نص الشريط
التأثير الروحي للقرآن الكريم
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 1/9/1428 هـ
تعريف: اليوم الأول من شهر رمضان المبارك
مرات العرض: 4117
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1381)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ

صدق الله العلي العظيم

[إذا أردنا معاملة القرآن] معاملةً رمضانيةً تدبريةً فلنتعرّف على صفات القرآن الكريم من القرآن الكريم نفسه.

الصفة الأولى: أحسن الحديث.

﴿اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ، الأحسنية، عندما يقال: هذا أحسن، بقولٍ مطلقٍ، الأحسنية هي الحسن الجامع بين الحسن الفعلي والحسن الفاعلي، لكل عمل لونان ونوعان من الحسن: حسن فعلي، وهو حسنه في ذاته، وحسن فاعلي، وهو الحسن الذي يتجاوزه إلى غيره، مثلًا: عندما نلاحظ الصلاة التي نصليها، الصلاة التي نصليها حتى تكون صلاةً مقبولةً مرضيةً، الصلاة التي نصليها لا بد أن تشتمل على حسنيين: حسن فعلي، وحسن فاعلي.

الحسن الفعلي: أن تكون الصلاة ذات وضوح، بمعنى أن الإنسان يجيد الركوع، يجيد السجود، يجيد قراءة القرآن، يقرأ الآيات ويقرأ الأذكار وهو ملتفت إلى معانيها، ملتفت إلى مضامينها، جمال الصلاة يسمى حسنًا فعليًا، جمال الصلاة في أفعالها، في أقوالها، في أذكارها، هذا الجمال الذاتي يسمى حسنًا فعليًا للصلاة.

وهناك حسن آخر، وهذا الحسن الآخر يتجاوز الصلاة، لا يقتصر عليها، لا يختص بها، الحسن الفعلي - وهو جمال الصلاة - يختص بالصلاة، لا يسري إلى غيرها من الأعمال، أما الحسن الفاعلي فهو يتجاوز الصلاة إلى غيرها من الأعمال، الحسن الفاعلي هو حالة الخشوع والقشعريرة التي تنعكس على المصلي وهو يمارس أفعال الصلاة، هذه الحالة الملكوتية، الحالة الخشوعية، ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ، هذه الحالة هي الحسن الفاعلي للصلاة، هذه الحالة حالة الخشوع والرهبة، حالة العروج إلى الله، ”الصلاة معراج المؤمن“، ”الصلاة قربان كل تقي“، الصلاة لماذا سميت صلاة؟ لأنها اتصالٌ غيبيٌ بين القلب وبين الله تبارك وتعالى، هذه الحالة الملكوتية الخاصة هي الحسن الفاعلي للصلاة، وهذا الحسن الفاعلي لا يقتصر على الصلاة، يمتد إلى غيرها من الأعمال، ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، هناك امتداد للصلاة.

إذن، لكل شيء حسن فعلي، وهو جماله في ذاته، وحسن فاعلي، وهو امتداده لغيره. هذا القرآن الكريم جمع الحسنين: الحسن الفعلي، والحسن الفاعلي، هذا القرآن جميع في سجعه، جميل في بلاغته، جميل في فصاحته، جميل في مضامينه، جميل في عجائب معلوماته، هذا كله جمال ذاتي، هذا كله حسن فعلي، وهناك حسن آخر للقرآن، وهو الحسن الذي يخترق القلوب، وهو الحسن الذي يغزو الأرواح، وهو الحسن الذي ينفذ إلى قلب من يتدبره، وإلى قلب من يتفاعل معه، ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا، ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا.

الحسن الفاعلي، حالة التفاعل مع كتاب الله، هذه تفتح المجال لكي يمتد كتاب الله إلى أفعالنا، إلى أعمالنا، إلى حركاتنا، إلى سكناتنا، إذن الحسن الفاعلي للقرآن امتداده في القلوب، الله تبارك وتعالى زرع بذور الهداية، وزرع بذور التأثير في آيات القرآن، إذا قرأتها اخترقت قلبك، إذا قرأتها اخترقت روحك، زرعت تأثيرها وامتدادها في نفسك، ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، فكيف بقلب الإنسان المتفاعل المنفتح على كتاب الله تبارك وتعالى؟! إذن، ﴿اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ حسنًا في ذاته، وحسنًا في تأثيره وامتداده في النفوس.

الصفة الثانية: كتابًا.

الكتاب له معنيان: المعنى الأول هو المادة المجموعة، المادة المجموعة ضمن مصحف واحد، ضمن مؤلف واحد، تسمى كتابًا. والمعنى الثاني: الكتاب هو المعلومات التي يجمعها غرضٌ واحدٌ وهدفٌ واحدٌ. السيد الخوئي «قدس الله نفسه» أخذ بالمعنى الأول، لا في هذه الآية، بل في آيات أخرى، مثلًا: عندما يقول القرآن: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي، عندما يعبّر عنه النبي أيضًا بالكتاب: ”إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله“، المقصود بالكتاب المادة المجموعة في مؤلف واحد ومصحف واحد.

هذا التعبير - كما يقول السيد الخوئي - دليلٌ على أن النبي بنفسه جمع القرآن في حياته، النبي بنفسه تصدى لجمع القرآن في حياته، القرآن لم يُجْمَع بعد وفاة رسول الله، بل جُمِع في عهد رسول الله، جمعه تحت مصحف واحد، ثم نشره بين المسلمين، التعبير بالكتاب يرشد إلى أن هذا القرآن جُمِع في عصر النبي .

السيد «قدس سره» لاحظ المعنى الأول للكتاب، لكن لو لاحظنا المعنى الثاني فلا توجد أي دلالة على أن القرآن جُمِع في عهد رسول الله ، المعلومات التي يجمعها هدفٌ واحدٌ كتابٌ، سواء كانت مجموعة أو غير مجموعة، حتى لو كانت مفرّقة في صحف شتى، مفرقة في عقول شتى، يسمى كتابًا، المعلومات التي تصب في هدف واحد، تصب في مسار واحد، كتابٌ.

هذا القرآن بمختلف معلوماته، معلومات تاريخية، معلومات كونية، معلومات شرعية، معلومات خلقية، جميع معلوماته تصب في غرضٍ واحدٍ وإطار واحد، وهو إطار الهداية، ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ، ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ، يصب في غرض الهداية وإطار الهداية، جميع معلوماته تصب في غرض واحد، لذلك عُبِّر عنه بالكتاب. إذن، التعبير بالكتاب إشارة إلى وحدة الغرض، وحدة الهدف، وحدة الإطار، الذي تصب فيه المعلومات المختلفة، ولا دلالة في هذه اللفظة على أنه جُمِع في عهد النبي المصطفى محمد .

الصفة الثالثة: متشابهًا.

التشابه على نوعين: صفة لبعض آيات القرآن الكريم، وصفة لمجموع آيات القرآن الكريم، عبّر القرآن أحيانًا بالتشابه كصفة لبعض الآيات، قال تبارك وتعالى: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، التشابه الذي هو وصفٌ لبعض الآيات يراد به الإجمال وعدم الوضوح، الإجمال إما في المفهوم أو الإجمال في المصداق، مثلًا: قوله تبارك وتعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا، مفهوم اليد مجمل، لا يدرى أن اليد من الأعلى أو من الذراع أو من الكف أو من أصول الأصابع، هذه اليد مجملة مفهومًا، هذه تسمى آية متشابهة، لأن فيها مجملًا مفهومًا.

وهناك بعض الآيات مجملة مصداقًا، أي أن مفهومها واضح، لكن مصداق هذا المفهوم في الخارج غير واضح، كما في قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، العرش مفهومه واضح، لو كنا نحن وكلمة العرش نعرف مفهومها، العرش هو مركز السلطة، مركز السلطة يسمى عرشًا، عرش السلطنة، عرش القدرة، وهكذا، العرش هو المركز، مفهوم العرش واضح، لكن ما هو مصداقه في الخارج؟ ما هو عرش الله في الخارج؟ هل عرش الله علمه؟ هل عرش الله قدرته؟ هل عرش الله الحقيقة المحمدية محمدٌ وآل محمد؟ هذا أمر غير واضح، فهذه الآية من المتشابهات، فإنها وإن كانت واضحةً مفهومًا لكنها مجملةٌ مصداقًا.

إذن فكل آية تشتمل على إجمال، إما إجمال في المفهوم أو إجمال في المصداق، تسمى آية متشابهة، بينما الآية المحكمة هي الواضحة مفهومًا ومصداقًا. التشابه هنا وصفٌ لبعض آيات القرآن، وهناك تشابهٌ وصفٌ لجميع آيات القرآن، كل الكتاب متشابه، ﴿كِتَابًا مُتَشَابِهًا أي أن جميع آياته موصوفة بهذا الوصف ألا وهو وصف التشابه، فما هو المراد بالتشابه هنا؟

ليس المراد بالتشابه هنا الإجمال، بل المراد بالتشابه هنا ورود سائر المضامين بنفس واحد ومستوى واحد. عندما نرجع إلى ما يذكره علماء النفس، وهذا مذكور في الفلسفة أيضًا، معرفة الإنسان معرفة تراكمية، بمعنى أن الإنسان كلما تقدم في العمر وانفتح على المعلومات ازدادت خبرته، انصقلت تجاربه، انفتحت آفاقه، تبين له أخطاء في بعض أعماله، تبين له أخطاء في بعض مقالاته، تبين له أخطاء في بعض معلوماته، معرفة الإنسان بطبيعتها هي معرفة تراكمية، ونعني الإنسان المنفتح على المعلومات، لا الإنسان الجالس الذي تمر عليه عشرون سنة وهو جالس لا يدرس ولا يتعلم ولا ينقب ولا يحقق، هذا يصبح في عد تنازلي.

المعرفة التراكمية هي عبارة عن تراكم المعلومات واتساع الآفاق وتبيّن موارد الخلل وموارد الخطأ، لذلك تلاحظ هذا الإنسان إذا تسمع كلامه قبل عشرين سنة وتسمع كلامه بعد عشرين سنة تجد كلامه مختلفًا من حيث القوة ومن حيث الدقة ومن حيث المتانة، كلامه متفاوت، لأن معرفته تراكمية فكلامه متفاوت، ليس كل كلامه بمستوى واحد من القوة، ليس كل كلامه بنفس واحد، ليس كل كلامه بنضج واحد، كلامه متفاوت من حيث القوة والضعف والمتانة والهزال، لأن معرفته تراكمية.

بينما إذا جئنا للأئمة - أئمة الهدى - هذا من أدلة الإمامة، إذا سألك شخص: اذكر لي دليلًا عقليًا على إمامة جعفر الصادق، أو دليلًا عقليًا على إمامة موسى الكاظم، أو محمد الباقر.. قل له: دليل إمامته أنه تكلّم بنفسٍ واحدٍ في مختلف مراحل عمره، ما ظهر عليه التفاوت في مختلف مراحل عمره، ولذلك لاحظ الإمام الشافعي مثلًا، من يوم كان عمره عشرين سنة إلى أن أصبح عمره خمسين سنة هو ينشر معلوماته، وينشر كلماته، وكلها مكتوبة ومحفوظة إلى يومنا هذا، كلماته متفاوتة، كلمات الإمام الشافعي متفاوتة، ما قاله وعمره عشرون سنة لا يصل في القوة والنضج إلى ما قاله وعمره خمسون سنة، كلمات متفاوتة، تكشف عن أن معرفته كان معرفة اكتسابية، معرفة تراكمية، لذلك تفاوتت من حيث الضعف ومن حيث القوة.

أنت اعقد نفس هذه القراءة لفكر الإمام جعفر الصادق ، الإمام الصادق عاش 68 سنة، تحدث وعمره عشرون سنة، تحدث وعمره أربعون سنة، تحدث وعمره 68 سنة، كلماته كلها في الفقه، في العقائد، في الأخلاق، في مجال التربية، كلها بنفس واحد، بمستوى واحد من القوة، بمستوى واحد من النضج، بمستوى واحد من الدقة، كلمات غير متفاوتة، كلمات غير مختلفة، هذا التناسق والتوحّد في الكلمات يكشف عن أن هذا الرجل ليست معرفته معرفة اكتسابية، بل معرفته معرفة إلهامية لدنية، فهو إمام من قِبَل الله تبارك وتعالى.

هذا المعنى أنت تراه في نهج البلاغة، نهج البلاغة ليس خطبًا لسنة واحدة، بل هو خطب سنين، جُمِعَت كلمات علي لسنين عديدة، فرآها المحللون والعلماء والنقّاد ذات نفس واحد ومستوى واحد ونضج واحد، هذا المعنى نفسه في القرآن الكريم، وهذا معنى التشابه، هذا القرآن الذي نزل طوال 23 سنة، لو كان كلام بشر لتفاوت، لو كان هذا الكلام صادرًا عن بشر عادي لتفاوت، لاختلفت قوته وضعفه ومتانته وهزاله، لكن القرآن لمدة ثلاث وعشرين سنة بنفس واحد، وبمستوى واحد، مما يكشف عن أنه كلام الله تبارك وتعالى، ﴿اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا ليس متفاوتًا، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لو كان كلام بشر لرأوه متفاوتًا، ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، يعني اختلاف في المستوى، اختلاف في النفس، اختلاف في الدرجة.

الصفة الرابعة: مثاني.

مثاني جمع مثني ومثنية، وهو ما عُطِف على غيره، مثلًا: بدأ بكذا وثنّى بكذا، يعني عطف الثاني على الأول، ما عُطِف على الشيء يقال له مثني، هذا معطوف على هذا فهو مثنيٌ عليه. القرآن الكريم أدوات تفسيره من داخله، أنت إذا أردت أن تفسّر القرآن فأدواته من داخله، في نفس القرآن أدوات تفسيره.

مثلًا: عندما نقرأ قوله تعالى: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ، ما معنى أم الكتاب؟ يعني المرجع، هناك آيات تشكّل مرجعًا لبقية الآيات، القرآن الكريم آياته على قسمين: قسم من الآيات يتعلق بالتفاصيل، يتعلق بالجزئيات، وقسم من الآيات يتحدث عن القواعد الكلية، يتحدث عن الخطوط العامة، الآيات المتعلقة بالتفاصيل لا يمكن فهمها إلا إذا أرجعناها إلى الآيات التي تتحدث عن القواعد العامة، الآيات التي تتحدث عن القواعد العامة سمّاها أم الكتاب، المرجع في فهم الآيات الأخرى، المعوّل عليه في فهم الآيات الأخرى.

إذن، القرآن آياته يفسّر بعضها بعضًا، وهذا ما ورد عن الإمام أمير المؤمنين : ”اضربوا القرآن بعضه ببعض“، آياته تفسّر البعض الآخر، ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ، ما هي الليلة المباركة؟ الآية الأخرى تقول: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فسّرت الليلة المباركة بليلة القدر. مثلًا: عندما يقول تبارك وتعالى: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، ما هو أحسن القول؟ نفس هذه الآية التي قرأناها تفسّر ما هو المقصود بأحسن القول: ﴿اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ، أحسن الحديث هو أحسن القول، وهو القرآن الكريم، فالقرآن يفسّر بعضه بعضًا، وهذا معنى كلمة مثاني، بعضه معطوف على بعض، بعضه قرينة على البعض الآخر، بعضه أداة لتفسير البعض الآخر.

الصفة الأخيرة: التأثير الروحي.

﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ، هذه الصفة صفة روحية، لا بد أن نلتفت إليها ونحن نتعامل مع القرآن الكريم، الصفة الأخيرة من صفات القرآن الكريم إشارة إلى التأثير الروحي للقرآن الكريم، كيف يكون للقرآن الكريم تأثير روحي على قارئه وعلى متدبره؟ هنا نرجع إلى ما يذكره علماء العرفان في هذا المقام، علماء العرفان يقولون: منازل ومراتب العروج إلى الله تبارك وتعالى مراتب ثلاث: حق، وصعق، ومحق.

المرتبة الأولى: مرتبة الحق.

مرتبة الحق عبّر عنها القرآن الكريم في عدة موارد بالخشية، أحيانًا نرى القرآن الكريم يعبر بالخوف، وأحيانًا يعبّر بالخشية، مثلًا: ﴿إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، ويقول في مورد آخر: ﴿وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ، ﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ، فما هو الفرق بين الخوف والخشية؟

الرهبة التي تصيب الإنسان تارة يكون منشؤها إدراك القوة، هذا يسمى خوفًا، وتارة يكون منشأ الرهبة إدراك العظمة، هذا يسمى خشيةً، الرهبة الناشئة عن إدراك القوة خوفٌ، والرهبة الناشئة عن إدراك العظمة خشيةٌ، والخشية من صفات العلماء الذين يدركون عظمة الله تبارك وتعالى، لذلك قال تبارك وتعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ، الذين يخافون الله كثيرون لكن الذين يخشونه قلائل، الخشية تختلف عن الخوف.

الإنسان عندما يتصور أن الله بيده الجنة والنار، قوي قادر مهيمن على الوجود كله، تصيبه الرهبة لأنه أدرك أن الله قوي قادر على أن يصنع به ما يشاء، هذه تسمى خوفًا، الرهبة الناشئة عن إدراك قوته تبارك وتعالى خوفٌ، ولكن إذا تأمل الإنسان في هذه الذات المستجمعة لسائر صفات الكمال، كلها حياة، كلها قدرة، كلها علم، كلها عطاء، كلها مدد، لا حد له، لا نفاد له، إذا أدرك عظمة الله تبارك وتعالى أصابته الرهبة، الرهبة الناشئة عن إدراك عظمته تسمى خشية، لأنها نشأت عن إدراك العظيم بما هو عظيم، لا عن إدراك القوي بما هو قوي.

إذن، المرتبة الأولى من مراتب السلوك إلى الله مرتبة الخشية، أي: إدراك عظمته تبارك وتعالى، هذه المرتبة تسمى عند العرفاء بالحق، مرتبة الخشية. هذه المرتبة أشارت إليها الآية، قالت: ﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، أولًا فرضنا أنهم يخشون ربهم، لما فرضنا أنهم يخشون ربهم، يعني فرضنا فيهم المرتبة الأولى، انتقلنا إلى المرتبة الثانية، ألا وهي مرتبة الصعق.

المرتبة الثانية: مرتبة الصعق.

مرتبة الصعق مأخوذة من الآية: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا. الله تبارك وتعالى يتعامل مع عباده بقانون الإثارة، عباده المنفتحون عليه طبعًا، عباده المنشرحون إليه، عباده الذين ينفتحون عليه يتعامل معهم بقانون الإثارة، الإمام أمير المؤمنين في بعض كلماته يقول: ”وروّعتهم بعجائب حكمتك“، أي أن الله تبارك وتعالى بين حينٍ وآخر يثير أمام عبده مظهرًا من مظاهر عظمته، ما دام العبد منفتحًا على الله، ما دام العبد منشرح الصدر لله، بين حين وآخر الله تبارك وتعالى يعطيه صدمات كهربائية، بين حين وآخر يظهر له مظهرًا جديدًا من عظمته، من قدرته، حتى يجعله دائمَ الانجذاب إليه، دائمَ التعلق به، دائمَ الاتصال به.

هذه إثارة مشاهد العظمة، إثارة مشاهد الكبرياء، إثارة مشاهد الكبرياء، هذا يسمى ترويعًا، وهذا يسمى بمرحلة الصعق، ينصعق هذا العبد، بين فترة وأخرى يظهر له مظهر من مظاهر حكمته، مظاهر عظمته، مظاهر قدرته، فينصعق بها، مثل الصدمات الكهربائية التي تعطى لهذا الإنسان المخدَّر، إنسان مغمى إليه، إنسان مخدَّر، نعطيه وكزات، صدمات كهربائية، حتى يلتفت، حتى ينصعق، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا، نحن لا نقطع الفيض عنهم، لا نقطع المدد عنهم، دائمًا نثيرهم، دائمًا نروّعهم، دائمًا نلفتهم إلى مظاهر العظمة، إلى مظاهر الكبرياء، ”وروّعتهم بعجائب حكمتك“.

هذه مرحلة الصعق التي موسى قال له: أرني أنظر إليك، قال: أنا أعطيك مظهرًا من مظاهر العظمة يغنيك عن هذا السؤال، ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ أي: أفاض على الجبل طاقةً من الضوء هي أكبر حجمًا من تحمّل هذا الجبل وقدرة هذا الجبل، لما أفاضها جعله دكًا وخرّ موسى صعقًا. هنا الآية تشير إلى مرحلة الصعق: ﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، مرتبة القشعريرة هي مرتبة الصعق لمظاهر عظمة الله تبارك وتعالى وجلاله. ثم يصل إلى المرتبة الثالثة، هذا الإنسان المروَّع بعجائب حكمة الله، المصعوق بجلال الله، يظل هكذا دائمًا مصعوقًا؟! لا، تمر حالة الصعق، يقفز منها، ينطلق منها إلى مرتبة أعلى، وهي مرتبة المحق.

المرتبة الثالثة: مرتبة المحق.

هذه المرتبة المعبّر عنها في القرآن الكريم بالطمأنينة، ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، يصل إلى مرحلة الاطمئنان، ولهذا موسى بعد هذه المرحلة التي صُعِق فيها اطمأن بالمعرفة النورية الإلهية الخاصة، وصل إلى مرحلة الاطمئنان، مرحلة الاطمئنان المرحلة الأخيرة، مرحلة المحق، يعني: اليقين التام بنفوذه تبارك وتعالى وهيمنته وسيطرته على هذا الوجود بأسره، هذا اليقين الوجداني، هذا اليقين الشهودي، هذا اليقين الحسي، مرتبة الاطمئنان، التي يصل إليها السالك إلى الله.

القرآن الكريم عبّر عن هذه المرتبة: ﴿ثُمَّ تَلِينُ يعني تطمئن، ﴿ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ، حتى الجلود ينعكس عليها حالة الاطمئنان والسكينة والهدوء إلى ذكر الله، ﴿ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ. ولهذا، أحيانًا واحد يسألك سؤالًا: ما هو الفرق بين هاتين الآيتين؟ عندنا آية تقول: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، هم في حالة خوف وقشعريرة، بينما آية أخرى تقول: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، هناك يقول: وجلت، هناك يقول: تطمئن، فكيف نجمع بين الآيتين؟

الجمع بين الآيتين: اختلاف المرتبة، اختلاف الدرجة، يعيش المؤمن أولًا حالة الصعق، هذه حالة الوجل هي حالة الصعق بما يثيره الله من عجائب حكمته، ثم ينطلق من حالة الصعق إلى حالة المحق وحالة الاطمئنان، يصل إلى حد الاطمئنان الذي خوطب به: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، إذن هناك اختلاف في المرتبة، كما ذكرتها الآية المباركة.

ومن يسلك هذا الطريق - طريق الخشية، ثم يصل من الخشية إلى حالة الصعق، ثم يصل إلى حالة الاطمئنان - فقد حصل على الهداية النورية الخاصة، هناك هداية عامة للكون كله، هذه هداية تكوينية، ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ، هذه هداية عامة، وهناك هداية خاصة بالبشر، وهو أنه أنزل إليهم الكتب، وبعث إليهم الأنبياء والرسل، ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا، وهناك هداية أخصّ، خاصة بالمؤمنين، لا تعطى لغيرهم، هذه الهداية النورية، أن المؤمن يتوفق بأن يسلك هذا الطريق، طريق الخشية، وطريق الصعق، وطريق الاطمئنان إلى الله تبارك وتعالى، بعد أن ذكر الطريق جلّ وعلا قال: ﴿ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ لا كل أحد، الإنسان المنفتح.

الإنسان الذي غلّف قلبه، مثلنا نحن، نحن غلّفنا قلوبنا، نحن وضعنا على قلوبنا حجبًا، نحن جعلنا على أرواحنا جدرانًا رصينةً سميكةً، تحجبنا وتمنعنا عن أن نتذوق النور، وأن ننفتح على النور، وأن ننفتح على القرب من الله، والعلاقة مع الله، نفوسنا مغلفة، أرواحنا مغلفة مع الأسف، نحن نعيش في حجاب القسوة، وفي حجاب الغفلة، وهذا ما ذكره تبارك وتعالى قبل هذه الآية: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ، نحن من هذا الصنف، ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ.

نحن نعيش مرض القسوة، مرض الغفلة، مرض الحجب، حجب الذنوب، حجب المعاصي، حجب الإصرار على الذنوب، والإصرار على المعاصي، والإصرار على الرذائل، هذا الإصرار على المعاصي والرذائل يشكّل حجابًا رصينًا قاتمًا أسود يمنعنا من تذوّق النور، ويمنعنا من الانفتاح على الله تبارك وتعالى، ”ما يزال العبد يذنب حتى تخرج في قلبه نكتةٌ سوداءُ، فإذا تاب انمحت، وإذا عاد عادت، حتى تغلب على قلبه“ يصبح قلبه قطعة فحمة سوداء ”حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبدًا، وذلك قوله تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ“، صار فيها رين، صبغ أسود، هذا الرين صبغ القلب، جعله فحمة سوداء.

أما الذين انشرحوا، انفتحوا، شهر رمضان انفتحوا على عطائه، عطائه الروحي، انفتحوا على القرآن، انفتحوا على نافلة الليل، انفتحوا على أدعية هذا الشهر، اغتنموا الفرصة، تزودوا من الوقت، ذاقوا حلاوة العبادة في شهر رمضان، ذاقوا حلاوة التوبة من المعاصي، ذاقوا حلاوة الإقلاع التام عن الذنوب والرذائل صغيرها وكبيرها، هؤلاء الذين شرح الله صدرهم.

إذن، يدخل علينا شهر رمضان، شهر السعادة، السعادة للمنفتحين، شهر السعادة، شهر الخاتمة الحسنة، الإنسان الذي يقطع هذا الشهر بالعبادة، بالتوبة، بالانفتاح على الله، ساعة في يوم يقرأ فيها شيئًا من القرآن، يصلي شيئًا من النافلة، يقرأ شيئًا من الدعاء، ساعة من أربع وعشرين ساعة تجعلنا من أهل السعادة، ساعة من أربع وعشرين ساعة تغيّر شخصياتِنا، ساعة من أربع وعشرين سنة تتدارك الخلل والخطأ والجريمة والإصرار على المعاصي الذي ثابرنا عليه لمدة سنة كاملة، ساعة من أربع وعشرين ساعة تنقلنا من حضيض الذنوب إلى قمة النور، إلى الهداية النورية، إلى أن نكون مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ.

موقف القرآن من الأحداث المتغيرة
تاريخية النص القرآني ونقدها