نص الشريط
الدرس 21 | الدور الحيوي لمبدأ العلية في إنتاج التجربة
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مجلس آل جمعة
التاريخ: 18/8/1442 هـ
مرات العرض: 2816
المدة: 00:58:45
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (294) حجم الملف: 16.8 MB
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

المحاضرة بعنوان الدور الحيوي لمبدأ العلية في إنتاج التجربة، وفيها عدّة محاور:

المحور الأول: في افتقار التعميم في التجربة لمبدأ حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد.

قَدْ شرح هذا العلامة الشهيد المطهري «رحمه الله» في كتاب «أصول الفلسفة» [1] ، وبيان هذا المحور بأن التجربة إذا أُقيمت فإنما تقوم على نطاقٍ محدودٍ من الأفراد والجزئيات، مثلاً: إذا أُريد الوصول إلى أن الفلز يتمدد بالحرارة فإن التجربة تُقام على عدد محدود من الفلزات حتى لو كان هذا العدد مليون تجربة مثلاً، ولكن ما هو السر في التعميم - أي تعميم التجربة - لكل أنواع الفلز وفي جميع الحالات؟ هنا يتبادر للذهن أن التعميم يعتمد على قانون عقلي وهو «حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد»، حيث إن التجربة وإن أقيمت على مليون فلز لكنَّ باقي أنواع الفلز في العالم هي مثلها، أي أن جميع أنواع الفلز وأفراده متماثلة، وحكم الأمثال فيما يجوز واحد، أي ما دامت متماثلة في كونها فلز إذن هي متماثلة في الحكم وهو التمدد بالحرارة.

يتساءل الشيخ المطهري بأن الذهن هل هو مذعن بهذه القاعدة؟ فهل يذعن بأن «حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد» أم ليس مذعناً؟ فإن قيل أن الذهن ليس مذعناً بهذه القاعدة، إذن لا يُمكن التعميم؛ لأن التجربة أقيمت على عددٍ محدود، وإن كان الذهن مذعناً لهذه القاعدة فيُقال ما هو مستند هذه القاعدة؟ هل هو التجربة أم حكم العقل؟ فإن قيل أن مستند هذه القاعدة هو التجربة أيضاً، أي أن التجربة لكي تُنتج التعميم تحتاج إلى قاعدة الأمثال متماثلة في حكمها حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد، وهذه القاعدة أيضاً استفدناها من التجربة فرجع الإشكال مرة أخرى، فالتجربة التي أقيمت من أجل إثبات هذه القاعدة أيضاً هي في نطاق محدود، فكيف تم تعميمها وبُني على أن حكم كل الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحدٌ؟ فإن هذا يلزم منه التسلسل والتسلسل باطل، إذن لا بُد أن يُقال أن مَدْرَك هذه القاعدة هو حكم العقل الفطري وليس مَدْرَك هذه القاعدة هو التجربة، وهذا يعني أن أي تجربةٍ في العالم لا يُمكن أن تُنْتِج وتُصْبِح عامةً لكل الموارد إلا إذا اعتمدت على المبدأ العقلي وهو حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحدٌ.

المحور الثاني. الدور التطبيقي للمبادئ العقلية الأربعة في عملية إنتاج التجربة.

كل تجربة تفتقر إلى مبادئ عقلية أربعة وهي:

  • السببية الكبرى.
  • السببية الصغرى.
  • السنخية بين العلة والمعلول.
  • حكم الأمثال واحد.

وهذه المبادئ العقلية الأربعة أيضا لا يمكن اليقين بها إلا بمبدأ سبق التعبير عنه بأنه أولى الأوائل وهو مبدأ «عدم التناقض»، فنأتي إلى اكتشاف الدور التطبيقي لهذه المبادئ العقلية الأربعة، فنقول عندما نقيم التجربة من أجل أن نثبت أن كل ماءٍ يغلي إذا بلغت درجة حرارته 100° من خلال التجربة، فقمنا بملاحظة الظاهرة فوجدنا أن هناك ظاهرتين متعاقبتين وهما ظاهرة بلوغ درجة حرارة الماء 100° وظاهرة الغليان، فوجدنا بين الظاهرتين تعاقبٌ في الحدوث بأنه إذا حدثت الأولى حدثت الثانية. من هنا نأتي إلى هذا التساؤل، هل أن الظاهرة الثانية - الغليان - لها علة أما أنها وُجدت صدفة؟ أي هل أن الاقتران بين الظاهرتين - ظاهرة بلوغ درجة حرارة الماء 100° وظاهرة الغليان - صدفة أم أن الاقتران بين الظاهرتين لوجود عليّةٍ وارتباط؟

المبدأ الأول: السببية الكبرى.

هنا يأتي المبدأ الأول ألا وهو مبدأ السببية الكبرى أي استحالة الصدفة، فيستحيل أن يوجد شيء صدفة، فبما أن الاقتران بين الظاهرتين شيء والشيء يَسْتَحيل أنْ يُوجَد صدفة، إذن بين الظاهرتين يوجد ارتباط وعليّة، وهذا يسمى مبدأ السببية الكبرى، وبعد أن نؤمن بمبدأ السببية الكبرى ومن أن في البين علة - بغض النظر عن العلة - فالشيء لا يوجد صدفة، نأتي إلى المبدأ الثاني السببية الصغرى.

المبدأ الثاني: السببية الصغرى.

العالم التجريبي يؤمن - من حيث لا يشعر - بمبدأ العلية؛ لأنه يؤمن بمبدأ العلية بطبعه وفطرته فإنه يقوم بالبحث عن العلة - أي يبحث عن الصغرى - فهو يؤمن باستحالة وجود الشيء صدفة، إذن وراء هذا الاقتران علة، فما هي تلك العلة؟! فلو لم يؤمن بمبدأ السببية الكبرى - أن الشيء يستحيل صدفة - ويؤمن أن لهذه الظاهرة بالذات علة - أي غير العلية العامة يوجد علية خاصة بالمقام - فيبحث عن تلك العلية الخاصة الموجودة في هاتين الظاهرتين، وهذا يعني التعويل على مبدأ السببية الصغرى، ولو لم يؤمن التجريبي بأن هناك سبباً خاصاً بهاتين الظاهرتين لكان إنتاج التجربة إنتاجاً ظنياً؛ لأنه من العسير عمليا أن تستطيع التجربة تعيين العلة الواقعية لأي حادثة من بين الأمور العديدة التي يُحتمل كونها هي العلّة، فالتجريبي يضعه أمامه عدّة محتملات، فمن المحتمل أن هذا هو العلة والمحتمل أن هذا العلة، ولو اعتمد على التجربة وحدها لم يكتشف تلك العلية الواقعية، فمن العسير عملياً أن تستطيع التجربة تعيين العلة الواقعية لحادثة ما من بين الأمور العديدة التي يُحتمل أن تكون هي العلة فيعين المجرب شيئاً وينفي سائر الاحتمالات، وعدم اليقين في القضايا التجريبية يعود إلى سبب وهو التغير السريع في القضايا التجريبية، فباعتبار التغير السريع في القضايا التجريبية فإن ذات التجربة لا يمكن أن تكشف لك العلة، فذات العلة التي تقيمها حتى لو أقمتها مليون مرة فإنه لا يمكن لها أن تكشف لك ما هي العلّة؛ لأنها مهما بلغت من السعة ومنهما بلغت من الامتدادات فإن نتيجتها ظنية، وأنت تُريد أن تكتشف العلة القطعية وراء اقتران هاتين الظاهرتين بالذات، ولذلك لا بُد أن تؤمن بمبدأ السببية الصغرى وتبحث عنها من أجل تحديدها، ومن هنا ننتقل إلى المبدأ الثالث.

المبدأ الثالث: مبدأ السنخية بين العلة والمعلول.

يقول المجرب: ”لو لم أؤمن بأن لكل معلول علة تناسبه - أي من سنخه - لقلت أن ظاهرة الغليان لعل لها عللاً فليس بالضرورة أن يكون لها علة واحدة“، فأنا أعلم أن هناك علّة لأن الشيء يستحيل أن يكون صدفةً، وأعلم أن هناك عليّة صغرى خاصة بهاتين الظاهرتين، لكن لعلّ تلك العلّة الصغرى الخاصة بهاتين الظاهرتين هي مئة علة، فمئة علة تختص بهاتين الظاهرتين، فكيف تنفي ذلك؟ أنفي ذلك بأن لكل معلول علة تناسبه، فلا يمكن أن يستند الغليان لعلل لا سنخية بينها وبينه، فلا يمكن أن يستند الغليان لأسبابٍ لا ربط بينها وبينه، فالغليان عبارة عن تفرق أجزاء المادة - فهي كانت مجتمعة فتفرقت - وتفرق أجزاء الماء يحتاج إلى دافعٍ حراري يبعث على هذا التفرق، ويبعث على هذه البعثرة، إذن بين تفرق أجزاء الماء والطاقة الحرارية الباعثة على التفرق يوجد انسجام وتناسب - هذا من سنخ هذا - ولو لم يكن هناك بنيهما سنخية لأمكن أن يصدر الغليان من أي علة أخرى.

إذن مقتضى السنخية بين المعلول والعلة أن أقول إذا وُجدت الحرارة بدرجة 100° فهي تقتضي وجود الغليان، وهذا كله نتيجة الإيمان بمبدأ السنخية.

المبدأ الرابع: مبدأ حكم الأمثال واحد.

فهمنا الآن أنه إذا وُجدت الحرارة بدرجة 100° يوجد الغليان، لكن كيف تعممها على شكل فعلي، فلعل هذا فيه اقتضاء لكن ليس فيه إلزام وحتمية بمعنى أنه إذا وُجدت درجة الحرارة 100 يصبح فيها اقتضاء لحصول الغليان، لكن أين تحصل الحتمية بأن في كل مكان يوجد درجة حرارة 100 يحصل الغليان؟ يقول لأن حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد، فإذا هذه المليون التي أقمنا التجربة فيها وجدنا حتمية بأنه متى ما حصلت الحرارة بدرجة 100 حصل الغليان إذن الموارد الأخرى التي لم نُقم عليها التجربة حيث أنها مماثلة لها حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد، فتم إنتاج التجربة.

سؤال: لعل هذه الأشياء تحتمل عدمها؟ فأنت تبني مبدأ السنخية بين العلة والمعلول، فإنه من المحتمل أن هناك سنخية ومن المحتمل أن لا تكون هناك سنخية، أنت تقول أن حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد، فإنه من المحتمل أن هذه القاعدة عامة ومن المحتمل أن هذه القاعدة ليست عامة؟

يقول حتى يحصل لنا اليقين بصحة المبادئ الأربعة فإنه لا بُد أن نؤمن باستحالة التناقض، فإن كل شيء هو هو وليس نقيضه، وكل مبدأ من هذه المبادئ الأربعة هو هو وليس نقيضه لاستحالة التناقض، فمبدأ استحالة التناقض يوجب لنا اليقين بالمبادئ الأربعة، فإذا حصل اليقين بالمبادئ الأربعة تم إنتاج التجربة وإلا فلا.

هنا يذكر الشيخ المطهري[2]  «رحمه الله» أن فرانسس بيكن قال: هناك مناهج عملية مفيدة في مقام التجربة تؤدي إلى الظفر بالعلة الحقيقية لأية حادثة، فكأنما يُريد أن يقول أننا لا نحتاج إلى هذه المبادئ الأربعة فنحن لدينا مناهج عملية مؤسسة لدينا، فمثلا نحن في علم الفيزياء أو علم الأحياء عندنا مناهج عملية إذا سلكناها ظفرنا بالعلة الحقيقية ولا نحتاج إلى أن نستعين بالمبادئ الأربعة، ولذلك استغل هذه المناهج الباحثون في العلوم الطبيعية، وإذا لم يسلك الباحث هذه المناهج كانت هذه التجربة عقيمة.

الجواب: والجواب كلمة مختصر من الشيخ المطهري ”ولكن القارئ الكريم يعلم أن حتى صحة هذه المناهج إما أن تعتمد على التجربة أو تعتمد على المبادئ العقلية، فإن احتاجت هذه المناهج إلى التجربة رجعنا إلى التجربة نفسها وما هو وجه الضمان والصحة فيها، وإن كانت هذه المناهج المعمولة مستندة إلى هذه المناهج المبادئ الأربعة رجعنا إلى أن الأصول الأساسية لإنتاج التجربة هي الافتقار إلى هذه المبادئ الأربعة“، وهنا نُشير إلى أن هذه المبادئ الأربعة لما تحللها كلها ترجع إلى كلمة العليّة، فالعلية نحن حللناها إلى مبادئ أربعة وإلا هي مبدأ واحد، سببية كبرى وسببية صغرى، وسنخية بين المعلول والعلة، وحكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد، فإن كل هذه التفصيلات الأربعة هي تحليل لمبدأ العلية عقلاً.

المحور الثالث: حقانية إنتاج القياس العقلي المبني على الانتقال من الكلي للجزئي بكون موضوع الكبرى في القياس هو النوع لا الأفراد.

هنا بحث العلمان الشهيدان المطهري والصدر «طاب ثراهما» في هذا المحور في أن القياس العقلي المستخدم في علم المنطق الصوري المبني - هذا القياس - على الانتقال من الكلي إلى الجزئي ومن الكبرى إلى الصغرى، فهل هذا القياس العقلي حق أم لا؟ فهنا نبحث عن حقانية إنتاج القياس العقلي، فالقياس العقلي الذي يؤمن به المنطق الصوري الذي يعتمد على الانتقال من الكبرى إلى الصغرى ومن الكلي إلى الجزئي هل هو قياس منتج حقاً أم لا؟

سبق أن قلنا أن التجريبيين أشكلوا على العقليين بأن المبدأ العقلي يعتمد على القياس والقياس غير منتج؛ لأن القياس مُبتلى بأحد محذورين وهما إما التكرار أو المصادرة، ومثلنا في تلك المحاضرة بهذا المثال، «المادة متحركة، وكل متحرك متغير، فالمادة متغيرة» أو قلنا «المادة متغيرة، وكل متغير حادث، فالمادة حادث»، وهذا قياس، فهنا المذهب التجريبي أشكل، وقال: عندك صغرى «المادة متغيرة» فهذه صغرى، فنحن نرى أن المادة تتغير، لكن الكبرى «وكل متغير حادث» فعندما قيل «كل» فهل أُقيم استقراء يشمل المادة أم لا؟ فإن أقيم استقراء يشمل المادة إذن الكبرى تضمنت النتيجة، فيكون إيراد النتيجة بعد إيراد الكبرى تكرار لأنك لا تستطيع أن تقول «وكل متغير حادث» إلا إذا قمت بالاستقراء، والاستقراء يتوقف على أن تنظر إلى المادة أيضا، فإذا نظرت إلى المادة ثم قلت «وكل متغير حادث» دخلت النتيجة ضمن الكبرى، فصارت النتيجة تكرار لما في الكبرى، وإذا قلتم أننا قلنا «كل متغير..» لكننا لم نقم باستقراء فإنه كيف يُقال «كل» ولم يُقم أي استقراء؟! فالتعميم بدون عملية الاستقراء هو مصادرة على المطلوب، فأنت الآن بين محذورين فإما التكرار وإما المصادرة، فأصبح القياس العقلي الذي يبتني عليه المبدأ التجريبي قياساً عقيماً عن الإنتاج لأنه مبتلى إما بالتكرار أو المصادرة.

الجواب:

تعرض العلمان إلى الجواب عن هذا الإشكال من خلال عدّة ملاحظات - كان لا بُد من ذكرها ضمن رؤوس النقاط - وهذه الملاحظات ثلاث:

الملاحظة الأولى:

قول التجريبيين ”القياس إما تكرارٌ أو مصادرة، وكلُّ ما يشتمل على التكرار أو المصادرة فهو عقيم، فالقياس عقيم“، فهذه المقالة التي صدرت من المذهب التجريبي اتجاه المذهب العقلي، لذلك الملاحظة يقول: ”إن استدلال المنطق التجريبي في نقد المذهب العقلي هو استدلال قياسي“ فأنتم أبطلتم القياس باستخدام القياس، ”استدلال قياسي يسير من الكلي إلى الجزئي“ لأن هناك كلية في الذهن من أن القانون المشتمل على التكرار أو المصادرة هو قانون عقيم، فطبقتها على القياس فاستنتجت أن القياس عقيم، فهو استدلال قياسي يسير من الكلي إلى الجزئي، فذات القياس نفسه إما تكرار أو مصادرة، وهذا يُسمى استدلال دوري فهم يستدلون على إبطال القياس بالقياس، فإن هذا القياس قطعا ليس بتجريبي.

الملاحظة الثانية:

سبق في المحور الثاني عند بيان احتياج الإنتاج التجريبي للمبادئ الأربعة بأن الذهن ليس فقط لا يسير دائماً من الجزئي إلى الكلي بل تبين من ذكر الأصول الأربعة والمبادئ الأربعة أن الذهن دائماً يسير من الكلي إلى الجزئي، بينما المذهب التجريبي عمدته أن الاستدلال الذهني دائماً يسير في مسار تصاعدي من الجزئي إلى الكلي، ومن الأصغر إلى الأكبر، فتبين لنا في المحور الثاني - أن التجربة لا تنتج إلا بمبادئ عقلية أربعة - أن مسيرة الذهن في الاستدلال والتفكير بالعكس أي من الكلي إلى الجزئي؛ لأن الانتقال من المبادئ الأربعة للإنتاج هو انتقال من الكلي إلى الجزئي.

الملاحظة الثالثة [3] :

قال أنتم تقولون أن القياس غير منتج لأنه مشتمل على التكرار أو المصادرة - هذه هي العمدة وإلى الآن الإشكال يتكرر - فإننا إذا جئنا إلى القياس فنقول مثلا: «محمد إنسان، وكل إنسان يفنى، فمحمد يفنى» ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن: 26]، ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [الأنبياء: 34]، لما نأتي إلى الكبرى «كل إنسان يفنى» فهل الحكم في الكبرى «يفنى» موضوعه الأفراد أم موضوعه الطبيعي؟ فأنا عندما قلت «يفنى» فهل أنا نظرت إلى أفراد الإنسان من آدم إلى آخر إنسان على الأرض، وبعدها قلت أن الإنسان يفنى، فموضوع كلمة «يفنى» الأفراد أم أن موضوع كلمة «يفنى» الطبيعي أي طبيعي الإنسان بغض النظر عن الأفراد، فالنظر إلى طبيعي الإنسان وإن لم يكن له إلا فرد واحد وإن لم يوجد، فالطبيعي وإن لم يوجد فما هي حقيقته؟ فلو كان موضوع كلمة «يفنى» الأفراد لجاء إشكال المذهب التجريبي من أنه كيف قلتم هكذا، فإذا كان الموضوع هو الأفراد فإما أنكم قمتم باستقراء الأفراد إذن دخلت النتيجة في المقدمة وصار ذكر النتيجة تكرار، أو أنكم لم تستقرؤوا الأفراد فصار التعبير بكلمة «كل» مصادرة، إلا أن هذا مبني على أن الموضوع في الكبرى هو «الأفراد» وهذا هو الاشتباه، فالموضوع في الكبرى هو الطبيعي وليس الأفراد، أي أنه لما يقوم الذهن بتحليل حقيقة وطبيعة الإنسان يجد أن هذه الطبيعة قابلة للفناء، فهي طبيعة محدودة وكل محدود ينتهي حدّه يوما من الأيام، فهو يجد أن هذه الطبيعة قابلة للفناء، فهو لم ينظر إلى الأفراد الموجودة في الخارج وإنما نظر إلى نفس الطبيعي، وكذا لم يقول «المادة متغير، وكل متغير حادث» فهو لما قال «كل متغير حادث» فهو لم يأخذ المجهر واستقرأ الأفراد فإن لا ينظر للأفراد بل قام تحليل طبيعة التغير فرأى أن التغير انتقال من حال إلى حال لأن الانتقال من حال إلى حال حدوث فرأى أن طبيعة التغير تقتضي الحدوث، إذن الموضوع ليس الأفراد بل الموضوع هو الطبيعي، لذلك قال «محمد إنسان، والإنسان بطبيعته يفنى، إذن محمد يفنى» فالحكم كان على الطبيعي ولم يكن على الأفراد ولذلك لم نحتج إلى استقراء، وبما أننا لم نكن بحاجة إلى استقراء فلا يرد علينا لا تكرار ولا مصادرة.

وهذا هو الجواب الذي ذكره المناطقة في الدفاع عن القياس العقلي، وذكر السيد الشهيد الصدر[4]  «قدس سره» من أن الدكتور زكي نجيب محمود في كتابه «فلسفة المنطق الوضعي [5] » أنه أشكل على الجواب نفسه بعد أن أخذه من كتب المنطق.

الإشكال: قال السيد الشهيد «قدس سره» في الحاشية: ”ومن الغريب حقاً ما حاوله الدكتور زكي نجيب محمود من تركيز الاعتراض السابق الذكر على الاستدلال القياسي كما في قولنا «محمد إنسان، وكل إنسان فانٍ، فمحمد فانٍ» قائلا: قد تقول ولكن حين أعمم في المقدمة لا أريد الناس فرداً فرداً - أي ناظراً لجواب علماء المنطق - لأن إحصاء الناس فرداً فرداً على هذا النحو مستحيل، وإنما أريد النوع - أي الطبيعي - بصفة عامة، ولكن إذا كان أمرك كذلك - أي تُريد النوع - فكيف استطعت أن تُخصص الحكم على محمد، فإن محمداً ليس هو النوع، وإنما هو فردٌ متعين متخصص، فحكمك عليه بما حكمت به على النوع بصفة عامة هو في حقيقية الأمر قياس باطل“، فالدكتور زكي نجيب محمود يُريد أن يقول أن جوابك هذا لا يُفيد أيها المناطقة لأننا نُشكل عليكم، فإنه عندما قيل «محمد إنسان، كل إنسان يفنى، محمد يفنى» فنحن نأتي إلى كلمة «كل إنسان» فإما أن يكون مقصودكم من «كل إنسان» الأفراد فيرجع الإشكال، وإما أن يكون مقصودكم هو طبيعي الإنسان، فالطبيعي غير الفرد، فكيف أخذتم الحكم من الطبيعي إلى الفرد، فإن هذا الحكم للطبيعي وليس للفرد، فكيف طبقتهم ما هو حكم للطبيعي على الفرد؟ فهذا حكم من أحكام الطبيعي، فالطبيعي بصفة عامة يفنى، لكن محمد ليس طبيعي بل هو فرد متخصص ومتعين، فطبيعي الإنسان بما هو نوع ليس بمتخصص ولا متعين، بينما محمد وجود متخصص ومتعين، فكيف سرى الحكم من طبيعي لا تعين له لفرد ذي تعين؟ فحكمك عليه بما حكمت على النوع بصفة عامة هو في حقيقة الأمر قياس باطل.

الجواب: السيد الصدر «قدس سره» قال بأن كلام الدكتور زكي نجيب غريب، وأجابه بقوله: ”وهذا خلطٌ عجيب بين المعقول الأولي والمعقول الثاني“، السيد يُريد أن يقول أن هذا خلط بين العنوان والمعنون، فأنا عندما أتصور طبيعي الإنسان في ذهني، فإن تصوري لطبيعي الإنسان يُسمى من المعقول الأولي فالإنسان موجود وأدركه إدراكاً أوليا، فإدراك طبيعي الإنسان من المعقول الأولي، لكن عندما أَصِلُ هذا المدرك بأنه نوع وليس فرداً، فإن هذه الصفة من المعقول الثانوي؛ لأن المعقول الثانوي هو ما يحتاج إدراكه إلى إدراك معقول قبله، فأنا أدركت أولا الإنسان، وبعد أن أدركت الإنسان أدركت أن الإنسان نوعٌ - أي طبيعة لها أفراد - فإدراك الإنسان غير إدراك عنوان الإنسان وهو كونه نوعاً، فإدراك نفس الإنسان هو معقول أولي، وإدراك العنوان - أن الإنسان نوع - أو إدراك نوعية الإنسان هو من المعقول الثانوي، فنسأل يا دكتور زكي، فهل الحكم عندما قلنا «الإنسان يفنى» وهو «يفنى» موضوعه العنوان - عنوان النوعية الذي هو من المعقول الثانوي - أو موضوعه المعنون - أي ذات الإنسان الذي هو من المعقول الأول -؟ فأنت خلطت بين الأمرين، فلو كان موضوع كلمة «يفنى» هو العنوان يعني أنني تصورت الإنسان أولاً ثم تصورت أنه نوعٌ ثم حكمت عليه بأنه يفنى، فصار موضوع الفناء النوعية وطبيعي النوعية غير الفردية فما هو حكم للنوع ليس حكماً للفرد، فكيف سرى حكم النوع للفرد؟ فهذا نتيجة أن الموضوع صار عنوان النوع لذلك لم ينطبق على الفرد، أما إذا كان موضوع كلمة «يفنى» ليس العنوان بل المعنون أي ذات الإنسان، فالذي يفنى ليس عنوان الإنسان بل الذي يفنى هو طبيعي الإنسان، فالذي يقبل الفاء لأنه محدود هو نفس الوجود الإنساني - أي حقيقية الإنسان - لا أن الذي يقبل الفناء هو الإنسان النوع، فالنوعية ليس لها دخالة في الموضوع، فهنا خلط بين العنوان والمعنون أي المعقول الأولي والمعقول الثانوي، ومحل البحث في الكبرى في كل قياس هو طبيعي الشيء بمعنى ذاته لا طبيعي الشيء بكونه نوعاً.

المحور الرابع:

يقول الشيخ المطهري [6]  «قدس سره»: ”لنفترض معكم جدلاً أن القياس في المنطق الصوري استدلال عقيم لأنه متضمن إما للتكرار أو المصادرة، فأنتم لا تدعون فقط من أن القياس في المنطق الصوري عقيم بل دعواكم أكبر لأنكم تقولون أن الذهن طريقة تفكيره هي الانتقال من الأصغر إلى الأكبر ومن الجزئي إلى الكلي وليس العكس، وهذا يعني أن كل استدلال لا بُد أن يعود إلى الانتقال من الجزئي إلى الكلي لأن طريقة تفكير الذهن واستنتاجاته بهذه الطريقة، فنقول: أننا لو سلمنا جدلاً أن القياس العقلي في المنطق الصوري عقيم لأجل هذين المحذورين فما تقولون في الاستدلال الرياضي، أليست الاستدلالات الرياضية انتقال من الكلي إلى الجزئي؟!“ وحتى يبين الشيخ المطهري «رحمه الله» هذا المطلب يقول[7] : ”في الهندسة وفي الرياضيات بصفة عامة قانونان هما من أسس علم الرياضيات، وهما قانون المساواة وقانون الكل أكبر من الجزء“ وحتى أشرح ارتباط القانونين بالرياضيات ثم نأتي إلى البيان.

قانون المساواة

نحن تعلمنا أن «2+2=4 و4+4=8 و8+8=16» وقانون الضرب يرجع إلى قانون الزيادة لأن قانون الضرب تكراره، فنأتي الآن إلى قانون المساواة، فإذا كان «2+2=4»، و«4» نصف «8»، فإن «2+2» نصف الثمانية، وهذا ما يُعرف بقانون المساواة فإن مساوي المساوي مساوي، فإنه من المستحيل أن ينتقل الذهن أن ينتقل لو لم يؤمن بقانون عام وهو مساوي المساوي مساوي، ومن المستحيل أن الذهن يقوم بعملية الزائد أو عملية الضرب من دون أن يؤمن بهذا القانون الكلي «مساوي المساوي مساوي»، «4+4=8» و«8» عشر ال «80»، إذن «4+4» عشر ال «80» ووصلنا لأن مساوي المساوي مساوي، فالمرء من حيث لا يشعر يطبق قانوناً عاما فهو ينتقل من الكلي إلى الجزئي حتى في الرياضيات، أو مثلا تأتي إلى النقص فإن النقص يبتني على قانون فطري «الكل أكبر من الجزء» ولو لم تؤمن بهذا القانون لما استخدمت عملية الناقص، وكذلك عملية القسمة فإنه لا يمكن أن ينتقل ذهنك إلى عملية القسمة إلا مع إيمانك بقانون «الكل أكبر من الجزء»، فأنت تقول مثلا: «10 - 3 = 8» فكيف، فلعله يساوي «12» لكن هذا لا يمكن لأن الثمانية أقل من العشرة والكل أعظم من الجزء، فلابد من الإيمان بهذا القانون فتقول «10 - 3 = 8» و«8 - 3 =5» و«5 - 3= 2» فكل هذه العملية هي تطبيق لقانون «الكل أعظم من الجزء»، وكذلك لما تأتي إلى القسمة فأنت تُقسّم فتقول «10 ÷5 = 2»، وكذلك «2÷2 = 1»، ولو لم تؤمن بقانون «الكل أعظم من الجزء» لما استطعت أن تقوم بعملية القسمة، وهذه كما تأتي في قسم الرياضيات تأتي في قسم الهندسة من الرياضيات، فإذا كانت زوايا المثلث تساوي قائمتين، والقائمتين تساوي 180° إذن زوايا المثلث تساوي 180° بقانون «مساوي المساوي مساوي».

إذن لا بُد أن تؤمن بهذين القانونين حتى في مجال الرياضيات، فأنت لم تضرب بقياسك العقلي عند المنطق الصوري ففي الرياضيات ماذا تقولون؟! بل إن إنتاج علم الرياضيات مبني على القياس العقلي في المنطق الصوري؛ لأن كل الاستدلالات الرياضية هي تطبيق حرفي لمبدأ القياس العقلي الذي يبتني على الانتقال من الكلي إلى الجزئي، فهل ستهدمون الرياضيات وتقولون أنه علم غير منتج لأنه يعتمد على الانتقال من الكلي إلى الجزئي؟! بل تبين أن ما ذكر من أن طريقة التفكير الذهني دائما من الأصغر إلى الأكبر غير تامة لأنه تبين أن الرياضيات يعتمد على الانتقال من الكلي إلى الجزئي.

الشيخ المطهري تعرض[8]  فيما بعد إلى فلسن شاله في كتابه «علم الأساليب» للتخلص من هذا الإشكال - إشكال الرياضيات - وأن الرياضيات لا يعتمد على هذا القانون، ولكن لأنه مبحث موسع نؤجله للجلسة الآتية.

والحمد لله رب العالمين

الدرس 20 | الإنتاج يفتقر للمبادئ الأولية الأربعة
الدرس 22 | وقفة مع فليسين شاله في كتابه ميثودولوجي