نص الشريط
الحوار المفتوح لمحاضرات شهر محرم 1435هـ
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 14/1/1435 هـ
تعريف: حسينية السنان
مرات العرض: 3193
المدة: 01:38:38
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (834)
تشغيل:


مناقشة مواضيع سماحة السيد - محرم الحرامالدكتور حسين جليح: في رحم الولاء ترتيلة شجية كان صداها مدويًا يصك آذان الدهور، ويخترق كل الحجب، حتى وصل في أعماق أرواحنا، المضمخة بعبق الشهادة القدسية، فحفظناها وكتبناها بصحف النور الولائية، ورددناها ما حيينها، فهي وردنا، وأي ورد! ورد شخّص لنا من مصحف كرامة كربلاء، وتلوناه سورة عاشورائية حسينية أصيلة، فإن كربلاء المولى الحسين ستظل جامعةً لكل الدروس في مدرسة الحب الإلهي الأسمى، وستظل ملهمةً لكل النفوس نحو القيم الإسلامية الممتد نورها من قطب الوجود، والعقل الأول، وواسطة الفيض النبي الأعظم ، إلى خاتمة الحجج، وقائد السفينة المتغلبة على كل الأمواج العاتية واللجج، صاحب العصر وولي الأمر «عجل الله تعالى فرجه الشريف».

وانطلاقًا من هذا العنوان الكربلائي نهضةً، والمسحة الحسينية قيامًا وتألقًا حسينيًا، فإننا مع إطلالة كل عام نسعى إلى أن نحلق بجناحين في سماء التميز والإبداع الروحي والبناء المعرفي: الجناح الأول جناح العبرات المنسكبات الهاملات على الخدود والوجنات، بباعث الشجن على مصاب المولى والجزع عليه، والجناح الثاني جناح الانصهار في أشعة أنوار معارف مدرسة الإمامة الواجبة على كل مكلف، في عالم الواقع والتنجيز، وانطلاقًا من هذا الهدف ومجاهدةً منا لاهتداء سبل المعارف الولائية والفكرية والاجتماعية من مصادرها المحشدة لذلك، وجسورها المنصبة بلوغ هذا الهدف، وإصابة ذلك الصلاح المتولد من طلب الحسين الإصلاح في أمة جده .

ومنها - أي: هذه الجسور والآلات - في زماننا المنابر الحسينية، وفي طليعتها منبر سماحة العلامة الحجة سماحة السيد منير الخباز «دامت فوائده»، الذي كان ولازال متسمًا بجدة الطرح وجديته، وجمال الأسلوب وسلاسة العبارة ووضوحها، وعذوبة البيان، وعمق المعلومة، وحضورها المكثف في هيكلية الخطاب، وعلى نسق ما سبق في الأعوام الخالية ها نحن نخصص في هذه الليلة حوارًا مع سماحة السيد، على هامش نتاجه المنبري، وعطائه الفكري، لهذا العام، وقد قسّم هذا الحوار إلى جزئين:

الجزء الأول: طرح ما تم تلقيه من الأسئلة كتابةً وتحريرًا من قبل المتابعين والمواكبين لبحوث سماحة السيد على طيلة محاضرات هذا العام، وسيتم توجيهها إلى سماحة السيد.

والجزء الثاني: سيكون منصبًا على طرح الأسئلة الشفهية المباشرة إلى سماحة السيد.

وقبل البدء بالحوار لابد من الإشارة إلى ملاحظتين والتأكيد عليهما:

الملاحظة الأولى: ضرورة الاقتصار على الأسئلة التي لها صلة وعلاقة ورابطة بعناوين محاضرات سماحة السيد وبحوثه لهذه السنة، وما ورد فيها من أفكار ومحاور ونقاط وإثارات معرفية.

والملاحظة الثانية: التنبيه على عدم الانجرار إلى أي سؤال أو أي استفسار فيه نوع شخصنة، باعتبار أن الشخصنة قد تضر بمسار الحوار أكثر مما تعطيه زخمًا من الفائدة والجدوائية.

وعلى بركة الله نبدأ:

السؤال الأول: سيدنا، ورد حول بعض المحاضرات أنه قد طرحتم وذكرتم أنه من المعالم التي تميزت بها المدرسة الإمامية والفكر الإمامي اتصافه بمعالم عقلانية، وقد ذكرتم من هذه المعالم معلم قبلية المعرفة، والمعلم الثاني أصالة العدل، وأنه يمثل أصلاً من أصول الدين عند الشيعة الإمامية، ولكن عند الرجوع إلى المدارس الأخرى والثقافات الأخرى نرى بأن المعالم التي قد تم طرحها في محاضرتكم - قبلية المعرفة وأصالة العدل - لا تختص بها الإمامية، وإنما هنالك مدارس فكرية ومذاهب فكرية قد قالت بها وجنحت إليها، فكيف نوفق بين ما طرحتم في المحاضرة، وبين ما طالعناه وقرأناه؟

مناقشة مواضيع سماحة السيد - محرم الحرام

سماحة السيد: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين، السلام عليكم أيها الإخوة الحضور الأعزاء ورحمة الله وبركاته.

بالنسبة إلى هذا السؤال: كنا في معرض المقارنة بين الفكر الإمامي والمذاهب الإسلامية، ولم نكن في معرض المقارنة بين الفكر الإسلامي والمدارس الفكرية في العالم، في معرض المقارنة بين الفكر الإمامي والمذاهب الإسلامية الأخرى بلا إشكال تميز الفكر الإمامي على المذاهب الإسلامية الأخرى بأن فيه معلمًا، وهو معلم العقلانية، ومعلم العقلانية له ملامح، منها: القبلية في المعرفة، وأصالة العدل، وقرينية العقل في الاستظهار من النص.

هذه الملامح - وإن وُجِدَ بعضُها لدى مدارس فكرية أخرى - لكن هذا المجموع من الملامح ليس موجودًا لدى المذاهب الإسلامية الأخرى، وإنما هو موجودٌ عن الفكر الإمامي، فعند المقارنة بين الفكر الإمامي والمذاهب الإسلامية يكون الفكر الإمامي متميزًا على المدارس الإسلامية بهذا المعلم بما له من ملامح، أي: بمجموع هذه الملامح التي ذكرناها.

حسين جليح: السؤال الثاني: هل القول بأصالة العدل هو قول إجماعي؟ هل أجمعت عليه الفرقة الإمامية وأعلام الفرقة الإمامية؟

سماحة السيد: المعروف بين الإمامية والمشهور بينهم أن العدل هو الأصل الثاني من أصول الدين، ولم أطلع إلى الآن على أحد علماء الإمامية فيما وجدتُ من كتبهم على من خالف، لم أجد كتابًا لعالم من علماء الإمامية لا يرى فيه أن العدل أصلٌ من الأصول.

حسين جليح: إذا كان معنى أصالة العدل توقف غيره من الأصول عليه، فإن الحكمة والقدرة هما كذلك أيضًا، فلماذا اعتبرنا العدل أصلاً من أصول الدين هناك، ولم نعتبر الحكمة والقدرة أيضًا أنهما من أصول الدين، مع أن بعض الأصول وبعض المعتقدات تبتني على مبدأ الحكمة ومبدأ القدرة الإلهية وتتكئ عليها، فما سر هذا التفريق؟

سماحة السيد: عند قراءتي لهذا البحث - بحث العدل - لدى الإمامية في كتب المتكلمين الأوائل، منها التجريد وشروح التجريد، وجدتُ أن المتلخص من كلماتهم أنهم عندما يقولون بأن العدل أصلٌ من الأصول لا يقصدون موضوعيةً للعدل بعنوانه، بل يقصدون مرجعية الحسن والقبح العقليين، فإن هناك أصلاً أو قانونًا أو قاعدة مؤسسة، وهي الحسن والقبح العقليان، وقد أشرتُ إلى هذا هنا في حسينية السنان، عندما يقولون: العدل أصلٌ من أصول الدين فليس المقصود العدل بما هو مقابل الظلم، وإنما يقصدون حكم العقل بالحسن والقبح أصلٌ من الأصول، لماذا؟

لأننا لو لم نقل بذلك لا نستطيع إثبات النبوة، النبوة قائمةٌ على أن إعطاء المعجزة بيد الشخص الكاذب قبيحٌ، لأن إعطاء المعجزة بيد الكاذب إغراءٌ بالجهل، والإغراء بالجهل قبيحٌ، فصار إثبات النبوة متوقفًا على أن نقول بأن العقل يحكم بالحسن والقبح.

كذلك الإمامة، أثبتوا الإمامة من خلال قاعدة اللطف، قالوا: اللطف واجب على الله «عز وجل»، ومن اللطف: نصب الإمامة، إذن فالإمامة واجبة، فرجعنا إلى حكم العقل، لو لم نقل بأن العقل يحكم بالوجوب واللزوم لما قلنا بالإمامة.

كذلك المعاد، قالوا بأن الدليل على أن المعاد أصلٌ من أصول الدين أنه لو لم يكن هناك معادٌ للزم لغوية التشريعات والقوانين، واللغو قبيحٌ، إذن لابد من وجود المعاد.

فنحن نلاحظ أن علماءنا استدلوا على أصالة النبوة بحكم العقل بالقبح، استدلوا على أصالة الإمامة بحكم العقل بالقبح، استدلوا على أصالة المعاد بحكم العقل بالقبح، هذا يعني أن هناك أصلاً قبل هذه الأصول نسميه: حكم العقل بالحسن والقبح، حكم العقل بالحسن والقبح أصلٌ لا محيص عنه، لأجل هذا الأصل أثبتنا النبوة، وأثبتنا الإمامة، وأثبتنا المعاد، فمقصودهم بأصالة العدل ليس خصوص العدل مقابل الظلم، وإنما مقصودهم بذلك جميع أحكام العقل بالحسن والقبح، بالنتيجة: مرجعية العقل في الحكم بالحسن والقبح أصلٌ من أصول الدين، لأن الأصول الأخرى تبتني عليه، وكل ما تبتني عليه الأصول لابد أن يكون أصلاً، من غير المعقول أن تبتني عليه الأصول ولا يكون أصلاً من الأصول.

وأما من ناحية القدرة: القدرة مستبطنة في الدين نفسه، لا في أصول الدين، فهناك الدين وهناك أصول الدين، الدين هو عبارة عن الاعتقاد بأن الخالق لهذا الكون كله وبجميع أجزائه وتفاصيله هو الله «عز وجل»، هذا هو الدين، والاعتقاد بأن الله هو الخالق متقومٌ بالاعتقاد بالقدرة والعلم، فلو لم نعتقد بأن الله حيٌ قادرٌ عالمٌ لما اعتقدنا بأنه خالقٌ، فالاعتقاد بخالقية الله متقومٌ بالاعتقاد بحياته وقدرته وعلمه، فلا معنى لاعتبار القدرة والعلم والحياة من الأصول، هي مقومة لأصل الدين نفسه، الدين نفسه هو عبارة عن الاعتقاد بأن الله خالق، ومعنى أن الله خالق أنه حي قادر عالم، هذا هو الدين، بعد أن فرغنا من الدين حرّرنا أصولاً خمسة: بعد الاعتراف بأن قادرٌ حيٌ عالمٌ لابد أن نعتقد أنه واحدٌ في ذاته وفي صفاته، هذا هو الأصل الأول، والأصل الثاني: بما أن العقل يحكم بالحسن والقبح، إذن مقتضى حكم العقل بالحسن والقبح أن الله كاملٌ ولا يصدر منه النقص، ثم الأصل الثالث: النبوة، ثم الإمامة، ثم المعاد، فالقدرة والعلم والحياة داخلةٌ في قوام الدين نفسه لا في أصول الدين، وإنما قلنا بأن العدل أصلٌ لأن الأصول التي بعده - وهي النبوة والإمامة والمعاد - تبتني على مرجعية العقل في الحكم بالحسن والقبح.

حسين جليح: هناك نقطة تحتاج إلى توضيح منكم، وهي: الآن تفضلتم وذكرتم في معرض التعليل لكون العدل أصلاً من أصول الدين أن الباعث في ذلك هو أن العدل يشكّل ركنًا وعمادًا وأساسًا تعتمد وتبتني عليه سائر الأصول الأخرى، ومثّلتم بالمعاد وبالنبوة وبالإمامة، والحال أنه - أي العدل - لا يعدّ عمادًا لكل الأصول، نعم دخالته مسلمة في المعاد وفي النبوة وفي الإمامة، ولكنه قد يشكل بتسليمها في التوحيد، فما دخل العدل مثلاً في عينية التوحيد ولزوم التوحيد على العباد؟

سماحة السيد: نحن لا ندعي أن العدل أصلٌ لما قبله، ندّعي أن العدل أصلٌ لما بعده، وإن كان العدل دخيلاً في كمال التوحيد، لكنه ليس دخيلاً في أصل الاعتقاد بالتوحيد، العدل أصلٌ من الأصول، لأنه تبتني عليه أصولٌ ثلاثة، هذا كافٍ في جعله أصلاً من الأصول، وإن لم يكن ركنًا لسائر أصول الدين كما هو بالنسبة إلى التوحيد، حيث إنه ركنٌ لسائر الأصول.

حسين جليح: سيدنا، كيف نوفق بين تعريفكم للخرافة في إحدى محاضراتكم بأنها تعني عدم وجود مسانخة وموافقة بين العلة والمعلول، وبين ما ورد في قصة نبي الله سليمان «عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة وأزكى السلام» من محادثةٍ بينه وبين الجني في قوله تعالى: ﴿قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ [النمل : 39]، مع أنهما - أي النبي والجني - متغايران مادةً وصورة؟ هنا لا توجد مسانخة، فهل يلزم من ذلك كون هذه الآية تمثل - لا سمح الله - خرافةً مثلاً؟!

سماحة السيد: بالنسبة إلى المثال الذي أنا مثّلتُ به، وهو أن يحدث أثرٌ في الجسم المادي للإنسان ويُنْسَب هذا الأثر إلى الجن، فيقال بأن سبب هذا الأثر هو الجن، هذا المثال ذكرتُ فيه أن لا سنخية بين الجن وبين الإنس، أما وجود محادثة واتصال فهذا لا إشكال فيه، يمكن اتصال الإنس بالجن، ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن : 6]، اتصال الإنسان بالجن أمرٌ ممكنٌ، وهناك علومٌ موجودةٌ إذا تابعها الإنسان يصل إلى الجن إن شاء الله! اتصال الإنسان بالجن أمرٌ ممكنٌ، وإذا اتصل يزداد رهقًا، يزداد تعبًا، نتيجة هذا الاتصال، لا توجد عندنا مشكلة في الاتصال، لكن نحن عندنا أن يتولد أثرٌ من الجن والإنس، افترض مثلاً أن إنسانًا يأتي ويدعي أن الجن تزوج إنسية وأنجب، أو الإنسان تزوج جنية وأنجب، هذا التزواج بين الجن والإنس بحيث ينجب ولدًا ندخله في قسم ما لا سنخية له بين العلة والمعلول، وأما وجود اتصال بين الإنس والجن أو أن الجن يرفع عرش بلقيس ﴿قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ [النمل : 39] فهذا أمرٌ ممكنٌ لا إشكال فيه.

حسين جليح: أوردتم في إحدى محاضراتكم عدم تمامية مقولة أن الإنسان سعيدٌ لأنه مولودٌ في زمان معين، أو أن هذا الإنسان مثلاً شقيٌ لأنه وُلِدَ في مكانٍ معينٍ، أليس هذا يتعارض ويتخالف مع الموروث الروائي المصرِّح بأن الزمان والمكان له دخالة في سعادة الإنسان أو شقائه؟

سماحة السيد: أنا عندي محاضرة كاملة حول السعادة والشقاء، هناك فرقٌ بين السعادة الاقتضائية والسعادة الفعلية، السعادة الفعلية تستند إلى اختيار الإنسان وإرادته، بينما السعادة الاقتضائية يمكن أن تستند إلى أسباب غير اختيارية، فهناك سعادة فعلية وهناك سعادة اقتضائية، السعادة الاقتضائية - بمعنى الاستعداد للسعادة - يمكن أن يستند إلى عامل الوراثة، يمكن أن يستند إلى عامل البيئة، يمكن أن يستند إلى دخل زمن معين، وُلِدَ في ليلة القدر، أو في ليلة النصف من شعبان، أو في مكان معين، كأن يولد مثلاً في المدينة أو مكة أو كربلاء، هذا ممكن، لكن هذا دخيلٌ في الاستعداد، يعني في السعادة الاقتضائية، وأما السعادة الفعلية فليس منوطةٌ بزمن أو بمكان، أو بعامل وراثي، أو ما أشبه ذلك.

حسين جليح: في إحدى المحاور تطرقتم إلى بيان المدارس والنظرات المختلفة حول الإدراك، وهل أنه مجرد أم لا، وقد اقتصرتم على مدرستين فكريتين في علم النفس، وهما المدرسة السلوكية والمدرسة الاستبطانية، مع أنه عند مطالعتنا لكتب النفس، قد يقال بأنه قد طرأت نظريات أخرى ومرئيات أخرى في نفس الموضوع، فما تقولون؟

سماحة السيد: هذه الملاحظة ملاحظة صحيحة، أنا أعترف بهذه الملاحظة، هناك مدارس أخرى في علم النفس لم أطرحها، مع أنني كنتُ على اطلاع بها، لم أطرح هذه المدارس ولم أشر إليها، كالمدرسة الإدراكية والمدرسة الواقعية في علم النفس، وإنما اقتصرتُ على المدرسة السلوكية والمدرسة الاستبطانية، هذه ملاحظة صحيحة وواردة، لكن نحن كان كلامنا في نقطة محددة، وهو أن الإدراك مجرد أم مادي.

حسين جليح: لماذا ذكرتم أن المدارس شكلية مع تقدمها في سائر العلوم؟

سماحة السيد: أنا ذكرتُ أن مدارس علم النفس في هذه النقطة - وهي: هل الإدراك مجرد أم مادي - ما قدّمت شيئًا، وإنما قدّمت كلامًا سطحيًا، ومازلتُ أصر عليه، في هذه النقطة بالذات لا في الأمور الأخرى، لاشك أن مدارس علم النفس توسعت الآن وذكرت بحوثًا كثيرة عن دخالة الإدراك في سلوك الإنسان، وفي شخصية الإنسان، لا أتكلم عن هذا، وإنما أتكلم عن نقطة محددة: هل الإدراك أمر مجرد أم أمر مادي؟ في هذه النقطة المحددة المعينة لم تأتِ مدارس علم النفس - حتى المدارس الجديدة منها - بأمر جوهري، كلها بحوثٌ سطحية، في هذه النقطة أتكلم، ولا أتكلم عن كل البحوث، إذ بلا إشكال مدارس علم النفس أثرت المجالات والمعارف في البحوث الأخرى، لكن هل الإدراك مجرد أم مادي؟ في هذه النقطة المحددة ما ذكرت إلا كلامًا سطحيًا.

وما قلتُه أنا قاله سماحة السيد الصدر، راجعوا كتاب «فلسفتنا، ص347»، يذكر هذا المعنى أيضًا بعد طوافه على مدارس علم النفس، في هذه النقطة المحددة: هل أن الإدراك مجرد أم مادي؟ لم يتحدث علماء النفس بشيء جوهري، هذا السؤال أتاني في شهر محرم، وطالعت في أيام محرم، سألتُ بعض المختصين، أحضروا لنا مصادر إنجليزية، ترجموها لنا، فما وجدنا إلى الآن حديثًا لمدرسة من مدارس علم النفس تتحدث عن أن الإدراك مجرد كما طرحه علماء الإمامية في كتب الفلسفة.

الآن نحن لم نصل إلى شيء، فلنفترض جدلاً أن هناك بعض المدارس من علم النفس صرّحت بأن الإدراك أمرٌ مجرّدٌ، واستدلت عليه بنفس الأدلة التي ذكرها علماء الإمامية في الفلسفة، من الاستدلال بتعلق الإدراك بما ليس ماديًا، والاستدراك بعنصر الثبات، لنفترض أن هذا موجود، هذا منذ متى موجود؟! لاحظ مدارس علم النفس، منذ كم سنة ظهرت؟! بينما هو مذكورٌ في كتب علم الفلسفة للإمامية من قبل ثلاث مئة سنة، فحينئذٍ لأيهما ينسب الإبداع؟! هذه الفكرة ألا يصح أن نقول أنها من إبداعات الفكر الإمامي؟! لأنها وإن كانت موجودة في علم النفس الآن، لكن جديدة عندهم، بينما ذكرها الفكر الإمامي قبل ثلاث مئة سنة، راجعوا القبسات للداماد، راجعوا الأسفار لصدر المتألهين.

إذن بالنتيجة: حتى لو كانت هذه الفكرة مذكورة في بعض مدارس علم النفس الحديثة، فبما أن الفكر الإمامي هو السابق في طرحها، فتعد من إبداعات الفكر الإمامي، كما ذكرنا.

حسين جليح: هل هناك تغايرٌ بين ما قام به يونس بن عبد الرحمن من حركة التصحيح الروائي، ومفاد صحيحة الحذّاء التي تنهى عن رد الأحاديث الشريفة؟

سماحة السيد: يونس بن عبد الرحمن «رضي الله تعالى عليه» كان من النقّاد للحديث، وكان من المتشددين في علم الحديث، وفي قبول الحديث، وذكرنا الرواية في ليلة من ليالي المحرم: ”ما أشدك يا أبا محمد وأكثر إنكارك لما يرويه أصحابنا!“، أي أنه كان إنسانًا شديدًا في قبول الأحاديث، هذا المسلك وهذا المسار ليونس بن عبد الرحمن «رضي الله تعالى عنه» لا يتنافى مع صحيحة أبي عبيدة الحذّاء عن الصادق التي قال فيها: ”وإن أسوأ أصحابي عندي وأمقتهم من إذا سمع الحديث يُنْسَب إلينا ويروى عنا، فلم يقبله، اشمأز منه، وجحده، وكفّر من دان به، وهو لا يدري لعل الحديث من عندنا خرج وإلينا أسْنِد“، هذا الحديث - وهو صحيحة أبي عبيدة ابن الحذّاء - يتكلم عن جهة معينة، وهي: لا يجوز للإنسان أن يرفض الحديث لمجرد أنه لا يقبله عقله، لمجرد أن الحديث لا يقبله عقلي إذن الحديث مدسوس وموضوع أو خرافة! لا، هذا ما ينهى عنه صحيح أبي عبيدة الحذّاء.

وأما إذا رفض الإنسان قبول الحديث لأجل أنه لم يوافق القواعد المسلمة فهذا أمر آخر، أي أنه عرضه على الركائز التي ذكرنا أن سيدنا الخوئي «قدس سره» تعرّض إليها، وهي: ألا يخالف الكتاب، ألا يخالف العقل، ألا يخالف العقيدة المسلمة، ألا يخالف الحكم المسلم الإجماعي، ألا يخالف حقيقة علمية، هذه خمس ركائز ذكرناها، لو أن فقيهًا رفض العمل بحديث لركيزة من هذه الركائز فإن هذا رفض مستند إلى علم، وليس رفضًا مستندًا إلى ذوق أو استحسان شخصي حتى يدخل ضمن النهي الذي ورد في صحيحة أبي عبيدة الحذّاء.

حسين جليح: ما ورد عن يونس «رضي الله عنه» في كتب الحديث لا يتجاوز ثلاث مئة رواية، وذلك بالرجوع إلى كتب الرواية والحديث والتراث، فكيف تمكّن يونس من تنقيح جميع الروايات، وهي أكثر من 15 ألف رواية، مع أن عدد الكم الذي رواه لا يتجاوز ثلاث مئة رواية؟!

سماحة السيد: نحن ذكرنا أن يونس قام بعملية تصحيحية، أما أن يونس استوعب كل أحاديث الطائفة، وصحّحها، ونقدها، واستخرجها، فلم نقل به، يونس عامل من العوامل، نحن ذكرنا عوامل متعددة: عامل أن الأئمة صرحوا بأسماء الكذّابين، عامل أن الكتب عرضت على الإمام الرضا، عامل أن بعض الكتب عرضت على الإمام الهادي، عامل أن يونس بن عبد الرحمن قام بحركة تصحيحية، فما قام به يونس عاملٌ من العوامل، لا ندعي أنه استوعب كل الأحاديث الواردة، نعم بالنظر إلى مجموع العوامل فهذا المجموع إذا قرأناه بما هو مجموع سوف نستنتج أن وجود الأحاديث الموضوعة أو المدسوسة احتمالٌ ضئيلٌ، وليس احتمالاً معتدًا به.

حسين جليح: في مجال تنقيح التراث وتقويم بعض ما قد يستشكل بخصوص بعض الأخبار والروايات، نرى أن هناك كتبًا ومصنفاتٍ قد تناولت الروايات الموضوعة، في بعض العقود السابقة أو في زماننا الحاضر وفي الوقت المعاصر، نظير كتاب «الأخبار الدخلية» مثلاً، أو كتاب «معرفة الحديث» للبهبودي، أو كتاب «الموضوعات» للسيد هاشم معروف الحسني، وغيرهم، وأيضًا كتاب «مشرعة البحار» للشيخ آصف محسني، فما تعليقكم على هذه الكتب وعلى هذا المجهود؟

مناقشة مواضيع سماحة السيد - محرم الحرام

سماحة السيد: حركة تصحيح الحديث وتنقيته موجودة عند علمائنا، قام بها الشيخ المجلسي الأول في كتابه «مرآة العقول»، حيث استقصى كتاب «الكافي» للشيخ الكليني، وعلّق على أحاديث كتاب الكافي بقبول بعض وعدم العمل بالبعض الآخر، وكذلك الشيخ حسن صاحب المعالم ابن الشهيد الثاني في كتابه «منتقى الجمان في الأحاديث الصحاح والحسان» قام أيضًا بعملية، أفرز الأحاديث الصحيحة والحسنة بنظره من الأحاديث الموضوعة، وهاتان المحاولاتان محاولاتان علميتان بامتياز، لأنهما استندتا إلى فقهاء معروفين في الطائفة، وقاموا بهذه المحاولات التصحيحية والتنقية للحديث.

أما المحاولات المتأخرة فإننا لا ننكر جهود هؤلاء الباحثين، ولكن بحسب مراجعتي لهذه الكتب التي كُتِبَت في هذه السنين حول الموضوعات أو حول الأخبار الدخيلة، وجدتُ أن هذه الكتب لم تتحرَ المنهج الحوزوي الفني في تنقية الحديث، مع احترامنا لأصحابها، ولا ننكر أنهم بذلوا جهودًا مضنية، الشيخ التستري في كتابه «الأخبار الدخيلة»، الشيخ آصف محسني في كتابه «مشرعة البحار»، المرحوم سماحة السيد هاشم معروف الحسني في كتابه «الموضوعات»، الشيخ البهبودي في كتابه «معرفة الحديث»... هذه الكتب بذلوا فيها جهودًا مضنيةً، لكن لأن الكتّاب والمؤلفين لم يكونوا من رتبة الفقهاء الناضجين، لذلك لم يكن المنهج الحوزوي بدقته وفنيته واضحًا في هذه الكتب، وأنا أذكر أمثلة عابرة حتى أثبت هذه النقطة.

1 - كتاب «الأخبار الدخيلة» للشيخ محمد تقي التستري:

وهو من علماء الرجال، هذا لا ينكر، رجل له باعٌ طويلٌ في علم الرجال، وله تتبع في علم الرجال، ولكن علم الرجال شيءٌ وعلم الحديث شيءٌ آخر، قد يكون الإنسان ماهرًا في علم وليس ماهرًا في علم آخر، من حيث علم الرجال هو علمٌ ماهرٌ، صاحب باع، صاحب خبرة، ولكن تقويم الحديث من حيث دلالته ومضمونه يحتاج إلى فقيه، تقويم المضمون - هل المضمون منسجمٌ مع الكتاب والسنة والقواعد العقائدية والفقهية أم لا - وتنقيح مضمون الحديث يحتاج إلى فقيه ناضج، من هذه الجهة وردت بعض الملاحظات، وأنا أذكر لك بعضها من باب الأمثلة.

في «ص318، ج3»: ملحق الفصل الأول في الأدعية المحرّفة، ما هي الأدعية المحرفة؟ اعتبر هذه الفقرة من زيارة عاشوراء من الأدعية المحرفة: ”اللهم العن العصابة التي جاهدت الحسين وشايعت وبايعت وتابعت على قتله“، قال: هذا محرف، والأصل: ”جاحدت الحسين“، العبارة الموجودة: ”جاهدت الحسين“، هو قال: هذا محرف والصحيح ”جاحدت الحسين“ فإنه عرفوه وجحدوه، لأن الله يقول: ﴿بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [الأعراف : 51]، وأما الجهاد فهو اسمٌ لقتال أهل الحق مع أهل الباطل، قال تعالى لنبيه: ﴿جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ [التوبة : 73]، أي أن كلمة الجهاد لا تطلق إلا على قتال الباطل، لا تطلق على قتال الحق، فكيف زيارة عاشوراء قالت: لعن الله العصابة التي جاهدت الحسين؟!

هذا الكلام فلنعرضه على القرآن الكريم، هل هذا الكلام يتوافق مع القرآن أم لا؟ يقول القرآن: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [لقمان : 15]، قال جاهداك، ولم يقل: جاحداك! القرآن الكريم نفسه - وهو مصدر اللغة العربية - استخدم كلمة ”جاهد“ في طلب الباطل، كل الطبعات والنسخ لزيارة عاشوراء عبّرت بجاهدت، لا توجد فيها كلمة جاحدت، آتي وأقول: هذا محرف، لأن كلمة ”جاهد“ لا تطلق على قتال الحق، وإنما على قتال الباطل! القرآن يقول: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [لقمان : 15]، القرآن أطلق على ذلك.

شاهد آخر: يقول في «ص319»: ”ومن الأدعية المحرفة ما في المفاتيح عن البلد الأمين للكفعمي: إلهي كيف أدعوك وأنا أنا، وكيف أقطع رجائي منك وأنت أنت، إلهي إذا لم أسألك فتعطيني فمن ذا الذي أسأله فيعطيني، إلهي إذا لم أدعك فتستجيب لي فمن ذا الذي أدعوه فيستجيب لي“، لماذا تقول محرفة؟! لماذا التسرع؟! قل: ومن الأدعية التي فيها تأمل، فيها نظر.. لا يوجد داعٍ لهذه السرعة، ورحم الله الشيخ منصور البيات «قدس سره»، كان دائمًا يقرأ هذا الدعاء، لماذا اعتبره محرفًا؟ يقول: فقوله: لم أسألك، لم أدعك، لم أتضرع إليك، محرّفٌ، والأصل: لا أسألك، الأصل: إلهي إذا لا أسألك، لأن ”لم“ يجعل معنى المضارع ماضيًا، فيصير الكلام بلا معنى!

أنا أتصوّر أن الشيخ لأنه أعجمي قال هذا الكلام، وإلا واضح في كتب النحو كلها أن ”لم“ تجعل المضارع ماضيًا، لكن إذا جاءت بعد الشرط فإنها تحوّل المعنى إلى المستقبل لا إلى الماضي، وهذا أمرٌ واضحٌ في اللغة العربية، مثلاً: القرآن الكريم يقول: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا [المائدة : 6] يعني في الماضي أم في المستقبل؟! قال: ”لم“ وأدخلها على المضارع ”تجدوا“ و”لم“ إذا دخلت على المضارع يصبح ماضيًا فيفسد معنى الآية! ”لم“ صحيح إذا دخلت على المضارع تحوله إلى الماضي، لكن إذا جاءت بعد جملة شرطية يصبح معناها النظر إلى المستقبل، كأن يقول الإنسان لولده: أنا سأذهب إلى المسجد فإن لم أجدك هناك فسأعاقبك، هل هذا ناظر للماضي أم للمستقبل؟! للمستقبل، لأن الجملة شرطية.

وقد نقل المرحوم سماحة السيد هاشم معروف الحسني في كتابه «الموضوعات في الآثار والأخبار» أن الشيخ التستري استند إلى هذه الرواية: معتبرة إبراهيم بن أبي محمود قال للرضا : يا بن رسول الله، إن عندنا أخبارًا في فضائل أمير المؤمنين وفضائلكم أهل البيت، وهي من رواية مخالفيكم، ولا نعرف مثلها عندكم، أفندين بها؟ فقال الإمام الرضا: ”يا بن أبي محمود، إن مخالفينا وضعوا أخبارًا في فضائلنا وجعلوها على ثلاثة أقسام: أحدها الغلو، وثانيها: التقصير في أمرنا، وثالثها: التصريح بمثالب أعدائنا، فإذا سمع السامع الغلوَ فينا كفّروا شيعتنا، ونسبوهم إلى القول بربوبيتنا، وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا، وإذا سمعوا مثالب أعدائنا بأسمائهم ثلبونا بأسمائنا، وقد قال الله سبحانه: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام : 108]، يا بن أبي محمود، احفظ ما حدثتك به، فقد جمعتُ لك فيه خير الدنيا والآخرة“، وعقّب الشيخ التستري في كتابه «الأخبار الدخيلة» على هذه الرواية بقوله: وأظن أن الرواية كذا وأظن أن الرواية كذا... الشيخ التستري أخذ هذه الرواية قاعدة، أي أن كل رواية تتضمن نوعًا من الغلو إذن هي موضوعة، وكل رواية تتضمن نوعًا من التقصير في الأئمة إذن هي موضوعة، وكل رواية تتضمن مثلبة أو طعنًا في أعداء أهل البيت إذن هي موضوعة، اعتمادًا على هذه الرواية المعتبرة.

وهذا ليس صحيحًا، لِمَ؟

أولاً: هذه الرواية تتكلم عما وضعه المخالفون، فإذا وجدنا رواية سندها كلها إمامي يتصل بالإمام المعصوم - وهو سند صحيح - تتضمن مثلبة من مثالب أهل البيت، هل نعتبرها رواية موضوعة لأن هذه الرواية قالت: ”إن مخالفينا وضعوا“؟! مخالفوكم وضعوا لكن هذه الرواية ليس من رواية مخالفيكم، بل إنها من رواية الشيعة الإمامية.

ثانيًا: هذه لا مفهوم لها، مثلاً: أنت تقول: إن الفسّاق موجودون في السوق، هل هذا يعني أن كل من في السوق فساق؟! لا يستفاد منها، وجود الفساق في السوق لا يعني أن كل من في السوق فاسق، كذلك هذه الرواية تقول: الروايات التي تتضمن مثالب أعدائنا أو الغلو فينا أو التقصير فينا فيها موضوعات، لا أن كل ما يتضمن مثلبة من مثالب أعدائنا فهو موضوع، تريد أن تقول: الروايات الموضوعة هي في هذه الأقسام الثلاثة: قسم في الغلو، وقسم في التقصير، وقسم في المثالب، فإذا أردتَ أن تبحث عن الروايات الموضوعة فإنها في هذه الأقسام الثلاثة، لا أن كل ما ورد في هذه الأقسام الثلاثة فهو موضوع، هذا لا يستفاد من هذه الرواية الشريفة.

سائل: إن كان السند كاملاً إماميًا ولكن به أحد رجال العامة، فهل ينطبق هذا الكلام أيضًا على هذه الرواية؟

سماحة السيد: نعم، إذا كان السند يتضمن راويًا من رواة العامة ولم يكن من الثقات عندنا، فيمكن أن يقال بأن هذه الرواية تشمله.

حسين جليح: الآن نفتح الباب ونفسح المجال ونتيح الفرصة للإخوة الكرام لطرح أسئلتهم واستفسارتهم مباشرةً إلى سماحة السيد، ومن أراد طرح السؤال فليتفضل برفع يده، مع ضرورة أن يعرّف بنفسه، ثم يتفضل بطرح السؤال، مع مراعاة الضوابط والشروط التي أوضحناها سلفًا، من ضرورة اقتصار الأسئلة على محاضرات سماحة السيد وما ورد فيها، وثانيًا: ألا يكون فيها نوع شخصنة، فمن أراد السؤال فليتفضل.

سائل: سيدنا، بعد البحث الموضوعي في التراث الإمامي، وجهود علمائنا المتظافر، الآن ما هو تكليف المكلف لو أراد أن يطلع مثلاً على تفسير القمي أو العياشي أو التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري «سلام الله عليه»؟ هل يأخذ الكتاب إلى الفقيه ويقول له: حدّد الصحيح من الضعيف حتى نعرف كيف نتعامل معه؟ وما هو موقفنا لو كان الكتاب مختلفًا فيه؟ مثلاً: تفسير الإمام العسكري «سلام الله عليه»، علماؤنا المتقدمين - كالشيخ الصدوق - يرون بأن صاحبي الكتاب شيعة إمامية، بينما سماحة السيد الخوئي يقول - اعتمادًا على ابن الغضائري - أن هذا الكلام ليس صحيحًا، فمن الذي يقدّم رأيه؟ وما هو موقفنا من الكتاب؟

سماحة السيد: هناك فرق بين مطلبين:

المطلب الأول: أننا نراجع تفسير القمي أو تفسير العسكري لأجل أن نقتنص مفهومًا من المفاهيم في التفسير، هذا أمرٌ لا مانع منه، لأننا بالنتيجة لن نحدد حكمًا شرعيًا، نحن نريد أن نقتنص مفهومًا من المفاهيم، ما هو المقصود بهذا العنوان؟ مثلاً ورد في القرآن عنوان الشهادة، ورد في القرآن عنوان الكلالة، ما هو المقصود بهذا العنوان؟ رجعت إلى كتب التفسير لمعرفة العنوان، لا إشكال في ذلك.

أما إذا أردت أن أحدد شيئًا أنسبه إلى الشرع، أقول: هذا المفهوم هو المفهوم الإسلامي، مفهوم من المفاهيم أريد أن أنسبه إلى الإسلام، أو أريد أن أنسبه إلى الشريعة، حينئذٍ لابد أن يكون السند صحيحًا حتى يصح لي نسبته، من هنا لابد من مراجعة المتخصصين في هذا المجال، لإثبات أن هذا الحديث الموجود في هذه الكتب سنده تام أم ليس بسند تام، هذا لابد من هنا.

3 - كتاب «معرفة الحديث» للشيخ البهبودي:

هنا الشيخ البهبودي في «ص172» ردّ الأحاديث التي تضمنت أسماء الأئمة، عندنا أحاديث وردت عن النبي وعن الأئمة تعرضت لأسماء الأئمة بالتفصيل من الإمام علي إلى الإمام المهدي «عجل الله تعالى فرجه الشريف»، قال: جميع هذه الأحاديث التي صرحت بالأسماء غير مقبولة، لأن أسماء الأئمة لو كانت معروفة وثابتة عن النبي لما حصل خلافٌ، لماذا اختلفوا في إمامة جعفر الصادق: هل الإمام زيد بن علي «رضوان الله عليه» أم الإمام جعفر بعد الباقر ؟ لماذا اختلفوا بعد وفاة الصادق: هل الإمام هو الكاظم أم عبد الله الأفضح؟ لماذا اختلفوا بعد الكاظم: هل هو الإمام الرضا أم أن الإمام الكاظم لازال موجودًا؟ الاختلاف في الإمامة بعد عدة أئمة دليلٌ على أن أسماءهم لم تكن معروفة، فإذا لم تكن أسماؤهم معروفة فالأحاديث التي تضمنت ذكر أسمائهم ليست صحيحة.

وأنتم ترون بأنفسكم أن هذا الاستدلال ليس صحيحًا، لأن عندنا روايات معتبرة ذكرت الأئمة «صلوات الله وسلامه عليهم» بأسمائهم، هذه الرواية تعرضت إليها في كتابي «الحقيقة المهدوية»، وهي رواية معتبرة: الشيخ الصدوق ذكر في كتابه «من لا يحضره الفقيه» عن عبد بن جندب عن الإمام الكاظم موسى بن جعفر أنه قال: ”تقول في سجدة الشكر: اللهم إني أشهدك وأشهد ملائكتك وأنبياءك ورسلك وجميع خلقك أنك أنت الله ربي، والإسلام ديني، ومحمدًا نبيي، وعليًا والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وعلي بن موسى ومحمد بن علي وعلي بن محمد والحسن بن علي والحجة ابن الحسن ابن علي أئمتي، بهم أتولى ومن أعدائهم أتبرأ“، ذكر حتى الأئمة الذين من بعده.

حصول الخلاف بين الإمامية لا يدل على أن أسماء الأئمة ما ذكروا، لو تنزلنا فغاية ما يدل عليه هو أن هذا لم يكن أمرًا مشهورًا، ما كانت أسماء الأئمة مشهورة، ولذلك حدث خلاف، لا أنها لم تكن مذكورة أصلاً، ذكرت في الأحاديث، ربما هذه الأحاديث لم تكن مشهورة آنذاك، هذا ربما صحيح، لكن هذا لا يعني أن الأحاديث التي تضمنت ذكر أسماء الأئمة هي أحاديث غير صحيحة.

3 - كتاب «مشرعة بحار الأنوار» للشيخ آصف محسني:

في «ج1، ص449»: ”وفي رواية معتبرة: ويكلّم الناس بكل لسان ولغة“، ثم يقول: ”المدّعى محتاجٌ إلى روايات معتبرة، ولم يردنا ما يدل على تكلم النبي بغير العربية، وهو أفضل من الأئمة“، إذا النبي لم يتكلم بغير العربية فمعنى ذلك أن الأئمة لا يتقنون غير العربية، لأن النبي أفضل منهم.

إذا لم ينقل لنا التاريخ أن النبي خطب بالإنجليزي، أو أن النبي عقد بالفارسي مثلاً، هل عدم نقل التاريخ يعني أن النبي لم يكن قادرًا على الكلام بكل لسان ولغة؟! هل هناك ملازمة أبدًا، ثم إنك تعترف بأن الرواية معتبرة فكيف تطرح الرواية المعتبرة لأنه لم ينقل عن النبي أنه كان يتكلم بغير العربية؟!

والأعظم من ذلك في «ص453» يقول: ”العمدة في إثبات عصمة الأئمة بالقرآن ما هو؟“، أنتم قرأتم في كتب العقائد، لو سألكم شخص عن الدليل على عصمة الإمام ماذا تقولون له؟ ”الآية الأولى: ﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة : 124]، وتقريب الاستدلال مذكورٌ في صراط الحق“، هو يرد على الاستدلال: ”لكن القدر المتيقن منها ثبوت العدالة للإمام دون العصمة“، يعني الآية لا تدل على العصمة، بل غاية ما تدل عليه اشتراط العدالة، ثم راجعوا «ص453» حيث ينكر دلالة آية التطهير على العصمة! وينكر ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة : 124]على عصمة الإمام ، بل ينكر حتى الروايات الدالة على العصمة! يقول: ”المسلَّم من تلك الأحاديث حجية أقوالهم دون عصمتهم“، لا الأحاديث تدل على عصمتهم، ولا الآيات تدل على عصمتهم، فمن أين نثبت عصمة الأئمة الطاهرين «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين»؟! يقول أنهم علماء أبرار ”خوش أوادم“ فنأخذ بأقوالهم! كالفقهاء الموجودين مثلاً.

4 - كتاب «الموضوعات في الآثار والأخبار» للمرحوم سماحة السيد هاشم معروف الحسني:

هناك راوية موجودة في الكافي والوافي، تنتهي إلى سيف التمّار، أنه قال: كنا عند أبي عبد الله الصادق ، فقال: علينا عينٌ، أي أن هناك شخصًا مشبوهًا معنا، فالتفتنا يمنة ويسرة فلم نجد أحدًا، فقلنا: ليس علينا عين، فقال: ”ورب هذه البنية لو كنتُ بين موسى والخضر لأخبرتهما أني أعلم منهما، لأن موسى والخضر أعطيا علم ما كان، ولم يعطيا علم ما يكون حتى تقوم الساعة، وقد ورثناه عن رسول الله “، لاحظوا تعليق المرحوم سماحة السيد هاشم معروف على هذه الرواية في «ص302»: ”لقد نصّت الرواية على أن النبي عنده بالإضافة إلى علم ما كان علم ما هو كائن وما سيكون، وقد ورّثه للأئمة الأطهار، ومعنى ذلك أن الله لم يستأثر بشيء، وعلمه بكامله قد انتقل إلى النبي والأئمة، وهو مخالفٌ لنصوص القرآن“، إذا كان النبي يعلم ما كان وما يكون وما هو كائن فلم يبقَ لله شيء!

الآية تقول: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [الأنعام : 59]، هذه كافية في الرد، الله استأثر بمفاتح الغيب، لا يحتاج شيئًا آخر، الله أطلع نبيه على علم ما كان، ما يكون، ما هو كائن، واستأثر لنفسه بالعلم بمفاتح الغيب، أصلاً علم ما كان وما يكون وما كائنٌ إنما هو علمٌ بالوجود، كان يعني وُجِدَ، يكون يعني يوجد، كائن في المستقبل يعني يوجد، ما قبل الوجود علمه عند من؟ علمه عنده «تبارك وتعالى»، فلا تنافي بين هذه الروايات وبين القرآن الكريم.

والأعظم من ذلك: ثم يقول: ”وجاء في بعض الروايات عن النبي أنه كان يقول لأصحابه: ما لي ولكم؟! تسألونني عما لا أعلم، وأنا عبد الله، لا علم لي إلا ما علمني ربي، وقال لهم مرة: أنتم أعلم بأمور دنياكم“، هذا الحديث أين هو موجود؟ في كتب السنة، ليس عندنا أصلاً، حديث من كتب السنة نقبله ونعتبره دليلاً، وهذا حديث من كتب الشيعة نقول: يتنافى مع القرآن! أما هذا الحديث الموجود عند أهل السنة فهو أن النبي قال له أصحابه: هل نؤبر النخل؟ قال: لا، فلم يؤبروا النخل تلك السنة، فخرج الثمر شيصًا، فجاؤوا إلى الرسول: ما هذا الاختراع؟! خرج الثمر شيصًا! قال: أنتم أعلم بأمور دنياكم!

هذه الشواهد التي ذكرتها أردتُ من خلالها أن أبيّن أنه لا مانع عندنا أن يأتي شخص ويكتب كتابًا في الأحاديث الضعاف، أو في الأحاديث الموضوعات بنظره، وفي الأحاديث الدخيلة بنظره، لكن المهم أن يكون فقيهًا ناضجًا، ويكتب على ضوء الموازين الحوزوية المسلمة عند الكل، لا يوجد عندنا مانع، نقول: هذا كلام فقيه على عيننا ورأسنا! أما أن تأتي بعض الكتب - مع احترامنا لمؤلفيها وجهودهم المضنية في هذا المجال - ويعتبرون الأحاديث دخيلة وموضوعة لمجرد استحسانات ذوقية لا تصل إلى حد الدليل المقنع بأن هذا الحديث موضوع أو محرّف، وقد قرأنا شواهد على ذلك.

حسين جليح: بعد هذا الجواب المفصّل والمطوّل نسبيًا من سماحة السيد لا بأس بالعودة إلى الحضور الكرام، من كانت لديه رغبة بالمساهمة والمشاركة في استفسار عن نقطة معينة حول جنبة من الجنبات التي تطرحها سماحة السيد في المحاضرات، فليتفضل مع تعريف اسمه.

السائل سلام الشماسي: سماحة سماحة السيد، أنا عندي سؤال واقتراح، أما السؤال: في إحدى الليالي أنت ذكرتَ جملةً، وهي أن الله «عز وجل» هو قوة أبدعت الوجود، فأنا في الحقيقة صدمتني قليلاً، هل هذا نوع من التكييف لله «عز وجل»؟

وبالنسبة للاقتراح: أنتم قبل عدة سنوات تطرقتم للقضية المهدوية على مدى الموسم العاشورائي بشكل كامل، ألا تعتقد أن موسمًا واحدًا لا يغطي القضية المهدوية وهي بهذا الاتساع؟ وشكرًا لكم.

سماحة السيد: بالنسبة إلى سؤالكم الكريم فهو مذكورٌ في الأسئلة أيضًا، عندما نصف الله «تبارك وتعالى» بأنه قوة فهذا مأخوذ من اسمه، القوي مذكور في أسمائه، وعندما نصف بأنه إبداعية فهذا مأخوذ من خطبة الزهراء : ”ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها“، نتيجة أن اسمه القوي، وقد ورد في وصف الزهراء له أنه ابتدع الأشياء قلنا بأن الله قوة إبداعية، برأت هذا الوجود، نعم يوجد تعبير خاطئ صدر مني، لا أدري هل هو مسجل أم لا، نُبِّهْتُ عليه في نفس الليلة، أنني قلتُ: «الله قوة إبداعية ليس إلا»، هذا التعبير خطأ، هذا التعبير صدر مني، سبق لسان.

مثلاً: ليلة عاشر، أنا في مجلس سيهات قلتُ في أثناء المصيبة - ولم أشعر أصلاً للكلام - لما برزت زوجة وهب إلى الميدان قال وهب للإمام الحسين: ردّها إلى الخيمة، فأقبل الحسين فأخذها بيدها، انتهيت فأتتني عشر رسائل! طبعًا أنا بين المجلسين - بين سيهات وصفوى - أفتح الجوال، تأتيني رسائل، بعضها مشكورة، ينبهونني على ألفاظ، هذه الآية قرأتها خطأ، هذا الكلام ناقص، هذه الفكرة مبتورة.. جزاهم الله خيرًا، وأنا أحاول أن أرمم بعض الثغرات في المجلس الثاني، فأتاني شخصٌ وقال قلت كذا، قلت له: لم أقل ذلك، قال: بل قلت، أنا جالس، راجعت الرسائل فوجدت نفس القضية، فعرفت أنني قلتُ ذلك فعلاً، فهذا سبق لسان، الواحد بمجرد أن يقول ”أخذها“ تأتي كلمة ”بيد“، هذا مسألة سبق لسان، وسبق اللسان موجود.

وأما اقتراحك فهو في محله، وإذا الجمهور يتقبل فلا يوجد عندي مانع أن أطرح القضية المهدوية ببحوث أخرى لم أتطرق إليها في السنوات السابقة، ولا مانع من الكلام فيها.

السائل رياض بوخمسين: الوحي النازل على الرسول الأكرم هو طبعٌ في القلب بمعانٍ شتى، من ضمنها المعنى الظاهري للقرآن الكريم، بقية المعاني قسّمها رسول الله ، هل تأتي السنة مكمّلة للقرآن وندعي أن القرآن ناقص، أم هي شارحة للقرآن؟ لأن اعتمادكم كان كثيرًا على الرواية، وشرحتم القرآن على ضوئها، هذه ملاحظتي قد أكون خاطئًا فيها، القرآن قطعي الثبوت، في حين أن السنة ليست قطعية الثبوت، وجنابكم الكريم فسّرتم كثيرًا من آيات القرآن على ضوء السنة، فهل السنة النبوية هي شارحة أم هي مكمّلة؟ هذا السؤال الأول.

السؤال الثاني: هل رسول الله في حالة عروج وكشف دائم مع الوحي، أم أن الكشف والوحي منقطع، ورسول الله شخصيته البشرية تختلف عن شخصيته الروحانية أو في الوحي؟ ولكم الشكر الجزيل.

سماحة السيد: أنا تعرّضتُ في ليلة من الليالي عندما تحدثتُ حول القرآن الكريم أن للقرآن وجودات، ومن وجودات القرآن الوجود العرشي، وهو ما عبّر عنه القرآن نفسه: ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف : 4]، فالقرآن بوجوده العرشي اشتمل على جميع المعارف، وهو تبيانٌ لكل شيء، فالسنة شرحٌ للقرآن، لكن ليست شرحًا للقرآن اللفظي بهذه الصورة اللفظية، هي شرحٌ للقرآن بوجوده العرشي الذي عبّر عنه القرآن الكريم نفسه بقوله: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة : 79]، فبالنتيجة: سوف تكون السنة شارحةً لكن لمرتبة من مراتب القرآن، لا لهذا الوجود اللفظي المادي.

سؤالكم الثاني: نحن نؤمن أن الأئمة من حيث معرفتهم بالله «عز وجل» دائمًا في حالة تكامل وتصاعد، النبي في كل حين هو أعرف الناس بالله، لكنه أيضًا معرفته بالله تزداد في كل آن، مقاماته الروحية عند الله «عز وجل» تزداد في كل آن، أما الوحي بالطريقة التي حصلت - وهي نزول جبرئيل على النبي - فقد انقطعت بوفاة النبي ، جبرئيل لم ينزل بالوحي بعد وفاة رسول الله ، نعم الإلهام والعلم اللدني هناك روايات تدل على لزومه أو استمراره بالنسبة للأئمة المعصومين «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين»، وأيضًا ورد في روايات مصحف فاطمة أن الملائكة نزلت بعد وفاة رسول الله تسليها وتحدثها، فجُمِعَت تلك الروايات، وتشكّل منها تأويلٌ لآيات القرآن الكريم التي عبّر عنها بمصحف فاطمة.

حسين جليح: الآن نعود إلى الأسئلة الواردة من الجمهور، ونطرح بعضًا منها، ثم إن شاء الله نعود إلى الجمهور.

سيدنا، ألا يمكن القول بأن حركة محاربة الأئمة للكذابين ومواجهتهم للوضّاعين، وتأكيدهم على الرجوع إلى الكتاب كمرجّح من المرجحات عند حصول التعارض المستقر بين الكتاب والسنة، هو دليلٌ غير مباشر على وجود حركة مكثفة مركزة من الكذب والوضع والدس والتدليس في كتب الإمامية في عصر الأئمة الطاهرين «عليهم أفضل الصلاة والسلام»؟!

سماحة السيد: ما صدر من الأئمة الطاهرين من التصريح بأسماء الكذابين والوضّاعين، وصدر من الإمام الرضا ، يدل على أن هناك حركة وضع، كانت هناك حركة للوضع والكذب في زمان الأئمة ، وأن هذه الحركة استمرت إلى زمان الإمام الرضا ، هذا لا إشكال فيه، ولكن هذه الروايات لا تدل على أن هذه الحركة كانت بحجم لا يمكن للأئمة تطويقه، نعم، تدل على أن هذه الحركة موجودة، لو لم يكن هناك كذابون لما تصدى الأئمة لذكر أسمائهم، لو لم تكن هناك حركة كذب لما تصدى الإمام الرضا لذلك، إذن هناك حركة كذب ووضع، لكن ليس عندنا دليلٌ على أن تلك الحركة كان لها حجمٌ ضخمٌ وحجمٌ واسعٌ بحيث لا يمكن للأئمة تطويقه، فإذا نظرنا في المقابل - مقابل هذه الروايات التي دلت على وجود حركة كذب - ووجدنا المحاولات التي قام بها أهل البيت «صلع»، وأصحابهم في زمانهم، وأصحابهم في زمن الغيبة الصغرى، وعلماء الإمامية في زمن الغيبة الكبرى، يتحصّل من كل هذه المحاولات أن تلك احتمال بقاء تلك الحركة - حركة الوضع - يكون احتمالاً ضئيلاً، كما ذكرناه في المحاضرات.

حسين جليح: في جزئية فضح الأئمة أيضًا للكذابين والوضّاعين، عند الرجوع للمصادر التي تحدثت عن هذا الموضوع نجد أن الكذابين على قسمين: القسم الأول من تم فضحه من الأئمة باسمه وبعينه، والقسم الثاني: من أشار الإمام إلى وجود الحالة العامة والصورة العامة لمفهوم الكذب على الإمام المعصوم، أو على مجمل الأئمة المعصومين ، ولكن الأئمة لم يصرحوا بأسمائهم، ولم يكشفوا عن هويتهم الشخصية، فكيف يمكن لنا أن نتحاشى مرويات هؤلاء الرواة الذين لم يصرّح عن أسمائهم؟ وكيف نأمن من كذبهم وتدليسهم؟

سماحة السيد: الأئمة لم يصرحوا بأسماء جميع الكذّابين، لكن هنا لابد أن نشير إلى نقطة، يذكرها علماء الكلام ويعبرون عنها بقبح نقض الغرض، نقول: الهدف من تصدي الأئمة لبيان معارف الدين على مستوى الفقه والعقيدة أن تصل هذه المعارف للأمة، بما أن هذا هو الهدف، مقتضى ذلك أن يكون الأئمة حريصين على تحقيق هذا الهدف، بما أنهم تصدوا بهدف إيصال المعارف الإسلامية إلى الأمة، فلابد أن يكونوا في منتهى الحرص على إيصال هذه المعارف، وإلا لكان ذلك منافيًا للحكمة، الإنسان الحكيم إذا وضع له مخططًا معينًا لهدف معين، فإن مقتضى حكمته أن يأخذ كل التدابير اللازمة حتى يحقق هدفه من هذا المخطط، إذن مقتضى حكمة أهل البيت بما أنهم تصدوا إلى بيان المعارف الدينية أن يتخذوا مختلف التدابير اللازمة في تحقيق هذا الهدف، وهو وصول المعارف إلى الأمة.

إذن هناك قضية عقلية وقانون عقلي نحن نستند إليه فنقول: حتى الذين لم يصرّح الأئمة بأسمائهم من الكذّابين، حتى الكتب التي اشتملت على الكذب والوضع في زمان الأئمة، نحن واثقون بأن الأئمة إما السابقون أو اللاحقون بذلوا الجهود المضنية في سبيل تطويق حركة الكذب، وفي سبيل تطويق حركة الوضع، وتنبيه الأمة على منافذها وعلى طرقها الملتوية وعلى أساليبها المحرّفة، لو لم يقم الأئمة بذلك لكان ذلك منافيًا لحكمتهم، وكان تضييعًا للهدف الذي من أجله تصدى الأئمة لشرح القرآن، ولذلك المعارف، ولبيان الأحكام الشرعية، كما هو مقتضى حديث الثقلين: ”إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي“.

سماحة السيد الشهيد سماحة السيد محمد باقر الصدر «قدس سره».. الغريب أن رسالة وصلتني قبل ليالٍ، السائل قال: أنت تكرر على المنبر ذكر سماحة السيد محمد باقر الصدر، وهذا الشخص لم يكن إلا شاعرًا أديبًا، ولم يشهد له أحدٌ بالفقاهة! أنا لم أجبه طبعًا، إذا سماحة السيد محمد باقر الصدر ليس فقيهًا فعلينا أن نغلق الحوزة! هذا العلم العظيم الذي عرف غير المسلمين وثمّنوا فكره، وأنتم وجدتم في الواتس آب أنه قد أقيم إليه تمثال في موسكو كأحد المفكّرين على مستوى الإنسانية على مستوى الإسلام فقط، إذا كان سماحة السيد محمد باقر الصدر ليس فقيهًا أو لم يشهد له بالفقاهة فعلى الفقاهة السلام!

على كل.. سماحة السيد الشهيد محمد باقر الصدر في كتابه «بحوث من علم الأصول» في الجزء الرابع تحدث عن السيرة العقلائية، إذا وُجِدَت سيرة عند العقلاء فكيف نعرف أن الدين يقبل هذه السيرة أم يرفض هذه السيرة؟ العقلاء عندهم سير كثيرة، مثلاً: من سيرة العقلاء أنهم يجعلون للمغبون خيارًا، من سيرة العقلاء أنهم يشترطون في المبيع أن يكون مالاً، هناك سير عقلائية، من أين نعرف أن الدين يقبل هذه السير أم لا؟

يقول علماؤنا: من خلال عدم الردع، لو كانت هذه السير باطلة لردع عنها الأئمة، فإذا لم يردع الأئمة عن هذه السير فهذا معناه أن هذه السير العقلائية سير صحيحة، قد يقول قائل: لماذا الأئمة يردعون عنها؟! لعل الأئمة يقولون: فلنجعها كما هي، ليس ذلك أمرًا مهمًا! سماحة السيد الصدر يقول: لا، هذا يتنافى مع كون الإمام المعصوم في مقام الهداية، مقتضى كون الإمام المعصوم هاديًا ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [الرعد : 7] أن يراقب كل شيء في زمانه، فإذا كان باطلاً يعلق عليه، يضع علامة استفهام عليه، مقتضى كون الإمام هاديًا أن يكون معلقًا على كل شيء باطل في زمانه. فلو كانت في أزمنة الأئمة حركة وضع واسعة جدًا بحيث تؤثر على مقام الأئمة لننبه الأئمة على ذلك.

إذن بالنتيجة: نحن نقول: مقتضى كون الأئمة في مقام الهداية أنهم طوّقوا حركة الوضع التي حدثت في أزمنتهم، لأن هذه الحركة أخطر شيء على التشريع الإسلامي، فمقتضى كونهم في مقام الهداية تطويقهم لحركة الوضع، فهذه قرينة عقلية على أن حركة الوضع لم تكن بذلك الحجم الكبير الذي نحتمل بقاؤه إلى يومنا هذا.

حسين جليح: ذكر سماحة السيد في محاضرته حول طرق حفظ التراث في المذهب الإمامي مثالين على عرض الكتب على الأئمة ، والسؤال حول روايات العرض هذه: هل كل الكتب عُرِضَت على الأئمة وقاموا بتصحيحها؟ وهل الأصول المسماة بالأصول الأربع مئة - والتي أخِذَ منها الكافي وغيره - عُرِضَت بجميعها على الأئمة ؟

سماحة السيد: ليس عندنا دليلٌ تاريخيٌ على أن جميع الكتب عُرِضَت على الأئمة، ولكننا في نفس الوقت نقول: مقتضى مجموع العوامل، من جهة أن العقل يحكم بتصدي الإمام لتصحيح الروايات المكذوبة والموضوعة، هذا حكم عقلي، مقتضى كون الإمام هاديًا أن يتصدى لحركة التصحيح وتطويق حركة الوضع، ومقتضى أن الأئمة صرحوا بأسماء الكذابين، ومقتضى أن بعض الكتب عرضت على الإمام الرضا وعلى الإمام الهادي «عليهما السلام»، ومقتضى أن السفراء في عصر الغيبة الصغرى علقوا على بعض الكتب، ونبهوا على بعض الكذّابين والوضّاعين، إذا نظرنا لمجموع هذه العوامل - وكما يقولون: بدليل حساب الاحتمالات - يتضاءل احتمال وجود حركة وضع إلى أن يصبح احتمالاً ضئيلاً جدًا، لا نقول أنه منفيٌ، 1% أو 2%، احتمال موجود، لكنه احتمالٌ لا يعتد به العقلاء بالنظر إلى تراكم الاحتمالات.

السائل أحمد المحمدعلي: من خلال القراءة والمصاب الحسيني لسماحة سماحة السيد هل الروايات والسيرة الحسينية التي تُقْرَأ الآن محقّقة وخاضعة للقواعد والأصول العلمية، أم أنها فقط سيرة تاريخية مع التساهل لمراعاة الذوق العام والموروث؟ وهل نعتبرها صحيحة بما أنها منقولة من سماحتكم وموثوق بها؟

سماحة السيد: بالنسبة إلى قصة كربلاء كتب فيها علماء كثيرون، ومن أوثق الكتب عندنا التي تتحمل ذكر هذه السيرة إرشاد الشيخ المفيد «عليه الرحمة»، ومن الكتب المتأخرة في زماننا «مقتل الإمام الحسين» للسيد عبد الرزاق المقرّم «رحمه الله»، كان من العلماء الكبار، وقد تحرّى الروايات المعتبرة في المقتل الشريف وقصة كربلاء، روايات كربلاء بعضها صحيح، وهذا واضح، وبعضها لم يثبت صحته لكنه مشهورٌ، لتعدد طرقه نعتمد عليه، نعتمد عليه لعامل الشهرة، وإن لم يكن رواته ثقاة، وبعضها ليس بصحيح ولا بمشهور، ولكنه لا يتنافى مع القرآن أو السنة القطعية أو العقل أو العقيدة، فننقله نحن الخطباء وأنا من جملتهم، أنا أنقل حتى الرواية غير الصحيحة وغير المشهورة، أنقلها على المنبر ولكن أنقلها مسندًا إلى غيري، أقول: رُوِيَ، في بعض الروايات، حُكِيَ... لا أذكرها على أنها واقعٌ، فأنا عندما أعبر على المنبر بروي أو في بعض الروايات أو لسان الحال فهذا معناه أن هذا من القسم الثالث، وهو الذي لم تثبت وثاقة رواته، وليس رواية مشهورة، ولكنه لا يتنافى مع القرآن أو العقل أو الحقيقة العلمية.

حسين جليح: في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات : 6] أفاد سماحة السيد - حفظه الله - بأن مفردة الكنود أن الإنسان ينزع إلى ربه، لكن الكنود هو الكفور، والآية مضمونًا ومعنى مساوقةً لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ [الزخرف : 15]، وهو إخبارٌ عما في طبع الإنسان من ابتاع الهوى، والانكباب على عرض الدنيا، وهذا ما ورد في تفسير الميزان، وقد ورد نحو ذلك في تفسير الأمثل، وقريب من ذلك أيضًا ورد في التفسير الكبير للرازي.

سماحة السيد: إذا وردت رواية صحيحة في تفسير كلمة ”كنود“ في القرآن الكريم بالكفور فنحن نقبل بالرواية تعبدًا لأن الرواية قالت أن المراد بالكنود هو الكفور، لكن إذا لم ترد رواية صحيحة في هذا الباب، ونحن أتينا كلمة كنود، ما هو معنى ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ؟ بعض كتب اللغة ذكرت أن الكنود هو الكفور، لذلك سماحة السيد صاحب الميزان وبعض المفسرين فسروا الآية هكذا: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ يعني لكفور بربه، أنا أقول: هذا تفسيرٌ باللازم، لماذا يكفر الإنسان بربه؟ ما هو السبب الذي اقتضى أن يكفر الإنسان بربه أو ألا يدين الإنسان بربه؟ عندما يكون للإنسان ميلٌ ونزوعٌ نحو شيء معين، ثم لا يرى الصفات تتطابق مع ذلك الذي ينزع إليه، يصبح كافرًا، أقول: حتى هؤلاء الكفار الذين كفروا بالله «تبارك وتعالى»، قالوا: الله ليس موجودًا، الله كذا.. هم في دخالة أنفسهم يرون نزوعًا في أنفسهم نحو شيء ما، إنما ذلك الشيء بالنسبة إليهم مجهولٌ، لا يستطيعون تحديد معالمه، لا يستطيعون تحديد هويته، ويقولون: هذا الذي يتكلم عنه المسلمون وأهل الكتاب من أنه الله خلق الكون ليس هو ذلك الشيء الذي نشعر به ونميل إليه ونحس به، إذن الكفر لازم للكند وليس هو معنى الكند، لو لم يكن هناك نزوعٌ من الإنسان نحو ربه لما كفر بربه بعضُ الناس، ولما تمرد على ربه بعض الناس.

إذن المناسب لتفسير الكلمة أنها بمعنى النزوع، ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ يعني: الإنسان بحسب طبعه عنده انشداد ونزوع نحو خالقه، وإن كان قد يكفر به في بعض الأحيان، إما لشبهة، إما لعدم تطابق الوصف، إما لتأثر بالبيئة، لكن له نزوع نحو ربه، فالكفر لازم، وليس هو معنى كلمة كنود، ولذلك نرى الآية عممتها لكل إنسان، لم تقل: إن بعض الناس، بل قالت: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ، ومما يساعد على التفسير الذي ذكرتُه التعبير باللام، ما عبر بالباء، لو قال: ”إن الإنسان بربه لكنود“، لكان من المناسب أن يكون المعنى كفور، يعني كفور بربه، لكنه عبر باللام، والتعبير باللام ظاهرٌ في الغاية ولا في باء التعدية كما يقولون.

سائل: لماذا لا يتبنى مراجعنا العظام «حفظهم الله» مشروع المؤسسية في المذهب الشيعي؟ وما هي العوائق أمام هذا المشروع بنظركم سيدنا؟ أنت ذكرت أن سماحة السيد محمد باقر الصدر دعا إلى ذلك، ولكن لم يحدث شيء حتى الآن، فما هي العوائق أمام هذا المشروع؟

سماحة السيد: هذا موضوع كبير جدًا، ويحتاج إلى محاضرة كاملة إن شاء الله.

سائل: تنبيه وسؤال، التنبيه الأول يتعلق بكلام آية الله الشيخ آصف محسني حول العصمة، وهذا موضوع خطير، حسب ما نقلتم من كتاب «مشرعة الكتاب»...

سماحة السيد: أنا لم أقل أنه ينكر العصمة، وإنما ينكر دلالة القرآن والأحاديث على العصمة، وفرق بين الأمرين.

السائل: هذا توضيح، حتى المتلقي يفهم منكم جيدًا، لأنه في كتاب آخر «صراط الحق» يرى العصمة ولكن يرى محدودية في العصمة.

سماحة السيد: نعم أحسنتم على هذا التنبيه، الشيخ آصف محسني يقول في هذا الكتاب «مشرعة البحار»: لا دلالة في الأحاديث وفي الآيات على عصمة الأئمة، لا أنه ينكر أصل العصمة للإمام المعصوم.

السائل: السؤال: ذكرتم في تعريف الخرافة أنها عدم وجود سنخية بين أمرين معينين، حسب ما مثلتم به من تزواج بين الإنس والجن مثلاً، هناك روايات حسب ما أتذكر من المحاضرات الأخيرة في مفهوم الإسرائيليات قسمتم الإسرائيليات إلى ثلاثة أنواع: إسرائيليات متوافقة مع القرآن، إسرائيليات مخالفة للقرآن تمامًا، وإسرائيليات يعمل فيها الأدوات الاجتهادية، حسب ما أتذكر في تلك المحاضرة ذكرتم رواية أن هناك تناسلاً بين البشر أو تزوجًا بين الجن والحور، الروايات تشير هنا أن هناك حصل تزاوج، إما أن نطبق مفهوم الخرافة ونقول هذه الروايات عبارة عن خرافة وترد، أو عندكم توضيح آخر، وأريد أن أتأكد أنكم تميلون إلى رأي صاحب الميزان أم لا؟

سماحة السيد: أنا ذكرتُ أن هناك قسمين من الروايات: قسمًا يقول أن قابيل وهابيل تزوجا أختيهما، وهذا ما ذكره سماحة السيد صاحب الميزان ودافع عنه، وتوجد عليه رواية عن الإمام السجاد، وقسمًا آخر أن قابيل وهابيل تزوجا ما ليس من نسل آدم، هذا الذي ليس من نسل آدم هل خلق من الأرض أو أنهما جنيتان أو أنهما حوريتان؟ توجد ثلاثة احتمالات، هابيل وقابيل تزوجا فتاتين ليستا من نسل آدم، ”ليستا من نسل آدم“ تحتمل ثلاثة معانٍ: أنهما حوريتان، أنهما جنيتان، أنهما خلقا من الأرض، كما أن آدم وحواء خلقا من الأرض ثم تزاوجا، كذلك الفتاتان خلقتا من الأرض وتزوجتا بهابيل وقابيل، مع هذه الاحتمالات الثلاثة نحن قلنا بأن سماحة السيد السبزاوري «عليه الرحمة» وسماحة السيد علي الفالي «عليه الرحمة» إلى أنهما خلقا من الأرض، وعلقتُ هنا في حسينية السنان وقلتُ: ليس بالضرورة أن نقول بأنهما جنيتان أو حوريتان كي يقال بأنه لا تسانخ بينهما، هذه العبارة لعلي لم أطرحها في سيهات، ولكنني متأكد أنني طرحتها هنا في حسينية السنان، فلو وجدنا رواية تصرح أنهما تزوجا حوريتين أو تزوجا جنيتين فمن يشترط السنخية - يعني من يرى هذا المذهب الفلسفي - يقول: هذه الرواية من الإسرائيليات.

السائل: رأي صاحب الميزان «عليه الرحمة» ألا يخالف مبدأ عقلانيًا كما قلتم أنكم في المذهب الإمامي قد أسستم قاعدة، وهي قاعدة الحسن والقبح العقليين، ألا يتعارض قول صاحب الميزان مع القبح والحسن العقليين؟ فكيف نرد هذه الإشكالية وخصوصًا أن سماحة السيد عمار أبورغيف في كتابه «الأسس العقلية في علم الأصول» ناقش صاحب الميزان من خلال هذا المبدأ: الحسن والقبح العقليين.

سماحة السيد: لكن سماحة السيد صاحب الميزان «أعلى الله مقامه» في «ص145، ج4» من الميزان بحث هذه النقطة بالذات، وقال: زواج الأخوين من الأختين في شريعة آدم لم يكن منافيًا للحسن والقبح، ولا منافيًا للفطرة، بحثها في صفحة كاملة، فراجعوا، هو يدافع عن نفسه.

سائل: قرأتُ فيما قرأتُ سابقًا أن الله قد خلق قبل آدمكم هذا ألفي ألفي آدمًا يأكلون رزقي ويعبدون غيري، أفلا يوجد احتمال أن هاتين الفتاتين من قبل آدمنا الذي أتينا منه؟

سماحة السيد: الروايات تذكر أن قبل آدمكم هذا ألف ألف آدم، وهذه السلالة البشرية هي الدورة السادسة للبشرية، أن البشرية مرت بست دورات، كل دورة تنقرض وتأتي دورة جديدة، وأن هذه الدورة التي نحن فيها هي الدورة السادسة للبشرية، فمحتمل، لا ننفي هذا الاحتمال.

حسين جليح: نعود للأسئلة الكتبية، ونمضي فيها، ونطرح بضعة أسئلة، ثم إن شاء الله نعود للجمهور.

سيدنا، إذا قلنا بأن الحديث الفلاني سنده صحيح، ولكن متن الرواية الصحيحة السند يتعارض مع إحدى ركائز القراءة الموضوعية للنص الخمسة التي ذكرتموها في محاضرتكم في الليلة الخامسة، إذا كان هناك تعارضٌ بين صحة السند وتعارض متن هذا السند الصحيح مع إحدى الركائز الخمسة، فما الفائدة إذن من الدراية وقواعد علم الرجال وتطبيقها في أسانيد الروايات والأحاديث الواردة في الكتب والأخبار؟

سماحة السيد: نحن بالدرجة الأولى ندرس مضمون الحديث، فإذا وجدنا مضمون الحديث مخالفًا لعقل، أو لحقيقة علمية، أو مخالفًا للقرآن، أو مخالفًا لعقيدة مسلمة، أو مخالفًا لحكم شرعي مسلم به، فلا حاجة إلى أن نرجع لعلم الرجال، هذا الحديث لا نأخذ به، ولا نحتاج أن نبحث عن رواته، وأما إذا افترضنا أننا قرأنا الحديث، فوجدناه ليس مخالفًا لشيء، إذا لم يكن مخالفًا لشيء لكننا لا ندري أن مضمونه صادرٌ عن أهل البيت أم ليس صادرًا، فهنا نحتاج إلى علم الرجال، ندرس الرواة من حيث الوثاقة والضعف، فإذا كان رواته ثقات أخذنا بالحديث، وأثبتنا أن مضمونه صادر عن أهل البيت، وإذا لم يكن رواته ثقات فإن كان الحديث معتضدًا بغيره، أي أن لدينا كثرة من الروايات، وإن كانت كلها ضعيفة، لكنها كثيرة متعددة الطرق بحيث يحصل لنا التواتر، والعلماء يقسمون التواتر إلى تواتر لفظي وتواتر معنوي وتواتر إجمالي، إذا حصل نوع من أنواع التواتر الثلاثة أخذنا بالحديث، فإن لم يصل إلى حد التواتر لم نعمل به، ففائدة العمل بكتب الرجال تظهر في الحديث الذي لم يخالف ركيزة من هذه الركائز الخمس التي ذكرناها.

حسين جليح: هناك إشكالية قد تثار حول الركيزة الثالثة من ركائز القراءة الموضوعية والتقييم الموضوعي لنص من النصوص الدينية، وهي عدم تصادم الحديث مع الحقائق العلمية المتفق عليها، وذلك أن بعض العلماء في عصر من الأعصار وفي مرحلة من المراحل الزمنية، قد يقبل دلالة هذا الحديث لاتفاق العلماء وتسالمهم على هذه الحقيقة العلمية في زمن معين، ثم بعد قرن أو قرنين من الزمان قد يرفض نفس هذا الحديث الذي قبله عالمٌ من الأعلام بحجة أن العلماء والمختبرات العلمية والتجارب العلمية قد رفضت دلالة هذا الحديث، لقيام الدليل على عدم تمامية هذه الحقيقة العلمية المذكورة في حديث من الأحاديث، فكيف نستطيع القول في زمن معين أن النبي قد قال حديثًا معينًا، وفي زمن آخر نقول العكس؟!

سماحة السيد: لنأخذ مثلاً الحديث الذي يقول بأن الشمس تطلع بين قرني الشيطان، وتغرب بين قرني الشيطان، لنفترض أن هذه الجملة من الحديث كانت قبل مئتين سنة جملة مقبولة، الآن بعد أن تبين كما ذكرنا في القراءة ليس لها شروق وغروب معين، بل هي في كل لحظة وفي كل آن تشرق على بلد وتغرب من بلد، فليس لها شروق وغروب معين حتى تشرق من بين قرني الشيطان وتغرب من قرني الشيطان، فهذه الجملة قبل مئتي سنة كان العلماء يعتبرونها حديثًا صحيحًا، الآن بعد مئتي سنة حيث وصل الأمر إلى حد الحقيقة العلمية لا النظريات - قلنا: لا عبرة بالنظريات - وهي أنه ليس للشمس شروق وغروب معين، قلنا بأن هذه الفقرة من هذا الحديث ضعيفة، ”ضعيفة“ شيء و”لم تصدر“ شيء آخر، نحن نؤكد على هذه النقطة: لا يصح الحكم على جملة أنها مدسوسة أو موضوعة إلا بدليل وحجة على ذلك، أما مجرد أن هذه الجملة مخالفة لظاهر القرآن، أو مخالفة لمنطق علمي، أو ما أشبه ذلك، فهذا لا يعني أنها مدسوسة أو موضوعة، لعلها صدرت عن النبي أو الإمام المعصوم بداع من الدواعي، إما بداعي التقية، إما بداعي التهكم، إما بداعي النقل عن غيره من المتكلمين، فحينئذ لا موجب لدعوى الوضع والدس.

حسين جليح: ذكرتُم أن من شروط المستنطق للنص الديني والقارئ له والمجتهد فيه الاجتهاد في أصول الدين، لكن قد يرد على هذا الشرط أمورٌ، منها: الأمر الأول: أنه لا يوجد اجتهادٌ في أصول الدين، والأمر الثاني: عدم وجود مجتهدين في الحوزة العلمية في أجواء البحوث العقائدية والمعارف الكلامية، فبماذا تجيبون؟

سماحة السيد: طبعًا أصول الدين بمعنى الأصول الخمسة - التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد - لا اجتهاد فيها، لأنها ثابتة بأدلة عقلية، ولكن العقائد المتفرعة على الأصول تختلف، فيها اجتهادات، مثلاً: عقيدة الرجعة، هل الأئمة يرجعون في دولة المهدي بأجمعهم أم لا؟ هذه عقيدة، ليست من الأصول، لكنها في نفس الوقت من المعتقدات، هل هذه العقيدة تامة أم لا؟ هنا يأتي أيضًا دور الاجتهاد، فإذن أصل الأصول الخمسة لا اجتهاد فيها، لأنها ثابتة بالأدلة العقلية، ولكن قسمًا آخر من العقائد، ليست من الأصول الخمسة ولا من لوازمها يصح البحث والاجتهاد فيها، لذلك قلنا: لا يمكن تمييز أن الراوي مغالٍ أو غير مغالٍ، لا يمكن تمييز أن الراوي قالٍ أم غير قالٍ، إلا بالاجتهاد في معنى الغلو، ومعنى التقصير، ومعنى التفريط، فإذا كان المحقق إنسانًا مطلعًا على حدود معنى الغلو بنظر واجتهاد، أو حدود معنى التقصير بنظر واجتهاد، فيصح له حينئذٍ الحكم بالراوي على الغلو أو التقصير.

حسين جليح: سماحة السيد، تعريف سماحة السيدين العظيمين الإمام الخميني والإمام الخوئي «قدس سرهما» للسنة وأنها قطعٌ - بغض النظر وصرف النظر عن دائرة هذا القطع ونطاق هذا القطع - سواء كان هذا القطع مشتملاً فقط على السنة النبوية والأحاديث النبوية، أو كان هذا القطع مشتملاً على السنة النبوية والأحاديث المعصومية الواردة عن الأئمة «عليهم أفضل الصلاة والسلام»، ألا يلزم من هذا التعريف طرح كثير من الأخبار وتركها وضياعها بسبب قلة القطعي في قبال الظني؟

سماحة السيد: ذكرنا تلك الليلة أن هناك رأين: رأي سماحة السيد الخوئي أن المراد بالسنة الخبر القطعي، سواء كان خبرًا عن النبي أو كان خبرًا عن الإمام المعصوم، وأما رأي سماحة السيد الإمام «قدس سره» أن المراد من السنة سنة النبي سواء كانت خبرًا ظنيًا أو خبرًا قطعيًا، على هذين المبنيين قد يقال قائل: طرح الأخبار لكونها مخالفة للسنة سوف يكون أفرادًا نادرة.

فليكن أفرادًا نادرة! لسنا مجبرين على طرح الأخبار، قسم من الأخبار تطرح لأنها مخالفة للكتاب، قسم من الأخبار تطرح لأنها مخالفة للعقل، قسم من الأخبار تطرح لأنها مخالفة لحقيقة علمية، وقسم من الأخبار تطرح إما لأنها مخالفة لسنة قطعية على رأي سماحة السيد الخوئي، أو مخالفة لسنة النبي على رأي سماحة السيد الإمام، فلنفترض أن هذا القسم موارده قليلة، هذا ليس إشكالاً على التراث، ليس هناك قانون يلزمنا بالطرح حتى نقول: إذا لم نطرح فسوف يكون المطروح قليلاً! فليكن المطروح قليلاً، ليس هناك قانونٌ يلزمنا بلابدية الطرح.

حسين جليح: هل التقية المتعلقة بالبراءة يجب فيها التقليد أم لا؟ باعتبار خضوع موضوع هذه المسألة إلى تشخيص المكلف، فهي من قبيل المواضيع غير المستنبطة، أي المواضيع الصرفة أو المحضة، وليست من المواضيع المستنبطة التي يرجع فيها إلى الفقيه الجامع للشرائط.

سماحة السيد: التقية الخوفية إنما تشرع في مورد الضرر، الضرر على النفس أو الضرر على الغير، تشخيص أن هناك ضررًا أو ليس هناك ضرر طبعًا بيد المكلف، وليس بيد الفقيه، المكلف هو الذي يشخص أن هناك ضررًا أو ليس هناك ضرر، هذا مما يرجع فيه المكلف إلى نفسه، وهو من الموضوعات الصرفة التي أوكلت إلى المكلف.

أما عندما نأتي إلى حدود التقية الكتمانية، نقول: البراءة من أعداء الله ركنٌ من أركان الولاية، ركنٌ من أركان الاعتقاد بأهل البيت «صلوات الله وسلامه عليهم»، ولكن الجهر بالبراءة بطريقة معينة، بأسماء معينة، هل هذا داخلٌ تحت عنوان التقية الكتمانية أم ليس داخلاً؟ هذا بحث فقهي، هذا ليس تحقيقًا لموضوع، هذا بحث كرويٌ استدلاليٌ يرجع فيه إلى الفقيه الجامع للشرائط، وليس بيد المكلف.

السائل طالب المطاوعة: سيدنا الجليل، أنا لستُ في عرض الثناء والمدح، فإن كلامكم ومحاضراتكم أساطين العلم تشهد بذلك، لكن ما هي القاعدة أو المستند الذي يعتمد عليه سماحته فيما يتعلق بأمر ما يمكن قوله أو لا يمكن قوله، كقاعدة وحد فاصل، كما في الصحيحة عن الإمام الصادق : ”اكتموا أمرنا“، ومن خلال هذه الجزئية سؤال آخر: كيف لنا أن ندرك مسألة ما يمكن أن يعتبر توهينًا للمذهب وإضعافًا له، وما يعتبر فيه تقوية، من خلال ذكره على القاعدة الأولى؟

سماحة السيد: أما بالنسبة لمفاد قوله: ”يا معلى، اكتم أمرنا ولا تذعه“ أو ”من أذاع سرنا أذاقه الله حر الحديد“ وأشباه ذلك من الروايات، ما هو المراد من الأمر الذي طُلِبَ كتمانه؟ نقول: هذا له مصداقان: المصداق الأول: كل مقام لو تحدثنا به للزم ارتداد بعض ضعفاء الشيعة، فإن الشيعة يتفاوتون في عقولهم، حالهم حال بقية البشر، إذا كانت بعض المقامات الخاصة بأهل البيت لو صرحنا بها للزم من التصريح بها ارتداد بعض الشيعة عن المذهب، هذه تعتبر من الأسرار التي يُطْلَب كتمانها، لأن هذه المقامات بعض الشيعة لا يتحملونها، فكيف بالآخرين؟! وأنت تعرفون ما ورد عن الإمام علي : ”لو اطلع سلمان على ما في قلب أبي ذر لكفّره، ولو اطلع أبو ذر على ما في قلب سلمان لكفّره“، أي أن سلمان عنده معرفة بالإمام علي لا يتحملها أبو ذر، أبو ذر لو اطلع عليها لاعتبرها نوعًا من الكفر، وسلمان لو اطلع على ما في قلب أبي ذر فقد يعتبره نوعًا من التقصير والتفريط في معرفة الإمام، فلكل شخص معرفةٌ بالأئمة بقدر عقله وبقدر خبرته وبقدر معارفه.

مثلاً أنا لا أقول أني أعرف الإمام كما يعرفه المحقق الأصفهاني الشيخ محمد حسين، الشيخ محمد حسين الأصفهاني أستاذ سماحة السيد الخوئي رجل التحقيق في زمانه، صاحب النظريات في الفقه والأصول والفلسفة، أنا لا أصل إلى مقامه في معرفة الإمام ، هذا شيء واضح، الناس تتفاوت عقولهم وخبرتهم، ولأجل ذلك تتفاوت معرفتهم بالإمام ، إذن المصداق الأول لقوله: ”اكتم أمرنا“ المقامات التي لا يتحملها بعض الشيعة.

والقسم الثاني: الأمور التي لو أذيعت للزم من إذاعتها الإضرار بالمؤمنين من قبل بعض أبناء المذاهب الإسلامية الأخرى الذين لا يتحملون ذكر هذه الأمور.

وعلى أساس هذين القسمين نحن ننطلق في تمييز ما نقرأ من روايات ومن أخبار ومن تاريخ، فإن دخل في القسم الأول أو الثاني فلا نصرح به ولا نطرحه.

السائل: فيما يتعلق بأقسام التقية التي أشرتم إليها من خلال تحليلكم أو تقسيمكم أو التوضيح والتبرير الذي ذكرتموه، مثلاً: الإمام أفطر وهو صائم، أو من جانب عرض الروايات على روايات أبناء الجماعة، وما كان موافقًا فاتركوه، في هذا الجانب هل تشعر أن هذا كافٍ للتبرير والتوضيح الذي ذُكِرَ؟ ألا توجد هناك خشية من أن البعض فهم أن المذهب وهن في جانب من الجوانب، يريد فقط الاستزادة أكثر؟ لأن هناك أكثر من شخصية حاولت الاستفهام هنا.

سماحة السيد: أنا أعتقد أن ما شرحته في آخر ليلة كان كافيًا، والله العالم، بحسب ما عندي من قدرة وطاقة شرحتُ في ليلة الثالث عشر حدود التقية، وما معنى أن تعرض الأخبار على العامة، وما هي حدود ذلك، شرحتها بما عندي من طاقة وقوة.

حسين جليح: إن رواية ”وأما البراءة فلا تتبرؤوا مني“ كنهج البلاغة، وأمالي الطوسي، ومناقب ابن شهر آشوب، فمع ورود هذه الرواية في كتب كهذه رجّحتم الرواية النافية وقدمتموها على هذه الرواية؟

سماحة السيد: عندنا روايتان: رواية تقول أن الإمام علي قال: ”وإنكم ستدعون إلى سبي، فسبوني، وتدعون إلى البراءة مني، فلا تتبرؤوا مني، فإني وُلدتُ على الفطرة“، ورواية ثانية عن مسعدة بن صدقة عن الصادق قال: ”لم يقل عليٌ: لا تتبرؤوا مني، وإنما قال: وإنكم ستدعون إلى سبي فسبوني، وتدعون إلى البراءة مني، وإني على دين محمد“، ولم يقل: ”ولا تتبرؤوا مني“، نحن ذكرنا أن الرواية الثانية تكذّب الرواية الأولى، على أي أساس نقول ذلك؟

طبعًا هنا كتب لي بعض الإخوان أنك دائمًا تذكر سماحة السيد الخوئي، وتمدح سماحة السيد الخوئي، وكأنه لا يوجد إلا الخوئي! أين كلمات العلماء الآخرين؟! لا، أنا أعتمد أيضًا على كلمات العلماء الآخرين، لا أطرح رأي سماحة السيد الخوئي فقط، بل أطرح آراء أخرى أيضًا، أذكر لك الآن بعضها.

سماحة السيد الخوئي هنا رجّح القسم الأول الذي فيه: ”ولا تتبرؤوا مني“، قال: هذا القسم عدة روايات، ومذكورة في إرشاد الشيخ المفيد، بل قال الشيخ المفيد: استفاضت الأخبار عن علي أنه قال: ”لا تتبرؤوا مني“، موجودة في إرشاد المفيد، في مناقب ابن شهر آشوب، في آمالي الشيخ الطوسي، في الكافي للكليني، وفي نهج البلاغة، وتلك الرواية التي تكذّب موجودة فقط في الكافي، سماحة السيد الخوئي قال: الرواية الثانية التي تكذّب فيها مسعدة بن صدقة، ولم يوثّق، والقسم الأول من الروايات متعددة، فنعمل بها، ولكنها لا تدل على حرمة البراءة، وإنما تدل على أنه يجوز للإنسان ألا يتبرأ ويقتل، يعني: يجوز للإنسان أن يقدّم نفسه إلى القتل ولا يتبرأ، لأن هذا من النهي الوارد في مقام توهّم الحظر، وهو لا يفيد إلا الجواز، يُرْجَع إلى بحثه في الجزء الخامس من كتابه «تنقيح العروة الوثقى».

أنا هنا في هذا البحث لم أعتمد على كلام سماحة السيد الخوئي، بل اعتمدتُ على كلام سماحة السيد الإمام الخميني، وإن كنتُ لم أصرح على المنبر، في كتابه «رسالة التقية» تعرّض إلى هذا البحث، وقال: الرواية الثانية التي كذّبت هي الصحيحة، وهي الموافقة للقواعد العقلية والنقلية، وبنى عليها وطرح القسم الأول من الروايات، فالغرض أن هذا الموضع أنا بنيتُ فيه على الرأي الآخر، وذكرتُ فيه الرأي الآخر، وهو رأي سماحة السيد الإمام «قدس سره» في هذه المسألة.

حسين جليح: ورد في حديثكم في شهر محرم الحرام رواية الإمام الرضا : ”لو أن الناس علموا محاسن كلامنا لاتبعوا أمرنا“، السؤال: أنحيط الناس علمًا بمحاسن كلام آل محمد «عليهم أفضل الصلاة والسلام» ليقتدوا بهم ويتأسوا مع ورود نهي من الأئمة وتحذير من الإذاعة، وهو ما أكّدت الروايات على تجنبه وتلافيه من قبل عامة الناس؟

سماحة السيد: بالنسبة إلى هذه الرواية - ”لو علم الناس محاسن كلامنا لاتبعونا“ أو ”لو يروون محاسن كلامنا لكانوا به أعز ولم يتعلق عليهم أحدٌ بشيء“ - وصلني سؤال يقول: محاسن كلامهم يعني كلامهم فيه مساوئ وفيه محاسن؟! لا، المحاسن هنا للتفضيل، في كلامهم حسن وفيه أيضًا أحسن، فكان الإمام يقول: لو يروون محاسن كلامنا، أي: أحسن كلامنا، الذي يكون جذّابًا للعقلاء، لو عرضوه لكان ذلك موجبًا لاتباعهم ولتصديقهم «صلوات الله وسلامه عليهم»، لا أن كلامهم ينقسم إلى محاسن ومساوئ.

ثانيًا: هذه الروايات كلها - حتى الروايات التي تتعرض إلى مقامات الأئمة، حتى الروايات التي تتعرض لمثالب أعداء الأئمة، حتى الروايات التي تتعرض للمطاعن في الظالمين الذين ظلموا الأئمة - محكومةٌ بأدلة التقية، علماؤنا يقولون: نسبة دليل التقية للمعارف الأولية نسبة الحاكم إلى المحكوم، فدليل التقية حاكمٌ على هذه الروايات وهذه المعارف، كما أن دليل ”لا ضرر“ حاكمٌ على المعارف الأولية، كما أن دليل ﴿مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج : 78] حاكمٌ على الأدلة الأولية، كذلك أيضًا أدلة التقية حاكمة على الأدلة الأولية.

حسين جليح: بما أن إذاعة أسرار آل محمد لها آثار سلبية وعواقب وخيمة على الشيعة وعلى علماء مدرسة أهل البيت ، فإذن لماذا خاطر العلماء قديمًا - كالشيخ الصدوق والشيخ المفيد والعلامة المجلسي «قدس الله أنفسهم الزكية» - بذكر بعض أسرار آل محمد في كتبهم ومؤلفاتهم العلمية؟

سماحة السيد: هذا إشكالٌ على الأئمة أنفسهم، لماذا ذكروها أصلاً؟! هذا السؤال يرجع للأئمة لا إلى العلماء، أساسًا الأئمة لماذا ذكروا هذه الروايات؟! إذا كانت هذه الروايات تتضمن أسرارًا، وتكون إذاعتها موجبةً للخطر على الشيعة، فلماذا الأئمة ذكروها؟!

الجواب: أما بالنسبة للأئمة فقد ذكروها لخواص أصحابهم، الذين يتحملون هذه المعارف، ويدلون بها إلى من يثقون بمعرفته واعتقاده، فدوّنت هذه الروايات في الكتب، وأما بالنسبة للعلماء - كالشيخ المفيد والشيخ الصدوق والشيخ المجلسي صاحب البحار وغيرهم - الذين دونوا هذه الروايات في كتبهم، فإن تدوين الرواية في الكتاب إنما هو بغرض حفظ الرواية، لأنها من تراث أهل البيت، فتدوينها شيءٌ، وإذاعتها على نحو التبني شيءٌ آخر، أصلاً كل كتبنا موجودة في النت، كل شخص يستطيع أن يطلع هذه الروايات، هذا شيء صحيح لا ننكره، لكن وجود الرواية في الكتب شيءٌ، وأننا نتبنى إعلانها للملأ وللشخص الآخر شيءٌ آخر، هذا هو الذي نسميه بالإذاعة، لأنه منتسب إلينا، بينما وجود رواية في الكتب لا يتنسب إلينا، نحن عندما نعلنها ونتبناها فإن هذا يكون مصداقًا للإذاعة التي ورد النهي عنها في النصوص.

سائل: توجد ظاهرة بحكم وجود وسائل الاتصالات الحديثة في الرجوع إلى الكتب الحديثية، واختيار أحاديث دون تحقيق - كما تفضلتم - في صحتها، ولكنني أذكر حينها في كتاب «التشريع الإسلامي» للشيخ الفضلي يذكر عن آغا بزرك الطهراني أن من مضمون الأحاديث الموجودة في الكافي مثلاً هناك حوالي 16 ألف حديث، منها أقل من ستة آلاف حديث صحيح، والأحاديث القطعية حوالي 309 حديث قطعي، هذا بالنسبة إلى رأي الشيخ آغا بزرك الطهراني، وفي نفس الوقت يذكر سيدنا الخوئي في الاحتياج إلى علم الرجال أنه قد ثبت بالأدلة الأربعة حرمة العمل بالظن، وأنه لا يجوز نسبة حكم إلى الله «سبحانه وتعالى» ما لم يثبت ذلك بدليل قطعي، أو بما ينتهي إلى الدليل القطعي، ويذكر أيضًا سماحة السيد الخوئي في نفس مقدمة الكتاب أن جماعة من المحدثين ذهبوا إلى أن روايات الكتب الأربعة قطعية الصدور، وهذا القول باطلٌ من أصله، إذ كيف يمكن القطع بصدور رواية رواها واحد عن واحد ولاسيما أن في رواة الكتب الأربعة من هو معروفٌ بالكذب والوضع.

الملاحظة: أريد التعليق على هذه الظاهرة، بعض الشباب المؤمن يذهب إلى هذه الكتب ويختار ما شاء له، ويضعها على الإنترنت، أو يرسلها بالواتس آب، وهذا يثير بلبلة، هناك بعض الناس قد يأخذون بها، ويعتقدون بها، وهكذا، فما تعليقكم؟

سماحة السيد: طبعًا جميع الأصوليين يقولون: ليس جميع ما في الكتب الأربعة قطعيًا، بعضه قطعي وبعضه ظني، لكن هذا لا يعني أن فيها موضوعًا أو مدوسوسًا، هذا حكم آخر، ووجود ستة آلاف حديث صحيح فقط من أحاديث الكافي فهذا يعني أن البقية ضعيفة، وفرق بين الضعيف والمدسوس والموضوع، هي ضعيفة، أما أنها مدسوسة وموضوعة فهذا يحتاج إلى دليل آخر.

هذه الظاهرة الموجودة في النت الآن - كل واحد تعجبه رواية فيكتبها ويقول: مرّر الرسالة! مرّر الرسالة! ولا تتأخر! - ظاهرة غير صحيحة، غير صحية، نعم إذا نقل رواية عن أحد العلماء، أي أن أحد العلماء تبنى هذه الرواية، اعتمد عليها، وهو ينقلها، فلا بأس بذلك، أما أن يأتي لأي كتاب في الحديث ويأخذ منه رواية وينشرها على أنها رواية صحيحة وقال الصادق وقال... من أين قال الصادق؟! لا يجوز لك أن تقول قال الصادق حتى تحرز أن الرواية صحيحة، فذكر هذه الروايات في وسائل الاتصال وإسنادها إلى أهل البيت بنحو قال أو أن هذا مما قرره وقاله الأئمة.. هذا تزويرٌ وكذبٌ، لا يجوز، وبالتالي على الناس أيضًا أن تكون واعية تجاه هذه الظاهرة، يعني على الناس أن تكتب لمن يرسل، اكتب له: هل أنت من أهل الاختصاص؟! من أين عرفت أن هذه الرواية صحيحة حتى تنقلها وترتب الآثار عليها؟!

حسين جليح: هناك روايتان تتحدثان عن التقية نأمل من سماحة السيد أن يعلق عليهما: الرواية الأولى: ما روي عن أمير المؤمنين : ”أما السب فسبوني، فإنه لي زكاة، ولكم نجاة“، والرواية الثانية: ما ورد عن الأئمة الأطهار في الحث والتأكيد مكررًا على زيارة الإمام الحسين حتى في ظروف الخوف، فإنه قد يقال هنا بأن هناك تخالفًا بين مدلول الرواية الأولى والتي أرشدت إلى ضرورة الالتزام بالتقية وبأحكام التقية، بينما الرواية الثانية قد أرشدت إلى زيارة الإمام الحسين وإن كان في زيارة الإمام الحسين مخالفة لموضوع التقية، وهو الخوف من وقوع الضرر على شخص المكلف.

سماحة السيد: هذه الرواية الواردة أن زيارة الحسين مطلوبة حتى في حال الخوف بعض علمائنا لم يصححها، بعضهم صححها، فمن صحح هذه الرواية وبنى عليها فإن هذه الرواية تعتبر مخصِّصة للأدلة، ولا مانع، ما من عامٍ إلا وقد خُصَّ، القاعدة أن العمل أو الكلام إذا كان موجبًا لعروض خطر على الإنسان فيجب عليه التقية، استثنينا من هذه القاعدة زيارة الحسين ، تعتبر هذه الروايات الواردة في زيارة الحسين استثناءً وتخصيصًا، ولا مانع من الالتزام بالتخصيص.

حسين جليح: نختم بآخر سؤال في هذه الندوة، وهو: قد ذكرتَ سماحة السيد في ليلة الرابع من المحرم - والتي كان عنوانها البعد القيمي في التراث الإمامي والشخصية الجذابة - أن من سمات الشخصية الجذابة مصافحة العدو حتى في حالة كرهه لهذه المصافحة ونفرته من هذا السلام، ثم لما عرجتم إلى مصرع صاحب الليلة مسلم بن عقيل ذكرتم أنه لما دخل على عبيد الله بن زياد والي الكوفي رفض وأبى أن يصافحه وأن يسلّم عليه بالإمارة، فكيف نجمع بين صفات الشخصية الجذابة وبين عنوان ونموذج لهذه الشخصية ممثلاً بمسلم؟

سماحة السيد: مسلم بن عقيل لم يسلم على عبيد الله بن زياد بالإمارة، لا أنه لم يسلم أصلاً، فرق بين أن يقول: السلام عليكم، وبين أن يقول له: السلام عليك يا أمير، لم يقل له: يا أمير، فقط، لا أنه لم يسلم، فهو حافظ على مقومات الشخصية الجذابة، وإنما لم يسلم عليه بالإمارة لبيان أن هذا ليس أميرًا ولا شرعية لإمارته.

وثانيًا: لنفترض أن مصافحة ابن زياد خلقٌ وتواضعٌ، لكن إذا لزم من التواضع الإذلال فلا يكون التواضع خلقًا مطلوبًا، وقد ورد عن النبي : ”إن الله فوّض للمؤمن كل شيء ولم يفوض إليه أن يذلّ نفسه“.

حسين جليح: فقط قبل الختام أنوّه وأنبّه على شيء، وهو أن هناك أسئلة متبقية، وكما ترون الكم والعدد كبير، فإن شاء الله لن يتم إهمال هذه الأسئلة، وسيتم الإجابة عليها والنظر فيها، وستوضع وترفق الأسئلة إن شاء الله تعالى في شبكة المنير، وإن شاء الله تتابعون الموقع، وتلاحظون الأجوبة، وفي نهاية هذه الندوة كلمة صغيرة لسماحة سماحة السيد.

سماحة السيد: لا إشكال أن المناقشة لما أطرحه على المنبر يسرني كثيرًا، بعض الناس يعتقد إذا صارت مناقشة لكلماتي في موقع من المواقع فإنني أتأذى! لا أبدًا، بالعكس، أنا أقول: لولا أن موضوعاتي حية لما نوقشت، الموضوعات الميتة لا تناقَش، لولا أن الموضوعات فيها حياة، وفيها حركة للعقول، وللأذهان، لما نوقشت، ولما تصدت أقلام لنقدها ومناقشتها، هذا دليلٌ على أن الموضوعات فيها نوعٌ من الحركة، وفيها نوعٌ من الحياة، وفيها نوعٌ من النشاط الثقافي والذهني، فهذا يسرني، أنا كل سنة أريد ألا أقرأ هنا، وأن أذهب إلى مكان ثانٍ، ويلح عليَّ الجماعة أن أقرأ في البلد، من المحفزات التي تجعلني أقرأ في المنطقة أن موضوعاتي تكون مائدة للنقاش والأخذ والرد، وهذا شيء يسرني، هذا دليل على أن الموضوعات فيها حياة ثقافية، وإلا لم تكن معرضًا للنقد، فالنقد لا يضرني شيئًا أبدًا، بل بالعكس، المهم أن يكون عن علم وأدب، هذا الذي نحن نركز عليه دائمًا، كل نقد لابد أن يرتكز على ركيزتين: ركيزة علمية، وأدبية، إذا كان النقاش علميًا منطقيًا، فيه قواعد علمية، وكان بأدب الحوار، فهذا جيد، ونحن نرحب به، ونأنس به، وبعض الملاحظات نعتبرها صحيحة، ونأخذ بها.

وكما قلتُ لكم: في كل ليلة بين مجلس سيهات إلى مجلس صفوى تقريبًا نصف ساعة، في هذه النصف ساعة أتلقى رسائل واتصالات، فيها انتقادات، فيها تخطئة، فيها تعقيب، آخذ بها، وأحيانًا بين مجلس صفوى ومجلس القطيف، تأتيني انتقادات أخرى، آخذ بها وأعمل بها، ولهذا تكون النسخة المنقحة هي مجلس القطيف، لأنني أتدارك فيها بعض الثغرات أو بعض النواقص، فهذا هو الأمر الذي أحببتُ بيانه.

حسين جليح: في ختام هذا الحوار ونهاية هذه الندوة، لا يسعنا إلا أن نشكر سماحة السيد على رحابة صدره، ولطافة أجوبته ودقتها، كما لا يفوتنا أن نشكر الإخوة الكرام، على قوة تفاعلهم، وشدة تجاوبهم، مع ما تخلل هذه الندوة من أسئلة وأجوبة وردود وتوضيحات من سماحة السيد، هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

سماحة السيد: شكرًا لأبي علي لأنه راجع الأسئلة وحررها ورتبها، وتصدى لهذا الحوار، وشكرًا لكم على حضوركم، وشكرًا للشباب القائمين على هذه الندوة والتصوير وإعداد المكان وتوزيع القهوة، وشكرًا للأخ الذي ينادي بالصلاة في كل ليلة، شكرًا له صوتًا وصورة، والحمد لله رب العالمين.

الإسرائيليات والتراث الإمامي