نص الشريط
بين الشهر الطبيعي والشهر الشرعي
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مسجد الإمام علي (ع) بالقطيف
التاريخ: 2/9/1425 هـ
تعريف: اليوم الأول و الثاني من شهر رمضان
مرات العرض: 4750
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1459)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ

صدق الله العلي العظيم

ذكر علماء الفلك بالنسبة إلى حركة القمر أمورًا متعددةً:

الأمر الأول: الحركة الاقترانية.

للقمر حركة تسمى بالحركة الاقترانية، وهي حركة تبدأ من المغرب إلى المشرق، بعكس حركة الأرض التي تبدأ من المشرق إلى المغرب، والقمر كالأرض له نصفان: نصف مضيء، ونصف مظلم، فالنصف المواجه للشمس يكون نصفًا مضيئًا، والنصف المقابل له يكون نصفًا مظلمًا، فالقمر بنصفه المضيء يكوّن الزمن الذين نسميه بالليل، وبنصفه المظلم يكوّن الزمن الذي نسميه بالنهار.

الأمر الثاني: حالة المحاق.

إن للقمر وضعين أساسين: الوضع الأول هو أن يقع القمر بين الأرض والشمس، بحيث ينطبق مركز القمر على الخط الوهمي الواصل بين مركز الأرض ومركز الشمس، فإذا وقع القمر في الوسط صار مقابلًا للأرض بنصفه المظلم، فلا يرى منه شيء، حتى لمن يكون في أقصى الأرض، لا يرى من القمر شيئًا، لأن الأرض صغيرة الحجم، فإذا وقع القمر بين الأرض والشمس وصار مقابلًا للأرض بنصفه المظلم فلا يمكن لأحد أن يرى ذرةً من هذا القمر، وهذا ما يسمّى بحالة المحاق، حالة المحاق هي أن يقع القمر في الوسط، ويقابل الأرض بنصفه المظلم، فلا يرى منه شيء.

ثم يتحرك القمر من هذا الوضع إلى وضع آخر، فأول ما يبدو منه حافته، حافة القمر عندما يبدأ الحركة هي أول ما يبدو منه، فإذا بدت حافة القمر وحاشيته كان ذلك هلالًا، كان ذلك مبدأ لشهر قمري جديد، ثم يبدأ القمر بالتحرك والابتعاد عن موقعه - الوسط بين الأرض والشمس - إلى أن يصبح الأمر بالعكس، حيث تصبح الأرض في الوسط بين الشمس والقمر، فإذا أصبحت كذلك صار القمر مقابلًا للأرض بنصفه المضيء، وهذا ما يسمّى بالبدر، في ليلة النصف من الشهر يكون القمر مقابلًا للأرض بنصفه المضيء.

ثم يبدأ بالنزول مرة أخرى من كونه طرفًا لهذه القطع الثلاث - الشمس، الأرض، القمر - ويبدأ جانبه المضيء بالتضاؤل إلى أن يرجع إلى الوسط مرة أخرى بين الشمس والأرض، فيدخل في المحاق مرة أخرى، وتبدأ الدورة القمرية الشهرية من جديد.

الأمر الثالث: اختلاف البلدان في الرؤية.

علاقة كل بلدين ببعضهما من حيث خطوط الطول والعرض لها ثلاث صور:

الصورة الأولى: الاتحاد أو التقارب.

أن يكون البلدان متقاربين أو متحدين في خطوط الطول أو في خطوط العرض، ويرى الهلال في أحدهما ولا يرى في البلد الآخر لمانع طارئ، كالغيم أو الدخان أو الغبار مثلًا، فإذا لم ير في البلد الآخر لمانع طارئ فهذا لا يعني أن الشهر الشرعي لم يدخل في البلد الآخر الذي لم ير فيه الهلال، بل ثبوت الشهر الشرعي في البلد الأول ملازم لثبوته في البلاد الثاني وإن لم ير فيه الهلال؛ لأن البلدين متقاربان أو متحدان في خطوط الطول أو في خطوط العرض.

الصورة الثانية: الاختلاف الشاسع في خطوط الطول.

أن يكون البلدان مختلفين في خطوط الطول اختلافًا شاسعًا، مثلًا: بين القطيف ومدينة مشهد المقدسة يوجد اختلاف في خطوط الطول بنحو واضح، في مثل هذا الفرض: البلدان المختلفة في خطوط الطول يكون الغروب في البلد الشرقي أسبق منه في البلد الغربي بمدة واضحة، مثلًا: الغروب في مدينة مشهد يسبق الغروب في مدينة القطيف بأكثر من نصف ساعة، فإذا كان الغروب في البلد الشرقي سابقًا على الغروب في البلد الغربي، إذن قد تكون رؤية الهلال ممكنة في البلد الغربي دون البلد الشرقي؛ لأن القمر يبرز من المحاق مقارنًا لغروب الشمس، فقد يبرز القمر مقارنًا لغروب الشمس في البلد الشرقي ولكن لا يرى، لأنه أول بروزه، لم تمر إلا دقائق على بروزه من المحاق، أو لصغر حجمه فلا يرى في البلد الشرقي، أو لأنه برز تحت الأفق فغاب تحت شعاع الشمس فلا يرى.

بينما بعد ساعتين أو ثلاث ساعات، بين مشهد المقدسة والمدينة المنورة مثلًا ساعة ونصف، الهلال لم تمكن رؤيته في مدينة مشهد المقدسة، ولكن الهلال بعد ساعة ونصف كبر حجمه، صارت مدة بقائه أطول، فيكون ممكن الرؤية في المدينة المنورة، لأن الغروب فيها يتأخر عن الغروب في مدينة مشهد المقدسة، فالهلال لم يمكن رؤيته في مدينة مشهد وأمكن رؤيته في المدينة المنورة، أو لم يمكن رؤيته في القطيف وأمكن رؤيته في طرابلس أو في مدينة الرباط مثلًا، نتيجة إلى كون الفاصل بينهما فاصلًا كافيًا لأن يكبر حجم الهلال تبعًا لبقائه هذه المدة الطويلة. هذا يسمى اختلافًا في خطوط الطول.

الصورة الثالثة: أن يكون الاختلاف في خطوط العرض.

خطوط العرض تتمايز بالقرب من خط الاستواء والبعد عنه، البلد الأقرب لخط الاستواء، صنعاء في اليمن مثلًا أقرب لخط الاستواء من بيروت في لبنان، أو صنعاء في اليمن أقرب لخط الاستواء من الكويت أو من القطيف، فإذن بين القطيف وصنعاء، أو بين بيروت وصنعاء، اختلاف في خطوط العرض. الاختلاف في خطوط العرض قد يؤدي أحيانًا إلى أن تكون رؤية الهلال ممكنة في البلد القريب من خط الاستواء، وغير ممكنة في البلد البعيد عن خط الاستواء، لأن البلد القريب من خط الاستواء يكون النهار فيه أطول من البلد البعيد عن خط الاستواء.

ونتيجة لطول النهار فلو فرضنا أن الهلال برز من تحت المحاق عند الساعة الرابعة عصرًا إلى أن صار الغروب.. باعتبار أن النهار في هذا البلد أقرب لخط الاستواء، فهو أطول، إذن النهار سيطول ساعتين بعد بروز الهلال، فسيصبح الهلال في هذا البلد القريب من خط الاستواء ممكن الرؤية، حيث مر على بروزه من تحت المحاق ساعتان، بينما في البلد الذي يكون النهار فيه أقصر صار ظهور الهلال من خط الاستواء مقارنًا للغروب فيه، لأن النهار فيه قصير، فلم يمكن رؤيته لقصر مدة بقائه، أو لضآلة حجمه. إذن، البلد الذي يكون النهار فيه أطول قد يكون طول النهار عاملًا مساعدًا على كبر حجم الهلال، وحينئذ يكون عاملًا مساعدًا على إمكان الرؤية فيه، بخللاف البلد الذي يكون أبعد عن خط الاستواء، فيكون النهار فيه أقصر، سيكون بروز الهلال من تحت المحاق مقارنًا لغروب الشمس فيه، وحينئذ برز الهلال وهو ضئيل الحجم وقصير المدة، فلم يمكن فيه الرؤية.

الأمر الرابع: نسبية الشهر الشرعي.

في هذه الصورة، إذا فرضنا أن البلدان مختلفة، الهلال الشرعي يمكن رؤيته في المدينة المنورة ولا يمكن رؤيته في القطيف مثلًا، في مثل هذه الصورة، هل يكون ثبوت الهلال في المدينة المنورة كافيًا لثبوته في القطيف؟ لو كان الهلال ممكن الرؤية في القطيف، ولكنه غير ممكن الرؤية في طهران أو في مشهد، فهل ثبوته في القطيف يعني ثبوته في مدينة مشهد، ويعني ثبوته في طهران، بحيث يكون شهرهما الشرعي واحدًا، أم لا؟ هذا صار محل خلاف بين الفقهاء: هل الهلال الشرعي أمر نسبي أم أمر حقيقي؟ هل الهلال الشرعي أمر حقيقي بالنسبة للأرض كلها، أم أن الهلال الشرعي أمر نسبي يختلف باختلاف البلدان؟ فهل الشهر الشرعي كطلوع الشمس وغروبها - الذي هو أمر نسبي - أم هو أمر حقيقي؟

المشهور من فقهائنا - ومنهم السيد الأستاذ السيد السيستاني دام ظله - ذهبوا إلى أن الآفاق تختلف، الهلال الشرعي أمر نسبي يختلف باختلاف البلدان، كاختلاف مطالع الشمس ومغاربها، بينما ذهب جمع من فقهائنا - ومنهم سيدنا الخوئي قدس سره - إلى أن الهلال أمر واقعي للأرض كلها، وليس أمرًا نسبيًا يختلف باختلاف الأماكن والبقاع، ومن أجل توضيح هذا المعنى أذكر جهتين:

الجهة الأولى: الجهة الفلكية.

ماذا يقول علماء الفلك؟ هل أن الشهر أمر واقعي، أم أن الشهر أمر نسبي؟ هل أن بزوغ الهلال أمر يختلف باختلاف البلاد، كاختلاف طلوع الشمس وغروبها، أم لا يختلف؟ سيدنا الخوئي قدس سره يقول: الفلكيون بالعكس، الفلكيون يقولون: إذا برز الهلال من تحت المحاق، حافة القمر خرجت عن ضوء الشمس، كان القمر متوسطًا بين الأرض وبين الشمس، إذا توسط القمر بين الأرض والشمس صار مقابلًا للأرض بنصفه المظلم لا بنصفه المضيء، فإذا صار مقابلًا للأرض بنصفه المظلم يستحيل لأي شخص على الأرض أن يرى القمر في هذا الفرض، فإذا خرج من حالة التوسط، ارتفع في حركته، تبرز الآن حافته، أول حافة للقمر تبرز، وهذه الحافة التي تبرز تسمى بالهلال، عندما تبرز حافة القمر - وهو ما يسمى بالهلال - تبرز للأرض كلها لا لبلد دون آخر ولا لمكان دون آخر، إذن مسألة الهلال ومسألة بروز القمر من تحت المحاق هي مسألة واقعية، ليست مسألة نسبية، مسألة بالنسبة للأرض كلها، من دون فرق بين بلد وآخر، فالهلال أمر واقعي وليس أمرًا نسبيًا، هذا من ناحية فلكية.

الذين يرون هذا الرأي - كالسيد الأستاذ السيد السيستاني - يقولون: لا، حتى من ناحية فلكية الأمر نسبي وليس أمرًا واقعيًا، لأن معنى المحاق هو أن القمر يقابل الأرض بنصفه المظلم، ومقابلة الأرض بالنصف المظلم تتم في بقعة من بقاع الأرض، القمر لا يقف، هو دائمًا في حركة، ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، إذن القمر إنما يقابل بوجهه المظلم بقعة معينة من بقاع الأرض، هو في هذا الوقت الذي يقابل هذه البقعة المعينة من بقاع الأرض بوجهه المظلم، هو في عين هذه اللحظة يكون في حال حركة، أي أنه في عين هذه اللحظة يكون له منزل آخر بالنسبة لبقعة أخرى، بالنسبة لموقع آخر من الأرض، فهو مقابل لبقعة من الأرض بوجهه المظلم لا لجميع البقاع، وهو في هذه الحالة تختلف منزلته بالنسبة إلى بقاع الأرض الأخرى، فإذا كان المحاق أمرًا نسبيًا فلا محالة يكون بزوغه أيضًا من تحت المحاق أمرًا نسبيًا وليس أمرًا واقعيًا، فيختلف باختلاف البقاع والبلدان.

الجهة الثانية: الجهة الشرعية.

لنفترض أنه لا شغل لنا بالفلك، من ناحية النصوص والروايات ماذا نستفيد؟ هل نستفيد أن الهلال أمر واقعي أو نستفيد أن الهلال أمر نسبي؟ ذكرنا أن الهلال الشرعي يختلف عن الهلال الطبيعي، الهلال الشرعي يتقوم بعنصرين: العنصر الأول: البروز من تحت المحاق، والعنصر الثاني: إمكان الرؤية، بمعنى أن يصل إلى حجم يمكن رؤيته، فإذا قيّدنا الهلال الشرعي بإمكان الرؤية، لا محالة اختلفت البلدان، كما أن الأرض بحكم كرويتها تستقبل الشمس استقبالات عديدة، فيكون لكل بلد شروق وغروب، كذلك أيضًا إمكان الرؤية تختلف فيه البلدان، نتيجة حركة القمر من المغرب للمشرق، وحركة الأرض من المشرق للمغرب، يكون استقبال الأرض لحافة القمر مختلفًا باختلاف المناطق، فلا محالة حينئذ يكون أيضًا طلوع الهلال - بمعنى إمكان الرؤية - أمرًا مختلفًا باختلاف البلدان، كما بيّنّا، إما لاختلاف خطوط الطول أو لاختلاف خطوط العرض. المهم: ماذا يستفاد من النصوص؟ سيدنا الخوئي قدس سره يقول: المستفاد من النصوص أن الشهر الشرعي واحد، لم؟

أولًا: صحيحة إسحاق بن عمار: سألت أبا عبد الله عن تسع وعشرين من شعبان يغم علينا الهلال، أي: لا نرى هلال رمضان في يوم تسع وعشرين، فماذا نصنع؟ قال: ”لا تصمه - أي: لا تصمه من رمضان - فإن شهد أهل بلد آخر أنهم رأوه فاقضه“، افترض أنك لم تصم لأنه يوم الشك، ثم شهد أهل بلد آخر أنهم رأوا الهلال ذلك اليوم، فعليك قضاؤه. السيد الخوئي يقول: الرواية لم تفصّل، قالت: فإن شهد أهل بلد آخر، ولم تقل بأن البلد الآخر متحد في خطوط الطول والعرض أم ليس متحدًا، الرواية مطلقة، إن شهد أهل بلد آخر أنهم رأوه فاقضه، ولو كان أهل البلد الآخر أمريكا، ولو كان أهل البلد الآخر أقصى الغرب، المهم أنه بلد آخر، فالرواية مطلقة، بلا فرق بين أن يكون البلد الآخر متحدًا في خطوط الطول والعرض أم ليس متحدًا، فهذه الرواية دليل على أن الهلال الشرعي واحد بمقتضى إطلاقها. هنا لا أتعرض إلى مناقشة السيد السيستاني له؛ لأن هذا بحث فقهي يخفى عليكم الكلام فيه، فأتركه لمحله.

الدليل الآخر: ورد في الرواية المعتبرة في دعاء يوم العيد: ”اللهم إني أسألك بحق هذا اليوم الذي جعلته للمسلمين عيدًا“، ظاهر الدعاء أن عيد جميع المسلمين واحد وليس أعيادًا متعددة، إذن الشهر الشرعي واحد.

ثالثًا: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا، في كل سنة تنزل الملائكة في ليلة القدر، حتى تضيق الأرض بملائكة الرحمة في ليلة القدر، الملائكة ينزلون سنة واحدة في السنة أم حسب الأوقات؟! هل ليلة القدر عند أهل القطيف ينزل فيها الملائكة، وفي ليلة القدر عند أهل المدينة ينزلون مرة أخرى، ثم ينتظرون ليلة القدر عند أهل مشهد لينزلوا مرة ثالثة، أم أن الملائكة ينزلون ليلة واحدة على جميع أهل الأرض، وتسمى تلك الليلة بليلة القدر، لا أنهم ينزلون ليالي متعددة؟!

كان أحد الخطباء هنا في القطيف، أنا سمعته، كان يقرأ وأنا كنت جالسًا أسمع، قال: الحسين لما خرج من مكة المكرمة إلى كربلاء وصل إلى منطقة زروج، فخرج إليه الجن، قالوا: نحن مستعدون لنصرتك يا أبا عبد الله، فقال: إذا أردتم نصرتي تعالوا يوم العاشر من المحرم، يوم العاشر هو يوم القتال لا الآن. صار يوم العاشر، قُتِل الحسين، ما جاء الجن، ولا واحد منهم، يوم الحادي عشر جاؤوا، قالوا لهم: كيف جئتم اليوم، الحسين قُتِل بالأمس؟! قالوا: ما ثبت الهلال عندنا إلا اليوم!! نحن اليوم عندنا يوم العاشر، والحسين تقدم علينا بيوم، ثبت عنده العاشر يوم أمس، فماذا نصنع؟! على أية حال، ليست المسألة أن نزول الملائكة ليلة القدر حسب اختلاف الهلال، وحسب اختلاف الشهور عند الناس، هي تنزل ليلة واحدة.

السيد الخوئي «قدس سره الشريف» فهم من هذه الأدلة أن الشهر الشرعي واحدٌ، وليس الشهر الشهري مختلفًا، ولكن السيد السيستاني يقول: الشهر الشرعي مختلف. صحيح أن ليلة القدر ليلة واحدة، لكنها ليلة تمتد ثمانية وأربعين ساعة؛ نتيجة اختلاف البلدان، فإذا حسبت المدة من أول غروب على الأرض إلى آخر طلوع للفجر على الأرض يكون المجموع ثمانية وأربعين ساعة، فهنالك ليل يمتد، صحيح أنه انتهى في هذه البلد، لكنه لا زال باقيًا في البلد الآخر، وإذا انتهى من البلد الآخر فإنه لا يزال في البلد الثالث، صحيح أن الملائكة لا تنزل كل ليلة في مكان، هي تنزل في ليلة واحدة.. وهذا لا يختص بليلة القدر فقط، كل ليلة في السنة هي مقدارها ثمانية وأربعون، جميع ليالي السنة من أول غروب إلى آخر طلوع كل ليلة مقدارها ثمانية وأربعون ساعة.

إذن، لا يوجد هناك مانع. نحن لا نقول بأن الملائكة ينزلون ليلة القدر هنا ثم ينزلون مرة أخرى في مكان آخر وثالثة في مكان ثالث، بل ينزلون خلال ليلة تستغرق 48 ساعة على الأرض كلها، ولذلك ورد في الروايات: يوم القدر كليلته، حتى اليوم الثاني أثره كأثر الليل، معناه أن الآثار الروحية هي باقية، ينزلون خلال 48 ساعة على الأرض كلها، ولم نقل بأن هناك صعودًا ونزولًا حتى يُسْتَنْكَر ويُسْتَبْشَع علينا القول بتعدد ليالي القدر، وإلا على مبنى السيد الخوئي فإن البلدان مختلفة قطعًا في الليل، قطعًا نصف من الأرض يكون ليلًا والنصف الآخر يكون نهارًا.

مثلًا: نحن عندنا الآن في القطيف ليل، وفي نفس هذا الوقت نهار في أمريكا، على كلام السيد الخوئي نزلت الملائكة عندنا، ولكن هناك هل نزلوا هناك أم لم ينزلوا؟! فالإشكال وارد عليه على كل حال، حتى لو قال بأن الشهر الشرعي واحد، فلا محالة الأرض نصفان: نصف مظلم، ونصف مضيء، فالنصف الذي هو نهار أين الملائكة في ليلة القدر؟! بالنتيجة: لا بد أن يفترض كما افترضنا، أن هناك ليلة واحدة تستوعب ثمانية وأربعين ساعة، ينزل فيها الملائكة على الأرض كلها، لا بد أن يفترض هذا الافتراض، فإذا افترض هذا الافتراض رجع إلى ما قلنا، من أنه حتى لو كان الشهر الشرعي مختلفًا باختلاف البلدان، مع ذلك ليلة القدر هي ليلة واحدة تستغرق 48 ساعة.

ونفس الكلام في ”اللهم إني أسألك بحق هذا اليوم الذي جعلته للمسلمين عيدًا“، نفس الإشكال، العيد يبدأ من أول طلوع للفجر على الأرض إلى آخر غروب، هو عيد واحد، ولم نقل بأنه أعياد متعددة، هناك عيد واحد يبدأ من أول طلوع للفجر على الأرض، وينتهي بآخر غروب للشمس على الأرض، عيد واحد يستغرق 48 ساعة، هذا العيد الواحد الذي يستغرق 48 ساعة هو المشار إليه في الدعاء.

إذن فبالنتيجة: الفقهاء يختلفون في مسألة اختلاف الأفق أو اتحاد الأفق. على أي حال، رأي السيد السيستاني: إذا كان بين البلدين 17 دقيقة فما هو أقل، إذا كان بين الغروبين - غروب الشمس في القطيف وفي قم المقدسة مثلًا، أو في القطيف وفي النجف الأشرف - 17 دقيقة فأقل، كما كذلك، نحن بيننا وبين النجف دقيقتان فقط، بيننا وبين قم ثمان دقائق، إذا كان بين الغروبين 17 دقيقة فأقل، إذا ثبت في أحدهما ثبت في بلد آخر؛ لوجود التقارب في خطوط الطول، وأما إذا كان بين البلدين أكثر من 17 - كما بيننا وبين مشهد المقدسة، حيث يوجد فرق أكثر من نصف ساعة في الغروب - فإذا ثبت الهلال في بلدنا لا يثبت في مشهد المقدسة؛ لوجود الفاصل في ذلك.

بعض أحكام الهلال:

ويثبت الهلال بالعلم أو الاطمئنان الناشئ عن الشياع أو غيره من المناشئ العقلائية، فمثلًا: شاع عند الناس رؤية الهلال، فحصل عندي اطمئنان بأن الهلال رُئِي، حتى لو لم أكن أعرف من رأى، ولا أعرف أنه ثقة أو غير ثقة، لكن نتيجة الشياع حصل عندي العلم والاطمئنان بأن الهلال قد دخل، هذا كاف في صحة الصوم والإفطار.

ويثبت الهلال بشهادة شاهدين عدلين، وهنا يختلف السيد الخوئي عن السيد السيستاني، السيد الخوئي يقول: إذا شهد عدلان كفى في ثبوت الهلال، السيد السيستاني يقول: إذا لم تكن شهادتهما محل ريبة، فمثلًا: لو خرج سبعون شخصًا للاستهلال، ومع أن أبصارهم متقاربة، لم ير الهلال إلا ثلاثة أو أربعة، على رأي السيد الخوئي يؤخذ بشهادتهم، بينما على رأي السيد السيستاني لا يؤخذ بشهادتهم؛ لأن الذين استهلوا معهم سبعون شخصًا، ومتقاربون معهم في البصر، فعندما يندر عدد الشهود يكون هذا موجبًا للريبة بالشهادة، أن هؤلاء لعلهم مشتبهون، وإلا ما هو الفرق بينهم وبين غيرهم؟!

مثلًا: افترض أن في الخليج كله الذين استهلوا أربع مئة شخص، ومن هؤلاء لم يره إلا سبعة أو عشرة، هذا يكون موجبًا للريبة في الشهادة؛ لأن الأبصار إذا كانت متساوية أو متقاربة في النظر والتدقيق، فلم لم يره إلا سبعة أو ثمانية؟! إذن فبالنتيجة: السيد السيستاني يركز على هذه النقطة: إذا كانت نسبة عدد الشهود لعدد المستهلين 1 إلى 30 أو 1 إلى 50 أو 1 إلى 100 مئة، فهذه الشهادة لا يعتمد عليها، بل تكون محل ريبة.

مثال آخر: لو شهد الفلكيون بأن الهلال لا يمكن رؤيته، قال الفلكيون: الليلة لا يمكن رؤية الهلال، وأتى خمسون وشهدوا برؤيته، مع أن الفلكيين اتفقوا على أن الهلال لا يمكن رؤيته هذه الليلة، فهنا على رأي السيد الخوئي يؤخذ بالشهادة ويعتمد عليها، وعلى رأي السيد السيستاني تُرْفَض؛ لأن اتفاق الفلكيين على استحالة الرؤية أوجب الريبة في الشهادة، جعل الشهادة محل ريبة فلا يُعْتَمَد عليها.

إذن، هم يختلفون في هذه الناحية: هل شهادة العدلين بالهلال تُقْبَل مطلقًا، أم أنها مقيدة بعدم الريبة؟ أما لو قال الفلكيون بأن الهلال الليلة يخرج بنحو يمكن رؤيته، هل يعتمد عليهم؟ أغلب فقهائنا يقولون: لا يعتمد على الفلكيين إذا شهدوا بأن الهلال يبزغ هذه الليلة ويمكن رؤيته، لا يعتمد عليهم ما لم يحصل القطع بدخول الشهر، أو يشهد شاهدان عادلان بذلك، كما لا يثبت الهلال بشهادة النساء، لا تقبل شهادتهم في الهلال، المرأة إذا رأت فإنها تعوِّل على رؤيتها لأنها قطعت بدخول الشهر، ولكن غيرها لا يعوّل عليها رجلًا أو امرأة، وذلك للنصوص والروايات الكثيرة الواردة عن النبي محمد من أنه لا تُقْبَل شهادة النساء في الهلال.

مسألة التطويق:

الهلال في الليلة الثانية يصبح مستديرًا، لكنه ليس مستديرًا كما في ليلة النصف من الشهر، بل مستدير بمعنى أن الإنسان إذا دقّق النظر يراه مستديرًا، ولكن نصفًا من هذا المستدير واضح والنصف الآخر خفي، الهلال في الليلة الثانية يكون بشكل دائرة، ولكن عند التدقيق فإن نصفًا أو ثلثًا من هذه الدائرة يكون واضحًا والباقي يكون خفيًا، وهذا ما يعبّر عنه بالتطويق، فهل يعتمد على التطويق، بحيث يثبت أن الليلة هي الليلة الثانية اعتمادًا على التطويق؟

سيدنا الخوئي «قدس سره» يقول: نعم؛ لأن عندنا رواية معتبرة: صحيحة محمد بن مرازم عن أبي عبد الله الصادق : ”إذا تطوّق الهلال فهو لليلتين“، ولكن مشهور الفقهاء - ومنهم السيد السيستاني «دام ظله» - يقولون: التطويق لا يُعْتَمَد عليه لإثبات الليلة الثانية، وهذه الرواية وإن كانت صحيحة إلا أن أصحابنا - أي: القدماء الأصحاب - أعرضوا عنها، أهملوها، وإعراض الأصحاب يوجب القدح في الرواية، إذا كانت هناك رواية معتبرة وصحيحة، ومع ذلك قدماء علمائنا الذين عاصروا أهل البيت ونقلوا عنهم الأحاديث أعرضوا عنها وأهملوها، إهمالهم لها وإعراضهم عنها كاشف عن وجود قدح فيها، وإن لم يصل إلينا القدح، فلا يُعْمَل بها. إذن، هما يختلفان في إمكان العمل بالتطويق وعدم إمكان العمل به، وهذا ما أردنا عرضه بالنسبة إلى مسألة الهلال، وفي كل يوم من شهر رمضان سنختار قاعدة فقهية كثيرة النفع ونتعرض إليها إن شاء الله.

رمضان شهر الطاعات والبركات