نص الشريط
تفسير سورة الفاتحة 5
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مسجد الإمام علي (ع) بالقطيف
التاريخ: 6/9/1424 هـ
مرات العرض: 3243
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1461)
تشغيل:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 

﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ

صدق الله العليّ العظيم

كان كلامنا حول الفقرة الأولى من فقرات سورة الفاتحة، وهي قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وذكرنا أنّ البحث في هذه الفقرة في عدّة نقاط، بقي الكلامُ في هذه النقطة، وهي: إنّما يكون الحمدُ مادة للافتتاح والاختتام وللحالة المتجدّدة بينهما باعتبار أنّ الإنسان.. أوّل ما يدركه الإنسانُ، أوّل ما يشعر به الإنسانُ هو وجوده، أوّل ما يدركه الإنسانُ في حياته هو وجوده، وإذا أدرك وجودَه أدرك أنّ هناك مصدرًا وأنّه... [؟] تبارك وتعالى، ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، أوّل ما يدركه الإنسانُ هو وجوده، وإذا أدرك وجوده أدرك وجودَ خالقه، وإدراكه لوجود خالقه هذا هو أوّل الحمد، أوّل حمدٍ يتحلى به الإنسانُ ويتصف به الإنسانُ: إدراكه لوجود خالقه لإدراكه لوجوده، ولذلك كان الحمد هو المفتاح لأنّ أوّل حالةٍ تعرض للإنسان هي الحمد، يعني: إدراكه لوجود خالقه تبارك وتعالى، فالحمد هو مفاتح الوجود، ولذلك افتتح اللهُ القرآنَ به فكانت أوّل سورةٍ من سوره هي سورة الحمد ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ولذلك يُفْتَتَحُ الثناءُ به كما في دعاء الافتتاح: ”اللهم إنّي أفتتح الثناءَ بحمدك“ الحمد هو المفتاح.

والحمد هو الختام أيضًا، الحمد هو آخر ما يختم به الإنسانُ وجودَه وآخر ما يختم به الإنسانُ مسيرتَه، لِمَ؟

آخر ما يدركه الإنسانُ في حياته هو عود وجوده لوجود الله عزّ وجلّ، رجوع وجوده لله تبارك وتعالى، هذا الوجود أفِيضَ من قِبَلِ الله ويعود إلى الله مرّة أخرى، كما يقول الفلاسفة: «من الإجمال إلى التفصيل، ومن التفصيل إلى الإجمال»، كان وجود الإنسان منطويًا مجملاً، فصّله اللهُ تبارك وتعالى وجعل له عمرًا ونسبًا ومكانًا وزمانًا وذكاءً وقوّة وقدرة وحياة.. فصّل ذلك الوجود إلى مراحلَ وإلى تفاصيلَ وإلى دقائقَ، ثم هذا الوجود بتفاصيله ينطوي ويصبح وجودًا مجملاً يرجع لبارئه تبارك وتعالى، ﴿وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، يطوى الوجودَ كله، هذه التفاصيل التي نراها من سماءٍ وأرضٍ وإنسانٍ وشجرٍ وحجرٍ.. والإنسان له تفاصيلُ معيّنة، كلّ هذه التفاصيل تطوى كطيّ السّجل ويرجع وجودًا مجملاً مبهمًا للباري تبارك وتعالى، آخر ما يدركه الإنسانُ هو انطواء هذا الوجود، وهو إجمال هذا الوجود وعوده لبارئه تبارك وتعالى، ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى، فإذا أدرك الإنسانُ رجوعَ الوجود وانطواءَ الوجود لله تبارك وتعالى أدرك أنّ ربّه هو المسيطر عليه بِدْأ وختامًا ومسيرة، فكان آخر ما يدركه الإنسانُ هو حمد الله تبارك وتعالى لقيمومته وهيمنته وسيطرته على الوجود بأسره، فآخر ما يدركه هو الحمد وآخر ما ينطق به هو الحمد، ولذلك قال تعالى في صفات أهل الجنة «في صفات المتقين»: ﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

والإنسان ما بين هذين الحدّين: ما بين المبدأ وما بين المنتهى، ما بين الافتتاح وما بين الاختتام، الإنسان في مسيرته الحياتيّة يدرك كلّ آنٍ آن أنّه عينُ الفقر وعينُ الحاجة وعينُ الرّبط بالله عزّ وجلّ، كما يقول الفلاسفة: «المعلول عين الرّبط بعلته»، الإنسان عين الفقر، عين الحاجة، وليس شيئًا له الحاجة، بل هو عين الحاجة وعين الفقر، فهو متدلٍ ومرتبط بوجود الباري تبارك وتعالى، إذن هو في كلّ آنٍ وفي كلّ لحظةٍ تمرّ عليه يحتاج إلى المدد، يحتاج إلى العطاء، يحتاج إلى العناية الإلهيّة، فهو في كلّ آنٍ يفتقر إلى ربّه افتقارًا ذاتيًا، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ، فإذا أدرك الإنسانُ أنّه فقيرٌ محتاجٌ في كلّ آنٍ وفي كلّ لحظةٍ فقد أدرك الحمدَ المستمرّ من البدء إلى المنتهى، من المفتتح إلى المختتم، إذن الإنسان يسير في الحمد افتتاحًا واختتامًا ووسطًا ما بينهما، هذه من النقاط المتعلقة بقوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ التي أردنا التعرّض لها.

نتعرّض فعلاً للفقرة الثانية: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ

هذه الفقرة من أجل توضيح مدلولها لابدّ أنْ نذكر عدّة أمورٍ:

الأمر الأوّل: الرّب، كلمة الرّب ماذا تعني؟

كلمة الرّب تحتمل معاني ثلاثة:

المعنى الأوّل: أنّ المراد بالرّب السّيّد، كما يقال: ربّ الأسرة، «ربّ الأسرة» يعني: سيّدها وقائدها.

المعنى الثاني: أنّ المراد بالرّب المالك، كما يقال: هذه أرضٌ لا ربّ لها، يعني: لا مالك لها، وهذه أرضٌ لها ربٌ، يعني: لها مالكٌ، فالمراد بالرّب هو المالك.

المعنى الثالث: أنّ المراد بالرّب المربّي، المربّي يقال له ربٌ لأنّه مصدر التربية، منشأ التربية، فيقال له ربٌ.

إذن الرّب يُطْلَقُ على السّيّد وعلى المالك وعلى المربّي، الرّب هنا في الآية المباركة تحتمل المعاني الثلاثة وأنّ المراد بها جميع هذه المعاني، فهو السّيّد وهو المالك وهو المربّي جلّ وعلا، هنا اصطلاحان يختلف فيه الفلاسفة عن علماء العرفان.

الفلاسفة يقولون: صفات الله:

1 - إمّا صفات ذاتٍ.

2 - إمّا صفات فعلٍ.

صفات الذات هي التي لا تُوصَفُ بنقيضها، يعني مثلاً كلمة «قادر»، «قادر» من صفات الذات، لِمَ؟ لأنّ الله لا يُوصَفُ بنقيضها، لا يقال: قادرٌ وليس بقادر، قادرٌ على شيء وليس بقادر على شيء آخر، يستحيل وصف الله بنقيض القدرة، إذن كلمة «قادر» من صفات الذات إذ يستحيل أنْ يوصف الله بنقيضها، بينما كلمة «خالق» أو كلمة «رازق» من صفات الفعل، يقال: رزق اللهُ المؤمنين الجنة ولم يرزق الكافرين، فيوصف الله بالنقيض نقيض الرزق، يقال: رزق الموجودين الوجودَ ولم يرزق غيرهم، فالله يتصف بالرّزق وبنقيضه أيضًا، لذلك يعدّ الرّزق من صفات الفعل لا من صفات الذات، هذا اصطلاح الفلاسفة.

أمّا علماء العرفان فهم يقسّمون أسماء الله تبارك وتعالى إلى ثلاثة أقسام، يقولون:

1. أسماء الذات.

2. وأسماء الصّفات.

3. وأسماء الأفعال.

كلّ اسم بحسب ما يكون مظهرًا له:

1/ بعض الأسماء مظهرٌ للذات المقدّسة، مثلاً: كلمة القدّوس، كلمة الأحد، كلمة مثلاً الصّمد، هذه الكلمات «القدّوس، الأحد، الصّمد» مظهرٌ لنفس الذات المقدّسة الجامعة لسائر صفات الكمال، لذلك تعدّ أسماء الذات.

2/ هناك قسمٌ من الأسماء مظهرٌ لصفاته وليس مظهرًا لذاته، يعني: مظهريتها أولاً وبالذات لصفاته وبواسطة مظهريّتها لصفاته تكون مظهرًا لذاته تبارك وتعالى، مثلاً: «القادر، العالم»، «القادر» مظهرٌ لصفة القدرة، «العالم» مظهرٌ لصفة العلم، لكنّ كون «قادر» و«عالم» مظهرًا لصفاته بالنتيجة يكون مظهرًا لذاته تبارك وتعالى باعتبار أنّ صفاته عين ذاته، فلذلك يقال: «العالم» و«القادر» لأنّها أولاً وبالذات مظهرٌ للصّفات تسمّى أسماء الصّفات.

3/ بينما «خالق» و«رازق» و«محيي» و«مميت» لأنّها مظهرٌ للأفعال، «الرّزق، الإحياء، الإماتة» أفعال لله عزّ وجلّ، تسمّى أسماء الأفعال.

إذن كلمة الرّب:

1] إذا قلنا: المراد بالرّب السّيّد تكون من أسماء الذات؛ لأنّها مظهرٌ لذاته تبارك وتعالى.

2] إذا قلنا: بأنّ الرّب بمعنى المالك تكون من أسماء الصّفات؛ لأنّها مظهرٌ للملك والملك من صفاته.

3] إذا قلنا: بأنّ الرّب بمعنى المربّي - يعني: من يفيض التربية على هذا الوجود بأسره - تكون كلمة الرّب من أسماء الأفعال؛ فإنّ التربية من أفعاله تبارك وتعالى، هذا هو الأمر الأوّل.

الأمر الثاني: «العالمين» جمع عَالَم، بعض المفسّرين يقول: «العالمين» عنوانٌ شاملٌ لجميع العوالم العاقلة وغير العاقلة، جميع العوامل الماديّة وغير الماديّة: عالم الإنسان وعالم الملك وعالم الجن، وكما يقسّم الفلاسفة: عالم الجبروت وعالم الملكوت وعالم الناسوت.. جميع العوالم مندرجة تحت قوله: ﴿الْعَالَمِينَ، ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ يعني: هو المالِك لجميع عوالم الوجود بلا استثناء، بعض المفسّرين ومنهم السّيّد الطباطبائي صاحب الميزان قدّس سرّه يقول: لا، العالمين يراد بها عالم الإنس والجنّ؛ لأنّ القرآن أطلق لفظ العالمين في عدّة مواردَ وقصد عالمَ الإنس والجن.

1] مثلاً قوله تعالى: ﴿وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ يعني: عالم الإنس والجن.

2] مثلاً قوله تعالى: ﴿أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ يعني: عالم الإنس.

3] مثلا قوله تعالى: ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا يعني: عالم الإنس والجن.

4] مثلاً قوله تعالى خطابًا لبني إسرائيل: ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ يعني: عالم الإنس والجن.

إذن «العالمين» تطلق ويراد بها عالم الإنس والجن في استعمالات القرآن والكريم، وهذه قرينة على أنّ المراد بالعالمين هنا في الآية يعني: عالم الإنس والجن.

طبعًا هذا الوجه لا يصلح أنْ يكون قرينة، مجرّد أنّ القرآن استعمل كلمة العالمين في عالم الإنس والجنّ لا يعني أنّه متى ما أطلق لفظ العالمين فالمراد به خصوص عالم الإنس والجن، استعمالٌ بالقرينة لا يعني أنّ اللفظ ينحصر بهذا المصداق، هذه الاستعمالات القرآنيّة التي ذكرناها وعدّدناها استعمالات مصطحبة ومستندة إلى القرينة، لولا القرينة لقلنا بأنّ العالمين في هذه الآيات يراد بها جميعُ العوالم، فإذا ورد لفظ العالمين في آيةٍ وكانت هناك قرينة على أنّ المراد به عالم الإنس أو عالم الإنس والجن نمشي على ضوء القرينة، أمّا لو لم تكن هناك قرينة مقتضى إطلاق اللفظ - وهو: العالمين - أنْ يراد به جميع العوالم ماديّها ومجرّدها وعاقلها وغير عاقلها، فالمراد به جميع العوالم المحتملة.

ولذلك علماؤنا عندما يقفون على هذه النقطة، هذه الآية المباركة مثلاً التي تتحدّث عن مريم بنت عمران عليها السّلام: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ظاهر هذه الآية أنّ مريم قد اُصْطُفِيَت وفُضّلت على جميع نساء العالمين، بينما نجد الأحاديث الشّريفة القطعيّة: خطابٌ من النبي لابنته السّيّدة الزهراء سلام الله عليها: ”أما ترضين أنْ تكوني سيدة نساء العالمين“، هنا قد يقال أنّ هناك تباينًا بين مدلول الرّواية وبين مدلول الآية، مدلول الآية أنّ مريم هي أفضل نساء العالمين، ومدلول الرّواية أنّ فاطمة سلام الله عليها سيّدة نساء العالمين، فهناك تباينٌ وتغايرٌ بين مدلول الرّواية ومدلول الآية، ومقتضى ذلك - كما يقول به البعضُ - طرح الرّواية، يعني: أنْ نطرح الرّواية لأنّها مخالفة لظاهر الآية القرآنيّة باعتبار أنّ ظاهر الآية أنّ مريم هي التي فضّلت على نساء العالمين والرّواية تتضمّن مدلولاً مغايرًا لمدلول الآية، وكلّ روايةٍ تتضمّن مدلولاً مغايرًا للقرآن تُطْرَح باعتبار ما ورد عن الإمام الصّادق عليه السّلام: ”ما خالف كتاب الله فهو زخرفٌ“ فيُطْرَح.

لا، الأمر ليس كذلك، لِمَ؟ فرقٌ بين الاصطفاء وبين السّيادة، الاصطفاء مرتبة من الاختيار، وأمّا السّيادة فهي عبارة عن عود الولاية العامّة لهذا السّيّد، مريم ثبتت لها مرتبة الاصطفاء ولم تثبت لها مرتبة السّيادة، وفرقٌ بين مرتبة الاصطفاء ومرتبة السّيادة، امرأة ألا وهي مريم بنت عمران عليها السّلام ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ - يعني: اختاركِ - وَطَهَّرَكِ - مريم كانت معصومة عن الخطأ والزلل بمقتضى هذه الآية - اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ المراد بالاصطفاء الثاني ليس هو السّيادة وليس المراد بالاصطفاء الثاني هو التفضيل على جميع نساء العالمين، المراد بالاصطفاء الأوّل هو الاختيار، الله تبارك وتعالى يختار الذات المعيّنة ويهبها مواهبه ونعمه، كما يقول الأزري:

قلّب الخافقيْن ظهرًا لبطنٍ فرأى ذاتَ أحمدٍ فاصطفاها

لم يكنْ أشرفَ النبيّينَ حتى عَلِمَ اللهُ أنّه أزكاها

«اصطفاها» يعني: اختارها، والمراد بالاصطفاء الثاني هو أنّه جعلها من بين نساء العالمين رحمًا، جعلها من بين نساء العالمين مصدرًا لولادةٍ من غير أبٍ، وُلِدَ من غير أب، يعني: أنجبت مولودًا حقّق الإعجاز الإلهي وهو أنّه وُلِدَ من غير أبٍ، هذه لم تحصل لأيّ امرأةٍ من غيرها، لم يحصل لأيّ امرأةٍ لا قبلها ولا بعدها، لم يحصل لأيّ امرأةٍ لا قبل مريم ولا بعدها أنّها أصبحت رحمًا ومصدرًا لمعجزةٍ إلهيّةٍ وهي ولادة رسولٍ مطهّرٍ من غير أبٍ، هذه النعمة لم تحصل لغير مريم بنت عمران، هذا هو معنى الاصطفاء، الاصطفاء هو مرتبة من مراتب الانتجاب وهو أنّ الله انتجب مريم بنت عمران بأنْ جعلها مصدرًا ورحمًا لمعجزةٍ إلهيّةٍ وهي ولادة رسولٍ طهورٍ مطهّرٍ من غيب أبٍ، هذا شيءٌ والسّيادة شيءٌ آخر، ”أما ترضين أنْ تكوني سيدة نساء العالمين“ لها مرتبة السّيادة والسّيادة بمعنى الولاية، يعني أنّ لها الولاية العامّة التكوينيّة على جميع نساء العالمين في الجنان وفي جميع أنحاء الوجود وفي جميع أنحاء [؟] والتشخص والتمثل، إذن مرتبة السّيادة المساوقة للأفضليّة والمساقة للأعلميّة والمساوقة للأطهريّة خصّت بها السّيّدة الصّدّيقة الزهراء صلوات الله وسلامه عليها، فلا تعارض ولا تباين ولا تغاير بين مدلول الرّواية ”أما ترضين أنْ تكوني سيدة نساء العالمين“ وبين مدلول الآية المباركة: ﴿وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ، هذا ما يتعلق بهذا الأمر.

الأمر الثالث:

أنّ العوالم تنقسم إلى قسمين:

1 - عوالم ماديّة.

2 - وعوالم مجرّدة.

العوالم المجرّدة يعني التي هي خارجة عن نطاق المادّة ومتحرّرة من نطاق المادّة، هذه العوالم لا تحتاج إلى التربية لأنّها وُجِدَت كاملة، المجرّد وُجِدَ كاملاً بخلاف المادّي، دعني أوضّح لك هذا الأمر: المخلوق المادّي مثل الإنسان، المخلوق المادّي خُلِقَ بين الاستعداد وبين الفعليّة، أوّلاً يكون نطفة، وهذه النطفة فيها استعدادٌ لِأنْ تتحوّل إلى علقة، والعلقة فيها استعدادٌ لِأنْ تتحوّل إلى مضغةٍ، والمضغة فيها استعدادٌ لِأنْ تتحوّل إلى جسم، وهكذا.. وهذا الطفل فيه استعدادٌ لِأنْ يكون شابًا، والشّاب فيه استعدادٌ لِأنْ يكون شيخًا.. الموجود المادّي يتكوّن من مرحلتين:

1/ مرحلة الاستعداد.

2/ ومرحلة الفعليّة.

ولأنّه يتألف من مرحلتين - مرحلة الاستعداد ومرحلة الفعليّة - لذلك الموجود المادّي يعيش حركة، كلّ موجودٍ مادّي يعيش حركة ذاتيّة جوهريّة لا حركة مكانيّة، يعني: من باب المسجد إلى وسط المسجد، هذه حركة مكانيّة، أو حركة زمانيّة، يعني: من يوم السّبت إلى يوم الأحد، هذه حركة زمانيّة، لا، حركة ذاتيّة جوهريّة بمعنى أنّ الموجود المادّي يتحرّك في صميم ذاته حركة جوهريّة يتحوّل بهذه الحركة من النقص إلى الكمال، من الاستعداد إلى الفعليّة، من القوّة إلى التكامل، وهكذا.. فهذا العالم المادّي كله يعيش حركة جوهريّة من الاستعداد إلى الفعليّة، ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، جميع هذا العالم المادّي يعيش حركة ذاتيّة جوهريّة.

أمّا عالم المجرّدات، عالم العقول، عالم النفوس، عالم المجرّدات لا يعيش حركة انتقال من الاستعداد إلى الفعليّة لأنّه عبارة عن الفعليّة المحضة، فهو خارجٌ عن إطار الحركة الذاتيّة الجوهريّة، ولهذا النفوس البشريّة لولا أنّها تعلقت بالأبدان لما عاشت الحركة، النفوس البشريّة لأنّها متعلقة بالأبدان لذلك تعيش الحركة، يعني: اكتسبت الحركة من الوجود المادّي، النفس باعتبار تعلقها بهذا البدن المادّي تعيش حركة الانتقال من حالٍ إلى حالٍ ومن طورٍ إلى طورٍ ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا، ولكن هذه النفس البشريّة إذا تجرّدت من هذا الجسد المادّي فحينئذٍ تكون فعليّة محضة ولا تعيش حركة الانتقال من الاستعداد إلى الفعليّة.

إذن إذا كان المراد بالرّب المربّي والتربية بمعنى نقل المخلوق من طورٍ إلى طورٍ ومن حالٍ إلى حالٍ إذن فالمراد بالعالمين العوالم الماديّة؛ لأنّها هي التي تنتقل من طورٍ إلى طورٍ ومن حال إلى حالٍ، أمّا إذا كان المراد بالرّب جميع المعاني التي طرحناها: سيدٌ ومالكٌ ومربٍ فالمراد بالعالمين جميع العوالم المحتملة ماديّها ومجرّدها وعاقلها وغير عاقلها وجبروتها وملكوتها كما شرحنا ذلك فيما سبق.

الأمر الرّابع:

الذي يتعلق بهذه الفقرة - كلمة ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ - أنّ التربية «تربية العالمين» على ثلاثة أنحاءٍ:

1 - التربية التكوينيّة.

2 - والتربية التشريعيّة.

3 - والتربية التفضّليّة.

1 - أمّا التربية التكوينيّة فلا يخلو منها موجودٌ ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى، لا يوجد مخلوقٌ لم يعطه هداية إلى هدفه، هداية إلى كماله، هداية إلى غايته، ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ - شيئين: خلقٌ، وهداية - خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى، فجميع الموجودات المادّيّة خاضعة لتربيته تبارك وتعالى، بمعنى هدايتها إلى أنْ تنتقل من طورٍ إلى طورٍ حتى تصل إلى كمالها اللائق بها، هذه تربية تكوينيّة عامّة.

حتى الكافر هو يعيش ضمن التربية، لاحظ الآية المباركة: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ - هو إذا يريد الدّنيا نفتح له أبوابَ الدّنيا، لا نحرمه أبدًا، إذا أراد الدّنيا، إذا أراد أنْ يسيطر على الدّنيا بثروته أو بقوّته أو بجبروته أو بجاهه نفتح له أبوابَ الدّنيا، نحن لا نبخل عليه - مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ - ليس فقط المؤمن - كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا أبدًا، الجميع، الجميع يرتزق من العطاء، الجميع يستقي من العطاء، الجميع ينهل من العطاء، الله تبارك وتعالى مصدر التربية والعطاء ومصدر إفاضة الوجود، والجميع ينهل من هذا الوجود، هذا الكافر ينهل من هذا الوجود، الدّنيا والملذات والثروة والأموال والسّيطرة والقوّة والهيمنة.. نعطيه من هذا الوجود ما يريد.

وذلك المؤمن الذي يسترفد آفاق التقوى وآفاق العروج إلى الله ويستقي من مناهل الرّحمة والتعلق بالله ويسير في إطار الهداية أيضًا نفتح له أبوابَ الهداية:

1] ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا.

2] ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا.

3] ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ.

إذن الكلّ يحصل على العطاء، إنّما هذه الدّنيا مزرعة، أرضٌ خصبة، أرضٌ فيها السّماد وفيها الماء وفيها جميعُ مؤهّلات التربة الصّالحة للزراعة، وأنت تزرع فيها وردًا أو شوكًا، وأنت تزرع فيها إمّا ثمرًا صالحًا أو ثمرًا سيّئًا، فالكافر يدخل على هذه الأرض الصّالحة للزّراعة ويزرع فيها الثمرات السّيّئة والبذور المنتنة التي تثمر لا أنّها لا تثمر، تثمر ولكنها لا تطول ولا تبقى ولا تمتدّ طويلاً، تقتصر هذه البذور على خمسين سنة يعيشها أو على سبعين سنة يعيشها أو على ثمانين سنة يعيشها ثم تنطفئ وتموت وتذبل وتتحوّل إلى ترابٍ، ولكنّ المؤمن إذا دخل هذه الأرض ورآها مسمّدة ورأى الماء موجودًا ورأى الهواء نقيًا استغلّ الفرصة واغتنم الوقتَ وصار يزرع في تلك الأرض الزّهورَ والورودَ والثمراتِ اليانعة التي لا تعرف عمرًا قصيرًا ولا تبقى مدّة قصيرة وإنّما تمتدّ إلى مليارات السّنين ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا، هذه التربية التكوينيّة.

القسم الثاني: التربية التشريعيّة.

هذه القوانين التي جعلها اللهُ وأنزلها علينا على لسان أنبيائه ورسله وأصفيائه وأوصيائه وأوليائه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وأوصلها إلينا عبر العلماء وعبر المصلحين وعبر المبلغين، هذه القوانين السّماويّة هي التربية التشريعيّة، فوسائط هذه القوانين مربّون، النبي مربٍ، والوصيّ مربٍ، والعالم مربٍ، والمبلغ مربٍ، لأنّهم وسائط للتربية التشريعيّة ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا.

القسم الثالث من أقسام التربية: التربية التفضّليّة.

هذه التربية خاصّة بالمؤمنين، خاصّة بألئك الذين انفتحوا على ربّهم وخالقهم عزّ وجلّ، المؤمنون الذين يتلهفون شوقًا إلى ثواب الله، المؤمنون الذين يجوعون ويظمؤون ويعطشون لرحمة الله عزّ وجلّ، المؤمنون الذين دائمًا في حالة تعلق وفي حالة عشق وفي حالة ربطٍ وفي حالة توجّهٍ إلى الله تبارك وتعالى، هؤلاء المؤمنون لهم تربية خاصّة ولهم عناية خاصّة كما ورد عن الرّسول المصطفى محمّدٍ : ”أدّبني ربّي فأحسن تأديبي“، أنا لي تربية خاصّة: ”أدّبني ربّي فأحسن تأديبي“، هناك تربية خاصّة لي: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ، والإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه يمشي مع الذمّي، ذميٌ من المسيحيّين يخالطِ الإمامَ ثم يريد أنْ يسافر، الإمام يمشي معه في الطريق مسافة، يقول له: لماذا تمشي معي؟ قال: ”هكذا أدّبنا نبيّنا“ نحن هذا أدبنا، أدبٌ خاصٌ، تربية خاصّة، ”هكذا أدّبنا نبيّنا إذا صاحبنا شخصٌ أنْ نشيّعه في سفره وفي رحيله“، ”هكذا أدّبنا نبيّنا“ أدبٌ خاصٌ، الإمام أمير المؤمنين يقول: ”وكان يرفع لي كلّ يوم علمًا من أخلاقه ويأمرني بالاقتداء به“.

وصليتُ الصّلاة وكنتُ طفلاً=صغيرًا ما بلغتُ أوانَ حلمي

وأوجب لي ولايته عليكم=رسولُ الله يوم غدير خمِ

إلى آخر ما ورد عنه سلام الله عليه، فالتربية التفضّليّة هي التربية الخاصّة بالمؤمنين، لاحظوا كيف أنّ الله حريصٌ وحنونٌ على المؤمن، هذا المؤمن اللهُ تبارك وتعالى يُنْعِمُ عليه بأنْ يُوجَده في بيئةٍ صالحةٍ، وهذه تربية خاصّة، من أبوَيْن مواليَيْن، من أبوين مؤمنَيْن، تربية خاصّة وعناية خاصّة بهذا المؤمن ألا يفتح عينيه إلا على الإيمان وولاية أهل البيت والتقوى والعمل الصّالح، هذه تربية خاصّة، كيف أنّ هذا المؤمن يُنْعِمُ عليه اللهُ مثلاً بأخ موجّهٍ أو بأبٍ موجّهٍ أو بأم صالحةٍ، كيف يُنْعِمُ عليه اللهُ بصديق صالح يجرّه إلى المسجد ويجرّه إلى التقوى ويجرّه إلى العمل الصّالح، كيف يُنْعِمُ عليه اللهُ بأنْ يكون صاحبًا أو صديقًا للعلماء أو للمصلحين أو للموجّهين فيمشي وينقاد إلى الطريق الصّالح، كيف يُنْعِمُ عليه اللهُ هذا المؤمن إذا أراد أنْ يعصي يومًا من الأيام - هذا ملاحَظ - إذا أراد أنْ يعصي يومًا من الأيام يضع أمامه قيودًا كثيرة عن المعصية، يصرفه عن المعصية، يحول بينه وبين المعصية، يخلق أمامه العقبات، يخلق أمامه القيودَ الكثيرة والحواجز الكثيرة إلى أنْ يرتدع بنفسه ويعود إلى ربّه ويستغفر وينيب، إذن الله تبارك وتعالى دائمًا في حال التربية لهذا المؤمن، دائمًا في حال العناية لهذا المؤمن ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا، هذا ما يتعلق بالآية المباركة.

والحمدلله رب العالمين

تفسير سورة الفاتحة 4
تفسير سورة الفاتحة 6