نص الشريط
الإنسان وهدفية العبادة
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 4/9/1428 هـ
مرات العرض: 3297
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1286)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ

صدق الله العلي العظيم

كلامنا حول هذه الآية المباركة في عدة نقاط:

النقطة الأولى: رجوع الغاية للمخلوق لا للخالق.

جعل تبارك وتعالى الغاية من خلق الجن والإنس العبادة، فهل أن هذه غاية للخالق، أو أنها غاية للمخلوق؟ نحن نعلم بأن الله تبارك وتعالى هو عين الكمال، وما كان عين الكمال فلا يحتاج إلى غيره، وإذا لم يكن محتاجًا لغيره فلا وجه لأن ترجع الغايات والأغراض إليه تبارك وتعالى. هناك عبارة يذكرها الفلاسفة، وهي أنَّ الفاعل الكامل غايته ذاتُه، والفاعل الناقص غايته تكميل ذاته. هناك عندنا فرق بين شخصين: بين شخص كريم بطبعه، وبين شخص يتعلّم الكرم ليتخلص من خصلة البخل، أو ليتخلص من صفة البخل.

الشخص الذي يتعلم الكرم هو ليس كريمًا بطبعه ولكنه أراد أن يتعلم الكرم، فبدأ يضحي ببعض أمواله أو ببعض أملاكه أو ببعض طاقاته أو ببعض جهوده، كي يتعلم على روح العطاء، كي يتعلم على روح التضحية والكرم، هذا فاعل ناقص، غرضه من أفعاله - وهي التضحية ببعض المال، أو التضحية ببعض الطاقات - غرضه من هذه التضحية تكميل ذاته لأنه فاعل ناقص، فقصده وهدفه وغرضه من هذه الأعمال أن يكمّل ذاته.

بينما إذا فرضنا أن هناك شخصًا كريمًا بطبعه، هو خُلِق كريمًا، خُلِق لا يعبأ بالمال ولا يعبأ بالملك ولا يعبأ بصرف طاقة ولا يعبأ بصرف جهد، خُلِق كريم الطبع، خُلِق وهو يمتلك روح التضحية، هذا الإنسان عندما يضحي، مثلًا يقف في الشارع بعض الوقت في حرارة الشمس كي يدل إنسانًا تائهًا في الطريق، أو لكي يمسك بإنسان مكفوف ويقطع به الشارع من مكان إلى آخر، هو بطبعه إنسان مضحٍ بالوقت، بالجهد، بالطاقة، هذا الإنسان عندما يقوم بهذه الأعمال ليس هدفه تكميل ذاته لأن ذاته من حيث الكرم والتضحية كاملة، هو كريم بطبعه، وإنما هدفه ذاته، معنى أن هدفه ذاته أن صدور الكرم وصدور التضحية منه صدورٌ تلقائيٌ، صدورٌ استرساليٌ، صدورٌ هو مقتضى ذاته، مقتضى ذات الكريم صدور الكرم، مقتضى ذات المعطاء صدور العطاء، صدور الكرم والعطاء منه هو مقتضى ذاته، لا أنه له غرض وراء ذلك، وهو أن يُكْمِل ذاته. هذا معنى «الفاعل الكامل غايته ذاته، والفاعل الناقص غايته تكميل ذاته».

عندما نأتي إلى الله تبارك وتعالى: الله فاعل كامل غني، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ، الله هو عين الكمال من تمام الجهات، فما هي غايته من خلق مخلوقاته ومن خلق الجن والإنس ومن خلق هذا الوجود بأسره؟ ليس غايته من خلق هذا الوجود بأسره تكميل ذاته، ليس هناك غرض يعود إليه، ليست هناك غاية تعود بالنفع إليه، لأنه عين الغنى، عين الكمال، عين الاستقلال، إذن غايته من إيجاد هذا الوجود كله إنما ظهور ذاته، الوجود مظهر له، بما أنه تبارك وتعالى هو عين العطاء، عين الجود، عين التفضل، صدور هذا الوجود منه هو مقتضى ذاته، لأن ذاته هي مصدر العطاء والتفضل والجود بلا حد وبلا قيد، هذا الوجود كله ظهورٌ له، تجلٍ له، هو مقتضى ذاته، من أنه عين العطاء والجود والكرم، وليس له غرض وغاية من هذا الوجود يستكمل بها أو تعود بالنفع إليه.

إذن فالنتيجة: أن قوله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، غاية للمخلوق وليست غاية للخالق، هو ليس له غاية تعود بالنفع إليه وراء خلق الجن والإنس، خلق الجن والإنس لغاية تعود إليهم، لغرض يعود إليهم، وهو أن يكونوا في مقام العبودية والاتصال بالله تبارك وتعالى.

النقطة الثانية: الحكمة الإلهية وإشكالية كثرة الكفار.

هناك إشكال مطروح في علم الكلام، وهو إشكال قديم حديث، حتى الكتّاب المحدثين الآن يطرحون هذا الإشكال وهذا السؤال. تخلّف الهدف يكشف عن خلل في المنتَج وطبيعة الإنتاج، كيف؟ مثلًا: أنا الآن أبني مصنعًا، أشيّد مصنعًا، هذا المصنع الغرض منه إنتاج أجهزة جوال، بهدف أن تكون هذه الأجهزة طريقة للاتصال السريع بين المتواصلين من أبناء البشر، فأنا هدفي من هذا المصنع هو تحقيق الاتصال السريع بين أبناء البشر.

إذا فرضنا أنني أنتج في السنة من هذا المصنع ألف جهاز، ما يعمل من هذه الأجهزة ويحقق الهدف عشرون جهازًا فقط، كل سنة أنا أنتج ألف جهاز والذي يعمل من هذه الأجهزة عشرون جهازًا فقط، والباقي عاطل، هذا يكشف عن ماذا؟ تخلف الهدف يكشف عن خلل في المنتَج، أن المنتَج فيه خلل، والخلل في المنتَج يكشف عن خلل في كيفية الإنتاج ووسائل الإنتاج، إذن هذا إنسان ليس حكيمًا، الذي يصنع مصنعًا لإيجاد أجهزة تحقق الاتصال السريع، وينتج في السنة ألفًا، ولا يعمل منها إلا عشرون.

هذا الإشكال طُرِح على الباري تبارك وتعالى، الله كم يوجد في السنة؟ الله كم يخلق من البشر في السنة؟ هذا منتِج، وهو الله، وهناك منتَج، وهو البشر، فلنقارن الهدف بعدد المنتَج، فلنقارن تحقق الهدف بعدد المنتَج من قِبَله تبارك وتعالى، لنفرض أنه يخلق كل سنة مئة مليون إنسان، ما هو الهدف من خلق مئة مليون إنسان كل سنة؟ الهدف هو العبادة، لكن هذا الهدف يتخلف، من هذه المئة مليون في كل سنة لا يعبده إلا ألف شخص، ألف شخص من مئة مليون إنسان كل سنة هو الذي يعبده تبارك وتعالى، النتيجة ما هي؟ النتيجة أن الهدف تخلف، الهدف من خلق مليون إنسان في كل سنة وصول الإنسان إلى العبادة، تحقق العبادة من الإنسان، لكن هذا الهدف يتخلف في أكثر أفراد الإنسان، كما قال تبارك وتعالى: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُون، وكما قال تعالى: ﴿وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ، وكما قال تعالى: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ.

إذن، الذي يحقق الهدف واحد بالألف من المخلوقين، إذن فالنتيجة أن الهدف تخلف، وتخلف الهدف يكشف عن خلل في المنتَج، ووجود خلل في المنتَج يكشف عن خلل في الإنتاج ووسائل الإنتاج، وهذا لا يجتمع مع الحكمة، مع كونه تبارك وتعالى حكيمًا يضع الأشياء في مواضعها. هذا هو السؤال المطروح في علم الكلام، فكيف نقارن بين ذلك وبين قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ؟ هذا يحتاج إلى جواب، فما هو الجواب؟

الجواب الأول: الهدف هو العبادة الاستعدادية لا الفعلية.

هل المراد بالعبادة في الآية المباركة العبادة الفعلية أم المراد بالعبادة العبادة الاستعدادية؟ إذا كان المراد بالعبادة في الآية العبادة الفعلية، يعني: أنا ما خلقت الجن والإنس إلا ليكونوا عابدين بالفعل، فهذا الهدف تخلف فعلًا، العابد بالفعل واحد من مليون، واحد من مليار، أما إذا كان المراد بالعبادة العبادة الاستعدادية، يعني: أنا ما خلقت الجن والإنس إلا ليكونوا مؤهلين للعبادة، الهدف من خلقهم أن يكونوا على استعداد للعبادة، صنعتهم وصنعتُ فيهم مواد الاستعداد للعبادة، خلقتهم لأجل الاستعداد للعبادة لا لأجل العبادة الفعلية، الهدف هو الاستعداد للعبادة وليس العبادة الفعلية، هذا الهدف لم يتخلف.

أغلب البشر إلا من كان مجنونًا أو كان صبيًا غير مميز، أغلب البشر يمتلكون الاستعداد للعبادة، لأنهم يمتلكون العقل والرشد، ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا، ويؤيد هذا الرواية الواردة عن الإمام الصادق في تفسير الآية المباركة ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ قال: ”إلا ليعرفون“، فسّر العبادة بالمعرفة، والمعرفة هي من مواد الاستعداد للعبادة، الهدف من خلقهم إعطاؤهم الاستعداد والأرضية الصالحة الممهدة لعبادة الله تبارك وتعالى.

الجواب الثاني: الهدف صدور العبادة من نوع الإنس والجن.

لنفترض أن العبادة في الآية العبادة الفعلية، كما هو ظاهر يعبدون، يعني يعبدون فعلًا، نفترض ذلك، ولكن العبادة الفعلية هدف لخلق كل بشر أم هدف لخلق نوع البشر ونوع الإنس والجن؟ في علم النحو يقولون: هناك فرق بين ال الجنسية وبين ال الاستغراقية، تارة تقول: الرجل خيرٌ من المرأة، هذه كلمة معروفة عند العرب، نحن لا نقولها، ولكن هذا مثل معروف عند العرب، عندما يقال: الرجل خير من المرأة، لا يراد به ال الاستغراقية، يعني كل رجل خير من كل امرأة، وإنما يراد به ال الجنسية، أي أن نوع الرجل خيرٌ من نوع المرأة، وإلا فهناك بعض النساء أفضل من مليارات الرجال، إذن فبالنتيجة المراد هنا ال الجنسية لا ال الاستغراقية.

كذلك عندما يقال بأن الإنسان خير من الحيوان، يعني كل إنسان خير من كل حيوان؟! لا، بعض الحيوانات أفضل من مليار إنسان، كما ورد عن الإمام أمير المؤمنين : ”إن الله خلق الملائكة عقلًا بلا شهوة، وخلق البهائم شهوةً بلا عقلٍ، وركّب في الإنسان عقلًا وشهوةً، فمن غلب عقلُه شهوتَه فهو خيرٌ من الملائكة، ومن غلبت شهوتُه عقلَه فهو أدنى من البهائم“، بعض البهائم تنفع الإنسان، تساهم في خدمة الإنسان، وبعض الناس عاطل باطل، بل يكون مصدر ضرر ومصدر آفة بالنسبة لمجتمعه، فليس كل إنسان خيرًا من كل حيوان، هنا يراد ال الجنسية، يعني نوع الإنسان خيرٌ من نوع الحيوان.

المراد بال في الآية المباركة هي ال الجنسية، يعني: وما خلقت جنس الجن وجنس الإنس إلا ليعبدون، لا أنه لم أخلق كل فرد من الجن وكل فرد من الإنس إلا ليعبدون، هذا هدفٌ لنوع الإنسان وليس هدفًا لخلق كل إنسان، وبما أنه هدفٌ للنوع فيكفي في تحقيق هذا الهدف وجود جماعةٍ يصلون إلى أعلى درجات العبادة، وأسمى درجات العبادة، إذا وُجِد جماعة يحققون هذا الهدف بأعلى مراتبه وبأعلى درجاته فقد تحقق الهدف من خلق نوع الإنسان ونوع الجان، ”ما خلقت سماءً مبنيةً، ولا أرضًا مدحوّةً، ولا قمرًا منيرًا، ولا شمسًا مضيئةً، ولا فلكًا يسري، ولا بحرًا يجري، إلا لأجل هؤلاء الخمسة الذين هم تحت الكساء. قيل: ومن تحت الكساء؟ قال: هم فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها“.

الجواب الثالث: العبادة هي الهدف الأقصى لا الأدنى.

هذا الوجه وجهٌ علميٌ يحتاج إلى دقة وتعمّق. هناك هدفان من وجود هذا الوجود العاقل، وهو وجود الإنسان ووجود الجان، الهدف الأدنى والهدف الأقصى، الهدف الأدنى مظهرية الموجود لله عز وجل، والهدف الأقصى تحقق العبادة من الإنسان على نحو صِرْف الوجود. الله تبارك وتعالى خلق هذا الكون بأسره، خلق هذا الوجود بأسره، لكي يكون الوجود مظهرًا له، الهدف، الغاية من خلق هذا الوجود بأسره كون الوجود وجهًا له، مظهرًا له، مظهرًا لقدرته، مظهرًا لحياته، مظهرًا لحكمته، مظهرًا لإبداعه، مظهرًا لجميل صنعه، هذا الوجود بأسره وجه الله، مظهرٌ لله تبارك وتعالى، يحكي الذات المقدّسة المستجمعة لسائر صفات الجلال والجمال والكمال، الهدف من الوجود أن يكون الوجود مظهرًا له.

وهذا ما ورد في الحديث القدسي: ”كنتُ كنزًا مخفيًّا، فأحببت أن أعرف، فخلقتُ الخلق لكي أُعْرَف“، يعني لكي يكون هذا الوجود مظهرًا لي، لكي يكون هذا الوجود وجهًا لي، وكلما كان المخلوق أقوى وجودًا صار أعظم مظهريةً لله تبارك وتعالى، أنت لا تقارن بين الشمس وبين القمر، ولا تقارن بين الشمس وبين نجمة تسطع في السماء، الشمس أقوى وجودًا، الطاقة التي أُودعت في الشمس أقوى من الطاقة التي أودعت في النجم أو في القمر، فالشمس أعظم مظهريةً لله تبارك وتعالى من هذا القمر أو من هذا النجم الذي نراه، كلما كان المخلوق أقوى وجودًا كان أعظم مظهريةً لله عز وجل.

وكذلك البشر، الكلام في البشر هو كذلك، تفاوت البشر في الوجود، لا في الوجود الجسمي، البشر بعضهم صاحب عضلات، وبعضهم جسمه هزيل، بعضهم جسمه نحيل، لا نقصد تفاوت الأجسام، بل تفاوت الطاقات، كلما كان البشر أقوى طاقة، طاقة عقلية، طاقة ثقافية، طاقة إيمانية، طاقة روحية، كلما كان البشر أقوى طاقة كان أعظم مظهرية لله تبارك وتعالى من غيره من أفراد البشر، وفي الطليعة الذين هم أقوى وجودًا - عقلانيً، ا علميًا، روحيًا، كماليًا - محمدٌ وآل محمد، فهم أعظم مظهريةً لله تبارك وتعالى من أي مخلوق آخر.

ولذلك ورد في الرواية: ”من أراد أن يرى الله فلينظر إلى علي بن أبي طالب“، أي أن علي بن أبي طالب لأنه أقوى البشر طاقةً بعد رسول الله ، طاقة في علمه، طاقة في عقله، طاقة في إدارته، طاقة في روحيته، طاقة في صموده وصبره وإرادته، لأنه أقوى البشر طاقةً فهو أعظم مظهريةً لله تبارك وتعالى من أي مخلوق آخر.

كل بشر - حتى لو كان كافرًا، حتى لو كان فاسقًا، حتى لو كان منحرفًا - فهو مظهرٌ لله، كل بشر بمقدار ما أعطي من الوجود والطاقة فهو مظهرٌ لله تبارك وتعالى أراد أو لم يرد. إذن، الهدف من خلق هذا الوجود كونه مظهرًا لله، وهذا الهدف لم يتخلف في أي مخلوق من المخلوقات، لذلك لا يأتي هذا الإشكال بأن تخلف الهدف يكشف عن خللٍ في الإنتاج، الهدف لم يتخلف، الهدف الأدنى لم يتخلف.

هناك هدف أقصى، ألا وهو هدف العبادة، هدف العبادة الذي عبّر عنه تبارك وتعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، هدف العبادة هدفٌ أقصى، نحن نسأل: هل الله تبارك وتعالى يريد العبادة من الجن والإنس على كل حال، أم يريد منهم العبادة عن اختيارٍ منهم؟ طبعًا هو يريد العبادة منهم عن اختيار، الهدف ليس العبادة فقط، الهدف من وجود الجن والإنس العبادة عن اختيارٍ، لا العبادة مطلقًا، وإلا لجبر العباد على العبادة، لو كان الهدف من خلق الجن والإنس العبادة مطلقًا لجبر الجن والإنس على العبادة حتى يتحقق هدفه، الهدف من الجن والإنس العبادة عن اختيار، العبادة عن إرادة، فإن العبادة لا تؤتي ثمارها إذا كانت جبرية، إنما تؤتي ثمارها إذا كانت اختيارية، ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ، لا يمكن للإنسان أن يصل إلى درجة اليقين إلا إذا كانت عبادته عبادة اختيارية بإرادته.

بما أن الهدف هو العبادة عن اختيار، لا محالة أن يكون هدفًا لكل إنسان؛ لأن البشر يتفاوتون في الاختيار، فبعضهم قد يختار العبادة، وبعضهم قد لا يختار العبادة، فالهدف الأقصى هو العبادة عن اختيار، والعبادة عن اختيار لا تتحقق من كل بشر، فلا محالة هذا الهدف جُعِل هدفًا ثانويًا وليس هدفًا أوليًا، هدف أقصى وليس هدف أدنى، لا محالة هذا الهدف هدفٌ لأولئك الأولياء الكُمَّل الذين هداهم الله لطريق العبادة. إذن، عندنا هدف أدنى، وهذا لم يتخلف، وعندنا هدف أقصى، وهذا الهدف الأقصى يستحيل أن يكون هدفًا لكل إنسان؛ لأنه مناطٌ بالاختيار، ولا يتصوّر ذلك في كل إنسان، فلا محالة هو هدفٌ لنخبةٍ من الجن والإنس.

والعبادة درجات ومراتب، فكل فرد من الجن والإنس ينال مرتبةً من مراتب هذا الهدف، وقد لا ينال جميع المراتب إلا خصوص النخبة الذين خلقهم الله تبارك وتعالى وأمدّهم بالوسائل التي توصلهم إلى أن يكونوا القمة والمثل الأعلى في تحقيق العبادة.

النقطة الثالثة: حقيقة العبادة.

ما هو المقصود بالعبادة؟ هناك مفهومٌ للعبادة، وهناك مصداقٌ للعبادة. مفهوم العبادة هو الاتصال بالله، وأما مصداق العبادة كهذه الصلوات التي نمارسها، الصلاة، الصيام، الصدقة، بر الوالدين قربة لله تعالى، تعليم الناس قربة إلى الله تعالى، كل ذلك مصداق من مصاديق العبادة، أما مفهوم العبادة فهو الاتصال الملكوتي، الاتصال الغيبي بين الإنسان وبين ربه، وكما يعبّر علماء العرفان: جعل العبد نفسَه في صراط العبودية، أنا عبد لله، لكن كيف أحقّق كوني عبدًا لله؟ إنما أحقّق ذلك بهذا الاتصال الغيبي الملكوتي بين قلبي وبين الله تبارك وتعالى.

العبد عندما يجعل نفسه في صراط العبودية، يقول: أنا عبدٌ لله، فلأكن عبدًا لله أيضًا، كما أنا عبد لله تكوينًا فلأكن عبدًا لله سلوكًا وعملًا، تحقيق العبودية في السلوك هو العبادة، وأما الصلاة والصوم فهذا كله مصاديق، مظاهر، العبادة هنا في القلب، يعني الاتصال الملكوتي القلبي بين الإنسان وبين الله، إشارة القلب إلى الله، القلب له إشارات، هذه الإشارة القلبية، إشارة القلب لقوةٍ وراء الطبيعة، لقوة وراء الوجود، هذه الإشارة القلبية هي حقيقة العبادة، لأنها إشارة تذللية خضوعية، إشارة الخشوع والخضوع والتذلل لله تبارك وتعالى، وأي عمل يقوم به الإنسان فهو مظهرٌ للعبادة، لتلك الحالة الاتصالية الملكوتية الخاصة بين قلب الإنسان وبين ربه عز وجل.

حقيقة الإعجاز في القرآن الكريم
العدل في القرآن الكريم