، سوف تفرض هذه النسبة نفسها في كل قضية عقلية أتوصل إليها، ولن يحصل اليقين بها، بل ستأتي نسبة الخطأ نفسها في تلك القضية أيضا.

إذاً: مقتضى هذا البرهان الرياضي أن لا يقين بحكم شرعي اعتماداً على دليل عقلي، لِمَ؟ لأنه متى ما وصلت إلى دليل عقلي كانت نسبة الخطأ فيه 20%، وبناء عليه: حتى لو كانت عندك قضية عقلية لا يمكن أن تحصل منها على يقين بالحكم الشرعي، وهذا معنى قصور كاشفية العقل عن الحكم الشرعي.

الإشكال عليه: هذا الاستدلال محل تأمل نقضاً وحلاً.

أما النقض: فبالقضايا الحسية.

والمفروض أن المحدثين لا يناقشون في حجية القضايا الحسية، هذا حار، هذا بارد، هذه التجربة أثبتت كذا، لا يناقشون، يعتبرون أن المدركات الحسية يقينية ويمكن الاعتماد عليها، مع أن نفس هذا البرهان يأتي فيها، نحن لو استقرأنا القضايا التي يتداولها المجتمع البشري سنرى أن 20% أو 40% من القضايا الحسية أو التجريبية التي اعتمد عليها المجتمع البشري قد تبين خطؤها، نتيجة ذلك أن أي قضية حسية أو تجريبية نضع يدنا عليها ستكون نسبة الخطأ فيها 20% فكيف يمكن الاعتماد عليها؟!

إذاً: نتيجة هذا البرهان الرياضي أنه لا يمكن الاعتماد على القضايا العقلية ولا على القضايا الحسية والتجريبية والحال أنهم اتفقوا على صحة الاعتماد عليها. هذا النقض.

وأما الحل: أننا تارة ننظر إلى استدلال الآخر، وتارة ننظر إلى استدلال أنفسنا، فرق بين النظرين، تارة الآخر يعرض عليّ استدلاله وأرى أن استدلال الآخر متضمناً لقضايا عقلية، وأرى أن الآخر توصل إلى حكم شرعي استناداً إلى قضايا عقلية، فأنا عندما أنظر إلى استدلال الآخر الذي اعتمد على القضايا العقلية أقول: بما أن هناك نسبة احتمال الخطأ 20% إذاً لا يمكنني أن أتكل على هذا الاستدلال؛ لأنني أحتمل خطؤه بنسبة 20% يوجد احتمال للخطأ بنسبة 20 إذاً لا يمكنني أن أتكل على هذا الاستدلال؛ لأنني أحتمل خطأه بنسبة 20%.

هنا يتم الكلام، أما في استدلال النفس، أنا قمت باستدلال بيني وبين نفسي، واعتمدت في هذا الاستدلال على مقدمات بديهية أو ما يقارب البديهية ووصلت إلى اليقين بالحكم الشرعي نتيجة هذه المقدمات.

كما ذكرنا الآن بعض الأمثلة، لأنني أدرك استحالة اجتماع النقيضين والضدين أدركت استحالة اجتماع الأمر والنهي في متعلق واحد، لأنني أدركت استحالة اجتماع الأمر والنهي في متعلق واحد أدركت أن هذا الموطن مبغوض، لأنني أدركت أن هذا الموطن مبغوض أدركت أن المبغوض لا يصلح للمقربية فأدركت فساده.

أنا في استدلالي الخاص بي استندت إلى مقدمات عقلية بديهية أو قريبة من البديهية ووصلت إلى يقين بالحكم الشرعي وهو فساد العبادة التي ورد عليها النهي.

هنا عندما أنظر إلى استدلال النفس لا يمكن أن يحصل لي احتمال الخطأ، حتى مع التفاتي إلى أن 20% من القضايا قد تبين خطؤها.

لماذا لا يحصل لي احتمال الخطأ؟

لاعتمادي على عاملين:

العامل الأول: أن المقدمات التي استندت إليها بديهية أو قريبة من البديهية؛ إما أوليات أو فطريات، كما يقولون، إما أوليات لا تحتاج إلى برهان، مثل استحالة اجتماع الضدين، وإما فطريات، وهي القضايا التي تكون قياساتها معها، مثل: الأربعة زوج لأنها تنقسم إلى متساويين، بما أنني اعتمدت على قضايا أولية أو فطرية فالعامل الأول لضمان حصول اليقين متوفر.

العامل الثاني: القيام بالفحص العقلي.

كما أن الفحص الحسي يوصل إلى اليقين، الفحص العقلي أيضاً يوصل إلى اليقين - بالوجدان - فإنني لو فحصت في هذه الدار عن شيء معين بكل وسائل الفحص من الكاميرات والمكبرات وجميع الوسائل التي تؤدي إلى العثور على الشيء الضائع فلم أعثر عليه، لا إشكال أن هذا الفحص الحسي يوصل - بالوجدان - إلى اليقين بعدم ذلك الشيء المطلوب.

كما أن الفحص الحسي يوصل إلى اليقين إذا كان فحصاً لازما، الفحص العقلي كذلك، أنا بعد أن رأيت هذه المقدمات البديهية أو الفطرية فحصت عن موانعها وشرائطها، فلم أجد دخالة لشرط في إنتاجها، ولم أجد مانعاً من إنتاجها، بعد قيامي بهذا الفحص العقلي عن الشرائط والموانع - لا محالة - الاعتماد على هذين العاملين - بالوجدان - يوصل إلى اليقين الحكم الشرعي، فحتى مع التفاتي إلى أن 20% من القضايا العقلية فيها احتمال الخطأ لا يتحقق عندي احتمال الخطأ فيما قمت به اعتماداً على هذين العاملين، تماماً كما في الفحص الحسي، مع أني أدرك أن كثيراً من القضايا الحسية خاطئة، لكن إذا قمت بالفحص الحسي بوسائله يحصل لدي اليقين بعدم ذلك الشيء الضائع تماماً.

الوجه الثاني: إن الالتفات إلى الخطأ في بعض القضايا العقلية مانع من صحة الاعتماد على البراهين العقلية في الأحكام الشرعية.

إلا أن هذه المانعية يمكن تصويرها على نحوين: مانعية من الحجية أو مانعية من الوقوع.

النحو الأول: المانعية من الحجية.

أن يدعي بعض المحدثين أن التفات الفقيه إلى خطأ كثير من القضايا العقلية مانع من صحة اعتماده على أي برهان عقلي في الأحكام الشرعية؛ فالمنع من حجية هذه البراهين العقلية، لا المنع من وقوعها.

الملاحظة على ذلك: إذا كان هذا هو المدعى فإن هذه القضية تضاد نفسها؛ لأن هذه القضية نفسها قضية عقلية، «كل فقيه التفت إلى الخطأ في الاحكام العقلية فلا يصح له أن يعتمد على البراهين العقلية» نفس هذه القضية عقلية وليست شرعية، وإذا كانت نفسها قضية عقلية يأتي فيها نفس الكلام والإشكال؛ كيف نعتمد عليها مع أنها لم تستند إلى قضية بديهية؟!

النحو الثاني: المنع من الوقوع، وليس الحجية.

التفات الفقيه إلى الخطأ في كثير من القضايا العقلية يمنع تكويناً أن يحصل له اليقين، فهو مانع تكويني من حصول اليقين بالأحكام الشرعية.

إذا كان المدعى هو هذا، فيلاحظ على ذلك: متى تكون القضايا متلازمة في اليقين؟

عندنا مناشئ ثلاثة:

المنشأ الأول: أن تكون بين القضيتين ملازمة، فإذا انكشف خطأ إحداهما لن يحصل اليقين بالأخرى.

مثلاً: تعدد الآلهة مستلزم لاختلال الكون، وحيث إن اختلال نظام الكون باطل؛ لأننا نرى أن نظام الكون متّسق وليس مختلاً؛ إذاً: حيث انكشف لنا خطأ اللازم انكشف لنا خطأ الملزوم، وهو تعدد الآلهة، حيث إن اختلال النظام لازم باطل إذاً ملزومه أيضاً باطل وهو تعدد الآلهة.

أو نقول مثلاً: لو لم يكن النبي أو الإمام معصوماً لم يحصل الوثوق بقوله ولا فعله، وعدم الوثوق بقوله ولا فعله نقض للغرض من نصبه نبياً أو إماماً، وبما أن نقض الغرض قبيح إذاً لا يمكن أن لا يكون معصوماً، اللازم باطل، وهو عدم حصول الوثوق بقوله أو فعله، وبما أن اللازم باطل فالملزوم أيضاً باطل، ألا وهو عدم العصمة.

المنشأ الثاني: أن تكون إحدى القضيتين من المبادئ التصديقية للأخرى، فإذا بطلت بطلت النتيجة.

مثلاً: قال الفلاسفة الأقدمون بالعقول العشرة الطولية، أن الله خلق العقل الأول وأن العقل الأول أبدع العقل الثاني، والعقل الثاني أبدع العقل الثالث، فقالوا بالعقول العشرة الطوية.

هذه النظرية عندما نرجع إلى مبادئها التصديقية، من مبادئها التصديقية أن الواحد لا يصدر منه إلا الواحد، بما أن هذه القضية اعتمدت في صدقها وصحتها على مبدأ نرجع إلى ذلك المبدأ وهو أن الواحد لا يصدر منه إلا الواحد، والله تبارك وتعالى واحد، فلا يصدر منه إلا الواحد، فيكون صدر من الباري تبارك وتعالى عقل واحد فقط، ذلك العقل الواحد هو الذي أبدع عقلاً واحداً ثانياً، وهكذا إلى أن وصلت إلى العقول العشرة.

يعني نرجع إلى المبدأ التصديقي، هل هذا المبدأ التصديقي صحيح أم لا؟

السيد الخوئي يقول: هذا ليس صحيحاً.

قاعدة الواحد مختصة بالعلل الطبيعية؛ النار علة طبيعية لا يمكن أن يصدر منها سنخان من الحرارة، بل سنخ واحد من الحرارة؛ لأنها واحد لا يصدر منها إلا واحد، ولكن لا تأتي هذه القضية «الواحد لا يصدر منه إلا الواحد» في الأفعال الاختيارية.

الله فاعل، يعني نسبة الله إلى الوجود نسبة الفاعل لفعله الاختياري، لا نسبة العلة للمعلول.

بما أن نسبة الله إلى الكون نسبة الفاعل لفعله الاختياري، لا نسبة العلة إلى المعلول، لذلك لا يخضع لهذه الأحكام «أحكام العلل الطبيعية ومنها: الواحد لا يصدر منه إلا الواحد» بل نقول: الله تبارك وتعالى فاعل، وهو وإن كان واحداً إلا أن الفاعل الاختياري يصدر منه الكثير من الأفعال.

إذا: إذا انكشف أن المبدأ التصديقي خطأ لم يحصل العلم بالنتيجة.

المنشأ الثالث: أن يكون هناك مرض نفسي، وهو مرض التشكيك: أن لا يحصل للإنسان يقين.

مثلاً: بعض الأشخاص عندما تقول له بأنه قامت الأدلة النقلية على ولادته وعدم موته، وهذا الدليل النقلي لم يقم مانع عقلي ولا علمي مضاد له؛ لا العقل يمنع بقاء الإنسان هذه الفترة الطويلة ولا الطب يمنع بقاء الإنسان هذه الفترة الطويلة إذا توفر الجسم على نشاط الخلايا وحيويتها، فما المشكلة؟! لديك دليل نقلي يقول لك بأنه وُلد ولم يمت، ولم يقم دليل عقلي ولا علمي على خلافه، فيكون الدليل النقلي حجة ما دام لم يقم مانع عقلي ولا مانع علمي على خلافه، يقول كلامك صحيح لكنني ما زلت شاكاً، ما زلت لا أصدق أن يبقى الإنسان هذه الفترة الطويلة.

إذاً: عدم اليقين هنا ناشئ عن التلجلج - بحسب تعبير الشهيد الصدر - ناشئ عن ارتباك نفسي وليس ناشئاً عن منشئ عقلائي.

فبعد أن عرفنا أن عدم اليقين له مناشئ ثلاثة:

1. التلازم بين القضايا.

2. أو كون القضية من المبادئ التصديقية لقضية أخرى.

3. أو ينشأ عن تلجلج وارتباك نفسي.

كل القضايا العقلية التي طرحها الأصوليون في علم الأصول، بحث اجتماع الأمر والنهي، بحث الترتب، بحث مقدمة الواجب، بحث أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده، بحث الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، كل القضايا العقلية، هل هي من السنخ الأول؟ بمعنى أن هذه القضية لازمها قضايا أخرى وقد انكشف لنا خطأ اللازم، فلا يمكن أن يحصل اليقين بها؟ ليست من هذا المنشأ.

هل هي من قسم المنشأ الثاني؟ بمعنى أن هذه القضايا العقلية التي ذكرها الأصوليون اعتمدت على مبادئ تصديقية، وتلك المبادئ التصديقية انكشف لنا خطؤها، فلا يمكن أن يحصل لنا اليقين بهذه القضايا الأصولية؟

أيضاً هي ليست كذلك.

وإما أن تقول من القسم الثالث، أن هذه القضايا العقلية التي بحثها الأصوليون لا أستطيع أن أقبلها وأتيقن بها؛ لمشكلة عندي، ارتباك نفسي أو تلجلج نفسي.

هذا لا قيمة له بحسب المنطق العلمي.

إذاً تلخص بذلك: أن ما يدعى من أن العقل النظري قاصر في كاشفيته عن الحكم الشرعي؛ لأنه لا يمكن أن يحصل اليقين بالحكم الشرعي على مستوى العقل النظري، هذا غير تام، ويأتي الكلام في الجلسة القادمة عن العقل العملي.

والحمد لله رب العالمين.

الحلقة 2 | ماهي مواطن الثبات والتغير في التشريع الإسلامي
الحلقة 4 | ماهي ماهية الحق وحقيقة الظلم