نص الشريط
الدرس 28| وقفة مع راسل وَزكي نجيب محمود في مبدأ السببية
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مجلس آل جمعة
التاريخ: 24/9/1442 هـ
مرات العرض: 3367
المدة: 00:42:59
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (217) حجم الملف: 12.3 MB
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ما زال الكلام في إطار مبدأ السببية وقد تم سابقاً عرض كلام السيد الشهيد - قدس سره - مع بعض التأملات، وفي هذه الليلة نتعرض لما ذكره الفيلسوف راسل وزكي نجيب محمود حول مبدأ السببية، والكلام فعلاً في محورين:

المحور الأول: في أقسام السببية.

الفلسفة الغربية قسمت السببية إلى أقسام ثلاثة:

القسم الأول: السببية العامة.

هي عبارة عن حاجة الحادث للعلة، فإن كل شيء لا يُمكن حدوثه وتحققه في عالم العين إلا بسبب وهذا ما يعبّر عنه ب «السببية العامة».

القسم الثاني: السببية النسبية.

هي عبارة عن الاطراد والاقتران بين ظاهرتين، بمعنى أنه كلما وُجد اقترانٌ بين ظاهرتين وكان الاقتران مطرداً لا يتخلف فإن السببية المستكشفة في هذا المورد سببية نسبية لا حقيقية؛ لأنه إذا وجدنا اقتِراناً مطرداً بين ظاهرة البرق والرعد أو اقتِرناً مطرداً بين الحرارة والنار فإن هذا لا يعني أن الأولى سبب للثانية وإنما لعل كليهما مُسبّبٌ عن سببٍ ثالث، أو لعل التلازم بينهما من قبيل التلازم بين الموصوف والصفة كما أن الجسم لا يُمكن أن يُوجد في الخارج إلا ضِمن طول وعرض وعمق، فالجسم ملازم في وجوده للأبعاد الثلاثة - الطول والعرض والعمق - لكن هذا لا يعني أن بينهما سببية، بل بين الجسم والأبعاد الثلاثة علاقة الموصوف بالصفة، أي أن الجسم لا يُمكن أن يتحقق من دون صفة الأبعاد لا أن بينهما سببية، فمجرد ملاحظة الاقتران والاطراد بين ظاهرتين لا يعني أن بين الظاهرتين تُوجد سببية حقيقية وإنما هي سببية نسبية، أي أن هاتين الظاهرتين بالنسبة لغيرهما من الظواهر توجد بينهما علاقة ولا توجد بين غيرهما، أي أن بين الرعد والبرق توجد علاقة ولذلك هما متلازمان، أما هذه العلاقة الموجودة بين الرعد والبرق ليست موجودة بين الرعد وظاهرة أخرى ولذلك نعبر عنها بالسببية النسبية، أي بالنسبة لهما يوجد تلازم لا بالنسبة لغيرهما.

القسم الثالث: السببية المعرفية.

والمراد بالسببية - كما شرحناها سابقا - استلزام المقدمة للنتيجة، فإن التلازم بين المقدمات والنتيجة يعبر عنه بالسببية المعرفية، بأن يُقال أن «كل مادة متغيرة، وكل متغير حادث، إذن المادة حادثة»، فاستلزام المقدمتين - الصغرى والكبرى - للنتيجة يعبر عنه بالسببية المعرفية.

المحور الثاني: الحديث حول السببية العامة.

في الفلسفة التقليدية - فلسفة ملا صدرا وفلسفة أرسطو وفلسفة ابن سينا - أن السببية العامة من المبادئ الأولية أي أنها من مدركات العقل البديهية باعتبار أن السببية العامة هي عبارة عن استحالة التَرَجُّحُ بلا مُرجح حيث يُقال أن حدوث الشيء - انتقاله من العدم إلى الوجود - مع تساوي طرفيه - فهو ممكن الوجود وممكن العدم - إما لعامل من ذاته أو لعامل من العدم أو لعامل ثالث ولا يُتصور شق رابع، فإن كان العامل في انتقاله من العدم إلى الوجود من ذاته فإن هذا خُلف تساوي الطرفين - كما فُرض أنه متساوي من حيث الوجود والعدم - فلا يُعقل أن يكون العامل الذي أخرجه من العدم إلى الوجود هو ذاته والمفروض أن ذاته متساوية النسبة لطرفي الوجود والعدم، وإن كان العامل هو العدم بحيث أصبح منشأً لفراقه ووجوده وتحققه فإن المفروض هو أن العدم لا يولِّدُ الوجود، فاللاشيء لا يولّد الشيء وفاقد الشيء لا يُعطيه، إذن تعيّن أن العامل الذي نقله هو شيء ثالث وإلا لو وجد من دون شيء لكان ترجحاً بلا مرجح وهو محال.

هذا معنى السببية العامة والتي هي عبارة عن الترجح بلا مرجح، لكن في مقابل ذلك صرّح الفيلسوف راسل[1]  بأن عَدَّ السببية العامة من المبادئ الأولية أمر غريب إذْ لَمْ ترد كلمة «سبب» في العلوم المتقدمة، أي أن العلوم الطبيعية القائمة على قانون التجربة لم ترد فيها كلمة «سبب» حتى لو كانت هي من المبادئ الأولية لركزت عليها جميع العلوم، بينما لم يرد عنوان «السبب» في شيء من العلوم المتقدمة ومنها «علم الفيزياء» فإن علم الفيزياء الذي يبحث عن العلاقات في عالم المادة والطاقة، فإن علم الفيزياء موضوعه كيفية العلاقة بين أجزاء عالم المادة والطاقة، فعلم الفيزياء لا يطرح سؤال «لماذا» بل يطرح سؤال «كيف» مما يعني أن كلمة «سبب» لا وجود لها في علم الفيزياء، فإذا لم يكن لقانون السببية وجود في العلوم الطبيعية المتقدمة فكيف يُقال أن السببية من المبادئ الأولية؟!

ومن الواضح أن هذا مجرد استبعاد - وكلامنا عن «ما هو دليلهم على إنكار مبدأ السببية؟»

استدل على ذلك «ريشن باخ» [2]  وكذلك زكي نجيب محمود[3]  أيضا أنكر أن تكون السببية العامة من المبادئ الأولية وناقش في ذلك، والمناقشة كلها ترجع إلى ما ذُكر في فيزياء الكم من أن الملحوظ في عالم الجزئيات تحت الذرية وعالم الموجات - موجات الجسيمات - أن الملاحظ هو اللاحتمية، أي أن هذا العالم لا يخضع للحتمية، بينما السببية مساوقة للحتمية فإذا كان هذا العالم خارجاً عن قوانين الحتمية فهو خارج عن قانون السببية إذا كان للسببية وجودٌ.

نذكر هنا كلماتهم كما نذكر أيضاً ما ذكره السيد الصدر - قدس سره - نقلا عنهم في كتاب «فلسفتنا».

يقول الدكتور زكي نجيب محمود[4] : ”إذا كانت الذرة الصغيرة بكهاربها السالبة والموجبة تتحرك داخليا بغير حتمية، فكيف نتصور حتمية في الكائنات وهي في النهاية تتكون من الذرات؟!“ أي أن هذا عالم المادة بعلاقاته وطاقاته يرجع في النهاية إلى الوجود الذري، وهذا الوجود الذري عندما نبحث عمّا هو مخبوء تحته - أي الجزئيات اللاذرية - أو الجسيمات تحت الذرية - نجد أنها بكهاربها السالبة والموجبة لا يمكن التنبؤ بموضوع حركتها ولا يمكن التنبؤ بكمية الحركة ولا يمكن التنبؤ بنتيجة الحركة، فمهما كانت القياسات دقيقة فإنه لا يمكن ضبط موقع الجسيم ولا ضبط مسار حركته ولا يمكن ضبط نتيجة هذه الحركة، فإذا كانت الجزئيات تحت الذرية خارجة عن إطار قانون الحتمية فالكون كله القائم عليها خارج عن قانون الحتمية، ”حيث إن الفيزياء الذرية تقرر أن نشاط ما تحت الذرة - وهي الجزئيات تحت الذرية - يتضمن حوادثَ لا يُمكن ضبطُ عِللها، كما لا يُمكن التنبؤ بحركة الإلكترونات أينما وُجدت باعتبار أن حركة الإلكترون لا تخضع لقوانين الحركة الميكانيكية - أي فيزياء نيوتن -“ فإن فيزياء الكم لا تخضع لقوانين فيزياء نيوتن، وبالتالي يقول - ريشن باخ: ”إن من اللازم التخلي عن فكرة السببية وأن قوانين الاحتمال أصبحت تشغل المكان الذي كان يحتله قانون السببية“.

نذكر هنا كلام السيد الصدر - قدس سره - في كتابه «فلسفتنا» [5]  حيث أشار إلى هذا الاستدلال في فيزياء الكم: ”وُجد في الفيزياء الذرية أن الضبط الحتمي - مبدأ العلية - لا يصح في مستوى الميكروفيزياء، فقد يكون من الصحيح أن الأسباب ذاتها تُولد النتائج ذاتها في مستوى الفيزياء المدرسية - فيزياء نيوتن -“ أي أن هذا السبب يولد هذه النتيجة، لأن كله عالم مشاهد بالحواس والمجاهر فيمكن الوصول إليه ”وأن تأثير الأسباب الفاعلة في ظروف واحد تنتهي إلى محصلة واحدة حتما“ فهذا كله في هذا العالم يمكن ضبطه، ”ولكن كل شيء يمكن أن يبدو على غير هذا اللون إذا حاولنا أن نطبق مبادئ العلية على العالم الذري بل عالم ما تحت الذرة - فيزياء الكم -“ ولذلك أعلن «هايزنبيرغ» [6]  - العالم الفيزيائي - أنه من المستحيل أن نقيس بصورة دقيقة كمية الحركة التي يقوم بها الجسم البسيط، وأن نحدد موضوعه في الموجة المرتبطة به بحسب الميكانيكا الموجبة، فكلما كان مقياس موضعه دقيقاً كان ذلك عاملاً في تعديل كمية الحركة ومن ثم في تعديل سرعة الجسيم بصورة لا يمكن التنبؤ بها بل لا يمكن تحديد موضع الجسيم، ففي عالم الموجات لا يمكن التنبؤ بموضع الجسيم المتحرك ولا التنبؤ بمسار الحركة ولا التنبؤ بالسرعة المحصلة لهذا المسار ”ومعنى ذلك أنه لا يمكن فصل الشيء الملاحظ في الميكروفيزياء عن الأداة العلمية - بلا يمكن فصله عن الملاحظ نفسه - فإذا لا يمكن التنبؤ إذن يختلف باختلاف الأداة وباختلاف الملاحظ“ فيمكن أن نجعل ثلاثة ملاحظين وبثلاثة أدوات وكلهم يركزون على موجة هذا الجسيم، وكل منهم مع استعمال المقياس الدقيق سوف يحدد لنا غير ما يحدده الآخر، إذ أن ملاحظين مختلفين يعملان بأداة مختلفة وفي موضع واحد سوف يصلون إلى مقاييس مختلفة، ومن هنا نشأت فكرة اللاحتمية، فلا حتمية في ما تحت الذري وفي عالم فيزياء الكم التي تتناقض بصفة مطلقة مع مبدأ العلية، فمبدأ العلية يعني الحتمية، فإذا كان خارجاً عن قانون الحتمية إذن هو خارج عن قانون العلية، ”وجرت محاولات لاستبدال العلية الحتمية بما يُسمى علاقات الارتياب أو قوانين الاحتمال التي نادى بها هايزنبيرغ مُصراً على أن العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية لا تستطيع أن تتنبأ حينما تنظر إلى العنصر البسيط“.

هذا هو استدلالهم على إنكار السببية العامة، ويجاب عنه بوجهين:

الوجه الأول: في بحث الإعجاز عند المتكلمين عندنا يقولون هل أن العجزة تعود إلى سبب مادي أو إلى سبب غيبي؟! العصا تتحول إلى أفعى، ﴿فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ[7] ، كيف؟ هل أن هناك علاقة مادية بين العصا والأفعى؟ أم أن المسألة غيبية محضة؟ هناك السيد الطباطبائي - أعلى الله مقامه - قال: مقتضى قاعدة السنخية بين المسبب والسبب أن المسبب المادي له سبب مادي لا محالة، فبالنتيجة هذه الأفعى وهم أم حقيقة؟ ليست وهم، بل هي ثعبان حقيقة - وكذلك الإحياء بالنسبة لعيسى حقيقةً - فبما أن المسبب مادي لا بُد أن يكون سببه مادياً بمقتضى قاعدة السنخية بين السبب والمسبب والمعلول والعلة، لكن ذلك السبب المادي إنما هو على نحو الاقتضاء لا على نحو العلية التامة، أي يوجد في العصا خاصية واقتضاء واستعداد في أن يتحول لأفعى، أو في هذا الميت يوجد اقتضاء يقتضي أن ينبعث الدم إلى دماغه فيعود حياً، فالسبب المادي موجود أما على نحو الاقتضاء لكي يتحول هذا السبب المادي من اقتضاء إلى علية تامة وتأثير تام ينضم إليه عنصر غيبي وملكوتي فيؤثر السبب تأثيره، فالمعاجز لا تخرج عن الأسباب المادية لكن لا يستطيع كل احد الإتيان بها لأن السبب المادي فيها فقط على نحو الاقتضاء ويحتاج إلى شرط وعنصر من عالم الملكوت وهذا لا يستطيع أن يوفره من لا يملك اتصالاً بعالم الملكوت - أي من غير الأنبياء والأوصياء - إذن بالنتيجة أن تحول الأفعى لعصى يحتاج إلى ضميمة وهذه الضميمة هي نفس هذا الاتصال الغيبي، أي اتصال قلب المعصوم بعالم الملكوت - هذا الاتصال نفسه - أسهم في تمامية السبب وتوليد المسبب، فإذن هناك فرق بين عالم الاقتضاء وعالم العلية التامة.

وهنا مثال آخر، وهو بحث البداء، فيقولون أن من معتقدات الإمامية هو البداء ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ[8]  فإذن عالم البداء وهو عالم المحو والإثبات يعني أن هناك أسباباً صورتها ملكية وحقيقتها ملكوتية، فصلة الرحم الصدقة وبر الوالدين والتوبة والدعاء فإن هذه صور مادية ملكية أي من عالم الملك، إلا أن لها حقيقة ملكوتية وبحقيقتها الملكوتية تدفع البلاء وبحقيقتها الملكوتية تطيل العمر وتوسع الرزق، وكذا صلاة جعفر بأنها الأكسير الأعظم، فهذه الأسباب التي لها صورة مادية وحقيقة ملكوتية هي على نحو الاقتضاء لا على نحو العلية التامة، فهي تقتضي طولة العمر لولا المانع وسعة الرزق ودفع البلاء لولا المانع، فأسباب اقتضائية لا على نحو العلية التامة، وهذان مثالان ذكرناهما ضمن الجواب.

خلاصة الجواب عن استدلال فيزياء الكم: أنتم تقولون أن عالم الجسيمات وعالم الجزئيات تحت الذرية عالم خارج عن قانون الحتمية لكن هذا لا يعني إلغاء مبدأ السببية وغاية ما في هذا أنه لا توجد سببية تامة لا يعني أنه لا يوجد سببية اقتضائية، فإن هذا لا ينفي السببية التامة ولا ينفي السببية ولو على نحو الاقتضاء فإنه بالنتيجة هناك جسيم، وهذا الجسيم فيه اقتضاء الحركة وفي مسار معين، غاية الأمر أنه عدم التنبؤ بموقعه حين الحركة ومساره والمحصلة له لأنه ليس علةً تامةً لوجود هذه الحركة، فعدم التنبؤ يرجع إلى عدم العلية التامة لا يرجع إلى عدم السببية من أصلها، ولذلك ذكرنا في تلخيص الجواب: ”إن المقام نظير ما ذكر في بحث الإعجاز من الفرق بين الاقتضاء والعلية التامة بمعنى أن العنصر المتحرك في عالم الجسميات والموجات مقتضٍ لا علة تامة، نظير ما ذكره المتكلون من تأثير العلل الغيبية وارتباطها بعالم المحو والإثبات - عالم البداء -“.

هنا الدكتور عمرو شريف المصري[9]  ذكر ما ذكره علماء فيزياء الكم وقال: ”كلامهم صحيح ولا ننكره ولكن هذا في صالحنا، فنحن المستفيدون من هذا القانون - اللاحتمية - فإن هذا دليل على نفوذ القدرة الإلهية في كل ذرات الكون وأنه لا يقسره سبب ولا يقف أمامه نظام، فقدرة الله منبثة من أعظم مجرة إلى أصغر ذرة بل فيما تحت الوجود الذري، ومعنى نفوذ قدرته - تبارك وتعالى - أنه مهما وجد السبب للمسبب فإنه يمكن أن يتخلف المسبب عن السبب لنفوذ قدرته تعالى، فعدم التنبؤ بموضع المتحرك ومسار الحركة ونتيجة الحركة فإن كل ذلك دليل على نفوذ القدرة الإلهية التي أعاقت حتى علقة السبب بمسببه“، ويقول في كتابه نفسه: ”إذا سقت 100 فوتون على مرآة فإن حوالي 95% منها ترتد وتنعكس اتجاه أعيننا لنرى الصورة، وتنفذ 5% من خلال المرآة، لكن إذا سقط فوتون واحداً فإننا لا نستطيع أن نجزم هل ينعكس هذا الفوتون ويرتد على البصر؟ أم أنه ينفذ؟ وقد يقال أن هناك احتمال 95% يرتد و5% ينفذ، وهذا معناه قانون الاحتمال واللاحتمية“، ثم قال: ”ومعنى ذلك أننا إذا درسنا سلوك الموجات والجسيمات بناء على الاحتمالات وهو ما يعرف بمبدأ اللاحتمية - هاينزنبيرق - في مقابل الحتمية التي تتعامل بها الفيزياء الكلاسيكية في ضوء اللاحتمية فإنه لن يكون للجسيم عند «ن» و«ن+أ» قيمة محددة، لا من حيث موقعه ولا من حيث مساره ولا من حيث نتيجة مساره، بل يكون هناك احتمالات مختلفة لصفات كل جسيم، والنتيجة أن هذا لا يُبطل مبدأ السببية بل يعكس أن هناك سبباً قاهراً على كل سبب أعاق التنبؤ والقول بالحتمية وهو القدرة الإلهية“ وهذا بسبب تدخل ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ[10]  أي تدخل سبب أقوى، فالنار سبب لإفاضة الحرارة واشتعال الجسم المتصل بها ما لم يتدخل سبب أقوى يعيق تأثير النار في إفاضة الحرارة ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ فليكن عالم ما تحت الذري من هذا القبيل وهذا احتمال قائم.

الوجه الثاني[11] : ذكره السيد الصدر: ”إن قصور المنهج التجريبي عن التنبؤ أو التحكم بمسار المعلول في نشاطه الذري لا يبطل مبدأ السببية به عقلا بعد حكم العقل به بالبداهة“ ماذا يعني هذا؟ هنا نص السيد: ”ومفصل الحديث أن مبدأ العلية لو كان مبدأ عليماً تجريبياً في حقل الفيزياء لكان رهين التجربة، فإذا لم نظفر له بتطبيقات واضحة في الفيزياء الذرية لم نستطع أن نستكشف أن له نظاماً حتمياً وكان من حقنا ان نشك في قيمة المبدأ بالذات ومدى عمومه - ما دام هو قانون تجربي ونحن بالتجربة اكتشفنا اللاحتمية، إذن لا نستطيع أن نضمن صحة هذا القانون وهو قانون العلية ولا عمومه - غير أنّا أوضحنا فيما سبق أن مبدأ العلية ضروري قبلي - أي فوق التجربة - وإلا لم يستقم علم طبيعي على الإطلاق، والعجز - العجز من قبلكم - عن استكشاف النظام الحتمي بالأساليب العلمية فإن كل ما جمعه العلماء من ملاحظات على ضوء تجاربهم الميكروفيزيائية لا يعني أن الدليل العلمي قد برهن على خطأ مبدأ العلية وقوانينها، ومن الواضح أن عدم توفر الإمكانات العلمية لا يمس مبدأ العلية من قليل أو كثير ما دام مبدأ العلية ضرورياً فوق التجربة“ [12] ، فبعد حكم العقل باستحالة الحدوث من دون على لامتناع الترجح بلا مرجح - أنتم لم تكتشفوا العلة - لم تكتشفوا النظام الحتمي إما لنقصان الوسائل العلمية أو تأثر الموضوع نظراً لدقته وضآلته أو تأثر الموضوع نظراً إلى دقته بالمقاييس العلمية الذروة في الدقة والكمال والعمق.

النتيجة[13] :

أن قصور وسائل التجربة والشاهدة العلميتين إما عن ضبط الموضوع الملاحظ بجميع ظروفه وشروطه المادية أو عن قياس التأثير الذي توجده التجربة نفسها - فإن كل هذا - يقرر عدم إمكان الاطلاع على النظام الحتمي الذي يتحكم في الجسميات وحركاتها وعدم إمكان التنبؤ بها منضبطاً لا أنه مبرر لإدخال اللاحتمية في مجال العلل والمعاليل وإسقاط قانون العلية من حسابات الكون.

والحمد لله رب العالمين

[1]  كما نقل عنه عزمي إسلام في كتابه «مدخل إلى الميتافيزيقا»
[2]  «هانز رايخنباخ «ريشن باخ» - Hans Reichenbach «1891م - 1953م»، كما نقل عنه كتاب «الضرورة والاحتمال بين الفلسفة والعلم».
[3]  في كتابه «موقف من الميتافيزيقا» ص 66.
[4]  في كتابه «موقف من الميتافيزيقا».
[5]  فلسفتنا ص287.
[6]  فيرنر كارل هايزنبيرغ - Werner Karl Heisenberg «1901م - 1976م».
[7]  [الأعراف: 107].
[8]  [الرعد: 39].
[9]  في كتابه «خرافة الإلحاد» ص 110.
[10]  [الأنبياء: 69].
[11]  هذا ما ذكره السيد الصدر في فلسفتنا وذكره غيره من اللذين ناقشوا هذا الاستدلال.
[12]  ص288.
[13]  ص290.

الدرس 27 | وقفة مع الشهيد الصدر في توقف إدراك السببية الوجودية على الاستقراء
الدرس 29 | تأملات نقدية في كتاب -نحو فلسفة علمية- لـ زكي نجيب محمود