نص الشريط
تفسير سورة الفاتحة 4
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مسجد الإمام علي (ع) بالقطيف
التاريخ: 5/9/1424 هـ
مرات العرض: 2791
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1468)
تشغيل:

أعوذ بالله من الشّيطان الغويّ الرّجيم

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [1] 

صدق الله العليّ العظيم

وصل بنا الكلام في تفسير سورة الفاتحة إلى الفقرة الأولى من فقرات هذه السّورة ألا وهي فقرة الحمد: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، كلامنا فعلاً في هذه الفقرة - وهي قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ - كلامنا في هذه الفقرة في عدّة نقاط:

النقطة الأولى: في بيان حقيقة الحمد.

ما معنى الحمد؟ ما هو مفهوم الحمد؟

هناك ثلاثة مفاهيم:

1 - مفهوم المدح.

2 - ومفهوم الشكر.

3 - ومفهوم الحمد.

وهذه المفاهيم تختلف من حيث ارتكازها واعتمادها على عناصرَ إنسانيّةٍ فطريّةٍ في الإنسان.

1 - مفهوم المدح: مفهوم المدح يعتمد على عنصر فطري عند الإنسان وهو: عنصر الإعجاب والانبهار.

الإنسان إذا شاهد منظرًا جميلاً أو سمع صوتًا جميلاً أو أدرك معنى جميلاً فإنّه بفطرته يعرض عليه الإعجاب بما سمع أو الإعجاب بما رأى أو الإعجاب بما شاهد، فإذا عرض عليه الإعجابُ والانبهارُ بأيّ جمال من أنواع الجمال سواءً كان جمالاً صوتيًا أو مرئيًا أو مفهومًا أو مُدْرَكًا.. بأيّ جمال من أنواع الجمال إذا أعْجِبَ به الإنسانُ وانبهر به الإنسانُ فإنّه بفطرته ينقاد إلى المدح، فيمدح ذلك الجمال، المدح يعتمد على عنصر الإعجاب وعنصر الانبهار، وهو عنصرٌ فطريٌ إنسانيٌ يعيش ويُولد مع الإنسان.

2 - المفهوم الثاني: مفهوم الشكر.

الشكر أيضًا من المفاهيم الإنسانيّة التي تعتمد على عنصر فطري إنساني ألا وهو: عنصر الامتنان.

الإنسان بمجرّد أنْ تقدّم إليه خدمة، بمجرّد أنْ تسدى إليه نعمة فإنّه يعرض عليه الشّعور بالامتنان، الامتنان لمصدر النعمة، الامتنان لمن صدرت منه النعمة، الإنسان مثلاً يمرّ في الشّارع وتزدحم السّيارات وهناك سائقُ سيّارةٍ يفسح له الطريق ليمرّ من خلاله، هنا الإنسان يعرض عليه الشّعورُ بالامتنان، هو بفطرته، بطهارته، بعفويّته، إذا قدّمت له خدمة يعرض عليه هذا الشّعور، الشّعور بالامتنان لمن أسدى إليه الخدمة، وبمجرّد أنْ يعيش هذا الشّعور ينقاد بفطرته - من دون أنْ يعلمه أحدٌ - ينقاد إلى شكر مَنْ أنعم عليه وإلى شكر مَنْ أسدى إليه تلك الخدمة التي يريدها، إذن الشكر يعتمد على عنصر إنساني، وهو عنصر الشّعور بالامتنان والتفضّل.

3 - هناك مفهوم ثالث وهو: مفهوم الحمد.

مفهوم الحمد يجمع العنصرين الأوّلِين مضافًا إلى عنصر ثالثٍ وهو: عنصر الخضوع.

الإنسان مثلاً إذا تأمّل في شخصيّة أمير المؤمنين عليه السّلام يرى أنّ هذه الشّخصيّة جمعت العناصر الثلاثة أو كانت محرّكًا ومنشأ للعناصر الثلاثة، يقرأ عليًا عليه السّلام من حيث جماله: جمال منطقه، جمال بلاغته، جمال مضامينه ومعانيه، جمال سيرته، جمال سلوكه، جمال تضحيته وفدائه، فإذا قرأ جمال علي تولد عنده بالفطرة الشّعور بالإعجاب والانبهار وبالتالي فهو يبادر إلى مدح علي عليه السّلام.

وإذا قرأ الصّفحة الأخرى من حياته عليه السّلام أنّ هذا الشخص كان مصدرًا للإشعاع وكان مصدرًا للعطاء، كان لا يقف يومًا كنهر فيّاض لا ينضب ولا يتوقف، هو دائمًا في عطاء للبشرية، دائمًا يقدّم نعمًا وخدماتٍ فكريّة وعمليّة وتربويّة للبشريّة، إذن عليٌ مصدر العطاء، مصدر النعم، مصدر الخدمات الجليلة الجمّة المهمّة للمجتمع البشري، فإذا أدرك الإنسانُ الصّفحة الأخرى عرض عليه الشّعور بالامتنان والتفضّل وأنّ عليًا يستحقّ أنْ يُشْكَر ويستحقّ أنْ يثنى عليه، فيبادر بفطرته إلى شكر علي عليه السّلام.

وإذا قرأ العنصرين الأولين وجمع بينهما - يعني: جمع بين الشّعور بالإعجاب والشّعور بالامتنان، جمع بين الجمال والعطاء - إذا قرأ العنصرين معًا يعرض عليه عنصرٌ ثالثٌ وهو: عنصر الخضوع، بعد أنْ يُعْجَب بشخصيّة علي وبعد أنْ يشعر بالامتنان لشخصيّة علي يعرض عليه عنصرٌ إنسانيٌ ثالثٌ، وهو عنصر الخضوع، فتصاب نفسه بنوع من الخضوع واللين والرّهبة أمامَ هذه الشّخصيّة العملاقة شخصيّةِ علي بن أبي طالب سلام الله عليه.

هذه العناصر إذا اجتمعت: الشّعور بالإعجاب، والشعور بالامتنان، والشعور بالخضوع، إذا اجتمعت العناصر الثلاثة وبادر الإنسانُ إلى الثناء لا يستطيع أنْ يوقف لسانه ولا يستطيع أنْ يوقف فكره ولا يستطيع أنْ يوقف نبضات قلبه تجاه علي بن أبي طالب، إذا تحرّك عنده اللسانُ والوجدانُ والفكرُ الكل يتلاحم والكل يتعاطف بالخضوع والإكبار والإعظام لهذه الشخصية تسمّى هذه الحالة حالة الحمد، فالحمد يجمع العناصر الثلاثة: الشعور بالإعجاب، والشعور بالامتنان، والشعور بالخضوع، أمام هذه الشخصية العملاقة، إذا اجتمعت العناصر الثلاثة وتحرك الضميرُ والوجدانُ والعقلُ واللسانُ سمّيت هذه الحالة التي تجمع العناصر كلها بحالة الحمد، فالحمد حالة روحيّة تستند إلى عناصر إنسانيّةٍ ثلاثةٍ: الشعور بالإعجاب، والشعور بالامتنان، والشعور بالخضوع، فكيف إذا تأمّل الإنسانُ في خالقه تبارك وتعالى؟!

1/ العنصر الأول «عنصر الإعجاب» متحققٌ بأجلى مصاديقه بالنسبة للخالق، الإنسان معجبٌ بفطرته بالحسن، وأيّ حسن لا ينتمي إلى الخالق تبارك وتعالى؟! الله تبارك وتعالى يقول: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [2] ، ما أوجد إلا خلقًا حسنًا، وما صدر منه إلا الحسنُ، وليس في الوجود كله من أصغر ذرّة إلى أعظم مجرّة إلا الحسن وإلا الخير وإلا العطاء وإلا البركة، إذن الحسن في حسن وإلى حسن ينتمي إلى حسنه تبارك وتعالى، فإذا أدرك الإنسانُ حسنه تبارك وتعالى عرض عليه الشعور بالإعجاب والانبهار.

2/ وإذا قرأ النعم الفيّاضة﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا [3]  من أوّل حرفٍ إلى آخر حرفٍ، إذا قرأ الإنسانُ كتابَ الوجود ورأى النعم المتوالية المتتابعة المترادفة المتظافرة على الإنسان، إذا رأى النعم تحفّ به يمينًا وشمالاً انقاد وعرض عليه الشّعور الآخر ألا وهو: الشّعور بالامتنان والتفضّل.

3/ وإذا قرأ مجالي العظمة وإذا قرأ صور العظمة لله تبارك وتعالى: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [4] ، ﴿فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا [5] ، إذا قرأ صورَ العظمة عرض عليه الشّعورُ بالخضوع والذلة والرّهبة.

فإذا اجتمعت العناصر الثلاثة بالنسبة إلى الباري عزّ وجلّ وتفاعل القلبُ والفكرُ واللسانُ صار الإنسانُ حامدًا، حقّق حقيقة الحمد بالنسبة إليه جلّ وعلا، فحمده هو الحالة الرّوحيّة التي تجمع هذه العناصر الثلاثة كما ذكرنا وبيّنا، هذه هي النقطة الأولى، وهي بيان حقيقة الحمد.

النقطة الثانية: مراتب الحمد.

الحمد له مرتبتان، الحمد له درجتان، لابدّ من أنْ يترقى الإنسانُ من درجةٍ لأخرى ومرتبةٍ لأخرى.

1/ هناك مرتبة سلبيّة تسمّى بالتسبيح والتنزيه.

2/ وهناك مرتبة إيجابيّة تسمّى بالثناء والحمد.

فللنظر إلى هاتين المرتبتين.

المرتبة الأولى:

أنّ الإنسان في أوّل تعرّفه على الله عزّ وجلّ، عندما يبدأ رحلة المعرفة، عندما يبدأ مسيرة الاكتشاف، عندما يبدأ الطريق، أوّل ما يتعرف يتعرّف على الجانب السّلبي، كيف يتعرّف على الجانب السّلبي؟

يعني: يتعرّف على أنّ الله ليس بجاهل، ليس بناقص، ليس بمحدودٍ، ليس بمخلوق، ليس بجسم، ليس بمركب، ليس بفقير، ليس، ليس، ليس.. يعني: ينفي النقص عنه، ينفي الصّفات الناقصة، ينفي النقص عنه، نفي النقص، مفاد «ليس»، هذا أوّل ما يعرفه الإنسان، أوّل ما يعرف الإنسانُ من ربّه هو مفاد «ليس»، نفي النقص والشوائب الماديّة والشّوائب المحدودة عن ذاته تبارك وتعالى، فأوّل ما يدرك الإنسانُ من مراتب الحمد: المرتبة السّلبيّة، وهي: نفي النقص وتنزيهه تبارك وتعالى عن النقص، هذه أوّل مرتبةٍ.

هذه المرتبة تسمّى بالتسبيح، مَنْ نزّه اللهَ عن النقص فهو مسبّحٌ، هذه المرتبة تسمّى بالتسبيح، والقرآن الكريم يشير إلى هذه المرتبة، أنّ هذه المرتبة الأولى من مراتب التسبيح هي المرتبة التي تشمل وتعمّ الموجودات بأسرها، جميع الموجودات تحمد الله بالمرتبة الأولى، وهي مرتبة التسبيح، كيف؟

اقرأ قوله تعالى: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [6] ، «يسبّحون بحمد ربهم» ما معناه؟

يعني: يحمدونه في المرتبة الأولى من الحمد وهي مرتبة التسبيح، مرتبة نفي النقص، مرتبة رفع النقص، المرتبة الأولى: مرتبة الملائكة ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ بل ليس فقط الملائكة ﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ [7] ، الرعد يعيش المرتبة الأولى من مراتب الحمد وهي الحمد عن طريق التسبيح «المرتبة السّلبيّة»، بل ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [8] ، جميع المخلوقات تعيش المرتبة الأولى من الحمد، المرتبة السّلبيّة من الحمد، مرتبة «ليس»، نفي النقص، جميع المخلوقات تشعر بأنّه تبارك وتعالى مبرّأ منزهٌ عن جميع شوائب النقص، ثم يترقى الإنسانُ إلى:

المرتبة الأخرى:

إذا اتجه في الطريق، إذا أصرّ على مواصلة الاكتشاف، إذا أصرّ على مواصلة التعرّف على خالقه تبارك وتعالى فإنّه يتطوّر ويتحوّل من المرتبة السّلبيّة إلى المرتبة الإيجابيّة، فإنّه يتحوّل من مستوى إدراك «ليس» إلى مستوى إدراك «إنّ»، إلى أنْ يتعرّف على جماله تبارك وتعالى، فلا يلتفت إلا ويرى جماله تبارك وتعالى، يرى جمال الله في عقله، يرى جمال الله في علمه، يرى جمال الله في طهارته، يرى جمال الله في سلوكه، يرى جمال الله في مخلوقاته، يرى جمال الله في كلّ ذرّة وفي كلّ مجرّة، أينما يلتفت الإنسانُ يرى مسحة من الجمال الإلهي، ويرى ومضة من النور الإلهي، إذا الإنسانُ رأى الكونَ كله إلهيًا ما بدأ يرى الكونَ ماديًا، ما بدأ يرى الشّمسَ لأنّها شمسٌ، أو يرى القمرَ لأنّه قمرٌ، أو يرى الشجرَ لأنّه شجرٌ، لا، لا يرى هذه الأمور كلها إلا مظاهرَ وتجلياتٍ وانعكاساتٍ لجماله تبارك وتعالى، فهو لا يرى إلا الله، وهو لا يرى إلا جمال الله، يقول سيّد الموحّدين كما ورد عنه: ”ما رأيتُ شيئًا إلا ورأيتُ الله قبله وبعده وفوقه وتحته وفيه“ أنا لا أرى الكون إلا جمالاً إلهيًا ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [9] .

فوا عجبًا كيف يُعْصَى الإله أم كيف يجحده الجاحدُ

وفي كلّ شيءٍ له آية تدلّ على أنّه واحدُ

إذن إذا أدرك الإنسانُ الجمالَ الإلهي وهو يمتدّ ويسري لجميع أجزاء الكون ولجميع ذرّات الكون وتفاعل قلبُه وفكرهُ ولسانُه مع هذا الجمال الشّمولي وصل إلى المرتبة الثانية من مراتب الحمد، وصل إلى المرتبة العليا من مراتب الحمد، فصحّ له أنْ يقول: «الحمد لله»، «الحمد لله» كلمة أكبر من كلمة «سبحان الله بحمده»، المرتبة الأولى: «سبحان الله بحمده»، المرتبة الثانية: «الحمد لله»، والذكر الذي يجمع المرتبتين معًا هو الذكر الذي يقرؤه الإنسان المصلي في ركوعه: «سبحان ربّي العظيم وبحمده»، يعني: أنا أجمع المرتبتين معًا، أجمع مرتبة التنزيه وأجمع مرتبة إدراك الجمال، أضمّ المرتبتين كلاً إلى الأخرى، «سبحان ربّي العظيم» أو «سبحان ربّي الأعلى - وأيضًا ماذا؟ - وبحمده»، فللحمد مرتبتان: مرتبة سلبيّة، ومرتبة إيجابيّة، يدركهما الإنسانُ من خلال التأمّل في ذاته وصفاته تبارك وتعالى.

نأتي الآن إلى النقطة الثالثة:

النقطة الثالثة نقطة دقيقة وإنْ كنتم متعبين جسديًا ولكنكم متفتحون فكريًا وذهنيًا، فهذه النقطة الثالثة التفتوا إليها، نقطة دقيقة تحتاج إلى وقفة تأمّل، النقطة الدّقيقة: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ نحن الآن تحدّثنا عن الجزء الأوّل وهو الحمد، الآن نتحدّث عن الجزء الثاني وهو: «لله» هذه الكلمة، ما معنى ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ؟ ما معنى الكلمة اللام «لله»؟

هذه الفقرة تحتاج إلى أنْ نبحث هل أنّها جملة خبريّة أو أنّها جملة إنشائيّة، يعني: هل أنّ هذه الجملة ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ مفادها: اجعلوا الحمدَ لله، فمفادها جملة إنشائيّة، مفادها طلبٌ، الله تبارك وتعالى يطلب منا أنْ نجعل الحمدَ له، ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ يعني قولوا: الحمد لله، اجعلوا الحمدَ لله، فيكون مفادها طلبًا إنشائيًا، إذن هذه الجملة جملة إنشائيّة، أو لا، هذه الجملة جملة خبريّة، ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الله يخبرنا أنّه لا يقع حمدٌ في الدّنيا إلا وهو لله أدرك الإنسانُ أو ما أدرك، ما يحتاج أنْ تقول: والله أنا أجعل حمدي لله! هو حمدك لله وإنْ لم تجعله لله، حمدك يقع لله قهرًا عليك شئتَ أم أبيتَ، هذه حقيقة تكوينيّة شاء الإنسانُ أم أبى، سنة الله ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [10] ، حمدك يقع لله حتى ولو لم ترِدْ ذلك، فالجملة جملة خبريّة تخبر عن حقيقةٍ كونيّةٍ لا يمكن للإنسان أنْ يتخلف عنها، ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ يعني: الحمد يقع لله شاء الإنسانُ أم أبى، نأتي الآن إلى المعنى الأوّل.

المعنى الأوّل:

أنّ هذه الجملة ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ جملة إنشائيّة مفادها الطلب، الله تبارك وتعالى يقول: يا عبادي اجعلوا الحمدَ لي فأنا أحقّ بالحمد، فالجملة جملة طلبيّة كما ذهب إلى ذلك سيّدنا الخوئي قدّس سرّه في تفسيره «البيان في تفسير القرآن»، اجعلوا الحمد لله لأنّ الله أحقّ بالحمد، لماذا أحقّ بالحمد؟ لماذا الله أحقّ بالحمد؟

لوجوه ثلاثة:

الوجه الأوّل: أنّ الحمد على الحسن، ولا يوجد حسنٌ خالصٌ إلا حسن الله عزّ وجلّ، جميع أنواع الحسن هي حسنٌ غير خالص، حسن الإنسان: حسن صوته، حسن شكله، حسن فكره، حسن منطقه، حسن سلوكه، حسن لباسه.. جميع أنواع الحسن حسنٌ مشوبٌ بالنقص، حسنٌ مشوبٌ بشيءٍ من القبح، جميع مظاهر الحسن حسنٌ مشوبٌ بالقبح وحسنٌ مشوبٌ بالنقص، ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ [11]  كلّ إنسان حتى لو صدر منه الحسن لكنّ حسنه ملوّث بشاكلته، ملوّث بنقصه، ملوث بقبحه، كلٌ يصدر منه الحسن ولكن حسنٌ ملوث، حسنٌ محدودٌ، حسنٌ مشوبٌ بالشاكلة، يعني: بالشوائب الماديّة التي تخيّم على الإنسان وتعكّر حسنه وتلوّث حسنه، أمّا حسنه تبارك وتعالى فهو حسنٌ محضٌ صرفٌ خالصٌ لا تشوبه شائبة نقص ولا يعرض عليه أدنى حدٍ وأدنى تلوثٍ، إذن ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ حسنه حسنٌ خالصٌ، فإذا كنتَ تحمد الآخرين على حسنهم فالأحقّ أنْ تحمده هو مصدر الحسن الخالص الصّافي ألا وهو الله تبارك وتعالى، هذا هو الوجه الأوّل.

الوجه الثاني: أنت عندما تحمد أيّ إنسان على حسنه فهل حسنه بالعرض أو حسنه بالذات؟ هل حسن الإنسان من قِبَلِ نفسه أو حسنه مكتسبٌ من مصدر آخر؟ حسن الإنسان حسنٌ عرضيٌ، حسن الإنسان حسنٌ اكتسابيٌ، حسن الإنسان حسنٌ مستقى ومستمدّ من مصدر آخر، إذن الإنسان ليس حقيقًا بالحمد، لِمَ؟ لأنّ حسنه عرضيٌ، و«ما بالعرض يعود إلى ما بالذات» فارجع إلى المصدر الأوّل، ارجع إلى الفجر الأوّل للحسن وإلى المنشأ الأوّل للحسن الذي حسنه ذاته وذاته حسنه، ليس مكتسبًا ولا مستمدًا ولا مأخوذًا من مصدر آخر، ومن كان حسنه ذاته - وهو الله تبارك وتعالى - فهو الأحقّ بالحمد، إذن هذا هو الوجه الثاني لاستحقاقه الحمد تبارك وتعالى.

الوجه الثالث لاستحقاقه الحمد تبارك وتعالى: أنّ الإنسان إنّما يحمد أيّ حسن إذا كان هذا الحسن ليس فيه عود النفع على الذات، وهذا لا يتحقّق إلا في الله، أيّ حسن يصدر من الإنسان يعود بالنفع إليه، أيّ حسن، أيّ حسن يصنعه الإنسانُ فإنّه يعود إليه، حتى لو قال هذا الإنسانُ: أنا رأيتُ فقيرًا في الشّارع لا يعطف عليه أحدٌ ولا يرحمه أحدٌ فتصدّقت عليه وأحسنتُ إليه من دون أنْ أطلب منه لا أجرًا ولا شكرًا ولا مدحًا ولا ثناءً فأنا أحسنتُ إليه إحسانًا محضًا! لا، حتى هذا الإحسان يعود نفعه إليك، لأنّ هذا الإحسان يضيء ذاتك، يحوّل نفسك من نفس أنانيةٍ شحيحةٍ بخيلةٍ إلى نفس مشرقةٍ فيّاضةٍ معطاء، أيّ عمل تعمله حتى لو قلتَ: بدون أجر، بدون شيء، أنا أعمله هكذا، أنا أخدم في الجمعيّة الخيريّة أو في المستوصفات الصّحيّة لله، قربة لله، مع ذلك هذا الإحسان يعود إليك، لأنّه يحوّل ذاتك من ذاتٍ مظلمةٍ إلى ذاتٍ مشرقةٍ، من ذاتٍ تعيش الأنا إلى ذاتٍ تعيش الغير، من ذاتٍ تعيش الحومان والدّوران حول نفسها إلى ذاتٍ تعيش الانطلاق والانفتاح على خدمة المجتمع الآخر، إذن أيّ حسن يصدر منك يعود بالنفع إليك، فأنا لا أستحقّ الحمد على حسني وإحساني لأنّه يعود إليّ، الأحقّ بالحمد هو من لا يعود إحسانه إليه، من لا يعود إحسانه إليه أبدًا لأنّه الغني عن كلّ غايةٍ وهدفٍ وعودِ نفع ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ [12]  إذن هو الأحقّ بالحمد.

فهناك وجوهٌ ثلاثة إذا تأمّلناها عرفنا وأدركنا أنّ الأحقّ بالحمد هو الله تبارك وتعالى دون من سواه، هذا معنى أنّ الجملة جملة إنشائيّة.

المعنى الثاني:

أنّ الجملة جملة خبريّة، القرآن يقول: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ شئتم أم أبيتم، لا يقع الحمدُ لغيره شئتم أم أبيتم، لماذا؟

لوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ المراد باللام لام الغاية.

الإنسان عندما يحمد.. لاحظ، تأمّل في الإنسان، مثلاً: أستاذي علمني علمًا، «من علمني حرفًا كنتُ له عبدًا» كما في المثل، ولعله حديث، أنا لا أدري، الأستاذ علمني من علمه، أنا أحمد وأمدح وأشكر، أحمد العلمَ لأنّه علمٌ أو أحمد العلم لأنّه صدر من الأستاذ؟! لأيّ شيءٍ أنا أحمده؟! الأستاذ علمني العلمَ، أنا أحمد العلمَ لأنّه علمٌ أو لأنّه صدر من الأستاذ؟! لا، أحمده لأنّه علمٌ، حتى لو صدر من غير هذا الأستاذ أنا أيضًا أحمده، صدوره من الأستاذ لا دخل له ولا موضوعيّة له في الحمد، أنا أحمد العلمَ لكونه علمًا، ولذلك لو صدر من غير هذا الأستاذ أيضًا حمدته، لو صدر من أبي هذا العلم لحمدته، لو صدر من صديقي هذا العلم لحمدته، لو صدر من جاري هذا العلمُ لحمدته، لا توجد خصوصيّة للمصدر، الإنسان دائمًا إنّما يحمد الشّيء الحسن لكونه حسنًا لا لشيءٍ آخر، «والله علمني الأستاذ في يوم السّبت في السّاعة الخامسة في المدرسة الفلانيّة..» أنا أحمده لأنّه في السّاعة الخامسة؟! أو أحمده لأنّه في المدرسة الفلانيّة؟! أو أحمده لأنّه كان في يوم السّبت؟! أو أحمده لأنّه صدر من فم زيدٍ ولم يصدر من فم بكرٍ؟! لا، كلّ هذه حدودٌ أنا لا أحمد عليها، أنا أحمد على ذات المحدود لا على الحدود، الحمد على ذات المحدود لا على الحدود، صدر من فم فلان، هذا حدٌ، صدر في اليوم الفلاني، هذا حدٌ، صدر في المكان الفلاني، هذا حدٌ، صدر بالشّكل الفلاني، هذا حدٌ، كلها حدودٌ، الحدود لا دخل لها في حمدي، ما أحمده وأركّز عليه ذات العلم، ذات المحدود، وأمّا الحدود فلا ربط لي بها ولا دخل لها في حمدي.

إذن مركز الحمد «محور الحمد» هو نفس الحسن، نفس النعمة، بما أنّك تحمد الحسنَ لحسنه لا لحدوده، والحسن مصدره الله تبارك وتعالى، فحمدك يقع لله أدركتَ ذلك أو لم تدرك، أنت حمدتَ العلمَ لأنّه علمٌ لا لأنّه صدر من الأستاذ فلان وفي المكان الفلاني وفي اليوم الفلاني وبالشّكل الفلاني، بما أنّك حمدتَ العلمَ لأنّه علمٌ، لأنّه كمالٌ، ومصدر الكمال هو الله، فحمدك للعلم حمدٌ لله عزّ وجلّ أدركتَ ذلك أم لم تدرك، إذن الحمد لا يقع خارجًا إلا لله عزّ وجلّ؛ لأنّه حمدٌ للكمال بما هو كمالٌ، ومصدر الكمال بما هو كمالٌ هو الله تبارك وتعالى، هذا الوجه الأوّل: اللام لام الغاية.

الوجه الثاني: أنّ هذه اللام لام الملك والصّدور.

ما معنى هذا الكلام؟ يعني: جميع ما في الوجود حمدٌ صادرٌ من الله تبارك وتعالى، ما معنى هذه الجملة؟

الله تبارك وتعالى كما يقول الفلاسفة.. نحن ننقل كلمات الفلاسفة للاستشهاد بها ولتقريب الفكرة، يقولون: لله كلامان:

1 - كلامٌ ذاتيٌ.

2 - وكلامٌ فعليٌ.

1 - الكلام الذاتي هو تجليه لذاته تبارك وتعالى، هذا كلامٌ ذاتيٌ لا يدركه نبيٌ مرسلٌ ولا ملكٌ مقرّبٌ فضلاً عن غيرهما، هذا كلامٌ ذاتيٌ.

2 - والكلام الفعلي هو إفاضته للوجود، نفس إفاضته للوجود كلامٌ، كلامه تبارك وتعالى، كلامه هو فعله، كلامه هو إفاضته للوجود تبارك وتعالى، ولذلك تقرأ في الآيات القرآنيّة: ﴿وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ [13]  يعني: الوجودات، الوجود لا ينفد، الوجود يبقى مستمرًا، عطاءٌ متجدّدٌ مستمرٌ، ما نفد الوجود، الوجود هو كلمات الله، ولذلك ترى القرآنَ يعبّر عن عيسى بن مريم بأنّه كلمة: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ [14]  عيسى بن مريم وجودٌ وطاقة، هذا الوجود كلمة من كلمات الله، إذن إفاضة الوجود كلام الله، كلام الله هو إفاضة الوجود، هذا الكلام إفاضة الوجود كلامٌ وإفاضة الوجود حمدٌ فالله يحمد نفسه بنفسه، الله يحمد نفسه بكلامه، الله يحمد نفسه بإفاضته للوجود، إفاضته للوجود كلامه، إفاضته للوجود حمدٌ له على نفسه، فهو يحمد نفسه بنفسه تبارك وتعالى، خلق محمّدًا ، خلق الحقيقة المحمّديّة ”خلقكم الله أنوارًا فجعلكم بعرشه محدقين“ خلق الحقيقة المحمّديّة ونفس هذه الحقيقة حمدٌ من أنواع الحمد، خلق الكونَ كله من سمائه وأرضه ونجومه وشموسه وذرّاته ومجرّاته وإنسانه وجانه وملكه وجميع مخلوقاته، جميع هذه المخلوقات هي حمدٌ لله عزّ وجلّ، فأنا الإنسان، أنا الذي لا أفكّر في نفسي.

أتحسب أنّك جرمٌ صغيرٌ وفيك انطوى العالمُ الأكبرُ

أتحسب أنّك ذرّة من ترابٍ ملقاة على الأرض وأنت بنفسك حمدٌ لله عزّ وجلّ، أنت أيها الإنسان صورة من صور الحمد، أنت أيها الإنسان مصداقٌ من مصاديق الحمد.

فيك انطوى حمد الله عزّ وجلّ، فأنت حمدٌ الله، ولسانك حمدٌ الله، وفكرك حمدٌ الله، وقلبك حمدٌ الله، وحمدك حمدٌ الله، أيّ كلمةٍ تقولها فيها الحمد لله فهذه الكلمة وجودٌ، والوجود كلامه، وكلامه حمده، فحمدك حمد الله عزّ وجلّ أدركتَ ذلك أم لم تدرك، إذن ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ يعني: جميع ما في الوجود من وجودٍ هو حمدٌ، وجميع هذا الحمد صادرٌ من الله، وجميع هذا الحمد ملكٌ لله عزّ وجلّ، وإذا أدركنا هذا المعنى أدركنا ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ.

إذن ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ جملة خبريّة تخبر عن أمرين:

1/ إمّا على نحو لام الغاية، يعني: لا يقع حمدٌ من الإنسان إلا وهو لله.

2/ أو على نحو لام الصّدور، يعني: جميع ما في الوجود كلامه وجميع كلامه حمده فجميع ما في الوجود حمدٌ صادرٌ من الله عزّ وجلّ وملكٌ لله عزّ وجلّ.

هذا ما أردنا بيانه، وبقيت نقاط أخرى في هذه الفقرة - فقرة ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ - نتعرّض إليها في اليوم القادم إنْ شاء الله، اللهم بالزهراء وأبيها وبعلها وبنيها والسّرّ المستودع فيها اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا وكفر عنا سيئاتنا، اللهم اغفر لنا وارحمنا وعافنا واعفُ عنا وتب علينا إنّك أنت التوّاب الرّحيم، اللهم نبّهنا من نومة الغافلين، اللهم نبّهنا من نومة الغافلين، اللهم نبّهنا من نومة الغافلين، يا الله يا رحمن يا رحيم اشفِ مرضانا، وفكّ أسرانا، وفرّج عن المؤمنين والمؤمنات في كلّ مكان، أيّد الإسلام والمسلمين، واخذل الكفار والمنافقين، أيّد وانصر علماءَ الدّين العاملين، خصوصًا مراجعنا في النجف الأشرف، اللهم انصرهم بنصرك، واحرسهم بعينك التي لا تنام، وارحم جميعَ أمواتنا وأموات المؤمنين والمؤمنات، ورحم الله من يقرأ لهم الفاتحة ويهدي ثوابها إليهم، وخصوصًا إلى روح العلامّة المقدّس الشّيخ منصور البيات، وروح العلامّة المقدّس الجدّ الشّيخ فرج العمران، لهما ولأرواح المؤمنين والمؤمنات الفاتحة قبلها الصّلوات.

اللهم صلِّ على محمّدٍ وآل محمّدٍ

[1]  سورة الفاتحة: 1 - 7.
[2]  السجدة: 7.
[3]  النحل: 18.
[4]  آل عمران: 2.
[5]  فاطر: 10.
[6]  الشورى: 5.
[7]  الرعد: 13.
[8]  الإسراء: 44.
[9]  فصلت: 53.
[10]  الفتح: 23.
[11]  الإسراء: 84.
[12]  فاطر: 15.
[13]  لقمان: 27.
[14]  النساء: 171.

تفسير سورة الفاتحة 3
تفسير سورة الفاتحة 5