نص الشريط
الدرس 30 | الضرورة والسببية في فكر زكي نجيب محمود
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مجلس آل جمعة
التاريخ: 26/9/1442 هـ
مرات العرض: 3201
المدة: 00:33:23
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (205) حجم الملف: 9.55 MB
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

الطريق الثاني: البرهان.

مما استدل به زكي نجيب محمود وغيره على إنكار ضرورة السببية، وقد نقل الدكتور عن هيوم[1]  هذه الفكرة وهي: إما أن لا يكون لدينا أي صورة لفكرة الضرورة وأن أذهاننا خالية منها تماماً، أو أن الضرورة هي التهيؤ الذهني عند استقبال صورة لاستقبال صورة أخرى، وإلا فلا يوجد ما يسمى بالضرورة؛ أي أن هيوم يقسم العقل البشري إلى قسمين:

القسم الأول: قسم لا يعتقد بفكرة الضرورة ولا يوجد شيء اسمه ضرورة حدوث شيء عند حدوث شيء، مثلا «ضرورة حدوث التمدد عند حدوث الحرارة».

القسم الثاني: قسم من البشر وإن كان يعتقد أنه إذا اتصل الحديد بالحرارة فإنه يتمدد ولكن هذا الاعتقاد لا يعني فكرة السببية والضرورة، وإنما هذا الاعتقاد مجرد تهيؤ نفسي، أي اعتاد ذهنه على أنه إذا استقبل صورة اتصال الحديد بالحرارة فإنه يتوقع صورة التمدد فاعتاد ذهنه على ربط هذه الصورة بهذه الصورة، وهذا التهيؤ الذهني لا يعني إدراك ضرورة السببية وإنما هو مجرد تهيؤ للذهن.

ونفس الكلام ذكره زكي نجيب محمود في كتابه[2]  وقد قال: ”إننا إذا ما تلفتنا حولنا متجهين بأنظارنا إلى الأشياء الخارجية وباحثين عن ما نسميه أسباب، لن نجد في أي حالة من الحالات كلها ما يكشف لنا عن رابطة ضرورية اسمها السببية، ولن نجد أبداً صفة تنطبع بها حواسنا إطلاقاً“ مثلاً: «وجدنا حادث ووجدنا قطع إشارة، وجدنا دخان ووجدنا نار» وما يجعل الذهن يربط هذا بهذا هو اعتياد الذهن على تلقي صورة عند صورة أخرى.

الدليل العقلي على إنكار مبدأ السببية.

وقد ذكر وجهين لصياغة هذا الدليل العقلي:

الوجه الأول:

لو كان مبدأ السببية عقلياً - كما تقول الفلسفة التقليدية أو الفلسفة الشرقية - مثل مبدأ عدم التناقض ومبدأ الهوية لما صح الاستدلال عليه، فمبدأ الهوية لا يُستدل عليه بل هو مُدْرك بالبداهة، ومبدأ عدم التناقض لمن لم يسلم به يقولون لا يحتاج إلى دليل يستدل عليه بل هو بديهي فالنفي والاثبات لا يجتمعان، بينما مبدأ السببية استدلوا عليه، فكيف يكون مبدأ عقلياً يستدل عليه؟! والمبادئ العقلية الأولية هي ما يستدل بها لا ما يستدل عليها، وقد استدل الفلاسفة على مبدأ السببية باستحالة الترجح بلا مرجح.

وهناك فرق بين استحالة الترجيح بلا مرجح وبين استحالة الترجح بلا مرجح، فعلماء الكلام يقولون أن الترجيح بلا مرجح غير مستحيل، والمستحيل هو الترجّح بلا مرجح، وكما يقال طريقي الهارب ورغيفي الجائع، أنا هارب فإما أن أسلك هذا الطريق أو ذاك بلا مرجح، فاستدل الفلاسفة على مبدأ السببية باستحالة الترجح بلا مرجح، وقالوا لو كان متساوي الطرفين لانتقل من حالة التساوي إلى حالة الوجود بلا مرجح، وخروج المتساوي الطرفين من حالة التساوي إلى حالة الوجود إما لمرجح في ذاته «والمفروض أن ذاته متساوية ليس فيها مرجح» أو لمرجح من العدم «والعدم فاقد الشيء لا يعطيه» أو مرجح من خارج ذاته وهو ما يسمى بالسبب، فلو لم يكن الانتقال لأحد هذه الأسباب فهو انتقل من التساوي إلى الوجود بلا مرجح، وهذا هو معنى الترجح بلا مرجح وهو أمر محال، فاستدلوا باستحالة الترجح بلا مرجح على مبدأ السببية.

ويعلق زكي نجيب محمود ويقول: ”والحال بأن استحالة الترجح بلا مرجح هي في نفسها مصادرة وغير مستحيل، فأنت تستدل على مبدأ السببية باستحالة الترجح بلا مرجح، والحال بأن ما اعتمدت عليه في الاستدلال ما هو إلا مصادرة، فالاستدلال على مبدأ السببية باستحالة الترجح بلا مرجح واضح في أن مبدأ السببية ليس مبدأ عقلياً أولياً وإلا لما استدل عليه وإنما يستدل به“.

في الفلسفة قالوا بأن هناك خلط بين الاستدلال وإثارة المنبه، فقد تكون الفكرة ارتكازية ونحن نريد أن نحولها إلى تفصيلية فنثير منبهاً عليها، فقد تكون لدينا بعض الأفكار مرتكزة ولكن تحويلها من الارتكاز والوجود الإجمالي إلى الوجود التفصيلي يحتاج إلى إثارة المنبه، وإثارة المنبه ليست استدلالاً، فعندما يُقال: «التناقض مستحيل» وقال أحدهم: لا ليس مستحيل، فماذا نفعل له؟ نثير له منبهاً، فنحن لا نستدل على استحالة التناقض وإنما نثير في نفسه منبها يرشده إلى الإذعان باستحالة التناقض فنقول له: هناك فرق بين النفي والإثبات أم لا؟ إذا قال لا يوجد فرق بينهما فهو مجنون لأنه واضح أن النفي غير الإثبات، وإذا قال هناك فرق إذن صارا لا يجتمعان، فإما أن تقول لا يوجد فرق وهو خلف الوجدان، أو أن تقول هناك فرق إذن صارا لا يجتمعان لأنه لو اجتمعا لم يكن بينهما فرق، فنفس إذعانك بوجود فارق بين النفي والإثبات هو بعبارة أخرى إقرارك بأن النفيَ لا يصبح إثباتاً، والإثبات لا يُصبحُ نفياً، فيقال: النفي ليس هو الإثبات إذ لو كان النفي هو الإثبات للزم اجتماع النقيضين، أو يقال له: هل يمكن ارتفاع النقيضين؟ فيجيب: غير معلوم، قد يحصل ذلك، فنقول له: هل يمكن أن يكون شيءٌ لا هو نفيٌ ولا هو إثبات؟ يقول: لا يمكن ذلك، وهذا معنى لا يرتفع النقيضين.

فنحن نثير منبهاً أمامه وليس من باب الاستدلال أن نقول له لو كان يمكن اجتماع النقيضين لأمكن أن يكون النفي هو الإثبات، ولو كان يمكن ارتفاع النقيضين لأمكن أن يكون الشيء لا نفياً ولا إثباتاً، فكذلك المقام عندما نقول أن مبدأ السببية مبدأ عقلي أولي إذ لو لم يكن هناك سببية للزِمَ التَرجح بلا مرجح وهو أمر محال، فاستحالة الترجح بلا مرجح هي عبارة عن استحالة وجود المسبب بلا سبب لكن هذه أوضح وجداناً من تلك فجعلناها منبهاً عليها، وبما أنها أوضح وجداناً جعلناها منبهاً على مبدأ السببية لأنه دليل عليه.

الوجه الثاني:

لو كان مبدأ السببية عقلياً لأمكن استنباطه من مبدأ عدم التناقض، مع أنه لا تناقض بين افتراض الحدوث وبين عدم افتراض السببية، وهو يقول بأن الضروري خصوص القضايا التحليلية، والقضايا سبق عرضها في بعض البحوث السابقة من أن القضايا على نوعين:

  • النوع الأول: القضايا التحليلية: هي القضايا الفارغة التي لا مفهوم لها وإنما تستبطن نفسها.
  • النوع الثاني: القضايا التركيبية: هي القضايا التي لها مفهوم يحكي عن شيء وراءه.

مثلا عندما نقول: «النار حارة  قضية تركيبية  لها مفهوم ولها معنى»، أما عندما نقول «1+ 1 = 2  قضية تحليلية  ليس لها معنى لأن فيها تكرار» يعني عندما نحلل «2» نرى أنها هي «1+1»، فكلمة اثنان لم تستبطن الحكاية عن معنى وإنما اثنان تتضمن نفسها، فالقضايا التحليلية فارغة لأنها لا تحكي عن معنى وراءها وإنما تحكي عن نفسها، والقضايا التحليلية ضرورية لأن مبدأ الهوية «كل شيء هو هو» مبدأ ضروري، و«1+ 1 = 2» هي نفسها «2 = 1 + 1»، فالقضايا التحليلية من جهةٍ هي فارغة لأنها تعيد نفسها، ومن جهة أخرى هي قضية ضرورية يذعن بها العقل بلا دليل، إذن هناك قضايا تركيبية تحتاج إلى إقامة دليل، وهناك قضايا تكرارية تحليلية يحتاج التصديق بها إلى دليل.

وبناء على هذا التقسيم  قضايا ضرورية وقضايا تحليلية  هل مبدأ السببية مبدأ ضروري مثل القضايا التحليلية أم ليس مبدأ ضرورياً؟

يقول: ليس مبدأ ضرورياً، ما أن نأتي إلى استحالة التناقض نرى أنه ضروري؛ لأن استحالة التناقض ترجع إلى قضية تحليلية، فإذا قال أحدهم «النفي والإثبات» فلا يلزمه قول «لا يجتمعان»، فهما نقيضان فإذن لا يجتمعان، فاستحالة اجتماع النقيضين قضية تحليلية إذن هي قضية ضرورية، بينما نأتي لقضية السببية ليست فيها ضرورة لأنها ليست قضية تحليلية، فوجود الشيء بلا سبب لا مانع فيه ولا به أي ضرورة، ووجود الشيء لا يتضمن وجود سبب له، ونستطيع أن نفصل بين المعنيين بأن نتصور وجود الشيء من دون أن نتصور وجود سبب له، ووجود الشيء لا يتضمن وجود سبب له كي يكون من القضايا التحليلية، وبما أنه ليس من القضايا التحليلية فلا يكون قضية ضرورية.

يقول: لو كان مبدأ السببية عقليا أوليا لأمكن استنباطه كمبدأ عدم التناقض مع أننا لا نرى تلازما ولا تناقض بين افتراض الحدوث وعدم افتراض السببية، فافترضنا حدوث شيء ولم نفترض سبباً له ولا يوجد بها تناقض ولا تلازم؛ أي أن هذا لا يستبطن هذا، فنتصور حدوث شيء من دون أن نتصور سببيه حيث لا تلازم بينهما لأجل ذلك لا يكون مبدأ السببية مبدأ ضروريا، بخلاف مبدأ عدم التناقض فإننا بمجرد أن نتصور النفي والاثبات نتصور أنهما لا يجتمعان.

الملاحظات على هذا الاستدلال:

الملاحظة الأولى:

نلاحظ أنه حصر القضايا الضرورية في القضايا التحليلية، فالضروري ما كان تصور الموضوع كافياً لتصور المحمول من دون حدٍّ وسط بينهما، فعندما تقول «النقيضان لا يجتمعان» فبمجرد أن تتصور الموضوع وهو «النقيضان» تتصور المحمول وهو «لا يجتمعان» فتحكم به، ولا تحتاج إلى وسط ودليل، فالقضايا الضرورية ليس معناها أنها قضايا تحليلية، بل الضرورية هي ما كان تصور الموضوع وتصور المحمول كافياً في الحكم بها بلا حاجة إلى وسط بينهما، سواء كانت العلاقة بين الموضوع والمحمول علاقة التضمن أو كانت العلاقة بين الموضوع والمحمول التلازم، فإذا كان بين المحمول والموضوع تلازماً تصبح من القضايا الضرورية، مثلا: هل يمكن أن يوجد الوصف بدون موصوف؟ تصور الوصف وإن لم يتضمن الموصوف يستلزم تصور الموصوف، فبينهما تلازم، ومتى ما كان الموضوع مستلزماً للمحمول أو العكس عقلاً فهي قضية ضرورية.

فالمناط يكون في الضرورة وليس في التحليل، فالذهن إذا تصور الموضوع أو المحمول حكم بالثبوت بدون حاجة إلى دليل وسط بينهما ولذلك بمجرد أن يتصور الذهن الحدوث لا يصبح حدوثاً بلا سبب؛ لأن الحادث كان متساوي الطرفين فكيف انتقل من التساوي إلى الوجود بلا مرجح لوجوده؟! فلا يُعقل الانتقال من التساوي إلى حالة الوجود بلا مُرجح للوجود، ولذلك لا يعقل الحدوث بدون سببيتين.

الملاحظة الثانية:

لو سلمنا أن القضايا الضرورية كلها تحليلية وأن الضرورة تنبع من التحليل، وأن القضية تكون قضية ضرورية إذا كانت متضمنة لنفسها، والسببية تدخل في ذلك، وذلك يكون إذا كان الشيء متساوي الطرفين فهو فاقد لمصحح اتصافه بالوجود، فقبل أن يوجد هو متساوي الطرفين أي أنه فاقد لمصحح اتصافه بالوجود، والفاقد لمصحح اتصافه بالوجود لا يتصف بالوجود بلا مصحح، فأصبحت قضية تحليلية، أو نقول أن متساوي الطرفين لا يكون غير متساوي وهو متساوي فأصبحت أيضا قضية تحليلية، فيمكن إرجاع مبدأ السببية إلى القضية التحليلية وبالتالي تكون ضرورية.

فالمتساوي لا يكون خارجاً عن التساوي وهو متساوي، والفاقد لما يُصحح وجوده لا يصح وجوده «قضية تحليلية»، إذن بالنتيجة ما ذكره من أنه لو كان مبدأ السببية قبلي ضروري لأمكن استنباطه ليس كذلك، وبذلك يتبين الخلل فيما ذكره زكي نجيب محمود في كتابه[3]  في مناقشته للفيلسوف كانت الذي يؤمن بمبدأ السببية الذي قال في مناقشته: هذا مبدأ قام في عصره، فإذا قررته فأنت إنما تؤرخ للفكر في ذلك العصر لا أكثر، كما لو أرخت لعصر نيوتن مثلا، فأتيت بقانون من قوانين نيوتن التي تبين خطئها، ولو أرخت للعصر الحاضر لاضطررت أن تقول قولاً ثالثاً وهو أن ليس لأي حادثة سبب.

فتبين من خلال المناقشة السابقة أن زكي نجيب محمود عندما أقام طريقين - الوجداني والبرهاني - على - إنكار مبدأ السببية أو إنكار ضرورة السببية لم يصح شيء من هذين الطريقين.

والحمد لله رب العالمين

[1]  في كتاب فلسفة هيوم بين الشك والاعتقاد ص99.
[2]  نحو فلسفة علمية ص 285.
[3]  نحو فلسفة علمية.

الدرس 29 | تأملات نقدية في كتاب -نحو فلسفة علمية- لـ زكي نجيب محمود
الدرس 31 | مقارنة بين المنطقين الكلاسيكي والديالكتيك