نص الشريط
هل تنسجم معجزات الأنبياء مع المنطق العلمي؟
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: المركز الإسلامي بأمريكا
التاريخ: 3/1/1446 هـ
مرات العرض: 4526
المدة: 00:55:59
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (255) حجم الملف: 19.2 MB
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران: 49]

صدق الله العلي العظيم

المحاضرة حول المعجزة التي عبر عنها القرآن ب «الآية» ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ هل المعجزة تنسجم مع المنطق العلمي أم لا؟

عيسى بن مريم أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى بإذن الله ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ هل هذا معقول بحسب المنطق العلمي أن الميت يعود حياً؟

القرآن يخاطب موسى بن عمران ويقول ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى «17» قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى «18» قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى «19» فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى «20» [طه: 17 - 20] انقلاب العصا إلى ثعبان هل يقبله المنطق العلمي؟

القرآن عندما يتحدث عن النبي محمد ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء: 1] هل يمكن أن ينتقل الإنسان بلا واسطة نقلاً من البيت الحرام إلى بيت المقدس في ليلة واحدة، ويعود إلى مكة؟ هل هذا الأمر يقبله المنطق العلمي؟

إذن المحاضرة ترتكز على أن المعجزة هل هي مما ينسجم مع منطق العلم أم لا، وهنا عندنا محاور ثلاثة:

  • ما هي حقيقة المعجزة؟
  • هل تنسجم المعجزة مع منطق العلم؟
  • هل يمكن إثبات المعجزة من خلال الأدلة التاريخية أم لا؟
المحور الأول: ما هي حقيقة المعجزة؟

هنا اتجاهان:

  • الاتجاه الأول: يقول الفيلسوف الأمريكي آرياف هولند: المعجزة ليست شيئاً خارقاً للطبيعة بل هي حدث نادر غير مألوف لا أنه حدث يخرق القوانين. القوانين الطبيعية قوانين ثابتة، قوانين حتمية، لا تتخلف ولا تستثنى، فعندما يقول القانون بأن كل ماء تبلغ درجة حرارته 100 فإنه يغلي هو قانون فيزيائي لا يقبل الاستثناء والتخلف، إذن أين المعجزة؟

المعجزة هي عبارة عن حصول حوادث طبيعية بأسبابها الطبيعة ولكن لاقتران حادثتين قد ينتج حادثة نادرة غير مألوفة تسمى بالمعجزة.

  • الاتجاه الثاني: سوينبورن أستاذ الفلسفة المسيحية في أكسفورد يقول: المعجزة تخرق القوانين الطبيعية، ليست المعجزة مجرد حدث نادر، المعجزة أكثر من ذلك، المعجزة تخرق القانون الطبيعي، تتحدى القانون الطبيعي، كيف يمكن أن نقول بأن عودة الميت حياً مجرد حدث نادر، بل هو حدث خرق القانون الطبيعي. انقلاب العصا إلى ثعبان ليس مجرد حدث نادر بل هو خرق للنواميس والقوانين الطبيعية.

إذن سوينبورن ينسجم مع كلمات علماء الإسلام، حيث أن علماء الإسلام يقولون أن المعجزة هي خرق للقوانين، خرق للنواميس الطبيعية، عندما ترجع إلى ابن سينا في الإلهيات، وإلى نصير الدين الطوسي في تلخيص المحصل وغيرهم يقولون أن المعجزة خرق للعادة، ومعنى أنها خرق للعادة يعني استثناء من القانون الطبيعي.

المحور الثاني: هل تنسجم المعجزة مع المنطق العلمي؟

هل العلم يتحمل المعجزة؟ هل يمكن أن يقبل العلم خرقاً للقوانين الطبيعية؟ لو خلينا نحن والعلم هل يقبل العلم أن يعود الميت حياً؟ هل يقبل العلم انقلاب العصا ثعباناً أم لا؟

من هنا نأتي إلى هذين الاتجاهين: الاتجاه الفلسفي، والاتجاه العلمي.

كيف نرى الكون ونقرأه؟ هنا رؤيتان:

الرؤية الأولى: رؤية ميكانيكية للكون، وهذه الرؤية ترى الكون يعيش على الحتمية الجبرية، يعني قوانينه لا تتخلف، هذه الميكانيكية نعبر عنها بالجبرية النيوتنية، لأن قوانين نيوتن قوانين قسرية لا تتخلف ولا تستثنى، أولاً كل حادثة تحتاج إلى سبب، لا يعقل أن العصا تحولت إلى ثعبان صدفة، ومنطق الصدفة منطق مرفوض علمياً.

ثانياً هناك قاعدة عقلية مسلمة تقول لكل مسبب سبب يسانخه، مثلاً بذرة التفاح هل يعقل أنها تثمر عنب؟ بذرة التفاح لا تثمر إلا تفاح، لابد من السنخية بين السبب والمسبب، هل يعقل أن المادة المنوية للحصان تنتج ذئباً أو أسداً؟ لابد من مسانخة بين السبب والمسبب، السبب عصا والمسبب ثعبان، كيف ينسجمان؟ إذن المنطق العلمي بحسب هذه الرؤية الميكانيكية يرفض صدور المعجزة، ويقال أن القرآن ذكرها أو ذكرتها الكتب السماوية حكاية عن معتقدات لتلك الأقوام أما أنها وقعت فهذا شيء غير معقول.

الرؤية الثانية: هي الرؤية الفلسفية، تقول الكون كله أسرة واحدة مترابطة يؤثر بعضه في البعض الآخر، لما نرجع إلى كلمات ابن سينا  وهو فيلسوف مشهور  في كتاب الإشارات والتنبيهات يقول: كل حادث يحتاج إلى عامل يسهم في حدوثه، والعوامل ثلاثة: إما عامل طبيعي، وإما عامل ما ورائي، وإما عامل روحي.

مثلاً نأتي إلى ضوء الشمس، له أثر على جميع الكائنات الحية على الأرض من نبات وحيوان وإنسان، تأثير ضوء الشمس على الحياة وعلى الأرض هو عامل طبيعي.

نأتي إلى حوادث أخرى عاملها شيء ما وراء الطبيعية، هناك نظام طولي ولكن عقولنا قاصرة عن فهمه، تقتصر عقولنا على عالم المادة، نرى ونظن أن لا سبب إلا الأسباب المادية، بسبب قصور عقولنا وضيق معلوماتنا لا نرى أسباباً إلا الأسباب المادية، وبما أنه في عالم الأسباب المادية أن العصا لا تنقلب ثعبان، إذن انقلاب العصا ثعبان شيء غير معقول لأننا حصرنا عقولنا على الأسباب المادية، بينما هناك نظام طولي لهذا الكون، والنظام الطولي يعني كما أن هناك أسباب مادية هناك أسباب علوية، أسباب وراء الطبيعة، وتلك الأسباب تتدخل في مسيرة الكون، تتدخل في عالم الطبيعة، تنتج وتسبب وتولد في عالم الطبيعة، السبب لا ينحصر في السبب المادي.

وأما العامل الثالث هو العامل الروحي، أحياناً الإنسان يبلغ كمالاً روحياً هائلاً يستطيع أن يؤثر في الأشياء التي حوله بسبب قوته الروحية، بسبب كماله الروحي، الأنبياء بلغوا من الكمال الروحي والقوة القدسية في نفوسهم ما جعلهم يستطيعون التأثير في الأشياء التي حولهم من دون استناد إلى عامل طبيعي، بالقوة الروحية التي يمتلكها النبي يؤثر في الأشياء، عندما يقول عيسى بن مريم ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران: 49] أي أني بقوتي الروحية أبلغ الخصائص التي تبلغها القوى التي وراء الطبيعة، القوى الما ورائية.

إذن الأسباب لا تنحصر في العوامل الطبيعية بحسب الرؤية الفلسفية، فهل العلم يقبلها؟ سوينبورن يقول نعم العلم يقبل هذا المنطق الفلسفي، لأن القوانين الطبيعية قسمان: قوانين كلية، وقوانين إحصائية. والعلم يؤكد ذلك، فرق بين القوانين الكلية والقوانين الإحصائية، القانون الكلي قانون حتمي لا يقبل الاستثناء، مثلاً الكون يعتمد على قوى أربع: قوى الجاذبية، القوى الكهرومغناطيسية، القوى النووية الشديدة، القوى النووية الضعيفة. الكون يقوم على قوى أربع لولاها لتبعثر الكون.

لكن لدينا قوانين إحصائية، ومعنى القانون الإحصائي أنه قانون ثبت بالاستقراء، القانون ما ثبت إلا بالاستقراء إذن هو قابل للاستثناء، القوانين التي لم تثبت إلا بالتجربة وبالاستقراء من دون ضرورة هي قوانين تقبل الاستثناء، تقبل التخلف، يمكن أن يخرقها حادث إعجازي، ومثال على هذا القانون يذوب الذهب ويتحول إلى مائع إذا بلغت درجة حرارته ألف وثلاثة وستين درجة مئوية، هذا قانون ولكنه ليس قانونياً كلياً بل هو قانون استقرائي، بالاستقراء وصلنا إلى أن درجة ذوبان الذهب 1063 درجة ولكنه قانون قابل للتخلف والاستثناء.

مثال آخر القانون الثاني للحرارة يعني أمرين الأمر الأول أن انتقال الطاقة الحرارية من جسيم إلى جسيم تارة يكون تلقائي وتارة يكون محتاجاً إلى الشغل، تأتي بماء وتجعله فوق النار تنتقل الطاقة الحرارية من النار إلى الماء، هو انتقال تلقائي.

ولكن عندما تأخذ الماء الحار وهو يغلي وتضعه في الثلاجة فإن عملية تجمد هذا الماء حتى يتحول إلى ثلج ليست عملية تلقائية، العملية تحتاج إلى شغل وعامل خارجي وهذا العامل هو الثلاجة. هذا القانون الثاني للحرارة أيضاً يقرر أمر آخر وهو أن انتقال الطاقة من جسم إلى جسم لا يعني أنها تنتقل بكاملها، بل تنتقل بجزء منها، مثلاً مكينة السيارة، لا تهدر الطاقة الموجودة في البنزين كلها وإنما تهدر جزء منها في عملية الاحتراق، القانون الثاني للحرارة هو من أسس الفيزياء الحرارية فهل هذا القانون قابل للتخلف والاستثناء؟ نعم يمكن، هو ليس قانوناً كلياً بل هو قانون استقرائي ثبت بالإحصاء والاستقراء فهو قابل للاستثناء، إذن انتقال الحرارة من جسم إلى جسم أمر قابل للاستثناء، من هنا يقول القرآن لما ألقي إبراهيم في لجة النيران لم تنتقل الطاقة الحرارية من النار إلى جسم إبراهيم يعني القانون الثاني للحرارة تخلف هنا واستثني ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء: 69]

القوانين قسمان هناك قوانين كلية لا تقبل الاستثناء، هناك قوانين إحصائية تقبل الاستثناء ومثلنا لهذه القوانين، فإذن بحسب المنطق العلمي فإن المعجزة يمكن أن تحدث وتخرج القوانين الطبيعية إذا كانت من قبيل القوانين الإحصائية.

علماء المسلمين يقولون لا بل أكثر من ذلك، المعجزة تخرق القانون ولو كان كلياً، ولو كان حتمياً في عالم المادة إلا أنه قابل للخرق، قابل للاستثناء، طبعاً علماء المسلمين على ثلاثة آراء:

الرأي الأول: أن السبب المؤثر في حدوث المعجزة هو الإرادة الإلهية، لا نحتاج إلى واسطة أبداً، إرادة الله كافية في حدوث الإعجاز ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82]

﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 85] ما زلت صغيراً أيها الإنسان، وما زال علمك قليل، ما زال أفقك ضيق، وما زلت لم تطلع على كل أسرار الكون وكل ألغازه وطلاسمه، وكل مناشئ الحياة فيه لأجل ذلك قل لا أعلم ولا تقل أعلم أن المعجزة يستحيل حصولها.

إذن الرأي الأول يقول: إرادة الله هي النافذة في الكون كله، هي المؤثرة وبالتالي لا تحتاج الإرادة إلى واسطة في حدوث المعجزة.

الرأي الثاني: المعجزات سببها القوة النفسية للأنبياء، الله أودع في الأنبياء والأوصياء قوة روحية قدسية وبواسطة هذه القوة يسيطرون على الأشياء التي حولهم، وببركة هذه السيطرة يؤثرون فيها هدماً، بناءً، وتغييراً، أنت عندما تقرأ في زيارة الجامعة للأئمة الطاهرين «بكم فتح الله، بكم يختم، بكم ينزل الغيث، بكم يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، بكم ينفس الهم، بكم يكشف الضر» تكتشف أن القوة الروحية لهذا الإنسان نبياً كان أو إماماً تؤهله لأن يؤثر في الأشياء التي حوله.

الرأي الثالث: وهو رأي صاحب الميزان العلامة الطباطبائي في الميزان[1] ، يقول: وراء كل معجزة سبب طبيعي، لكنه مجهول. لا تظن أن المعجزة حدثت بدون سبب طبيعي، بل وراءها سبب طبيعي، وحتى أبين لك هذه النقطة مثلاً ولادة الإنسان وتكونه في رحم أمه فإن السبب هو لقاء الذكر والأنثى، تلقيح الحويمن المنوي لبويضة الأنثى هو السبب لوجود إنسان في رحم المرأة، فهل هذا سبب حتمي أو يمكن أن يحل محله سبب آخر؟

نحن لم نجد إلا هذا السبب، وهو ما سميناه سبب إحصائي استقرائي، إذا استقرأنا البشرية من يوم ولادة أبناء آدم إلى هذا اليوم اوجدنا أن الإنسان لا يتولد إلا بحويمن منوي ملقح مع بويضة الأنثى، لا يمكن أن يولد إلا بهذا الطريق، ولكن هذا سبب استقرائي ولعل هناك سبباً آخر، أي لعل العلم في المستقبل يكتشف الخلية الحية التي يتكون منها الإنسان فإذا قام بتخليق تلك الخلية الحية يولد الإنسان ويتكون في بطن أمه وإن لم يكن هناك لقاء بين الذكر والأنثى، نحن نشهد السبب المعروف ولكن لعل هناك سبباً مجهول ولذلك جاء عيسى بن مريم من غير أب ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 59]

إذن نحن ليس لدينا نتيجةً لقصور معلوماتنا، نرى السبب الظاهر المعروف ولكن من المحتمل أن هناك سبباً طبيعياً وراء ذلك، العلامة الطباطبائي يقول: كل المعجزات وراءها سبب طبيعي.

إذن قانون السببية لم يتخلف، وقانون السنخية لم يتخلف، كل المعجزات من إبراء الأكمه والأبرص، إحياء الموتى، انقلاب العصا إلى ثعبان، كل المعجزات وراءها سبب طبيعي مجهول لدينا، المعصوم اطلع عليه ونحن لم نطلع عليه، المعصوم اكتشف ذلك السبب الطبيعي ومن خلاله استطاع أن يوجد المعجزة، يعني بعلمه اكتشف ذلك، القرآن الكريم يقول في حق النبي إبراهيم : ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام: 75] هو إنسان فكيف يرى ملكوت السماوات والأرض؟ أي هو يمتلك علماً بملكوت السماوات والأرض وببركة هذا العلم يستطيع إبراهيم أن يوجد الأشياء التي تخرق القوانين الطبيعية المعلومة لدينا.

إذن بناء على نظرية السيد الطباطبائي فإن ما نراه اليوم أنه قانون حتمي يمكن أن نراه في المستقبل قانون استثنائي، ما نراه اليوم قانون لا يتخلف من الممكن في المستقبل أن نكتشف أنه قانون يقبل الاستثناء ويقبل التخلف، وبالتالي نستنتج أن المعجزة لا يرفضها المنطق العلمي.

المحور الثالث: هل يمكن أن نثبت المعجزة بالدليل التاريخي؟

نحن قلنا أن المعجزة أمر ممكن، ولكن هل يمكن إثباتها بدليل تاريخي؟

فرق بين الإمكان الثبوتي والإمكان الإثباتي، المعجزة يمكن أن تحصل ولكن هل يمكن إثباتها بالدليل التاريخي؟ نقل المؤرخون أن عيسى بن مريم أحيا الموتى فهل نستطيع أن نقبل الدليل التاريخي في إثبات المعجزة؟ نقل المؤرخون أن النبي محمد عُرج به إلى السماء بغض النظر عن سورة النجم؟ هل يمكن أن تثبت المعجزة بالدليل التاريخي أم لا؟

ديفيد هيوم وأنتوني فلو فيلسوفان أنكرا ذلك، قالوا المعجزة لا تثبت بدليل تاريخي حتى لو كانت أمراً ممكناً، في مقابلهم علماء الأديان ومنهم علماء الإسلام يقولون يمكن أن تثبت المعجزة بالدليل التاريخي، فما هو دليل هيوم في الإنكار؟

يقول هيوم: الدليل الوحيد لإثبات الواقع هو الدليل التجريبي، كل شيء لم يجرب لا يثبت، القوانين العلمية ثبتت بالتجربة، فببركات التجربة ثبت لنا أن الماء يغلي إذا بلغت درجة حرارته 100، القوانين

العلمية ثبتت بالتجربة أما المعاجز فكيف تثبت بالتجربة وهي أمر لا يتكرر ولا يمكن أن يخضع للتجربة؟! فإذا كان أمراً لا يخضع للتجربة ولا يخضع للتكرار، كيف يمكن إثبات أنه واقع؟

الأمر الثاني نَقْلُ المؤرخين أيضاً دليل تجريبي لأن نَقْل المؤرخين شهاداتٌ، والشهادات غالباً ما تصيب الواقع، فإذن الشهادة دليل تجريبي، والشهادة قررت أن المعجزة حصلت، ولكن هيوم يقول لو كان المشهود لأمر طبيعي يمكن أن نقبل به، أما إذا كانوا ينقلون أمراً غير طبيعي كإنسان يطير في الهواء، ويسري في ليلة واحدة بدون واسطة، ينقل من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ويرجع في نفس الليلة، بما أن المشهود به أمر غير طبيعي لا يمكن أن يثبت بالنقل التاريخي.

في مقابل كلام هيوم نذكر ملاحظات أربع:

الملاحظة الأولى:

القانون الطبيعي مهما بلغ كما كررنا الكلام هو قانون إحصائي ثبت بالاستقراء، لم ينشأ عن ضرورة حتمية عقلية كي يمنع من التخلف، ومن الاستثناء، القانون الطبيعي غاية ما يقول في الظروف المشابهة لا يتخلف، مثلاً الماء في الظروف العادية إذا بلغت درجة حرارته 100 يغلي ولكن اجعل هذا الماء فوق جبل جليدي، حتى لو بلغت درجة حرارته 100 لا يغلي، أصبح القانون قابل للاستثناء، القانون في الظروف العادية المشابهة لا يقبل الاستثناء لا أن القانون الطبيعي لا يقبل الاستثناء في جميع الحالات حتى يؤدي ذلك إلى إنكار المعجزة.

الملاحظة الثانية:

لنفترض أن القانون الطبيعي قانون كلي، لكن إذا كان المعجزة منقولة بالتواتر، والتواتر يفيد اليقين، مثلاً نأتي إلى حادثة الغدير يقال أنها ثبتت بالتواتر أي أن الرسول الأعظم في غدير خم أخذ بيد علي بن أبي طالب ورفعها وقال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم والي من والاه وعادي من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحق معه حيثما دار.

حديث الغدير ثبت بالتواتر أي في كل مئة عام من يوم الغدير إلى الآن ينقل حديث الغدير عدد كبير يُطمئن بعدم تواطؤهم على الكذب لاختلاف أعراقهم وثقافاتهم، المعجزات بغض النظر عن نقل القرآن وهو كتاب سماوي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه معجزات النبي عيسى ومعجزات النبي محمد إلا أنها ثبتت بالدليل المتواتر، والتواتر يفيد اليقين والجزم والقطع، فنرفع يدنا عن القانون الطبيعي بالتواتر.

الملاحظة الثالثة:

الكون مملوء بالقوانين، نحن اكتشفنا بعضها ولم نكتشف البعض الآخر، فربما قانون يكسر قانون آخر من حيث لا نعلم، نحن نقول القانون يقول أن الميت لا يرجع حياً ربما هناك قانون كوني لم نكتشفه بعد يزاحم هذا القانون ويكسره في بعض الحالات والظروف، بحيث يرجع الميت إلى الحياة، العصا لا تنقلب ثعبان، لم نقل بأن كل عصا تنقلب ثعبان ولكن العصا التي كانت بيد موسى تنقلب، إذن هناك قانون معين، ولعل هناك قانون طبيعي يرتبط بهذه العصا الموجودة عند موسى بن عمران يكسر القانون المعروف ويزاحمه ويؤثر في انقلاب العصا ثعباناً، بالنتيجة الكون مملوء بالقوانين، وبما أنه مملوء بالقوانين فاكتشاف بعضها لا يلغي حدوث الإعجاز، ولعل هذه القوانين تتزاحم وتتكاسر، يكسر بعضها بعضاً في بعض الظروف والحالات الاستثنائية.

الملاحظة الرابعة:

لنفترض أنه لدينا قوانين كلية حتمية، ولكن هل هذه القوانين حتمية حتى أمام الإرادة الربانية؟ إذا كنت إنسان غير مؤمن بالله فبالتأكيد لن تؤمن بوجود إرادة وراء العالم، أما إذا كنت إنسان يؤمن بالله لا يمكن أن يقبل أن القانون يقهر الإرادة الإلهية، أو أن القانون يقف حائلاً أمام الإرادة الإلهية، أو يقف مانعاً أمام الإرادة الإلهية، مهما بلغ القانون من الكلية والحتمية لا يعني أنه قانون فوق من خلق القانون وفوق من جعل القانون، بما أنه قانون من عنده تعالى إذن لا يعقل أن يكون القانون فوق إرادة من خلقه ومن جعله ومن أسسه لأننا لا نؤمن بالتفويض كما فعل اليهود ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا [المائدة: 64] هؤلاء يقولون بالتفويض أي أن الله خلق الكون ومن ثم اعتزل وصار الكون يمشي بقوانينه من دون إرادة إلهية وتدخل لذلك القانون لا يقبل الاستثناء والتخلف، ولكن ليس هناك تفويض وإرادة الله نافذة في كل حوادث الكون من أولها إلى آخرها.

في الختام نطبق هذه المعجزة وهذا الدليل الإعجازي على نبوة النبي محمد ، السيد الشهيد محمد باقر الصدر قدس سره في كتابه «المرسل، الرسول، الرسالة» يثبت نبوة النبي من خلال دليل حساب الاحتمالات وهو دليل رياضي، يقول: كلما كانت النتيجة أكبر من المقدمات كشفت لنا أن هناك عاملاً خارجياً وراء المقدمات تدخل في صياغة النتيجة، مثلا لديك طفل يدرس في الصف الثاني الابتدائي ماذا تتوقع منه؟ تقرأ مؤهلاته هو طفل في ثاني ابتدائي، ما مر بتجربة أدبية، ليس له خبرة لغوية، لم يسبق له أن دخل عالم الشعر والأدب، فجأة وإذا بالطفل يقرأ لنا قصيدة تضاهي شعر المتنبي، أو تضاهي شعر أحمد شوقي، سوف يقال أن النتيجة أكبر من المقدمات، إذن بما أن النتيجة أكبر من المقدمات نكتشف بأن هناك عامل خارجي تدخل في صياغة هذه النتيجة، هناك شاعر بارع هو الذي صاغ القصيدة.

نطبقها على القرآن والنبي محمد ، فالنبي محمد بحسب الظاهر لم يدخل مدرسة، ولم يقرأ كتب الفلسفة، ولم يدرس عند علماء اليهود والنصارى ليكتسب منهم المعلومات، لم يشارك في حلبة أدب ولا حلبة شعر في الجاهلية إطلاقاً، هذا النبي عاش في مجتمع جاهلي متخلف علمياً وإن كان متقدم أدبياً، هذه هي المقدمات، أما النتيجة فإنه جاء بكتاب وهذا الكتاب من جهة قد جاء بقصة البشرية من يوم آدم إلى يوم النبي بشكل دقيق، ومن جهة أخرى هو كتاب في قمة البلاغة والفصاحة التي عجز عنها كبراء القوم في ذلك المجتمع العربي، هذا الكتاب جاءنا بأسرار علمية اكتشفها العلم الحديث بعد مرور السنين ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ «47» وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ «48» [الذاريات: 47 - 48]

﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ [النمل: 88]

هذا الكتاب جاء بلائحة تشريعية قانونية تضم سبعمئة آية تتحدث عن القوانين والتشريعات التي تنظم مسيرة الإنسان في عباداته وحركاته وسكناته، هذا الكتاب جاء بأبلغ الحكم والمواعظ التي توجه المسيرة الروحية للإنسان، انظر للنتيجة واقرأ المقدمات وقارن بينها، المقدمات نبي لم يسبق له تجربة في عالم الأدب والبلاغة، لم يحضر عند مدرس ولا معلم، عاش في مجتمع متخلف، هذه المقدمات، أما النتيجة كتاب بهذه الجامعية، كتاب بهذه السعة، كتاب بهذا الشمول، إذا قارنا النتيجة بالمقدمات نحكم عقلاً أن هناك يداً غيبية تدخلت في صياغة هذا الكتاب ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى: 51]

﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى: 52]

﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ «193» عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ «194» بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ «195» [الشعراء: 193 - 195]

إذن هذا هو الدليل على نبوة النبي محمد ، ويبقى القرآن المعجزة الخالدة ويبقى أهل البيت العترة المنصهرين بالقرآن، وهما الثقلان اللذان خلفهما رسول الله : إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي.

لا ينفك القرآن عن أهل البيت، ولا ينفك أهل البيت عن القرآن، بين القرآن وأهل البيت انصهار وتلازم واقتران في كل الأحوال، وفي كل الظروف، ولذلك ترى الرأس الشريف حتى بعد أن عزل عن الجسد الشريف ووضع على رأس الرمح يقرأ القرآن ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا [الكهف: 9]

[1]  الجزء الأول/ ص72

الحياة والموت زوجان في عالم الوجود
هل صدرت من النبي محمد (ص) اجتهادات خاطئة؟