نص الشريط
العقل بين الإفراط والتفريط
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 1/1/1421 هـ
مرات العرض: 3219
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2122)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ

صدق الله العلي العظيم

نتحدث هذه الليلة عن نقطتين:

  • في تطوير البراهين العقلية المستخدمة في علم الكلام.
  • في أن استثمار العقل في المجتمعات الإسلامية متأرجح بين التفريط والإفراط.
النقطة الأولى: تطوير البراهين العقلية المستخدمة في علم الكلام.

نحن عندنا مجموعة من العقائد: نعتقد بالتوحيد، وبالبنوة، وبالإمامة، وبالعصمة... إلخ، وعقائدنا هي عقائدنا لا تتغير ولا تتبدل، وإنما البراهين العقلية التي نستدل بها على صحة عقائدنا يجب أن تخضع للتطوير وللتنويع بمرور الزمن؛ فإن هذه البراهين براهين عقلية، والفلسفة الحديثة الآن قطعت مساراتٍ من التفكير في البراهين العقلية، والمسارات التي قطعتها الفلسفة الحديثة زرعت إثارات وشبهات لا بد من الإجابة عنها، إذ أن البراهين العقلية التي استخدمها علماؤنا في علم الكلام ما عادت كافية لدحض هذه الشبهات ولسد هذه الثغرات، ولذلك يجب أن تتطور البراهين العقلية إلى مستوى الإجابة عن هذه الشبهات التي وُجِدَت نتيجة تقدم الذهن البشري، ونتيجة تقدم الذهنية الفلسفية في العصر الحاضر.

مثال: نحن من قبل خمسمائة سنة إلى الآن كيف نثبت نبوة النبي؟ النبوة من جملة معتقداتنا، ونحن نثبتها بالبرهان العقلي، وحتى يتضح وجه الإشكال والشبهة نوضّح خلاصة هذا البرهان. حتى السيد الخوئي يعتبر من علمائنا المتأخرين، وقد استخدم نفس البرهان المستخدم قبل خمسمائة سنة في إثبات نبوة النبي، فإنك عندما تراجع كتاب البيان في تفسير القرآن للسيد الخوئي تجده يتحدث عن إثبات نبوة النبي باستخدام نفس البرهان الذي استخدمه علماء الكلام قبل مئات السنين.

هذا البرهان يقول: إعطاء المعجزة بيد الشخص الكاذب تضليلٌ للبشر، وتضليل البشر قبيحٌ، فيستحيل على الحكيم «تبارك وتعالى» أن يعطي المعجزة بيد الرجل الكاذب. مثلاً: مسيلمة الكذّاب جاء وادعى النبوة، فهل يمكن لله أن يعطي مسيلمة الكذّاب معجزة مع أنه رجل كاذب؟ يقولون: مستحيل؛ لأن الله لو أعطاه معجزة لصدقه الناس في نبوته مع كونه في الواقع كاذبًا، فيعد إعطاء المعجزة تضليلاً للبشر؛ لأن البشر ضلوا بسبب إعطاء المعجزة، وتضليل البشر قبيح لا يصدر من الحكيم، فيستحيل على الله أن يعطي المعجزة بيد شخص كاذب، فإذا أعطى المعجزة بيد رجل عرفنا أنه صادق وليس بكاذب؛ إذ من المستحيل أن تعطى المعجزة بيد الشخص الكاذب، وبما أن المعجزة القرآنية أعطيت بيد النبي محمد ، إذن فمحمد صادق في نبوته.

هذا الاستدلال العقلي مشكلة، وهو محل إثارة وتأمل؛ فإن هذا المنهج الاستدلالي مبني على مسألة القبح، حيث يقول البرهان: يقبح إعطاء المعجزة بيد الكاذب، لماذا يقبح ذلك؟ لأن إعطاء المعجزة بيد الكاذب تضليل للبشر، وتضليل البشر قبيح. ولكن إمامنا المنتظر مغيب منذ أكثر من ألف سنة، وطوال هذه الفترة تعج البشرية في ضلال وظلمات، حيث تخرج من ظلمة وتدخل في أخرى، وتخرج من مشكلة وتقع في أخرى، فالأمة طوال أكثر من ألف سنة تعج في الظلمات والتخبصات، وتجرب مختلف الأنظمة والاتجاهات، فصار تغييب الإمام تضليلاً للبشر!

أنت تقول بأن تضليل البشر قبيح، والقبيح لا يصدر من الله، ولكن الله «تبارك وتعالى» غيّب الإمام عن الأمة، وصار تغييب الإمام عن الأمة سببًا في ضلالها، فصار تغييبه تضليلاً للأمة، وتضليل الأمة قبيح، فكيف صنعه الله «تبارك وتعالى»؟! أنت تقول بأن المعجزة لا تعطى بيد الكاذب لأن إعطاء المعجزة بيد الكاذب تضليل للأمة، وتضليل الأمة قبيح، فأنا أقول لك: تغييب الإمام تضليل للأمة أيضًا، فإن الأمة بلا إمام تتخبط في الظلمات، والتخبط في الظلمات ضلالٌ، فتغييب الإمام تضليل، والتضليل قبيح، فكيف صنعه الله «تبارك وتعالى» وغيّب الإمام عن الأمة؟!

علماؤنا يقولون: هذه مشكلة سلبية معوّضة بنقطة إيجابية، فإن الأمة وقعت فعلاً في التخبط نتيجة لغيبة الإمام، وهذا لا يُنْكَر، وربما انحرفت وضلت نتيجة غيبته، ولكن غياب الإمام فترة ألف سنة فأكثر يجعل الأمة الإسلامية تجرّب مختلف الأنظمة ومختلف الحضارات ومختلف التيارات، إلى أن يثبت لها باليقين فشل جميع الأنظمة والاتجاهات والخطوط، فإذا تيقنت بفشل جميع الأنظمة والحضارات صار عندها استعداد راسخ لاستقبال النظام المهدوي، الله «تبارك وتعالى» الذي ترك الأمة تتخبط أكثر من ألف سنة انتظارًا لقائدها أرادها أن تصل إلى درجة الإيمان الواضح بأن كل نظام فاشل، وكل حضارة عقيمة، إلا النظام المهدوي القائم على يد الإمام المنتظر «عجل الله فرجه الشريف».

إذن وقوع الأمة في تخبط فترة ألف سنة نقطة سلبية، ولكن عالجناها بنقطة إيجابية أخرى، وهي أن الأمة لكي تصل إلى استعداد لخروج الإمام ونصرته واستقباله لا بد أن تمر بهذه الفترة، فالنقطة الإيجابية خففت القبح في النقطة السلبية، أي أننا عالجنا السلب بالإيجاب، وعالجنا القبح بالحسن.

إذا كان هذا هو الجواب في إشكالية الغيبة استطعنا الإجابة به في مسألة المعجزة، فنقول: الله «تبارك وتعالى» يعطي المعجزة بيد الكاذب، كمسيلمة الكذّاب، فإذا أعطاه المعجزة ضل الناس، وهذه نقطة سلبية، ولكنها تعالج بنقطة إيجابية، وهي أن إعطاء المعجزة بيد الكاذب يكون امتحانًا للناس وابتلاءً لهم واختبارًا لعقولهم واستثمارًا لتجاربهم، فتمر الناس بمرحلة امتحان وابتلاء وتجارب للعقول وللطاقات، إلى أن تهتدي إلى أن هذا الشخص كاذب وليس بصادق، فأي مانع من ذلك؟! قوم موسى ضلوا أربعين سنة يتخبطون من واد لواد ومن ظلام إلى ظلام، ومع ذلك الله أبقاهم في الضلال أربعين سنة، ولم يعتبر هذا الأمر قبيحًا؛ لأن هذا الضلال كان امتحانًا لهم وتمييزًا للصادق من الكاذب والمؤمن الصالح من غيره، فليكن كذلك: الله يعطي المعجزة بيد الكاذب، ويكون إعطاء المعجزة تضليلاً من جهة وامتحانًا وابتلاءً من جهة أخرى، فتعالَج النقطة السلبية بنقطة إيجابية، فلا يكون إعطاء المعجزة بيد الكاذب قبيحًا مطلقًا.

إذن الاستدلال الذي يطرحه علماء الكلام على إثبات نبوة النبي استدلال منهار من أساسه، ولا يثبت نبوة النبي، بل هو مبني على نقطة القبح، ونقطة القبح متى ما عولجت بنقطة حسن وبنقطة إيجابية من جهة أخرى لا يبقى قبح، وإذا لم يبقَ قبح فالاستدلال المبني على حكم العقل بالقبح استدلال غير صحيح.

من هنا تنبّه السيد الصدر «قدس سره» إلى أن هذه الاستدلالات ليست نافعة أبدًا، فلا بد من صنع دليل آخر في عقائدنا وفي علم الكلام يكون عوضًا عن هذه المناهج الاستدلالية التي هي محل فعلاً للثغرات والتأملات.. وهناك شبهات أخرى، وأنا لا أحب أن أدخلكم في شبهات، ولكن ذكرت ذلك من باب المثال، وإلا فهناك شبهات أخرى كثيرة للاستدلالات الكلامية.

السيد الصدر «قدس سره» في كتابه «الأسس المنطقية للاستقراء» خدم الدين واقعًا بمئات من السنين المقبلة، وحاول أن يصنع دليلاً وبرهانًا لإثبات العقائد الحقة من دون اللجوء إلى التعويل على حكم العقل بالحسن أو حكم العقل بالقبح كي يناقَش بأن هذا الحكم بالقبح ليس حكمًا مطلقًا، وهناك نقاط إيجابية ترفع هذا القبح، وما شابه ذلك.. ابتعد عن هذه الجهة وحاول أن يصنع دليلاً آخر، وهو تطبيق دليل حساب الاحتمالات، فإن دليل حساب الاحتمالات دليل رياضي علمي، وفي عالمنا الفعلي توجد الكثير من الحقائق التي تثبت بدليل حساب الاحتمالات، فهو يوصل إلى اليقين الموضوعي، ولذلك نحن نستخدم هذا الدليل في إثبات عقائدنا، بدلاً من أن نلجأ للأدلة التي ذكرها علماؤنا ودرجوا عليها مئات السنين في كتب علم الكلام.

مثال: نبوة النبي .

النبي ما هي مقدماته وما هي نتيجته؟ مقدماته: النبي رجل أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولم يحضر ولم يدرس عند معلم ولا مدرس أبدًا، ولم يكن مثقفًا بثقافة أدبية أو فكرية في الجاهلية، حيث لم يخالط علماء اليهود والنصارى حتى يكتسب ثقافة منهم، ولم يشارك في مواسم أدبية أو فكرية حتى يكتسب الفكر منهم، ولم يحضر عند أولي الثقافة في مجتمعه كي ينهل منهم الثقافة. هذا الرجل الأمي الذي لم يحضر عند معلم، ولم يعرف بثقافة فكرية في الجاهلية، جاءنا بكتاب، ألا وهو القرآن الكريم، في قمة البلاغة.

كتاب يتحدث عن الطبيعة، وعن الفلك، وعن بعض القوانين الفيزيائية، ولعلي أتعرض في الليالي القادمة لبعضها من خلال آياته، ويتعرض للقصة الإنسانية والحضارات التي مرت بالبشرية إلى أن وصلت إلى مجتمع مكة، ويتحدث عن القوانين المتحكمة في مسيرة التاريخ هبوطًا وصعودًا، ويتحدث عن القوانين التربوية التي تنشئ المجتمع الصالح والأسرة الصالح، ويتحدث عن القوانين المدنية التي تحكم علاقات الفرد بالفرد الآخر، فكيف تقارن النتيجة بالمقدمات؟! دليل حساب الاحتمالات يقول: كلما كانت النتيجة أكبر من المقدمات، حكم العقل بأن هناك عنصرًا آخر وراء المقدمات ساهم في تكوين النتيجة.

مثلاً: لو كان ابن أخيك طفلاً صغيرًا في السادسة من عمره، ويدرس في الصف الأول من المرحلة الابتدائية، ولا يعرف شعرًا ولا ثقافة أدبية، ولم يتعلم فن الأدب، ومع ذلك أتاك بقصيدة رائعة، فماذا تقول؟ مقارنة المقدمات مع النتيجة تقول: قطعًا هناك يد أخرى كتبت هذه القصيدة، فإن المقدمات لا تتناسب مع النتيجة أبدًا، فإنه في الصف الأول الذي لا يعرف فيه فن الأدب ولا فن الشعر، فكيف استطاع أن يأتي بقصيدة رائعة؟! مقارنة المقدمات مع النتيجة تعطيني أن النتيجة أكبر من المقدمات، فهناك عنصر آخر ساهم في تكوين النتيجة.

كذلك محمد ، فإنه مقدماته لا تتناسب مع النتيجة. رجل أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولم يتعلم ثقافة فكرية في الجاهلية، ولم يكن عنده روح أدبية في الجاهلية، وفجأة أتانا بهذه المعجزة: القرآن الكريم، ومن المقارنة بين المقدمات والنتيجة يحكم العقل بأن هناك يدًا غيبية صنعت القرآن، ألا وهي يد الوحي، وليست يد محمد، ولا أساتذة محمد، ولا من حضر عندهم محمد، ولا من انتهل منهم محمد، لو كان ذلك.

إذن نحن لا نحتاج إلى المنهج الأول في الاستدلال، بل نأخذ بالمنهج الثاني، وهو دليل حساب الاحتمالات، ومن خلاله نثبت عقائدنا ومبادئنا. الذي أريد أن أقوله: نحن لا نحتاج إلى تطوير العقائد، بل إن عقائدنا هي هي لا تتغير، فإننا نعتقد من أول يوم بالتوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد والعصمة والأئمة الاثني عشر، فليس التطور في عقائدنا، وإنما نحتاج إلى تطوير الأدلة والبراهين على عقائدنا. الأدلة التي نستخدمها في إثبات عقائدنا تحتاج إلى تطوير وتنويع، فقد قطعت الفلسفة الحديثة مسارًا طويلاً في التأمل والتفكير، فلا بد من أن نستفيد منها في تطوير المناهج العقلية التي نستدل بها على إثبات عقائدنا، ولا أريد أن أعرض شواهد أخرى لئلا يصبح المجلس مجلس شبهات! الغرض هو أننا نحتاج إلى تطوير الأدلة العقلية التي نثبت بها صحة عقائدنا.

النقطة الثانية: تأرجح استخدام العقل بين الإفراط والتفريط.

الآية المباركة: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ تحث على استثمار العقل والاعتماد عليه، ولكن المجتمعات الإسلامية بصفة عامة في الاعتماد على العقل بين طرفي التفريط والإفراط، فإما على نحو إهمال العقلنة، وإما على نحو تمديد العقلنة إلى المساحات التي لا مجال للعقلنة فيها.

الجانب الأول: جانب التفريط.

في مجتمعاتنا توجد عدة ظواهر إذا تأملتها تجد أنها تنبئ عن تخدير وتجميد للعقل:

الظاهرة الأولى: ظاهرة الاتكالية.

كثير منا لا يريد أن يفكر أبدًا، بل الحلول على إمام المسجد وخطيب المنبر! أي مشكلة تمر بنا نقول: فليطرح الخطباء وأئمة المساجد حلول هذه المشكلة! هذا شغلهم! المجتمع يعج بمشاكل: مشكلة اجتماعية، كمشكلة الفقر والبطالة، ومشاكل أسرية، كالخلاف بين الأخ وأخيه.. شريحة من مجتمعنا تفكر بطريقة اتكالية: آخذ الحلول من المسجد والمنبر! حلول المشاكل الخاصة والعامة نرجع فيها إلى المنبر وإلى المسجد! لماذا؟! هل دور المسجد والمنبر فقط وفقط بيان الحلول للمشاكل الاجتماعية والمشاكل الخاصة والعامة؟! أين عقولنا؟! أين تجاربنا؟! أين خبراتنا؟! نحن أيضًا أبناء المجتمع، ونملك عقولاً وطاقاتٍ، فلماذا لا نستثمر طاقاتنا وعقولنا في الوصول إلى الحلول؟! لماذا نتكل على بيان المنبر وبيان المسجد؟!

أحيانًا الإنسان يتعجب حتى في المسائل الجزئية: أنا لا أفكر فيها! أنا أسأل إمام المسجد والخطيب! هذا ليس حكمًا شرعيًا حتى ترجع فيها إلى الخطيب وإمام المسجد! مثلاً: عندما يفتي بعض الفقهاء ويقول: لا يجوز كشف الوجه للمرأة إذا كان موجبًا لإثارة الفتنة نوعًا. إذا كان كشف الوجه يوجب فتنة عند نوع الناس فهو حرام، لكن متى يثير الفتنة؟ أنا ما أدراني! فلنسأل! هذا لا ربط له بالمسجد ولا بالمنبر، بل هو موضوع عرفي اجتماعي أنت تحدده، فإلى متى لا تثق بعقلك وبفهمك وبمستواك الفكري؟! إلى متى أنت لا تستطيع أن تحدد حتى الموضوعات الجزئية؟! هل كشف الوجه يثير الفتنة أم لا يثير؟ هذا موضوع عرفي اجتماعي، وأنت تملك عقلاً وخبرة وتجارب ووعيًا اجتماعيًا، فباستطاعتك أن تحدد هذه النقطة سلبًا أو إيجابًا. لماذا عند بعض شبابنا ظاهرة الاتكالية في مفاهمينا الاجتماعية؟! نحن نتكل على المنبر، ولا نريد أن نحرّك عقولنا أو أذهاننا، وإنما المهم المنبر والمسجد ماذا يقول.

الظاهرة الأخرى: ظاهرة غياب الإبداع.

هذه ظاهرة تحتاج إلى أن أبحث عنها ليلة مستقلة. عندنا ظاهرة الاسترخاء والكسل الفكري، فترى المجتمع في المجال الأدبي متطورًا، فبين فترة وأخرى يبرز شعراء وأدباء جدد من مجتمعنا، فعلى مستوى المجال والأفق الأدبي مجتمعنا متطور ومواكب للحركة الأدبية، ولكن على المستوى الفكري أين عطاء مجتمعنا؟! أين الكتب الفكرية في مجتمعنا التي تتحدث عن الفكر فقط؟! أين عطاؤنا في مجال علم النفس؟! أين عطاؤنا في مجال علم الاقتصاد؟! أين عطاؤنا في مجال علم الاجتماع؟! أين عطاؤنا حتى في مجال علم الفقه والعقائد؟! أين عطاؤنا؟! أين إبداعنا؟! هل المجتمع لا توجد فيه طاقات؟! المجتمع فيه طاقات ومواهب وعقول، فأين عطاء هذه العقول؟! أين حركة هذه العقول؟!

العطاء يتوقف على إبداع، فظاهرة عدم الإبداع وعدم العطاء الفكري ظاهرة ترشدك إلى أن استثمار العقل عند شريحة مهمة من المجتمع وصل إلى مستوى من الهبوط بل العدم، حيث لا يوجد استثمار في العقل، ولا يوجد عندنا نقد للذات، ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ. متى يملك مجتمعنا حضارة فكرية؟ إذا نقد ذاته، فإننا إذا نقدنا الذات استطعنا أن نصل إلى الحضارة الفكرية، ونقد الذات يحتاج إلى حركة العقل وإلى استثمار العقل، وأما إذا غلفنا عقولنا ووضعناها في رفوف معينة ولم نحاول أن نحركها أو نستثمرها أو نستغلها في عمل ما، لن نصل إلى مرحلة نقد الذات، وإذا لم نصل إلى مرحلة نقد الذات لن نصل إلى مرحلة الحضارة الفكرية، بل سوف نبقى متخلفين. هذا جانب التفريط إن صح التعبير، فما هي الطرق والوسائل لتحريك العقول ولتنشيط المواهب والخبرات؟ لعلي أتحدث عن ذلك في ليال أخرى.

الجانب الآخر: جانب الإفراط.

هناك شريحة مهمة - لا في خصوص مجتمعنا بل حتى في المجتمعات الإسلامية الأخرى - تعتمد على العقلنة حتى في المساحات التي لا عقلنة فيها، أي أنها تفرط في استخدام العقلنة حتى في المساحات والآفاق التي لا مجال للعقلنة فيها، فمثلاً: هناك مساحتان لا مساحة للعقلنة فيها: مساحة التخصص، ومساحة المغيّبات.

المساحة الأولى: مساحة التخصص.

أنت تأتي إلى طبيب، وهذا الطبيب يقول لك بأن هناك مرضًا منتشرًا في المجتمع أو في العائلة الفلانية، هذا المرض كذا ودواؤه هكذا وعلاجه هكذا، فهل يصح لك أن تقول: هذا لا يدخل عقلي؟! عقلي لا يتقبل هذا الكلام من الطبيب! هل هنا مجال للعقلنة؟! نعم لو كان الأمر مستحيلاً فالعقل يقول: هذا مستحيل فلا يعقل تصديقه، وأما مادام الأمر غير مستحيل فلا مجال للعقلنة، فسواء وافق كلام الطبيب عقلك أم لا يوافقه لا مجال للعقلنة في مساحة التخصص، وهذا متخصص، فلا بد من أن ترجع إلى أهل الاختصاص في مجال اختصاصهم.

نفس القضية بالنسبة للحكم الشرعي: أحيانًا نحن نقف من الحكم الشرعي موقفًا اللاتعقل، فنقول: الحكم الشرعي ليس معقولاً فكيف نتقبله؟! هذا مجال اختصاص، وحتى يتضح الأمر أضرب لك مثالاً قد يكون غريبًا على ذهنك: لو كان هناك جنين في بطن الأم، وقد جاوز مرحلة ولوج الروح، أي أن تجاوز أربعة أشهر وصار إنسانًا كأي إنسان آخر إلا أنه جنين، فوصلت الأم إلى مرحلة الغيبوبة، وقال لك الطبيب: أيها الزوج، إما أن نحافظ على حياة الأم، أو نحافظ على حياة الجنين. لا يموت كلاهما، بل يبقى أحدهما ويبقى الآخر حيًا، لكن إذا أنقذنا الأم سيموت الجنين، وإن أنقذنا الجنين ستموت الأم، فما رأيك؟! حلها بالعقلنة!

زوج أمامه مشكلة حاضرة، حيث يقال له: حافظ على حياة أحدهما، فإن أنقذنا الأم مات الجنين، وإن أنقذنا الأم مات الجنين، فماذا نصنع؟! من الطبيعي أن يقول: حافظ على الأم؛ لأنها ترعى الأسرة، وأنا إذا أنقذت الجنين قتلت أسرة؛ لأن الأم ترعى أسرة بكاملة، فإذا ماتت ضاعت الأسرة بعدها، فأنا أقدم الأم لأن إنقاذها يعني إنقاذ أسرة وليس إنقاذًا لشخص واحد.

لكن الكثير من فقهائنا يقولون: لا ترجيح للأم على الجنين إطلاقًا، ولا للجنين مرجح على الأم أبدًا، بل الأم نفس محترمة، والجنين نفس محترمة، فكما أن هذه الأم لو عاشت لكانت كافلة لأسرة، ولو ماتت لضاعت الأسرة، لعل هذا الجنين لو عاش يكون كافلاً لمجتمعات كاملة ولأسر، ولعل هذا الجنين يخرج نابغة مفكرًا تصلح به أمم وتصلح به مجتمعات، وما يدريك؟! إذن أنت تقدم الأم على الجنين بلحاظ عقلاني، ولكن عندك شيئًا وعند الله شيء آخر، ولذلك الفقيه يتخيّر هنا، فيقول: أنا لا أجد مرجحًا للأم على الجنين، ولا أجد مرجحًا للجنين على الأم، إذ كلاهما نفس محترمة، ولا أستطيع أن أقول أن الجنين أهم، ولا أن أقول بأن الأم أهم.

وهذا من قبيل أن تخيَّر بين قتل نفسك وقتل شخص آخر، كما لو وضع شخص مسدسًا على رأسك وقال لك: إما أن تقتل فلانًا أو نقتلك! فماذا تصنع؟! قد تقول: والله نفسي نفسي! ولكن أنت نفس محترمة وذاك نفس محترمة، فلا مرجح لك على غيرك، وكذلك حال الأم والجنين، فإن كلاهما إنسان، فما هو المرجح؟! لذلك السيد الخوئي وغيره من الفقهاء يقولون: لا يوجد مرجح، فينبغي انتظار موت أحدهما، فإذا مات أحدهما أنقذ الآخر فورًا، وإلا فلا مرجح لتقديم أحدهما على الآخر. الفقيه لا يبحث عن المرجح العقلاني، بل يبحث عن المرجح الإلهي: هل الأم أهم عند الله من الجنين؟ هل الأم في نظر السماء أهم من الجنين أم العكس؟ يقول الفقيه: أنا لا أجد مرجحًا لأحدهما على الآخر.

إذن هنا لا مجال لعقلنة، ولا يصح للإنسان أن يقول: أنا أرى الأم أهم، ولذلك على مسؤوليتي أنقذ أيها الطبيب الأم وإن مات الجنين! هنا لا مجال للعقلنة، بل هذا مجال للاختصاص. إذن بما أن استنباط الأحكام الشرعية مبنيٌ على طرق اختصاصية، لا مجال لإعمال العقلنة فيها، ولا يصح للإنسان أن يقول: هذا الحكم يقبله عقلي فأمتثله وذاك الحكم لا يقبله عقلي فلا أمتثله! لا مجال للعقلنة في مجال الاختصاص، إلا إذا كان الأمر مستحيلاً.

المساحة الأخرى: مساحة المغيبات.

مع الأسف هذا الشعور يزداد يومًا فيومًا في المجتمعات الإسلامية، وهو الوقوف أمام المغيب موقف اللاتعقل، فمثلاً: إذا قيل لك بأن الشمس ردّت لعلي بن أبي طالب.

يا من له ردت ذكاء ولم يفز   بنظيرها  من  قبل إلا iiيوشع

 

تقول: لا! أما زال عقلك يصدق هذه الحكايات؟! نحن الآن في عصر العولمة، وأنت لازلت تصدق هذه الخرافات! ظننت عقلاً! لا زال عقلك أسير هذه الخرافات والأساطير! كيف يقبل عقلك أن ترد الشمس؟! ما معنى تغيير حركة الكون؟! هنا لا مجال للعقلنة. نعم لو كانت المعجزة تعني جمع النقيضين في وقت واحد، فهذا أمر مستحيل، ولا يكون متعلقًا للإعجاز، ولو كانت المعجزة تعني جمع الضدين في موضوع واحد فهذا أمر مستحيل، والمعجزة لا تتعلق بالأمور المستحيلة، وأما إذا كان الأمر غير مستحيل، ولكن غاية ما في الأمر أنه خارق لنواميس الطبيعة ولنواميس العادة ليس إلا، فلماذا لا يقبله عقلك؟!

أنت تقرأ في القرآن الكريم: ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى كيف يحيي الموتى؟! أي فرق بين رد الشمس وإحياء الموتى؟! جسد تعطل دماغه وقلبه عن الحركة، ومع ذلك يبعث فيه شعاع الحياة من الجديد، ويرده إلى الحياة من الجديد، فكيف يمكن ذلك؟! إذا أمكن رد الميت حيًا فلماذا لا يمكن رد الشمس بعد مغيبها؟! مسألة رد الشمس معناها انعكاس حركة الأرض حول نفسها بمقدار دقيقة، لا أن الشمس ردت، فإن الشمس لا ترد. انعكست حركة الأرض لمدة دقيقة أو دقيقتين، فصلى علي بن أبي طالب. إذا لم يكن جمعًا للنقيضين ولا للضدين - أي: ليس أمرًا محالاً - فأي مانع من حصوله بعد دلالة النصوص المعتبرة عليه؟! وقد ورد أمثاله وأعظم منه في القرآن الكريم.

نتيجة البحث:

إذن ما نريد قوله أن الآية المباركة: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ تحثنا عن استثمار العقل، وعلى أن نفكر، لكن التفكير لا يدور بين الإفراط والتفريط، لا نستخدم العقلنة حتى في غير مساحات العقلنة، كمساحة المغيبة ومساحة الاختصاص والأحكام الشرعية، ولا أننا نعطل عقولنا ونغلفها وكأننا لا نفهم شيئًا ما لم يفهمنا خطيب المنبر أو إمام المسجد، وإلا فنحن لا نستطيع أن نحل شيئًا أو أن نصل إلى أمر عقلي معين! لا بد من تحريك عقولنا، ولا بد من استثمار عقولنا.

القرآن الكريم يحثنا على استثمار العقل: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ لا أنهم يغلفون عقولهم ﴿فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. ورد عن الرسول محمد : ”تفكر ساعة خير من عبادة سنة“، وورد عنه : ”لكل تاجر بضاعة، وبضاعة المجتهدين العقل“. إذن لا بد من أن ننتبه إلى أن عقولنا تحتاج إلى استثمار، وإلى تحريك، وإلى أن نفكر.

نحن نحتاج إلى أن نثق بأنفسنا، فإن مشكلتنا أننا لا نثق بأنفسنا، ولسان حالنا: نحن لا نفهم شيئًا! نحن لا نعرف شيئًا! لماذا؟! نحن نملك عقولاً وطاقاتٍ وتجارب، فلماذا لا نثق بعقولنا وأفكارنا وطاقاتنا ومخزونات عقولنا وتجاربنا؟! لماذا لا يكون عندنا رؤية؟! لماذا لا يكون عندنا نظر؟! لماذا لا يكون عندنا حركة فكرية إبداعية!؟ لماذا لا تكون عندنا مساجلات فكرية ومناقشات فكرية ومحاورات فكرية؟! لماذا تبقى حركة الفكرية حركة ضامرة مغلفة ميتة متراجعة؟! علينا أن نحرك عقولنا فيما نسمع ونتلقى. نحن أمام القنوات الفضائية المختلفة التي تبث كثيرًا من الأفكار، وأمام الخطيب الذي يبث كثيرًا من الأفكار، وأمام المسجد الذي يبث كثيرًا من الأفكار، وأمام الكتاب الذي يبث الكثير من الأفكار.

المتكلم هو عقلنا، والمحكّم هو علقنا، ”أول ما خلق الله العقل، فقال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر، قال: بك أثيب وبك أعاقب“. لك عقل وتفكير وطاقة، فحرّك عقلك، وحرّك ذهنك، وثق بأنك إذا واصلت حركة الفكر ستصل إلى النضج، وستصل إلى بلورة الأفكار والمفاهيم، وأما إذا لم تثق بنفسك وبفكرك وبتجاربك، وغلفت نفسك بألف غلاف شرعي واجتماعي وقلتَ: لا علاقة لي بشيء! أنا لا أحلل ولا أفكر! أنا متلق مستمع! الآخرون هم الذين يعبئونني بالفكر الصالح وبالأرضية الفكرية الصالحة! إذن سيبقى المجتمع متخلفًا فكريًا.

أئمة أهل البيت خاطبوا العقل، وأمروا الناس باستثمار الفكر، واعتمدوا على استنطاق العقول. الأئمة دائمًا يركزون على استنطاق العقل والفكر. انظر إلى خطابات أمير المؤمنين ، الإمام أمير المؤمنين عندما وصل إلى الخلافة هل وصلها بالقوة والقسر؟! لا، بل طرح للناس مشروعه الاقتصادي، ومشروعه الاجتماعي، ومشروعه الإداري، وطرح فكره، واستدل عليه، وخاطب عقول الناس: "والله لو أعطيت الأقاليم السبعة على نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت، والله لو كان المال لي لساويت بينهم، فكيف وإنما هي أموالهم؟! لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، أو يقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل باليمامة أو الحجاز من لا عهد له بالشبع، ولا طمع له بالقرص. أأبيت مبطانًا وحولي بطون غرسى وأكباد حرى؟! أأقنع من نفسي أن يقال لي أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر؟!

وحسبك داء أن تبيت ببطنة   وحولك  أكباد تحن إلى القدِّ

الإمام الحسن أيضًا عندما طرح مشروع الصلح طرحه طرحًا فكريًا، وبيّن أسباب الصلح للأمة جمعاء، فقال: ”إن الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية حق لي تركته لإصلاح أمر الأمة وحقن دمائها، إني خشيت أن يجتث المسلمون عن وجه الأرض، فأردت أن يكون للدين داع“.

الإمام الحسين عندما طرح مشروعه الحركي علله وطرح له أسبابًا وأهدافًا: ”ألا ترون إلى الحق لا يعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه؟! ليرغب المؤمن في لقاء ربه، ألا وإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلى برمًا“، ”ما خرجت أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد على هذا فالله يحكم بيني وبين القوم بالحق، إنه خير الحاكمين“.

الجفاف الروحي وعلاجه