نص الشريط
هل تنسجم الأساليب الفقهية للنهي عن المنكر مع ثقافة عصر التكنولوجيا
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مسجد الرسول الأعظم | سلطنة عمان | مطرح
التاريخ: 25/9/1443 هـ
مرات العرض: 994
المدة: 01:03:29
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (110) حجم الملف: 18.1 MB
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران: 104]

صدق الله العلي العظيم

انطلاقاً من الآية المباركة نتناول عدة محاور:

  • هل أن الحرية قيمة من القيم الإنسانية أم لا؟
  • هل أن المبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعتبر سلطة اجتماعية أم أنه مبدأ له فلسفة أخرى؟
  • شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
  • مراتب النهي عن المنكر.
  • حوار وتساؤلات.
المحور الأول: هل أن الحرية قيمة من القيم الإنسانية أم لا؟

كثير من الناس يرى أن مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يصطدم مع حرية الإنسان، فبما أن الإنسان حر في تصرفاته إذن لا ينبغي أن تكون عليه وصاية ولا ينبغي أن يكون معرضاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا مما يتنافى مع حرية الإنسان، فهل أن الحرية قيمة من القيم الإنسانية حتى تكرس وتقاس عليه الأشياء أم لا؟

الحرية ليست قيمة بل وسيلة وليست هدف، ما له الهدف وما له القيمة هو كرامة الإنسان، يقول القرآن الكريم: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الإسراء: 70] القيمة الإنسانية للكرامة وليست للحرية، الهدف المنظور هو الكرامة وليس الحرية، الحرية وسيلة من أجل الحفاظ على الكرامة، الحرية طريق من أجل الحفاظ على عزة الإنسان وكرامة الإنسان، وإذا تعارضت الحرية مع كرامة الإنسان قدمت الكرامة على الحرية، مثلاً لو أن مجتمعاً رفض التعليم هل يُترك جاهلاً بحجة الحرية؟ أبداً لأن الحرية هنا تقود إلى الجهل والتخلف وتتعارض مع كرامة الإنسان، لذلك يفرض على المجتمع وسائل التعليم من أجل حفظ كرامته ولو كان ذلك إلغاء لحريته في مجال التعليم، مثلاً إنسان أصيب بمرض خطير ويرفض العلاج يُفرض عليه العلاج حفظاً لحياته وإن كان في ذلك إلغاء لحريته، الحرية مجرد طريق ووسيلة وليست هدف، الحرية طريق لحفظ الكرامة فإذا كانت كرامة الإنسان في صحته، كرامة الإنسان في تعليمه إذن تلغى الحرية من أجل أن يحفظ كرامته بالعلم والصحة، أما أن الإنسان مثلاً يسجد لصنم بحجة الحرية، إنسان يعبد حيوان بحجة الحرية وكل ذلك إلغاء لكرامته وعزته كإنسان، هنا ليست الحرية قيمة وإنما وسيلة وطريق لحفظ كرامة الإنسان، إذن الحرية ليست قيمة مطلقة حتى يرفض الإنسان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة الحرية، فإذا كان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حفظ لكرامة الإنسان وعزة الإنسان فيفرض عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صيانة لكرامته.

المحور الثاني: هل أن المبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعتبر سلطة اجتماعية أم أنه مبدأ له فلسفة أخرى؟

عندما تقرأ النصوص الواردة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ [آل عمران: 110] أي قيمتكم وخيركم وأفضليتكم على الأمم بقيامكم بهذه المسؤولية، كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، قيمتكم في القيام بهذه المسؤولية، ورد عن الرسول : ”بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تقام الفرائض وتأمن السبل وينتصر للمظلوم من الظالم“ أي أنها مسؤولية كبيرة، لذلك إذا أردنا أن نفهم فلسفة هذه الفريضة فإن فلسفتها في أنها صيانة للمجتمع عن الانزلاق وليست وصاية وسلطة، وليست ولاية، القرآن الكريم يعبّر عنها شهادة ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] الشهيد والشاهد من يقوم بدور الصيانة لا بدور الوصاية والولاية، لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً، لا يوجد دولة في العالم ليس لديها أمن داخلي، مستحيل أن تقوم دولة من دون أمن، الأمن ليس وصاية ولا ولاية، الأمن وظيفته صيانة المجتمع من الاعتداءات على الأعراض والأنفس والأموال، الأمن ضروري لكل دولة لأن فيه صيانة وحفظاً واهتماماً وعناية بالمواطنين، كذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من نفس المنطلق، فريضة الأمر بالمعروف شهادة وصيانة من أجل حفظ المجتمع عن الانزلاق والانحراف والفساد، لذلك فلسفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تكمن في الصيانة والحفظ وليس في الوصاية أو في الولاية كما يريد أن يفهمها البعض الآخر.

ورد عن النبي محمد : ”كيف بكم إذا فسق شبابكم وفسدت نسائكم وتركتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قالوا: أو يكون ذلك يا رسول الله؟ قال: بلى، وتأمرون بالمنكر وتنهون عن المعروف. قالوا: أو يكون ذلك يا رسول الله؟ قال: بلى، وترون المنكر معروفاً والمعروف منكراً“.

المحور الثالث: شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له شرائط ذكرها الفقهاء في كتبهم الفقهية، وهي خمسة شرائط:

1. الشرط الأول: العلم بالمعروف والمنكر ولو إجمالاً؛ أي الشخص الذي يريد أن يقوم بهذه المهمة لابد أن يكون هو مطّلع على ما هو المعروف وما هو المنكر حتى يكون أداؤه في محله، يأمر بما هو معروف وينهى عما هو منكر.

2. الشرط الثاني: أن يحتمل التأثير، مثلاً أمامي صديقي يفعل بعض المنكرات، يستمع إلى الأغاني أو لديه علاقات من خلال الجوال مع النساء وأنا مطّلع على ذلك، تارة احتمل إذا تحدثت مع صديقي ينزجر حتى لو بشكل مؤقت فهذا كافي، احتمل أنه يتراجع ولو بشكل مؤقت هنا يجب نهيه عن المنكر، أما إذا أعلم أنه مصر ولن يتغير عن طريقه أبداً ولا تفيد فيه المحاولات، حينئذ لا يجب نهيه عن المنكر، يجب عليك في فرض أن يكون هناك احتمال للتأثير، أما إذا أعلم أنه أصلاً لا يوجد تأثر بما يصدر مني تجاهه حينئذ لا يجب نهيه عن المنكر.

3. الشرط الثالث: أن يكون مصراً على المنكر، فلو فرضاً أحدهم فعل منكراً أمامي استمع أغنية، تحدث مع فتاة بحديث غير لائق، اغتاب مؤمناً، كذب، هتك عورة مؤمن، ولكنه ارتكب أمامي مرة واحتملُ أنه ندم وتاب، ففي هذا الفرض لا يجب نهيه، أما إذا عرفت إصراره واستمراره يجب علي نهيه، مثلاً تجدد عنده العزم لفعل المنكر مرة ثانية، وصدرت منه الخطوات التي تؤدي به إلى الوصول إلى المنكر هنا أتدخل وأنهاه عن المنكر.

4. الشرط الرابع: أن لا يكون معذوراً؛ أي أن يكون حرمة المنكر متنجزة في حقه، مثلاً إنسان يختلف معي في التقليد هو يقلد من يجوّز وأنا أقلد من يحرّم، فهذا ليس من موارد النهي عن المنكر، مثلاً إنسان صائم ويفطر بمجرد سقوط القرص قبل أن تغيب الحمرة المشرقية لأنه يقلد من يرى أن الليل يدخل بمجرد سقوط قرص الشمس ولا يحتاج لأن ينتظر عشر دقائق حتى تغيب الحمرة المشرقية، وأنا أقلد من يرى ضرورة أو أن الأحوط وجوباً مغيب الحمرة المشرقية، فهنا هو لم يفعل منكراً.

أو مثلاً إنسان أمامي حلق لحيته، لعله يقلد من يجوّزها أو يقلد نفس مقلدي، وعنده الأحوط وجوباً عدم حلق اللحية، ولكن رجع في هذه المسألة الاحتياطية إلى مرجع آخر يسوغ له ذلك، أنا لا أعلم من يسوغ ولكن على فرض، فهذا لا يعد فاعلاً للمنكر حتى يجب نهيه عن المنكر.

أو أن إنساناً مثلاً لا أعلم هو أصلاً فعل المنكر أم لا، رأيته مشغل الغناء وجالس، احتمل أنه يستمع الغناء واحتمل أنه لا يستمع، صحيح صوت الغناء أمامه ولكن احتمل أنه لا يستمع إلى الغناء، فما دام احتمل أنه لا يستمع فلا يجب نهيه عن المنكر لعله لا يستمع، من أين علمت أنه يستمع وأنه فاعل للمنكر! إذن بالنتيجة لابد أن أحرز أن هذا الشخص الذي أمامي يعرف الحرمة ويتعمد فعل الحرام من دون عذر شرعي ومصر على ذلك، حينئذ تجتمع شرائط النهي عن المنكر فيجب علي النهي عن المنكر.

5. الشرط الخامس: أن لا أتضرر أنا الآمر بالمعروف وأنا الناهي عن المنكر، بمعنى أن النهي عن المنكر لا يسبب لي ضرراً لا على نفسي ولا على عرضي ولا على أموالي، أو على أحد من المسلمين، هنا لا يجب ذلك، عبارة سيدنا الخوئي قدس سره «هذا إن لم أحرز التأثير» أي لا أعلم أنا أؤثر فيه أو لا، أما إذا كنت أحرز التأثير، وقطعاً إذا نهيته سيتأثر ولكن أنا سأتضرر، فأنا بين خيارين خيار أن أدفع الضرر عن نفسي وخيار أن أؤثر فيه إذا نهيته، هنا سيدنا الخوئي قدس سره وتلامذته يقولون يوازن بين مستوى الضرر ومستوى المنكر، ويدخل ذلك في باب التزاحم بين المهم والأهم، فيوازن بين الامرين، مثلاً افترضنا أن شخص يمارس الزنا وهذا منكر كبير، ولكن إذا نهيته سوف أتضرر أنا إما يتضرر جسمي وإما أن أخسر شيء من أموالي هنا يجب النهي عن المنكر؛ أي يُقدم النهي عن المنكر على الضرر الحاصل علي لأن حفظه عن الوقوع في هذه المعصية الخطيرة ألا وهي الزنا أو شرب المخدرات أو العلاقات غير المشروعة، حفظه عن الوقوع في هذه المعصية الخطيرة أهم من حفظ نفسي عن الضرر.

أما إذا كانت المعصية أخف مثلاً فتاة متبرجة أو صديقة ابنتي لا تلتزم بالحجاب أو إحدى أهلي مصرة على ذلك أي غير معذورة وأنا أريد أن أنهاها عن المنكر، هنا إذا نهيتها يترتب ضرر هي ستتأثر ولكن يترتب ضرر على جسمي وعلى مالي، هنا لا يجب النهي عن المنكر، إلا إذا كان الضرر ضرر طفيف فيقدم النهي عن المنكر على مثل هذا الضرر الطفيف.

المحور الرابع: مراتب النهي عن المنكر.

مراتب النهي عندنا أربع مراتب:

المرتبة الأولى: إظهار الكراهة، إذا رأيته بفعل المنكر أظهر له بأنك كاره لما يفعل، أن تظهر له ذلك بقول أو فعل أو بالصد عنه والإعراض عنه، وهنا فرق بين رأي السيد السيستاني والسيد الخوئي لابد من الالتفات له، السيد السيستاني لديه أنه واجب عيني وليس كفائي أي واجب على الكل عيناً إظهار الكراهة، ويتمسك بما ورد عن الرسول في الحديث الصحيح، عن الإمام علي : أمرنا رسول الله أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرة، وأما السيد الخوئي لا يرَ ذلك ولديه أنها مرتبة من مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وداخلة في الوجوب الكفائي وليست واجباً عينياً وهذه الرواية يعتبرها منصرفة إلى أهل المعاصي؛ أي المعروفون بالمعاصي والإصرار عليها، وليست ناظرة لكل فاعل منكر.

المرتبة الثانية: النهي القولي بالموعظة والنصح، والمرتبة الأولى والثانية أنت مخير بينهما ما هو المؤثر أكثر.

المرتبة الثالثة: إعمال القدرة، أن تتدخل بالفرض وتُعمل قدرتك في منعه عن المنكر، وهذه المرتبة لا يُصار إليها إلا إذا لم تفد المرتبتان الأوليتان وتوقف دفع المنكر على هذه المرتبة، يقول السيد الخوئي لابد من الموازنة في مستوى المنكر إذا كان كبير كما مثلنا ببعض المنكرات سابقاً، وتوقف على إعمال القدرة نعم تفعل ذلك في سبيل دفع المنكر، أما السيد السيستاني يقول هذه الأعمال في جوازها بدون إذن الحاكم الشرعي إشكال، الأحوط وجوباً استئذان الحاكم الشرعي في القيام بهذه الأمور، في ولاية كل مكلف بأن يصنع ذلك إشكال في ذلك.

المحور الخامس: حوار وتساؤلات.

باعتبار أن الموضوع يتكلم عن التكنولوجيا ومن ضمنها برامج السوشال ميديا، كثير ما يحدث أنه كثير من الأخوة أو الأخوات قد يضعون لنفسهم صورة في هذه البرامج وهذه الصورة قد تظهر الشاب يغني أو أن الشاب مرتبط مع امرأة أجنبية، أو امرأة نفسها بحجاب غير مناسب، فيقوم بعض الأخوة بالإعجاب بالصورة، هذه الأمور أليست هي محفزة على هذا المنكر، فذلك ليس فيه إظهار للكراهة، وكما ذكرتم عند السيد السيستاني إظهار الكراهة واجب عيني، فهل مثل هذه الأمور من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟

جواب سماحة السيد: لابد أن تحرز أن هذا منكر أولاً، وباعتبار أن فتوى السيد السيستاني من باب إظهار الكراهة نعم يعطيه إشارة أو لا يرتب أثر على ذلك، أي يظهر الكراهة بنحو من الأنحاء.

 مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسألة اجتماعية وإذا عالجناها بالفتاوى في الجو الاجتماعي أنت إنسان تريد أن تحافظ على استقامة المجتمع، لما نأتي على رأي معين من فقيه معين يقول أنه لابد أن ينظر للضرر والأثر، أنا كإنسان أرى هناك انحراف موجود في المجتمع ويجب مقارعة هذا النوع من الانحراف باعتباره يسبب فساداً اجتماعياً، وبالتالي هل أتوقف عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بداعي أن الفقيه الفلاني يقول نعم وفقيه آخر يقول لا، ربما إذا تُرك المجال ربما تصل الأمور إلى ما لا تحمد عقباه.

جواب سماحة السيد: هذه غيرة على الدين، وسأذكر نقطة للشيخ المطهري رحمه الله لديه بحث في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول العمل في النهي عن المنكر تارة عمل فردي وهذا عمل لا ينتهي ولا يُنتج عادة نتائج واضحة، من المفترض في العمل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون عمل مؤسسي ولجان لأن دراسة اللجنة تختلف عن دراسة الشخص، فمثلاً رأيت فلان مصر على المنكر إذن ليس واجباً علي، بينما لو كانت هناك لجان تدرس أحوال الأشخاص لربما وصلت إلى طريق يؤثر عليه أكثر من طريق الفرد، فلو عالجنا موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معالجة مؤسساتيه ربما قضينا على كثير من المنكرات مما لو تركناها مسؤولية فردية، لذلك هذا النحو من التنويع وجعل مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسؤولية لجانية جماعية صحيح لا نقول أنه واجب ولكنه يوصل إلى نتائج كثير أفضل مما لو أوكلت المهمة إلى تشخيص المكلف نفسه.

وبالنسبة لسؤالكم لو شخص المكلف أن ذلك صحيح منكر صدر من فلان وهذا الشخص من أهلي أو أولادي ولكن هذا سيجر إلى ما هو أكبر هنا أتدخل من باب ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم: 6] من باب صيانة الأسرة عن الانحراف أتدخل لمنع هذا المنكر ولو بإعمال قدرة من قدراتي.

قلتم أن الحرية هي وسيلة لتحقيق القيمة، السؤال الذي يُطرح هو الكرامة الإنسانية من الذي يحددها، الأخرون ينظر لنا نحن كمسلمين نطوف حول الكعبة يقول هذا جهل يحط بالكرامة الإنسانية، وبعض الطقوس قد تكون شركية في نظر آخرين والتدخل يكون على مستوى الفعل والقوة لأنه قد يكون بعض الناس لديهم هذا المجال، فمن الذي يُشخّص معنى الكرامة الإنسانية؟

جواب سماحة السيد: كل عمل له هدف نبيل بحيث يدخل ضمن إحياء شخصية الإنسان ولو كان إحياء روحياً فهو فيه كرامة، الطواف حول الكعبة، الصلاة، ما أشبه ذلك، نعم بالنتيجة هي عمل قربي فيه اتصال بعالم الغيب يوفر للإنسان رصيداً روحياً وسكينة روحية ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2] من هنا يكون هذا عملاً فيه كرامة لأنه يوفر للإنسان رصيداً روحياً.

أما إذا افترضنا أنه عملاً لا ينسجم مع شخصية الإنسان كتعاطي المخدرات التي تحول الإنسان إلى إنسان آخر، أو هذا العمل يحول الإنسان إلى إنسان شهواني، كل عمل بنظر العقلاء يخل بكرامة الإنسان فليس للإنسان الحرية فيه بحجة وذرية أنه خلق حراً إذن يبقى حراً.

بالنسبة لي وفي بعد آخر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي علاقة التربية بين الأب والابن خصوصاً الذكور من الأبناء، ربما كثير من الآباء يعانون من بعض المخالفات التي تظهر من الأبناء وطريقة معالجة الآباء لهذه الأخطاء من باب الأمر بالمعروف أو من باب الخوف الأبوي أو ما شابه ذلك تتفاقم أكثر وأكثر هذه العلاقة وتدخل في حالة حرجة جداً، فتوجيه من سماحتكم إذا أمكن كيف يمكن للآباء أن يتصرفوا، وكيف يمكن للأبناء أن يتقبلوا نصائح الآباء؟

جواب سماحة السيد: أولاً المتصدي للنهي عن المنكر هو طبيب، والطبيب يتعامل مع المريض بخلق الرحمة والعطف، فبعض فاعلي المنكر مثل المريض يحتاج إلى إنقاذ وإلى وسيلة تحببه في الخروج من هذا المأزق الذي هو فيه، كثير من الناس يفعل المنكر لا لإصرار وعمد بل من باب غلبة الهوى، أومن باب تأثير الوسط عليه، أو من باب سوء فهمه للأمور، وهذا النوع من فاعلي المنكر يحتاج إلى نوع من الرحمة ونوع من التحبيب والترغيب ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] إذن المتصدي للنهي عن المنكر طبيب والطبيب إذا تعامل مع المريض بشدة ينفر المريض من العلاج ولا يستفيد منه، فيحتاج الطبيب إلى أن يتعامل مع المريض بلطف وعطف وحنان، لأجل ذلك نقول أنت أنهي صديقك عن المنكر، أنهي قريبك، أنهي زوجتك، أنهي من له علاقة بك ولكن بأسلوب الرحمة واللطف لتنقذهم من براثن المنكر إلى خط الائتمار بالمعروف بهذا الأسلوب اللين الهادئ الهادف.

ثانياً مسألة التعامل مع الأبناء هي مسألة شائكة جداً، مثلاً الولد لديه جهاز ومن خلال الجهاز قد يشاهد أفلام إباحية، أو قد يتوسع في العلاقات مع بعض الفتيات، فيكون تصرف الأب عندما يرى ولده يجلس على الجهاز ساعات يحتمل أن ولده من خلال هذا الجهاز منطلق في منكرات، فإذا كان الولد لم يبلغ فللأب الولاية عليه وأما لو كان الولد بالغ رشيد ويستخدم الجهاز وقت طويل وأنا لا أعلم ماذا يصنع بالجهاز هنا لا يجوز مسه فلا ولاية لك عليه هذا الجهاز ملكه وهو يتصرف بملكه، أما إذا افترضنا أنني من خلال أمارات وقرائن معينة أحرزت أن ولدي هذا يمارس المنكر من خلال أي جهاز، هنا على رأي السيد الخوئي يجوز أن تأخذ منه الجهاز وتمنعه عن المنكر، بل قد يجب إذا كان المنكر عظيم، على رأي السيد السيستاني الأحوط وجوباً الاستئذان من الحاكم الشرعي في التصرف في ملك الغير وإن كان هو ولدي، إلا في الصورة التي أشار إليها أن انحراف هذا الولد يجر الأسرة نفسها إلى الانحراف هنا نعم يتدخل الأب لمنع ذلك.

مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يسري على الأحكام الشرعية أم على العقائد أيضاً، وفي حالة العقائد هل يتعارض مع المحور الأول محور الحرية؟

جواب سماحة السيد: إذا كان هو ملتفت إلى أن هذه العقيدة منحرفة ومع ذلك يقوم بترويجها نعم، ترويج العقيدة المنحرفة مع الالتفات إليها منكر، إنما أريد أن أنتقل من سؤالك إلى نقطة مهمة، وهي أن كثير منا يحصر المنكرات بمخالفة الحرمة، وهذا غير صحيح المنكرات ليست منحصرة بذلك فقط، فتلويث البيئة مثلاً يعد من المنكرات أيضاً، أحدهم يلوث البيئة بدخان أو بغبار وفيه احتمال عقلائي بالإضرار بالآخرين هذا منكر، مخالفة أنظمة المرور التي فيها معرضية للإضرار بالأخرين في أموالهم أو أنفسهم هذا منكر، يقول السيد السيستاني والسيد الخوئي يحرم مخالفة النظام، كل قانون يحفظ الأنفس ويحفظ الأعراض ويحفظ الأموال كقوانين المرور، وبعض قوانين البلديات يحرم مخالفته، مخالفة القانون والنظام الذي هو ضمن هذه الدائرة هو منكر من المنكرات، أو مثلاً إنسان ملتزم بالمسجد والمأتم وهو هذا الإنسان في عالم التجارة يغش ويلعب بأموال الناس، أو سيء الخلق مع أهله أو مع أولاده هذه منكرات، فالمنكر ليس له صورة معينة فقط.

إذا كان في عائلتنا توجد مجموعة من النساء متبرجات ولا يرتدين الحجاب، لكن نحن لا نعرف كيف نؤثر عليهن، بل نخشى إذا نهيناهن عن هذا بطريقة خاطئة أن ننفرهن أو نزعجهن أو نسبب مشكلة في وسط العائلة، فكيف يكون التصرف في هذه الحالة؟ ولو تمت مقابلتهن بوجوه مكفهرة فقط قد لا يفهمن معنى ذلك ولا يتأثرن.

جواب سماحة السيد: مسألة التأثر والانزعاج ليس مبرر، إنما هل يُخاف الضرر فعلاً كأن يرد علي أنا ضرر أو لا، وقد لا يكون علي ضرر ولكن هذه البنت إذا نهيناها عن المنكر تتأذى، لا بأس بذلك ننهاها، نعم نختار الأساليب الأفضل في توجيهها لا ننهاها أمام الناس حتى لا يكون فيه إهانة لكرامتها، يمكن أن نستخدم وسيط أكبر منا لتتقبل منه أكثر، بالنتيجة مجرد التأذي والانزعاج هذا ليس مبرراً لسقوط هذا الواجب ألا وهو النهي عن المنكر.

كيفية الدمج بين قضية استقبال الناس واحتضانهم ومحاولة التلطف معهم لنهيهم عن المنكر، وبين فتوى السيد السيستاني في استقبالهم بوجوه مكفهرة أو إظهار الكراهة لما يقوم به من كراهة، وهذا يظهر في الأعمال التطوعية الدينية عندنا، أتي بهذا الشخص لأني أريد أن احتضنه في الجو الديني الإسلامي مع أني أعرف أنه متجاهر بالمنكر، فأنا آتي به لاحتضانه لكن في نفس الوقت لدي نسبة خوف بأنه قد يؤثر على الآخرين، فأحياناً تصيب ونحقق الأثر وأحيانا لا، يصبح مثل الثمرة الفاسدة يجلب معه غيره ويسقط الآخرين، فكيف ندمج بين هذين الأمرين؟

جواب سماحة السيد: هذا ما ذكرته قبل قليل أني لا أستطيع على تشخيصي الفردي لأنني قد أصيب وقد أخطئ، وقد أضر وقد أنفع، بل أحتاج إلى التشخيص المؤسساتي، فإذا كان لدي مجموعة ممن أثق بتشخيصاتهم وخبرتهم وأستشيرهم في مثل هذه الموارد، هنا يحتاج الأمر إلى دراسة وروية وأستشير من له خبرة ومعرفة بمثل هذه الأمور، وأما بالنسبة إلى رأي السيد السيستاني بالنتيجة إذا فعل المنكر أمامي أُظهر له عدم القبول وأظهر له الإعراض، فإذا جاءت المسألة إلى النهي عن المنكر يمكن أن استخدم معه أسلوب الإقناع واللطف حتى أجذبه إلى الخط المستقيم.

ذكرتم قبل قليل بأن مخالفة بعض القوانين بحد ذاتها غير جائز، فإذا فرض الشرع قانون وقانون الدولة لا يتوافق مع قانون الشرع ففي هذه الحالة أي قانون يُقدم؟

جواب سماحة السيد: قانون الشرع لا يخالف قانوناً يحفظ الأعراض أو الأنفس أو الأموال، نحن قلنا القانون الذي يحرم مخالفته هو القانون الذي يحفظ الأنفس أو الأعراض أو الأموال عن التلف ويستحيل من الشرع أن يخرج منه قانون يصطدم مع مثل هذا القانون.

انطلاقاً من الآية القرآنية في سورة طه: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى «43» فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى «44» [طه: 43 - 44] الوجوه المكفهرة قد تؤدي إلى نتائج سلبية على الدين، فلو كان أحداً من أهلي أو من أصدقائي أو أحداً من المجتمع يجدني أقابله بوجه مكفهر قد يعطي هذا انطباع سيء عن الإسلام؟

النقطة الثانية: نحن نعرف أن عموم الناس مع توفر شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يتقبلوا النهي عن المنكر، فما هي الآليات لتوعية المجتمع في هذا المجال؟ وما هي الخطوات العملية لنشر ثقافة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟

جواب سماحة السيد: أمرنا رسول الله أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرة، إلا لو حصل تزاحم في هذا الأمر الواجب، فلو استدعى هذا الواجب أو استلزم ترك واجب آخر وهو الحفاظ على الإسلام والحفاظ على صورة الدين ونقاء الدين عندما يتزاحم الواجبان نقدم الأهم على المهم.

جواب النقطة الثانية: نفس هذه المجالس الحسينية ونفس هذه الأماكن إذا تُدرس فيها مظاهر انحرافات ومنكرات معينة في مجتمع معين، وتُذكر هذه المنكرات أو هذه المظاهر، بحيث تدرس أسبابها ونتائجها، وتدرس طرق الوقاية منها والمواجهة لها، حينئذ يتعرض الخطباء إلى موضوع متكامل حول هذه الظواهر، فهذه وسيلة من وسائل العلاج، أو من خلال المسجد، وحتى عن طريق وسائل التواصل نستطيع أن ننشر مقالات قصيرة عن أي ظاهرة انحرافية في المجتمع بالتنبيه على أخطارها وعواقبها الوخيمة وأساليب الوقاية منها.

في حال أنه كان عندنا كوادر دينية ملتزمة في بادئ الأمر، ثم بعد سنة أو سنتين من تواجد هذه الكوادر في الأنشطة الدينية ظهرت منهم بوادر عدم الالتزام بالحجاب أو التجاهر ببعض المعاصي، وهذه الكوادر لا تزال تريد البقاء في الخدمة الدينية، كيف يجب على إدارة الأنشطة أن تتعامل مع هذه الكوادر؟

جواب سماحة السيد: لابأس بأن نجلس معهم وننبههم ونعظهم، فهذا طريقكِ لا يستقيم، ومن يعمل في مجال العمل الديني يجب أن يكون قدوة حسنة للآخرين وأن يكون ممثلاً للدين ومجسداً للقيم، وهذا لا يتناسب مع طريقكِ فنحن ننصحكِ ونعظكِ من أجل أن يتفادى هذا الأمر، ولو لم يُجدِ التوجيه والنصح مرة ومرتين أو ثلاث، هنا يُعتذر منها ومن بقائها في مجالكم، فهذا عمل ديني وفي الوقت نفسه ليست ملتزمة بالدين، فحذراً من حصول هذه الازدواجية نحن نعتذر من هذه الخدمة.

وقد قام الإمام الحسين بتلك الثورة الخالدة من أجل مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقال: ما خرجت أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد على هذا فالله يحكم بيني وبين القوم بالحق إنه خير الحاكمين.

لماذا وجد الأنبياء في الجزيرة العربية فقط؟
ماذا قدمت الحوزة وعلماء الدين للبشرية مقابل ماقدمته العلوم الحديثة في بناء الحضارة؟