نص الشريط
تفسير سورة الفاتحة 8
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مسجد الإمام علي (ع) بالقطيف
التاريخ: 9/9/1424 هـ
مرات العرض: 3533
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1185)
تشغيل:

أعوذ بالله من الشّيطان الغويّ الرّجيم

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [1] 

صدق الله العليّ العظيم

وصل بنا الكلام في سورة الفاتحة إلى قوله تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، والبحث في هذه الآية في عدّة جهاتٍ:

الجهة الأولى: في بيان معنى مالكيّته تبارك وتعالى.

قسّم الفلاسفة المِلك إلى ثلاثة أقسام:

1 - المِلك الاعتباري.

2 - والمِلك الحقيقي.

3 - والمِلك الحقّاني.

هناك ملكيّة اعتباريّة، وهناك ملكيّة حقيقيّة، وهناك ملكيّة حقّة.

1 - الِملك الاعتباري:

هو المِلك الذي يتحقق نتيجة المواثيق الاجتماعيّة، مثلاً: أنا عندما أملك بيتًا، أشتري بيتًا وأعْطَى صكًا يُثْبِتُ مِلكيّتي لهذا البيت، مِلكيتي للبيت ليست مِلكيّة حقيقيّة، لأنّ وجود البيت وقبضه وبسطه ليس بيدي، وإنّما المواثيق الاجتماعيّة تبانت على أنّ من دفع مبلغًا تجاه بيتٍ يُكْتَب له أو يُعْتَبَرُ كون البيت مِلكًا له، هذا مجرّد ميثاق اجتماعي، المجتمع تصالح وتبانى على أنّني أملك بيتًا أو أملك أموالاً أو أملك أثاثًا أو أملك سيّارة.. كلّ ذلك يرجع للمواثيق الاجتماعيّة التي تبانى عليها العقلاءُ، وإلا فليست مِلكيتي لهذه الأشياء مِلكيّة حقيقيّة، لأنّني لا أقدر على التصرّف فيها وجودًا وعدمًا وقبضًا وبسطًا، هذا الأمر خارجٌ عن سيطرتي وخارجٌ عن قدرتي.

القسم الثاني هو: الملكيّة الحقيقيّة.

وهي ما يعبّر عنه الفلاسفة ب «مِلكيّة القبض والبسط»، مثلاً: النفس، النفس البشريّة تخلق الصّور الذهنيّة، يعني الآن مثلاً أنا عندما أتصوّر صورة معيّنة، أنا افترضوا مثلاً زرتُ العراقَ فأتصوّر الآن صورَ العراق، النفس تخلق هذه الصّور وتستطيع أنْ تمحوها وتتصوّر صورًا أخرى، فالنفس البشريّة بمقتضى ما أعْطِيَت من قوّةٍ خلّاقة ومن قوّةٍ إبداعيّةٍ هذه النفس قادرة على أنْ تخلق صورًا وأنْ تمحوها، قادرة على أنْ تجمع هذه الصّور وأنْ تفرقها، قادرة على أنْ تركّب صورة معيّنة في الذهن وعلى أنْ تحلل هذه الصّورة، فالصّور التي ترتسم في أذهاننا هي من صنع النفس، النفس قادرة على صنعها، قبضها، بسطها، لذلك تعتبر مِلكيّة النفس لهذه الصّور مِلكيّة حقيقيّة وليست مِلكيّة اعتباريّة، يعني: سواءً أقرّ الميثاقُ الاجتماعيُ بأنّ النفس تملك أو لم يقر النفسُ تملك هذه الصّور، مادام للنفس قدرة خلاقة على صنع الصّور وعلى إيجادها فهذا الأمر لا يرتبط بالمواثيق الاجتماعيّة، هذا الأمر يرتبط بتكوين النفس وخِلقة النفس وجِبلة النفس، إذن فالنفس تملك الصّور المصنوعة من قِبَلها مِلكيّة حقيقيّة، وهي ما يُعَبّر عنه بمِلكيّة القبض والبسط.

القسم الثالث: المِلكيّة الحقانيّة.

أو: المِلكيّة الحقيقيّة الحقة، وهي مِلكيّة الله تبارك وتعالى، كيف؟

مِلكيّة الله لمخلوقاته لا تقتصر على القبض والبسط أو الإيجاد والإعدام بل مِلكيته تبارك وتعالى لمخلوقاته: ملكيّة الإحاطة والقيوميّة، هذا المطلب يحتاج إلى الدّقة، أشرحه لك:

1/ المخلوق: مهما يفعل من أفعال فإنّه محدودٌ وفعله محدودٌ، كيف؟

يعني أنا الآن مثلاً عندما أصلي أوجِدُ الصّلاة، الصّلاة فعلي، هذه الصّلاة عندما أوجِدُهَا، أنا بالنتيجة أنا مخلوقٌ محدودٌ، فلي حدٌ زمانيٌ، ولي حدٌ مكانيٌ، ولي حدٌ من تمام الجهات، قدرتي محدودة، عقلي محدود، حياتي محدودة، قوتي محدودة، تصرّفاتي محدودة... بالنتيجة المخلوق محاط بالحد من تمام الجهات، محدودٌ من تمام الجهات، أنا محدودٌ وصلاتي أيضًا التي أوجِدُها محدودة، الصّلاة أيضًا هذه التي أوجدها لا تقدر أنْ تمتدّ هذه الصّلاة، هذه الصّلاة لا يمكن أنْ تمتدّ لكلّ زمان ولكلّ مكان ولكلّ شخص ولكلّ صورةٍ، بالنتيجة هي صلاة محدودة بحدٍ زماني، بحدٍ مكاني، بصورةٍ معيّنةٍ، بمادةٍ معيّنةٍ.. وهكذا، فالمحدود فعله محدودٌ، ونتيجة لوجود الحدّ في الفاعل ووجود الحدّ في الفعل لا يمكن للفاعل أنْ يحيط بالفعل، هو فعلي، الصّلاة فعلي لكنْ أنا غير قادر على الإحاطة بهذه الصّلاة إحاطة قيوميّة، لماذا؟

لأنّ لي حدًا وللصّلاة حدٌ، وحدّ الصّلاة مغايرٌ لحدودي، فنتيجة المغايرة بين حدّ الفعل وحدّ الفاعل لا يمكن للفاعل الإحاطة القيوميّة على فعله نتيجة المغايرة بين الحدّين، مادامتُ أنا محدودًا بحدٍ معيّن والصّلاة أيضًا وجودٌ محدودٌ بحدٍ معيّن، ولكلّ وجودٍ حدٌ يغاير حدّ الوجود الآخر، إذن الصّلاة لها حدٌ مغايرٌ لحدّ وجودي، فمع المغايرة بين الحدّين أنا غير قادر ولا قابليّة لي ولا قوّة لي ولا استعداد لي لِأنْ تكون لي إحاطة قيوميّة حتى على الأفعال التي تصدر مني، مع أنّها صدرت مني لكنْ لا يمكن الإحاطة القيوميّة عليها.

2/ بينما نأتي للباري تبارك وتعالى:

الله تبارك وتعالى لا حدّ له، بما أنّه لا حدّ له، لا حدّ لوجوده، لا حدّ لفعله، لا حدّ لقدرته، لا حدّ لعلمه، لا يحجبه حدٌ، بما أنّه لا يحجبه حدٌ مقتضى عدم محدوديّته تبارك وتعالى إحاطته بأفعاله إحاطة قيوميّة لأنّه لا يوجد حدٌ، ليس مثل الإنسان، الإنسان يوجد حدٌ يحجبه، لذلك لا يقدر أنْ يحيط بالأشياء إحاطة قيوميّة، أمّا الله تبارك وتعالى فمقتضى عدم محدوديّته إحاطته بما سواه إحاطة قيوميّة وهيمنة سارية وممتدّة في جميع ما سواه تبارك وتعالى، ولذلك فالمِلكيّة الحقيقيّة الحقة التي هي عبارة عن الإحاطة القيوميّة خاصّة به تبارك وتعالى دون من سواه، ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [2] ، ﴿مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍيعني: الإحاطة والقيوميّة المستحكمة على الأشياء، ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، إذن هذا هو معنى مالكيّته تبارك وتعالى للأشياء، هذه هي الجّهة الأولى من البحث.

الجهة الثانية:

﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِاليوم هو الزمن، فقد يطرح شخصٌ سؤالاً، وهو أنّه ما معنى ملكيّة الله للزمن؟ اليوم زمنٌ وما معنى مالكيّته للزمن؟! كان من المناسب أنْ يقول: مالك السّماوات، مالك الأرض، مالك المخلوقات، مالك الوجود.. كان من المناسب أنْ يذكر ما هو متعلقٌ حقيقيٌ للمِلك، كيف يكون مالكيّته تبارك وتعالى للزمن؟! لأشرح لك ذلك: الزمن لو تأمّلنا الزمن ليس موجودًا أصلاً، الزمن هذا مجرّد عنوان اعتباري، كيف عنوان اعتباري؟

دعني أشرح لك الآن، الزمن كما يعرّفه الفلاسفة: خط وهميٌ ترسمه الحركة، كيف خط وهمي ترسمه الحركة؟

يعني أنا الآن مثلاً: آتي وآخذ مثلاً غطرة، وأفعل بها هكذا في الهواء، ماذا يرتسم في ذهنك؟ ترتسم في ذهنك صورة دائرة، هذه الدّائرة ليست موجودة، هذا مجرّد خط وهمي، حركة الثوب هكذا ترسم خطًا وهميًا في ذهنك، هذا الخط الوهمي تتصوّر أنّه دائرة، وفي الحقيقة لا توجد دائرة، لا وجود للدّائرة في الخارج، مجرّد خطٍ وهمي رسمته حركة الثوب أو رسمته حركة اليد أو رسمته حركة مثلاً المفتاح، هذا مجرّد خطٍ وهمي، أنا الآن مثلاً عندما أمشي أمامك في هذا المسجد، أمشي أمامك من المحراب إلى الباب، أنت إذا تتابع مشيي تتصوّر خطًا مستقيمًا، لا يوجد خط في الواقع، وإنّما هذا خطٌ وهميٌ ترسمه الحركة، الزمن أيضًا خطٌ وهميٌ ترسمه الحركة، ليس هناك وجودٌ حقيقيٌ في الخارج وإنّما هو خط وهميٌ ترسمه الحركة، كيف؟

حركة الأرض حول نفسها وحركة الأرض أمام الشّمس، هذه الحركة ترسم خطًا نعبّر عنه بالدّقائق والثواني والسّاعات واليوم والشّهر والسّنة وهكذا.. كله خطوط وهميّة، ليس في الواقع، ليس في الخارج وراء الأرض شيءٌ آخر، لا يوجد، ليس في هذا الكون إلا الشّمس والأرض وحركة الأرض، الأرض تتحرّك حركة حول نفسها وحركة حول الشّمس، هذه هي الحركة، ليس هناك شيءٌ ثالث، ليس عندنا إلا أرضٌ وحركة الأرض، لا يوجد شيءٌ ثالث اسمه زمن، إنّما حركة الأرض هي التي ترسم لنا خطًا، هذا الخط سمّيناه نحن المجتمع الإنساني حتى ننظم أمورنا، من أجل تنظيم أمورنا سمّيناه زمنًا، وسمّيناه دقيقة، وسمّيناه ثانية، وسمّيناه شهرًا، وسمّيناه سنة، وسمّيناه أسبوعًا، هذه كلها تسميات من عندنا نحن المجتمع البشري وليست أمورًا واقعية، المجتمع البشري منذ أنْ صار مجتمعًا عاقلاً، منذ أنْ صار مجتمعًا حضاريًا هو الذي اخترع هذه الأمور، قال: توجد سنة ويوجد يوم ويوجد شهر وتوجد ساعة وتوجد دقيقة.. لأجل تنظيم المسيرة البشريّة ولأجل تنظيم المصالح الاجتماعيّة والفرديّة لذلك جاء هذا الاختراع وجاء هذا التقسيم الزمني.

إذن الزمن ليس إلا خطًا وهميًا ترسمه الحركة «حركة الأرض أو حركة الشمس أو حركة الفلك»، لذلك تبارك وتعالى قال: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [3] ، المسألة مسألة فلكٍ يتحرّك فقط، فلكٌ يتحرّك فيرسم لنا هذه الخطوط التي نسمّيها يوم وشهر وسنة، ﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ، إذن الزمن ليس شيئًا حقيقيًا، فإذا لم يكن الزمن شيئًا حقيقيًا كيف يملكه تعالى؟ الله تبارك وتعالى إنّما يملك الأشياء الحقيقيّة، مثل الأرض، مثل الشجر، مثل الإنسان، أمّا الزمن كيف يملكه والمفروض أنّ الزمن ليس شيئًا حقيقيًا وإنّما هو خط وهميٌ ترسمه حركة الفلك ليس إلا؟!

هنا نريد أنْ نجيب عن هذا السّؤال نقول:

مالكيّته تبارك وتعالى للزمن هي كناية عن مالكيّته للحركة، بما أنّ الزمن ينشأ عن الحركة فمالكيّته للزمن تعبيرٌ آخر عن مالكيّته للحركة التي هي منشأ الزمن، مالكيّته للحركة تعبيرٌ آخر عن مالكيّته للمتحرِّك، الله تبارك وتعالى عندما يقول: مالك اليوم يعني: مالكٌ لمنشأ هذا اليوم، ومنشأ اليوم هو الحركة، ومنشأ الحركة هو المتحرِّك، فهو مالكٌ تبارك وتعالى لمنشأ الاعتبار الزمني، وهو المتحرِّك والحركة، لاحظ مثلاً الآيات القرآنيّة:

1 - بعض الآيات تقول: ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ [4] .

2 - بعض الآيات تقول مثلاً: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [5] .

3 - بعض الآيات تقول: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ [6] .

ما معنى هذا «يومين، ستة أيام، إنّ يومًا عند ربك كألف سنة ممّا تعدّون»؟ ما معنى هذا الاختلاف؟

بعض العلماء.. طبعًا يوجد تفسيرات متعدّدة لهذه الآيات، أنا أذكر الشّيء الذي يرتبط بمحلّ الكلام، بعض العلماء يقول: اختلاف هذه التقديرات «آية تقول: ستة أيام، آية تقول: يومين، آية تقول: إنّ يومًا عند ربك كألف سنة ممّا تعدّون» اختلاف التحديدات والتقديرات يرمز إلى رمزٍ معيّنٍ، وهو: يريد أنْ يقول لنا تبارك وتعالى أنّ الزمن ما هو إلا خط منشؤه الحركة، والحركة بيدي، فبما أنّ حركة المتحرّك بيدي فتقدير هذه الحركة تارة بيومين وتارة بستة وتارة بألف وتارة بخمسين سنة كلّ ذلك بيدي، مَنْ كان بيده الحركة كان بيده تقديرها وتحديدها وتخطيطها، إذن الاختلاف بين الآيات ما هو إلا كناية وإشارة إلى أنّه تبارك وتعالى يملك منشئيّة الزمن ويملك سببيّة الزمن ألا وهي حركة المتحرِّكات.

نأتي الآن إلى الجهة الثالثة من بحثنا:

نلاحظ أنّ الله تبارك وتعالى ركّز على زمنٍ معيّنٍ، قال: ﴿مَالِكِ يَوْمِ أيّ يوم؟ ﴿يَوْمِ الدِّينِ، ما قال: مالك يوم الخلق، أو: مالك يوم ولادة الإنسان، أو: مالك يوم وفاة الإنسان.. لا، خصّص يومًا معينًا، زمنًا معينًا، ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، ما هو الوجه في تخصيص الزمن بهذا اليوم: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ؟ لم يذكر غيره من الأزمنة وخصّ الكلامَ بهذا اليوم: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، ما هو الوجه في ذلك؟

أذكر وجوهًا متعدّدة في المقام:

الوجه الأوّل:

ما أشار إليه السّيّد الإمام الخميني قدّس سرّه عند تفسيره لهذه السّورة، قال: «يوم الدّين هو يوم الجمع»، لاحظوا توجد آيات قرآنيّة تشير إلى هذا العنوان: ﴿لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ [7]  يوم الجمع هو يوم القيامة، ﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ [8]  يوم الجمع، ما معنى يوم الجمع؟

يوم الجمع، يقول الفلاسفة: مسيرة الوجود تنقلت من الجمع إلى التفريق ثم إلى الجمع مرّة أخرى، كان البشر كلهم وجودًا جمعيًا واحدًا في عالم الذرّ، جميع الوجودات كانت وجودًا إجماليًا جَمْعِيًا في عالم الذرّ الذي خاطب اللهُ فيه الأرواحَ وقال: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [9] ، جميع الأرواح كانت وجودًا جَمْعِيًا إجماليًا في عالم الذرّ، ثم هذا الوجود انحدر إلى عالم المادّة، أصبح وجودًا ماديًا، الوجود عندما انحدر وتنزّل إلى عالم المادّة صار كثيرًا، صار متفرّقًا، لماذا؟

لأنّ القيود الماديّة والحدود الماديّة تقتضي الكثرة، تقتضي الفرقة، هذا أبٌ، هذه أمٌ، هو لم يكن لا أب ولا أم ولا شيء، وجودٌ إجماليٌ، صار أبًا وأمًا وأختًا وأخًا وزوجًا وزوجة وعدوًا وصديقًا وعالمًا وجاهلاً وسماءً وأرضًا.. كثرات، هذه الكثرات نشأت عن المادّة، عن الحدود الماديّة، الحدود الماديّة اقتضت تقسيم الوجود وتوزيع الوجود إلى كثرات متفرّقة، ثم يأتي اليوم الآخر، هذه الكثرات أين تذهب؟

ترجع مرّة أخرى، جميع هذه الكثرات الوجوديّة وجميع هذه المتفرّقات الوجوديّة يأتي يومٌ آخر تنصبّ في وجودٍ واحدٍ جامع، ترجع كلها كما كانت في عالم الذرّ، ترجع إلى وجودٍ جامع واحدٍ، وذلك الوجود الجامع الواحد هو يوم الجمع.

1 - ﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ.

2 - ﴿وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [10] ، كلّ السّماوات تُطْوَى في وجودٍ واحدٍ، ﴿وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ.

3 - ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [11] ، كله يُجْمَع سجلاً واحدًا، كتابًا واحدًا، ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ.

إذن هناك يومٌ تجتمع فيها المتفرّقات وتتحد فيه الكثرات وتنصبّ في وجودٍ إجمالي واحدٍ، وهو يوم الدّين، بما أنّ يوم الدّين يوم الجمع إذن يوم الدّين مظهرٌ لمالكيّته تبارك وتعالى، إذا جاء الإنسانُ يومَ الدّين ورأى كيف المسيرة تحوّلت من جمع إلى فرقةٍ ثم من فرقةٍ إلى جمع، من وحدةٍ إلى كثرةٍ ثم من كثرةٍ إلى وحدةٍ، ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [12] ، إذا رأى الإنسانُ هذه المسيرة مَنْ جَمَعَ فرّقَ ومَنْ فرَقَ جَمَعَ كان يوم الجمع مظهرًا جليًا لمالكيّته تبارك وتعالى، إذ لولا مالكيّته لما كانت مسيرة الوجود من فرقةٍ إلى جمع تحت هيمنته وتحت قبضته تبارك وتعالى، إذن هذا هو الوجه الأوّل.

الوجه الثاني:

ما ذكره السّيّد السّبزواري قدّس سرّه، يقول: إنّما خصّ يوم الدّين بالذكر ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ لأنّ «يوم الدّين هو المنتهى»، ومَنْ مَلَكَ المنتهى مَلَكَ المبدأ، يعني كيف؟

نحن نلاحِظ في الآيات القرآنيّة جميع الآيات القرآنيّة نصّت على المُلك لا على المِلك، فرقٌ بين المُلك وبين المِلك، المُلك بمعنى السلطنة، يقال: «مَلِك» يعني: سلطان.

1 - ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ [13] .

2 - ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [14] .

3 - ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [15] .

المُلك يعني السلطنة، بينما المِلك بمعنى الإحاطة، المِلك بمعنى الإحاطة والاختصاص، الآيات القرآنيّة إذا تلاحظها عبّرت عن الله بالمُلك، بالسلطنة، لا توجد آية عبّرت عنه بالمِلك، يعني: بالإحاطة، إلا هذه الآية: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، ليس عندنا آية أخرى عبّرت عن الله بالمالك غير هذه الآية: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ وإلا جميع الآيات عبّرت عنه بالمُلك بمعنى السلطنة، الله تبارك وتعالى في هذه الآية أراد أنْ يبيّن لنا أنّه يملك بمعنى الإحاطة والقيوميّة، يملك هذا الوجود من أوّل حرفٍ إلى آخر حرفٍ، هذا الوجود كتابٌ، كتابٌ هذا الوجود، بدأ من أوّل حرفٍ والآن يمشي الكتاب، نحن نمشي فيه إلى آخر حرفٍ، هذا الوجود كتابٌ، كيف كتاب؟

أنت مثلاً الآن تقرأ بالنسبة إلى آصف بن برخيا «آصف بن برخيا وزير سلميان»: ﴿قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ - وهو آصف بن برخيا - أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ [16] ، «علمٌ من الكتاب» أيّ كتاب؟ يعني القرآن الكريم؟! لا، ليس المقصود «علمٌ من الكتاب» يعني القرآن الكريم، المقصود من الكتاب: الوجود، كتاب الوجود، كتاب الكون، الوجود كتابٌ، «علمٌ من الكتاب» يعني عنده معرفة بأسرار الوجود، عنده معرفة بمفاتيح الوجود، ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ.

إذن الوجود كتابٌ، هذا الكتاب يمتدّ، مَنْ مَلَكَ خاتمة الكتاب مَلَكَ مقدّمة الكتاب، مَنْ مَلَكَ منتهى الكتاب مَلَكَ مبدأ الكتاب، الله تبارك وتعالى عندما قال: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ لأنّ يوم الدّين هو آخر صفحة من هذا الكتاب، آخر صفحةٍ من هذا الكتاب يوم الدّين، خاتمة الكتاب يوم الدّين، الله تبارك وتعالى يقول: بما أنّني مالكٌ للخاتمة وللمنتهى ولآخر حرفٍ من الكتاب فهذا دليلٌ على مالكيّتي لجميع شؤون ومسيرة وتفاصيل كتاب الوجود، كما يقول العلماء: الآية تدلّ بالدّلالة المطابقيّة على مالكيّته تبارك وتعالى لخاتمة الوجود، وتدلّ بالدّلالة الالتزاميّة على مالكيّته تعالى لمسيرة الوجود بجميع تفاصيله وشؤونه.

الوجه الثالث:

لماذا خصّ يوم الدّين بالذكر؟

يمكن لنا أنْ نقول: إنّما خصّ يوم الدّين بالذكر لأنّه «يوم لقاء الإنسان بربّه»، ماذا يعني لقاء الإنسان بربّه؟

لاحظوا: كلّ إنسان يلتقي بربّه، يومًا من الأيام يوجد لقاءٌ، ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [17]  أنت ستلتقي، ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ، «كدح» يعني: حركة، أنت تعيش حركة، أنت ما تدري، تظنّ أنّك واقفٌ، لا، أنت تعيش، تتحرّك، أنت تمشي في الطريق من حيث لا تشعر، ﴿إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِأنت في سفرٍ وإنْ كنت تحسب أنّك في حضرٍ، الإنسان يحسب أنّه حاضرٌ بين أهلي ووطني وأولادي وزوجتي، لا، أنت في سفرٍ، أنت تقطع حركة، حركة حثيثة من حيث لا تشعر.

كما ورد في الرّواية عن الإمام زين العابدين سلام الله عليه، ابن شهاب الزهري رأى الإمامَ زين العابدين في ليلةٍ من الليالي وهو يحمل على ظهره متاعًا، قال: الإمامُ زين العابدين يحمل على ظهره متاعًا! إلى أين متجه؟ يقول: جئتُ إليه، قلتُ: سيّدي إلى أين؟ قال: ”إلى سفرٍ أعددتُ له زادًا“، قال: سيّدي أنا أحمله عنك، قال: ”لا، أنا أولى بحمله“، يقول: بعد أيام رأيته في المدينة، لم يذهب إلى مكان، هو يقول: إلى سفرٍ أعددتُ له زادًا، قلتُ: سيّدي قلتَ بأنّك في سفرٍ وأنت في المدينة؟ قال: ”ليس السّفر ما ظننتَ، إنّه سفر الآخرة، وزاده الورع عن محارم الله وبذل الندى في الخير“.

الإنسان في حركة سفرٍ، وهذه الحركة حركة روحيّة وليست حركة جسديّة، هذا السّفر سفرٌ روحيٌ وليس سفرًا ماديًا، الإنسان في سفرٍ روحي، في حركةٍ روحيّةٍ يعبّر عنها العلماءُ بحركةٍ جوهريّةٍ في صميم ذاته وفي صميم روحه، هو يتحرّك نحو منتهى، هو لا يدري أين هذا المنتهى، هو يتحرّك نحوه وإنْ كان لا يشعر به، ﴿إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ولكن تلاقيه بأيّ وجهٍ؟ أنا ألاقيه تبارك وتعالى حتمًا لكنْ سألاقيه بأيّ وجهٍ؟

الوجه الذي سألاقيه به أنا أحدّده، الله تبارك وتعالى لا يحدّده، يقول: أنت تحدّده، أنت ما تحبّ أنْ تلاقيني به أنت تحدّده، أنت حدّد الوجهَ الذي ستلاقيني به، عملك يحدّد الوجه الذي ستلتقي معي به «بهذا الوجه»، الإنسان سيلتقي مع ربّه بوجهٍ هو الإنسان بنفسه يحدّد ذلك الوجه:

1/ إمّا ذلك الوجه المشرق المشعّ: الرّحمة الرّحمانيّة الرّحيميّة التي قال عنها تبارك وتعالى: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [18] .

2/ أو الوجه الآخر: الوجه وجه العذاب، وجه السخط، وجه النقمة، الوجه الذي عبّر عنه تعالى بأنّي شديد العقاب ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ [19] .

أنت تحدّد الوجه الذي ستلتقي به تبارك وتعالى، الله له وجوهٌ، مِنْ وجوهه أنّه غفورٌ رحيمٌ، ومِنْ وجوهه أنّه شديد العقاب، الوجه الذي ستلتقي مع الله به أنت تحدّده من خلال مسيرتك العمليّة ومن خلالك خطك العملي ومن خلال حركته الجوهريّة.

1/ فالإنسان عندما تتحرّك روحه في منازل العروج إلى الله وفي منازل التقرّب إلى الله تصطبغ روحه بصورةٍ نوريّةٍ حتى تصبح روحه قطعة من النور وقطعة من الضّوء، وحينئذٍ سيلتقي حتمًا مع وجه الغفور الرّحيم.

2/ وأمّا عندما تتحرّك روحه إلى الهاوية، وعندما تتحرّك روحه إلى الانحدار، وعندما تتحرّك روحه في قوس النزول من عقبةٍ إلى حفرةٍ إلى منحدرٍ إلى شيءٍ آخر، عندما تتحرّك روحه إلى الأسفل، إلى قوس النزول، فإنّها تصطبغ بصورةٍ ناريّةٍ، بصورة مظلمةٍ، بصورةٍ سوداءَ، فإذا أتى يوم القيامة والنفسُ مظلمة سوداءُ فلا يلتقي مع الله إلا بالوجه الآخر أنّه شديد العقاب.

﴿فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [20] ، إذن أنت ستلتقي به لقاءً بوجهٍ معيّنٍ من وجوهه تعالى، وهذا الوجه تحدّده حركتك الجوهريّة ومسيرتك العمليّة، وحينئذٍ فيوم الدّين هو يوم اللقاء، يومٌ ستتعرّف فيه على وجهٍ من وجوه الله عزّ وجلّ، وأنت الذي ستحدّد هذا الوجه، يوم الدّين يوم اللقاء، بما أنّه يوم اللقاء فهو مظهرٌ لمالكيّته تبارك وتعالى، كيف يكون مظهرًا لمالكيّته؟

تحديد الوجه بما يتناسب مع صورة العمل مِلكٌ مِنْ مِلك الله عزّ وجلّ، تحديد الوجه بما ينسجم مع العامل، تحديد الوجه بما يتطابق مع صورة الإنسان إنْ كانت صورة ناريّة أو كانت صورة نوريّة، تحديد الوجه بما ينسجم ويتطابق مع عمل الإنسان ومع صورة الإنسان هذا التحديد مِلكٌ لله عزّ وجلّ، فيوم ظهوره لك بأحد وجوهه هو يوم مالكيّته؛ لأنّ تحديد الوجه بما ينسجم مع عملك مقتضى مالكيّته تبارك وتعالى، إذن يوم لقائه يوم مالكيّته، لذلك خصّ بالذكر يوم الدّين.

أيضًا توجد وجوهٌ لا أطيل الكلام بذكرها، أتركها للبحث الآتي إنْ شاء الله.

أذكر بعض مسائل الصّوم:

1 - إذا عَلِمَ أنّه أتى بما يوجب فساد الصّوم، يعني يدري أنّه ارتكب المفطر، لكن ما يدري أنّه ارتكب المفطر متعمّدًا فتجب عليه الكفارة أو ارتكب المفطر ليس بعمدٍ فيجب عليه القضاء فقط، ما يدري أنّه يجب عليه القضاء أو يجب عليه الكفارة، لا يجب عليه حينئذٍ إلا القضاء، ويُجْرِي البراءة عن وجوب الكفارة.

2 - وإذا عَلِمَ أنّه أفطر أيامًا، يدري أنّه أفطر، مثل كثير من الناس أوائل صومهم، أوائل بلوغهم، يعني: أوائل البلوغ، خصوصًا في الفتيات، لأنّها تبلغ في سنة مبكّر، وبعض الفتيات يصعب عليهن الصّيام مثلاً بالنحو الكامل، فهي تدري أنّه في أوائل صيامها قصّرت، يعني: في أوائل صيامها كانت بعض الأيام تفطر فيها متعمّدة مثلاً، لكن لا تدري كم، إنْ كانت أفطرت عشرة أيام فعليها عشر كفارات، أفطرت تسعة أيام عليها تسع كفارات، أفطرت خمسة أيام عليها خمس كفارات، هي ما تدري كم عدد الأيام، يقتصر في الكفارة على القدر المتيقن، يعني: إذا دار الأمر بين خمسة وعشرة، خمسة قدرٌ متيقنٌ، فيقتصر على الخمسة، إذا دار الأمر بين ثلاث وخمس، الثلاثة قدرٌ متيقنٌ فيقتصر على الأقل، دائمًا يقتصر على الأقل، لأنّ الأقل هو القدر المتيقن.

3 - وإذا شكّ أنّه أفطر على محلل أو محرّم، ما يدري أنّه أفطر ذلك اليوم على عمل محللٍ فعليه كفارة واحدة أو أفطر والعياذ بالله على عملٍ محرّم فعليه كفارة الجمع على رأي السّيّد الخوئي - يعني: يجمع بين الخصال الثلاث - كفته كفارة واحدة، لا يجب عليه حينئذٍ إلا كفارة واحدة.

4 - إذا أفطر عمدًا ثم سافر قبل الزّوال، أوّل ما طلع الصّباح مثلاً قام شَرِبَ أو أفطر، فيما بعد لمّا رأى نفسه قد أفطر قال: حتى لا تصير عليّ كفارة سأسافر! وقام وسافر قبل الزّوال حتى يقول: أنا اليوم مسافرٌ والمسافر يفطر، أنا إنّما أفطرتُ لأنّني سأسافر! لا، هذا لا يفيده، السّفر لا يفيده، بعد أنْ أفطر في الوطن، بعد أنْ أفطر في الحضر متعمّدًا، إذا أفطر متعمّدًا تجب عليه الكفارة ولا تسقط بالسّفر.

5 - إذا كان الزّوج مفطرًا وأكره زوجته الصّائمة على الجماع، هو مفطرٌ لأنّه مسافرٌ مثلاً، لنفترض زوجته ما كانت مسافرة مثلاً، افترض هو مسافرٌ ورَجِعَ إلى الوطن بعد الزّوال، يعني: بعد أنْ أفطر في السّفر رجع إلى الوطن فهو مفطرٌ، وأكره زوجته على الجماع، هو مفطرٌ وأكره زوجته الصّائمة على الجماع، لم يتحمّل عنها الكفارة ولا كفارة عليها، يعني: هي ما عليها كفارة لأنّها مُكْرَهَة، وهو ما يتحمّل عنها الكفارة لأنّه مفطرٌ وليس بصائم، هو مفطرٌ من الأساس، وإنْ كان مأثومًا، واحد يقول: مادام ما في كفارة أشوى! لا، الإثم لا يقلّ عن الكفارة، بالنتيجة الإثم يبقى، إكراهها على الإفطار موجبٌ للإثم، والإثم ليس أقلّ من الكفارة.

6 - يجوز التبرّع بالكفارة عن الميّت، يعني: إذا مات وعليه كفارة يجوز التبرّع عنه إمّا بالصّوم «يصوم عنه شهرين متتابعين» أو يطعم عنه ستين مسكينًا.

7 - وفي جوازه عن الحيّ إشكالٌ، مثلاً: ابني عليه كفارة، أروح أنا أتبرّع عنه مثلاً، لا، ما يصير، أو مثلاً: زوجتي عليها كفارة، أقول لها: «ما يحتاج، أنا الذي أتبرّع عنكِ الكفارة»، ما يصير، سواءً كان بالصّوم أو كان بالإطعام.

أنا أريد أنْ أشير إلى مسائلَ ابتلائيّةٍ:

1 - مثلاً.. سألني بعض الإخوة عن هذه المسألة، مثلاً: الميّت يكتب في وصيّته: يُتَصَدَّق عنه من ماله عند الدّفن بكذا، أو عند الغسل بكذا، أو عند مثلاً إنزاله للقبر بكذا، يُكْتَب في الوصايا عادة، وقت ما يموت هذا مذهولين، يلا خذ هذه، هذه الصّدقة، يطلع واحدٌ من جيبه مثلاً، ابنه، أخوه، يطلع من جيبه أموالاً، يلا هذه الصّدقة! هذا ما يصير، ما يجزي هذا، لأنّ الوصيّة يُتَصَدَّق عنه من ماله، يكون من ماله تُخْرَج الصّدقة، هذا لا يجزي عنه، لا تحلّ محلها، يعني: لا يكون أداءً للوصيّة، فإذا كتب في الوصيّة: «يُتَصدّق عنه» لا بأس، يُتَصَدَّق عنه ولو بتبرّع من طرفٍ آخر، أمّا إذا قال: «يُتَصَدَّق عنه من ماله» فلابدّ من الصّدقة من ماله.

2 - أيضًا بالنسبة إلى الكفارة، إنسانٌ عليه كفارة، أنا آتي وأتبرّع عنه، تارة يوكلني، يقول لي مثلاً: كفر عني بأموالك وأنا ضامنٌ، لا بأس، أنا صرتُ وكيلاً عنه، أمّا لا، تبرّعًا، هو ما وكلني، أنا تبرّعًا أكفر عنه، أصوم عن ستين يومًا أو أطعم عنه ستين مسكينًا تبرّعًا، لا تسقط عنه الكفارة، تبقى الكفارة على ذمّته ولا تسقط عنه لأنّها واجبٌ عليه، والواجب عليه لا يسقط بفعل غيره.

3 - إذا كان لا يخمّس وأوصى أنّه يُخَمَّس وهذا الخمس بمقدار ثلثه لا بأس، يُخْرَج عنه، يُخْرَج عنه من أمواله، وإنْ كان هو ليس واجبًا على الورثة لو لم يوصِ، لو نفترض أنّ إنسانًا مات وهو لا يخمّس، ولم يوصِ، والورثة يدروا أنّه لا يخمّس، لا يجب عليهم، لا يجب عليهم إخراج الخمس عنه، الخمس على رأي السّيّد السّيستاني لا يجب على الورثة إخراج الخمس عنه لا من تركته ولا عن ذمّته، السّيّد الخوئي يقول: لا، يفصّل، يقول: إذا كان الخمس في ذمّته فهذا دينٌ كسائر الدّيون، لابدّ من إخراجه من أصل التركة، وإذا كان الخمس في أمواله لا في ذمّته، الخمس موجودٌ في أمواله التي هي في البنك أو في أراضيه، هنا لا يجب إخراج الخمس، فيفصّل بين الخّمس في الذمّة والخّمس في الأموال، السّيّد السّيستاني يقول: لا، أصلاً خلاص راح، هو راح، انتهى، لا يجب على الورثة إخراج الخمس عنه، سواءً كان الخمس في ذمّته أو كان الخمس في تركته، لا يجب عليهم إخراج الخمس عنه، هم يريدون أنْ يتبرّعوا ذلك شيءٌ آخر، ولكن لا يجب عليهم من عندهم، وأمّا السّيّد الخوئي يقول: لا، إذا كان الخمس في ذمّته.. يعني كيف في ذمّته؟

يعني مثلاً: كلّ سنةٍ تصير عنده أرباحٌ فائضة عن مؤونة السّنة ولا يُخْرِجُ خمسَ الأرباح وفيما بعد يبلعها، يأكلها هذه الأرباح، يصرفها، فهذه الأرباح تعلق بها الخمسُ ثم صرفها، لمّا صرفها صار الخمسُ أين؟ في الذمّة، كان الخمس في الأرباح، صار الآن الخمس في الذمّة، لأنّ الأرباح أكِلَت، اُبْتُلِعَت، فصار الخمسُ في الذمّة، هذا الخمس الذي يثبت في الذمّة لابدّ من إخراجه من أصل التركة كسائر الدّيون لأنّه دينٌ، لابدّ من إخراجه من أصل التركة، أمّا لو كان الخمس ليس في ذمّته، في أمواله، يعني: الأموال التي فيها الخمس لازالت موجودة، لم يتصرّف فيها، أراضٍ موجودة، أموال في البنك موجودة، هذه الأموال فيها الخمس، هو ما تصرّف فيها، فالخمس ليس دينًا، وإنّما هو موجودٌ في تركته، هذا يقول: لا يجب إخراج الخمس عنه، إذا كان الخمس في أمواله لا يجب إخراج الخمس عنه، يجب إخراج الخمس إذا كان في ذمّته، فهذا خلافٌ بين الفقهاء.

8 - وجوب الكفارة موسّعٌ، ولكنْ لا يجوز التأخير إلى حدٍ يُعَدّ توانيًا، يعني: إذا كانت عليه كفارة ليس من اللازم أنْ يُخْرِجَها بعد رمضان مباشرة، أو مثلاً في أثناء رمضان، يمكن أنْ يؤخّرها إلى شهرٍ أو شهرين، المهمّ ألا يُعَدّ متسامحًا، لا يُعَدّ متسامحًا متوانيًا بأنْ يؤخّرها إلى شهورٍ عديدةٍ، فلا يجوز التسامح والتواني في أداء الواجب.

اللهم بالزهراء وأبيها وبعلها وبنيها والسّرّ المستودع فيها، تقبل أعمالنا يا الله، اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، وكفر عنا سيّئاتنا، وتوفنا مع الأبرار..

[1] الفاتحة: 1 - 7.
[2] يس: 83.
[3] يس: 40.
[4] الحج: 47.
[5] يونس: 3.
[6] فصلت: 12
[7] الشورى: 7.
[8] التغابن: 9.
[9] الأعراف: 172.
[10] الزمر: 67.
[11] الأنبياء: 104.
[12] البقرة: 156.
[13] الناس: 1 - 2.
[14] غافر: 16.
[15] الملك: 1.
[16] النمل: 38 - 40.
[17] الانشقاق: 6.
[18] الحجر: 49.
[19] غافر: 3.
[20] النازعات: 37 - 41.

تفسير سورة الفاتحة 7
تفسير سورة الفاتحة 9