نص الشريط
الحوار المفتوح حول محاضرات محرم 1446هـ
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: المركز الإسلامي في أمريكا
التاريخ: 14/1/1446 هـ
مرات العرض: 4548
المدة: 00:59:29
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (147) حجم الملف: 20.4 MB
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك: 2]

صدق الله العلي العظيم

هناك تساؤل يطرحه عدة من الباحثين وهو أن مذهب أهل البيت مذهب اتسم بالحزن والأسى على طوال تاريخه، وذلك من خلال ثلاثة مظاهر:

المظهر الأول: روايات أهل البيت التي تركز الحزن والأسى.

الإمام الرضا يقول: ”إن يوم الحسين أقرح جفوننا وأسبل دموعنا، وأذل عزيزنا بأرض كرب وبلاء وأورثنا البلاء إلى يوم الانقضاء“.

الإمام الصادق يقول: ”شيعتنا منا خلقوا من فاضل طينتنا، يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا“.

الإمام زين العابدين بكى على أبيه عشرين سنة، أربعين سنة على اختلاف الروايات، وهذا مظهر من مظاهر الحزن في مذهب أهل البيت.

المظهر الثاني: الأدب الشيعي الإمامي.

الأدب الشيعي الإمامي أدب مقرون باللوعة والحزن، منذ أيام الأئمة، منذ أن دخل ذو الرمة على الإمام الصادق وقال:

أُمررْ على جدثِ الحسينِ   وقل    لأعظُمِه   iiالزكيّهْ
يا  أعظُماً  لا  زلتِ  iiمن   وَطفاءَ    ساكبةٍ   iiرويّهْ
فإذا      مررتَ     بقبرهِ   فأطلْ  به  وقفَ  المطيّهْ
وابكِ   المطهَّرِ  iiللمطهَّر   والمطهّرةِ          الزكيّهْ
كبكاءِ    مُعْوِلَة    iiغَدت   يوماً    بواحدِها   المنيِّهْ

إلى يوم دعبل الخزاعي الذي قال:

بَكَيتُ  لِرَسمِ  الدارِ مِن iiعَرَفاتِ   وَأَذرَيتُ دَمَعَ العَينِ في الوَجَناتِ
مَدَارسُ  آيَاتٍ  خَلَتْ مِن iiتلاوةٍ   ومنزلُ  وحيٍ  مقفرُ  iiالعرصاتِ
دِيارُ   عليِّ  والحُسَيْنِ  iiوجَعفَرٍ   وحَمزةَ  والسجَّادِ  ذِي  iiالثَّفِناتِ

إلى يوم السيد حيدر الحلي:

كفانيَ ضناً أن تُرى في الحسين   شفت   آلُ   مروان   iiأضغانها
فأغضبت     اللهَ    في    قتله   وأرضت      بذلك     iiشيطانَها

إلى يوم الأعسم:

تبكيكَ عيني لا لأجلِ مثوبةٍ   لكنّما  عيني  لأجلِكَ iiباكية
تبتلُّ  منكم  كربلا  بدمٍ iiولا   تبتلُّ  منِّي بالدّموعِ الجارية

إلى يوم الشيخ حسن الدمستاني عندما يقول:

أحرم الحجاج عن لذاتهم بعض iiالشهور   وأنا   المحرم   عن  لذاته  كل  الدهور
كيف لا احرم دأبا ً ناحراً هدي iiالسرور   وانا في مشعر الحزن على رزء الحسين
فمن الواجب عينا ً لبس سربال iiالأسى   واتخاذ   النوح  ورداً  كل  صبح  iiومسا
واشتعال   القلب  احزاناً  تذيب  الأنفسا   وقليل  تتلف  الأرواح  في رزء iiالحسين

المظهر الثالث: مناسبات أهل البيت.

لا يخلو شهر من السنة عن مناسبات حزينة وكئيبة لأهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين

هذه المظاهر كلها صبغت مذهب أهل البيت بصبغة الحزن والأسى، من هنا يأتي التساؤل أليس الحزن والأسى عائقاً أمام الإنتاج والإبداع؟ إذا كان الإنسان الشيعي مستغرق في الحزن والأسى طوال السنة حزناً على أهل البيت أليس هذا عائقاً أمام الإنتاج والإبداع، أمام التفوق في مجال الإبداع والإنتاج؟ لماذا المذهب الإمامي يصطبغ بهذه الصبغة التي قد تعيق أبناءه عن الإبداع والإنتاج والتفوق في هذه المجالات؟

في الجواب عن هذا السؤال يحتاج أن نبحث في عدة محاور:

  • تركيز التراث الإسلامي على التوازن بين المادة والروح
  • استثمار الروح الإيجابية لحالة الحزن
  • عوامل اتسام مذهب أهل البيت بسِمَةِ الحزن والأسى.
المحور الأول: تركيز التراث الإسلامي على التوازن بين المادة والروح.

هل التشيع وحده هو الذي يركز الحزن والأسى أم كل التراث الإسلامي هكذا؟

إذا قرأنا التراث الإسلامي من القرآن والسنة نجد أن التراث الإسلامي يركّز سمة الحزن والأسى وليس مذهب التشيع فقط، نحن عندما نقرأ آيات القرآن الكريم: ﴿فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [التوبة: 82] وعندما نقرأ: ﴿وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء: 109]

عندما نقرأ من القرآن الكريم: ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا [مريم: 58] ويقول: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [المائدة: 83]

عندما نقرأ من القرآن الكريم: ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 22]

يقول الإمام أمير المؤمنين علي : ”ما جفت الدموع إلا لقسوة القلب، وما قست القلوب إلا لكثرة الذنوب“.

ويقول الإمام أمير المؤمنين : ”الحزن شعار المؤمنين“.

ويقول الرسول محمد : ”أكثروا من ذكر هادم اللذات ومفرق الجماعات“.

إذن التراث الإسلامي نفسه هو تراث يحث نحو الحزن والكآبة، يحث نحو الأسى، من هنا يتبادر إلى أذهاننا سؤال، هل أن الحزن قيمة من قيم التراث الإسلامي؟ هل أن الحزن يعد قيمة من قيم التراث الإسلامي بأن نقول قيم التراث الإسلامي منها الصدق، والأمانة والحزن والأسى؟

بل هذا ينقلنا إلى سؤال أعمق من ذلك ألا وهو هل الإسلام أساساً يشجع على الإنتاج أم يشجع على الحزن؟ لو فرضنا أن هناك مؤمنين، مؤمن منتج مشغول بإنتاجه، فرح بإنتاجه، يعطي العبادة قسم قليل من يومه، ومؤمن زاهد متفرغ للعبادة حزين على ذنوبه، كئيب على أعماله، أيهما أفضل في التراث الإسلامي؟ المؤمن المنتج الفرح بإنتاجه أم المؤمن المتفرغ للعبادة الحزين على ذنوبه؟

نحن أمامنا فئتان من النصوص الواردة في الشريعة الإسلامية: فئة تذم الدنيا، تذم الثروة، تذم المال، تذم هذه البهارج كلها، وفئة تمدح. فئة تقول: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد: 20]

وآية أخرى تقول: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران: 14]

وآية ثالثة تقول: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد: 20]

الإمام أمير المؤمنين يقول: حب الدنيا رأس كل خطيئة، إليكِ يا دنيا غري غيري، عمرك قصير، عيشك حقير، خطرك كبير...

طبعا المقصود بالدنيا عدة عناوين: الدنيا ليست دائماً أموال، فالشهرة دنيا، والمنصب دنيا، واللقب أيضاً دنيا، الدنيا بما لها من صور: شهرة، لقب، منصب، ثروة، أموال، هذه كلها دنيا، هل أن هذه الأحاديث تسقط الدنيا فلا قيمة لها؟

في مقابل هذه الفئة، اقرأ من القرآن: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص: 77]

وفي فئة أخرى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف: 32]

وفي الروايات: يقول الإمام الصادق : ”نعم العون على تقوى الله الغنى“.

الإمام الصادق يقول: ”نعم العون على الآخرة الدنيا“.

جاء رجل إلى الإمام الصادق قال: يا أبا عبد الله إنا نطلب الدنيا، ونحب أن نؤتاها فقال الإمام الصادق إليه: وإذا أتت فما تصنع بها؟ قال: أكف بها عن نفسي وعيالي وأتصدق وأصل بها وأحج واعتمر. قال: هذا ليس طلب للدنيا هذا طلب للآخرة.

وقول الإمام الصادق : أجر الغني الشاكر كأجر الفقير الصابر.

الغني الذي شكر الله على الغنى أجره وثوابه كأجر ذلك الفقير المحروم الذي يتوق إلى لقمة العيش، الإمام علي الذي ذم الدنيا مدحها، قال: الدنيا مسجد أحباء الله، مهبط ملائكة الله، متجر أولياء الله. إذن كيف نجمع بين الفئتين؟ فئة تذم الدنيا وفئة تمدح الدنيا؟

هناك فرق بين النظرة الطريقية والنظرة الموضوعية، النظرة الموضوعية تعني أن الدنيا هدف، وأن المنصب هدف، الشهرة هدف، الثروة هدف، عندما تكون الدنيا هدفاً للإنسان ستسيطر على فكره وأوقاته، على مشاعره، على ميوله، وعندما تسيطر الدنيا بثرواتها ومنصبها وألقابها على الإنسان وتصبح هي همه الأول سوف يفقد مبادئه بشكل تدريجي، مبدأ الإيمان، مبدأ الإحسان، مبدأ العطاء، مبدأ الإنصاف، مبدأ الإحساس بكرامة الآخرين لأنه مشغول بجيبه، سيطرت عليه الدنيا بدل أن يسيطر عليها، هذه النظرة للدنيا مذمومة، هذه النظرة هي النظرة المذمومة في النصوص، أما النظرة الطريقية أن الدنيا وسيلة وليست هدف، الثروة وسيلة وليست هدف، المنصب، الشهرة، اللقب وسيلة وليس هدف، وسيلة وطريق لتنمية الطاقات البشرية، وسيلة لفتح المشاريع النافعة للمجتمع، عندما تمتلك ثروة عليك أن تكون مصداقاً للآية المباركة: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى: 11]

ليس المقصود بالحديث اللفظي بل الحديث السلوكي، أي أظهر النعمة من خلال المشاريع، المشاريع الخيرية، المشاريع التعليمية، المشاريع الصحية، المشاريع التي تسهم في إنتاج مجتمعك الإيماني، إذن عندما نقول هل الإسلام يشجع الإنتاج أم يشجع الكآبة؟

الجواب: الإسلام بالطبع يشجع الإنتاج، ولكن الإنتاج وسيلة للارتقاء بالمجتمع وليس هدفاً لأن يعيش الإنسان وجوداً مضخماً في ثروته وأمواله وألقابه وشهرته، بل أن تكون أمواله وثروته وألقابه طريق للارتقاء بمجتمعه الإيماني.

من هنا نستطيع أن نصل إلى النتيجة الإسلام يحث على الحزن لكن الحزن الإيجابي وليس الحزن السلبي، الحزن الإيجابي هو الحزن الذي يعيدك إلى تقويم ذاتك، الحزن الذي يعيدك إلى برمجة حياتك، الحزن الذي يعيدك إلى محاسبة خطواتك، ورد عن الرسول الأعظم محمد : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا.

الإسلام يحث على الحزن عندما يكون الحزن وسيلة للتغيير، للتكامل نحو الأفضل، أما عندما يكون الحزن مطلوباً في حد ذاته، عندما يكون الحزن كآبة تسيطر على همومك ومشاعرك فإن هذا الحزن مذموم بنظر التراث الإسلامي.

المحور الثاني: استثمار الروح الإيجابية لحالة الحزن.

روايات أهل البيت تنادينا بأن نحزن ونأسى وأن نجزع على الحسين وآل الحسين، على أهل بيت النبوة صلوات الله عليهم، هل الحزن عائق أمام الإنتاج حتى نقول الشيعة متخلفون في الإنتاج لأنهم مستغرقون في الحزن والأسى؟ هل الحزن عائق أمام الإبداع حتى نقول أن المذهب الإمامي مذهب متخلف لأن أبناءه مستغرقون طوال السنة في البكاء والجزع والمآتم؟

نحن هنا نرجع إلى علمين: علم النفس، وعلم الإدارة.

العلم الأول: علم النفس.

عندما نرجع إلى علم النفس ربما يقول الإنسان بأن ضباب الحزن يؤثر على التركيز وعلى صنع القرار، على عمل الذاكرة نتيجة الاستغراق العاطفي، فالحزن يعيق الإبداع، لكن علم النفس لا يقول هكذا أبداً، الحزن قد يكون ملهماً للابتكار، قد يكون الحزن طريقاً لتحفيز الإنسان نحو العطاء والإبداع، في المدرسة التحليلية في علم النفس تقول: ما هو العائق أمام الإنتاج؟ هل الحزن عائق أمام الإنتاج؟

العائق أحد أمرين: التشاؤم، وعدم التوازن بين المشاعر الوجدانية.

1. العامل الأول: التشاؤم.

عندما تعيش تشاؤماً فإنه يعيقك عن الإنتاج، أما عندما تعيش تفاؤلاً «تفاءلوا بالخير تجدوه» سواء كنت حزيناً أم فرحاً المهم أن تكون متفائلاً فسوف يكون لك عطاءً وإنتاجاً.

2. العامل الثاني: عدم التوازن بين المشاعر الوجدانية.

فرح، غضب، حزن، خوف، رجاء، هذه مشاعر وجدانية، إذا عشت التوازن بين المشاعر الوجدانية فإن التوازن يقودك إلى الإنتاج، إذا عشت اضطراب بين الحالات الوجدانية، الاضطراب يقودك نحو الخيبة والفشل، الباحثة مدوكي أكينيولا في جامعة هارفرد تقول في مجلة الهوية الشخصية وعلم النفس الاجتماعي[1] ، نقلت دراسة تسمى بالمقارنة بين الرفض الاجتماعي والقبول الاجتماعي، وهناك أجري اختبار بين فئتين، كل فئة قدمت عرضاً، فئة ب قوبلت بالمدح والاطراء والقبول الاجتماعي والعبارات الودية، بينما فئة أ قوبلت بالرفض والعبارات المسيئة والتجهم في الوجه، كلا الفئتين هي ناجحة ولكن أريد المقارنة بينهما، هذه الفئة التي قوبلت بالرفض الاجتماعي من باب مجاراة الواقع لأن الإنسان في حياته ليس دائماً يتعرض إلى قبول قد يتعرض إلى رفض، قد يصاب بخسارة في تجارته، قد يصاب بانتكاسة في دراسته، قد يصاب بانتكاسة في حياته الزوجية، قد يصاب بانتكاسة مع أصدقائه، قد يفقد عزيز، بالنتيجة الإنسان معرض لهذه الحالات حالات التوتر الاجتماعي، أرادوا أن يختبروا هذه الفئة بالرفض ليعرفوا مدى مقاومتها، والنتيجة كانت أن الفئة التي قوبلت بالرفض الاجتماعي كانت أكثر إبداعاً وأكثر إنتاجاً من الفئة التي قوبلت بالإطراء والمديح، خصوصاً لدى الفئة التي كانت تعيش منخفضات في مستوى هرمون DHEAS «كبريتات ديهيدرو إيبي أندروستيرون»[2]  مع ذلك هذه الفئة قدمت إبداعاً ونتاجاً أكثر من الفئة الأخرى.

وصلت هذه الباحثة للنتيجة وهي أن الإبداع ليس دائماً يدور مدار الفرح والبهجة، وليس الإبداع دائماً يعني بهجة وفرح وراحة، قد يكون الإبداع ناشئاً عن ردة فعل، إزاء حزن، إزاء رفض، إزاء مواجهة سلبية قاسية، قد تكون هذه المواجهة السلبية القاسية محفزاً نحو الإبداع والإنتاج.

العلم الثاني: علم الإدارة

وفي تقرير علم الإدارة، ارجع إلى ما ذكرته الكاتبة الإنجليزية غراي أوسينس عندها مقال القيادة بعد الفقد والحزن طريق للإبداع، تقول: القائد عندما يتعرض إلى خسارة أو انتكاسة قد يكون الخسارة والشعور بالحزن والانهيار العاطفي طريق للإبداع، من خلال خطوات أربع:

الخطوة الأولى: الإقرار بالحزن.

اعطِ نفسك الوقت تبكي فيه، اعطِ نفسك وقتاً لتفرغ شحنة الحزن وشحنة الأسى، اعطها ذلك الوقت، استرسل وراء دموعك وحزنك، عندما تستفرغ النفس ما في داخلها وأعماقها من الحزن والبكاء والأسى، فإن هذا يمهدها لمرحلة أفضل، لا تحبس البكاء والحزن، لا تحبس الأسى اعطِ نفسك فرصة أن تفرغ حزنها وبكاءها وأساها، هذه طريقة تمهدك للطريقة الثانية الخطوة الأفضل.

الخطوة الثانية: مواجهة الحزن مع الرعاية الاستراتيجية

تلقين النفس ضرورةَ الموازنة بين الألم والأمل، لقن نفسك التوازن بين الألم والأمل، عندما تلقن نفسك الموازنة بين الألم والأمل فهذا عبارة عن المحافظة على التفكير الاستراتيجي بعيد النظر.

الخطوة الثالثة: الفضاء الانتقالي نحو الأفكار المثيرة

أنت قائد وتعرضت للخسارة في أي مجال كنت اسمع لغيرك، حاول أن تكون مرن في الاستماع للآخرين حتى لو كان كلام الآخرين نقداً، حتى لو كان كلام الآخرين تقويماً، حتى لو كان كلام الآخرين محاسبة لاذعة، أنت كقائد لابد أن تكون لديك المرونة للاستماع إلى الآخرين، أنت انتقلت من خطوة الحزن ووصلت إلى خطوة أخرى، أنت في الخطوة الثالثة في الفضاء الانتقالي نحو الأفكار المثيرة، كن مرناً في الاستماع إلى الغير حتى لو انتقدت، حتى لو خطأك، حتى لو حاسبك، استمع إلى الآخرين، القائد الناجح والمدرب الناجح هو الذي يستمع لكل نقد بكل مرونة وبكل رحابة صدر حتى يخطو نحو الأفضل، وأن يقرر المدى ما هو مدته نحو الطريق الأفضل.

الخطوة الرابعة: التعافي والتجديد.

معنى التعافي والتجديد بمعنى أن القائد الناجح والمدرب الناجح بعد الدراسة يخوض التجربة، أي تجربة أن تخوضها لابد أن تدرسها، ورد عن الرسول محمد قال: ”يا أبا ذر إذا هممت بأمر فتدبر عاقبته.“ قبل أن تخوض التجربة اقرأ العواقب فإن يكُ خيرا فامضه وإن يك شراً فانتهي عنه، إذا درست العواقب ووصلت إلى النتيجة المطلوبة بعد ذلك ادخل التجربة، وخض التجربة.

إذن الحزن ليس عائقاً أمام الإنتاج، على العكس قد يكون الحزن محفزاً نحو الإنتاج والإبداع لذلك ترى أن علماء الإمامية من أكثر العلماء إبداعاً وإنتاجاً، اقرأ كتاب دور الشيعة في بناء الحضارة الإسلامية للشيخ السبحاني، اقرأ كتاب إسهام إسهامات الشيعية في الحضارة الإسلامية للدكتور محمود إسماعيل، اقرأ كتاب الدولة البويهية نحتت صخراً للحضارة، هذه الكتب الثلاثة تذكر لك نجوم لامعة من الشيعة أسهمت في بناء الحضارة الإسلامية، عندما تأتي إلى هشام بن الحكم أحد أصحاب الإمام الصادق المتوفى سنة 199 هـ  أول من تحدث في الكيمياء، ووصل إلى نتيجة أخذ منها إبراهيم بن سيار النظام وهذه النتيجة أن الرائحة هي عبارة عن جزيئات متبخرة من الأجسام تتأثر بها الغدد الأنفية.

عندما نأتي إلى آل نوبخت بيت شيعي عريق برز منهم علماء عظام منهم يعقوب بن إسحاق بن نوبخت المتقدم في الحكمة والكلام وعلم النجوم. وأبي علي أحمد بن محمد بن يعقوب بن مسكويه من أعلام الشيعة وكان معروفاً في علم الرياضيات واشتهر على مستوى التاريخ الإسلامية.

تعال إلى جابر بن حيان ويعد من أشهر علماء الشيعة في مجال علم الكيمياء، بل من أشهر علماء المسلمين، وهو أول من أشار إلى طبقات العين قبل يوحنا بن ماسويه المتوفى عام 243 هـ ، له عدة نظريات في مجال الكيمياء معروفة ومذكورة.

تعال إلى نصير الدين الطوسي، برع في عدة علوم: رياضيات، فلك، حكمة، كلام، فلسفة، كان مشهور بعدة علوم، نصير الدين الطوسي الذي أقام مرصداً في بغداد فكان معهداً للأبحاث لا مثيل له، وزوده بالآلات الفلكية الفريدة، وجلب إليه أكثر من أربعمائة ألف مجلد في ذلك المرصد.

ثم تعال إلى الدولة البويهية، ما عاشت بغداد زمناً كما عاشته في زمن الدولة البويهية، أمراء الدولة البويهية شجعوا على العلم والمعرفة، استقطبوا الشعراء والعلماء، واستقطبوا المهرة في كل حقل وفن، فازدهرت الحضارة الإسلامية في عصر الدولة البويهية، وهي دولة شيعية، ازدهرت الحضارة الإسلامية بعلماء الفلك والرياضيات والحكمة والكيمياء، وجلهم وطليعتهم من علماء الإمامية، ناهيك عن علمائنا في الوقت الحاضر وما قبل هذا القرن.

إذن الحزن لم يكن عائقاً أمام الإبداع، كل هؤلاء اشتركوا في المآتم الحسينية، واشتركوا في الحزن على الحسين، واشتركوا في الجزع والأسى على الحسين، لكنهم مع ذلك أبدعوا وأنتجوا وقدموا العطاء الأفضل، كل ينصرف إلى اختصاصه، الجميع يحزن ويأسى لكن هذا ينصرف إلى خدمة المآتم الحسينية، وهذا ينصرف إلى المجال الخيري، وهذا ينصرف إلى المجال الحوزوي، وهذا ينصرف إلى المجال الأكاديمي، كلهم يشتركون في مأتم الحسين ويتوزعون في اختصاصاتهم وحقولهم بما يشكل النتاج الأفضل.

المحور الثالث: عوامل اتسام المذهب الإمامي بسِمَةِ الحزن.

هناك عاملان أسهما في اتسام المذهب الإمامي بسمة الحزن: عامل داخلي، وعامل خارجي.

العامل الأول: العامل الخارجي

أكثر المذاهب الذي تعرض للحرب والاضطهاد والحرمان مذهب أهل البيت بشهادة كل المؤرخين، ما تعرضت ذرية للقتل والاضطهاد كما تعرضت ذرية رسول الله ، فكأن الأمة الإسلامية جازت نبيها بأن أبادت عترته وذريته من بعده، حتى ورد عن الأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين: ”ما منا إلا مقتول أو مسموم“.

حورب أهل البيت حرباً ضروس من قبل السلطتين الأموية والعباسية، وأصبح أهل البيت بين مشرد وقتيل وذبيح وأسير، في مختلف البقاع والأرجاء، إذن ليس مذهب أهل البيت هو الذي فرض الحزن، وإنما الذي فرض الحزن هم أعداء أهل البيت، لأنهم اضطهدوا أئمة أهل البيت، اتسام مذهب أهل البيت بالحزن جاء بوسيلة عامل خارجي وهو تعرض هذا المذهب للاضطهاد والحرمان والمواجهة والحرب الضروس، لا أن المذهب من قوامه وأركانه سمة الحزن والأسى، وإنما جاءت من عوامل خارجية فرضت على أبناء هذا المذهب أن تكون سمتهم سمة الحزن والأسى.

العامل الثاني: العامل الداخلي

أن الأئمة صلوات الله عليهم بعد شهادة الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه أعدوا شيعتهم إعداداً عاطفياً مدروساً، وهنا قام الأئمة في مجال هذا الإعداد بطرق ثلاثة:

  • الطريق الأول:

الروايات الكثيرة الحاشدة التي حثت على البكاء والجزع والأسى، وجعلته عبادة وقربة إلى الله تبارك وتعالى، جاءت الروايات عن الأئمة، ورد عن الإمام الصادق : يا فضيل أتجلسون وتتحدثون. قلت: بلى سيدي. قال: إني أحب تلك المجالس فأحيوا فيها أمرنا، من جلس مجلساً يحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب.

وورد عن الإمام الصادق : من ذكر مصابنا وبكى لما ارتكب منا كان معنا في درجتنا يوم القيامة.

ومن ذكرنا عنده فسال من عينه مقدار جناح بعوضة أو ذبابة غفر الله ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر.

هذه الروايات التي حثت على البكاء على الإمام الصادق : كل البكاء والجزع مكروه ما خلى البكاء والجزع على الحسين . وفي رواية: فإنه فيه مأجور.

روايات كثيرة تعتبر الدمعة عبادة وثواب، تعتبر البكاء والأسى والصرخة عبادة، يقول الإمام الصادق : رحم الله تلك الصرخة التي كانت من أجلنا، رحم الله تلك الخدود التي تعفرت على حفرة أبي عبد الله، رحم الله تلك القلوب التي احترقت من أجلنا.

  • الطريق الثاني:

المزج بين العِبْرَة والعَبْرَة، بين القلب والعقل، الأئمة الطاهرون عندما حثوا على البكاء والدموع والأسى والجزع أرادوا منا أيضاً أن نعيش تفاعلاً مع مبادئ الحسين، ومع قيم سيد الشهداء صلوات الله وسلامه عليه، لا أن نعيش البكاء والجزع وإن كانت عبادة من دون أن نتأثر بمبادئ الحسين وقيم الحسين ، قيمة العزة التي ثار من أجلها الحسين، وقال: ألا وإن الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون. قيمة الكرامة التي ضحى من أجلها الحسين وقال: والله لا أعطيكم إعطاء الذليل ولا أقر إقرار العبيد.

قيمة رفض الظلم والطغيان التي ثار من أجلها الحسين وقال: ألا وإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً.

هذه المبادئ لابد أن نعيشها مع بكائنا، مع دموعنا لنتفاعل مع قضية كربلاء، فكربلاء عِبْرَة وعَبْرَة، جزع ومبادئ وقيم.

  • الطريق الثالث:

الأئمة عندما حثونا على البكاء مزجوا بين الألم والأمل، فاجعة الحسين فاجعة كبرى، مصيبة الحسين مصيبة عظمى والأمل هو ظهور المهدي المنتظر عجل الله فرجه الشريف، ربط الأئمة شيعتهم بظهور المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، علَّم الأئمة شيعتهم أن القائد المخلص الحقيقي الذي سيختم مآسي العالم وآلامها هو المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف لذلك جاءت الروايات التي تؤكد أن خلاص المسلمين بل المجتمع البشري بظهوره عجل الله فرجه، فحُزْن الشيعة ليس حزن استسلام وليس حزن خيبة، وليس حزن انكسار، بل حزن الشيعة حزن أمل، حزن يقظة، حزن نهوض، حزن استعداد واستقبال، ليوم المهدي وظهور المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، فقد ورد في الرواية الشريفة أنه إذا خرج المهدي المنتظر رفع الراية مرفرفة وقد كُتب عليها: يا لثارات الحسين.

[1]  مجلة الهوية الشخصية وعلم النفس الاجتماعي، المجلد 34، العدد 22، ديسمبر 2008
[2]  هو هرمون ستيرويدي ينتج بشكل أساسي في الغدد الكظرية، ويلعب دورًا في إنتاج الهرمونات الجنسية مثل التستوستيرون والأستروجين. يتم قياس مستوى هذا الهرمون في الدم عن طريق اختبار DHEAS.

قداسة قبر الإمام الحسين (ع) فوق الشبهات