نص الشريط
مصطلح ولاية الأمر في القرآن الكريم
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 11/1/1421 هـ
مرات العرض: 2893
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1863)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ

صدق الله العلي العظيم

حديثنا حول الآية المباركة يدور حول مصطلح ولاية الأمر، فما معنى هذا المصطلح؟ ولاية الأمر تعني أن للإنسان الحق في إصدار الحكم في منطقة الفراغ أو في مورد تزاحم الأهم والمهم على ضوء المصالح العامة، فهنا عدة عناصر لا بد من شرحها. الحكم الصادر إما في منطقة الفراغ أو في منطقة تزاحم الأهم والمهم على ضوء المصالح الأمر يسمّى بالحكم الولايتي، ومن يصدر منه الحكم يسمّى ولي الأمر، وهذا يختلف عن الفتوى الشرعية، وحتى يتضح الموضوع لا بد من شرح القيود من خلال عدة نقاط.

النقطة الأولى: مفهوم منطقة الفراغ وعلاقتها بالأحكام الولايتية.

منطقة الفراغ - كما يعبر السيد صاحب الميزان «أعلى الله مقامه» - أو يعبّر السيد الصدر «قدس سره» هذا التعبير بمعنى منطقة المباحات، فعندنا محرمات وعندنا واجبات، والأمور التي ليست واجبات ولا محرمات تسمى بمنطقة الفراغ، فهي منطقة الأمور المباحة. مثلاً: في معركة خيبر، حرّم الرسول الأعظم محمد أكل لحم الحمر الأهلية، مع أن لحم الحمار ليس حرامًا في الإسلام، بل يجوز أكله، وإن كان أكله مكروهًا، لكنه ليس حرامًا، فلحم الحمار داخل في منطقة الفراغ، أي أنه أمر مباح، ليس واجبًا ولا حرامًا بالأصل، ولكن الرسول لأجل التجهيز لمعركة خيبر، حيث كان المسلمون محتاجين إلى نقل الأسلحة والعدة والعتاد من المدينة إلى منطقة خيبر، ولم تكن عندهم وسيلة للنقل إلا الحمر في ذلك الوقت، فالرسول من أجل هذه المصلحة العامة - مصلحة إنجاز معركة خيبر - حرّم أكل لحم الحمر الأهلية في ذلك الوقت، أي: وقت التجهيز للمعركة.

هذا الحكم يسمّى حكمًا ولايتيًا، ومن صدر عنه الحكم يسمى ولي الأمر، فالرسول بما هو ولي الأمر صدر عنه حكم في موضوع، وهو موضوع الحمر الأهلية، والمفروض أن هذا الموضوع داخل في منطقة الفراغ، لا من الواجبات ولا من المحرمات، فأصدر فيه الحكم من أجل مصلحة عامة، وهي التجهيز لمعركة خيبر، وهذا ما يعبّر عنه بالحكم الولايتي، فالحكم الولايتي حكمٌ يصدر في أمر المباح، لأجل أن المصلحة العامة تقتضي إصداره، فإذا صدر سمّي حكمًا ولايتيًا، ومن يصدر منه الحكم يسمّى بولي الأمر.

كذلك في زمن الإمام علي مثلاً، حيث أوجب الإمام علي الزكاةَ في الخيل العتاق، مع أن الزكاة ليست واجبة في الخيل، وإنما تجب في الإبل والبقر والغنم والغلات الأربع والنقدين من الذهب والفضة، فهذه تسعة موارد تجب فيها الزكاة، وأما الخيل فلا تجب فيها الزكاة، كما لا تحرم، فالخيل منطقة فراغ، إذ ليست الزكاة واجبة فيه، كما أن الزكاة ليست حرامًا فيه. الإمام علي لأن المصلحة تقتضي ذلك الوقت أن يوجب الزكاة، حيث كان المجتمع الإسلامي في عهده فقيرًا شديدًا يعيش بؤسًا شديدًا.

ولذلك في القصة التي بين الإمام الصادق وعبّاد البصري، حيث كان الإمام الصادق يطوف، وعبّاد البصري كان جالسًا عند مقام إبراهيم، فلما مر الإمام أمسك بثوبه، وقال له: يا جعفر، أما تقتدي بجدك أمير المؤمنين؟! قال: كيف؟ قال: تلبس القهوي والمروي - أي: تلبس ثوبًا فاخرًا - وجدك كان يلبس الثوب المرقّع؟! الإمام الصادق أجابه، فقال: ”إن جدي لبس الثوب المرقع في زمان بؤس وفقر، وإذا صلحت أحوال الزمان فأبراره أولى به من فجاره“.

إذن الزمان الذي عاشه الإمام علي كان زمان فقر مدقع، فرأى الإمام أن الزكاة في مواردها التسعة ليست كافية، أي أنها لا تغطي الحاجة ولا تسد الفقر، ففرض ضريبة زائدة على الزكاة الواجبة في الموارد التسعة، حيث فرض الزكاة في الخيل العتاق وفي البرابين، والبرابين نوع من الخيول، ففرض الزكاة في الخيل العتاق نسمّيه حكمًا ولايتيًا وليس حكمًا شرعيًا، إذ أن الحكم الشرعي هو وجوب الزكاة في الأنعام الثلاثة - البقر والغنم والإبل - نعبّر عنه بالفتوى، فلو سألك شخص: ما هو الفرق بين الفتوى والحكم الولايتي؟ تقول له: الفتوى قانون عام لا يختص بموضوع دون موضوع، ولذلك وجوب الزكاة في الأنعام الثلاثة فتوى، فهو حكم شرعي لا يتغير بتغير الأزمنة ولا بتغير المجتمعات.

وأما فرض الزكاة في الخيل العتاق فهو حكم صدر من علي في زمانه فقط، وصدر في منطقة الفراغ، لأن الخيل العتاق لا يجب فيه الزكاة ولا تحرم فيها الزكاة، وإنما صدر في هذه المنطقة لأن المصلحة العامة قد تقتضي إصدار هذا الحكم، فإذن هناك فرق بين الفتوى - التي هي قانون لا يتغير بتغير الأزمنة - وبين الحكم الولايتي، فإن الحكم الولايتي خاص بزمن معين، وهو عبارة عن حكم يصدر في منطقة الفراغ - منطقة المباحات - لأجل المصالح العامة.

النقطة الثانية: فلسفة وجود منطقة الفراغ.

لماذا جعل الإسلام منطقة فراغ، وقال للفقيه: أيها الفقيه، لك الحق في أن تصدر الحكم في هذه المنطقة؟ لماذا لم يعبئ الإسلام المجالات كلها بهذا واجب وذاك حرام؟ لماذا ترك الإسلام منطقة فراغ للفقيه وأمره بإصدار حكمه في هذه المنطقة تبعًا للمصالح العامة؟

جعل منطقة الفراغ ليملأها الفقيه بأحكامه الولايتية هو لأجل التعبير عن كون دين الإسلام دينًا منسجمًا مع جميع الحضارات ومع جميع الأزمنة. منطقة الفراغ جعلها الإسلام لبيان موارد تغير الحكم بتغير الحاجة، وحتى يتضح المطلب نضرب مثالاً في المجال الاقتصادي. في المجال الاقتصادي توجد هناك علاقتان: علاقة الإنسان بالإنسان، وعلاقة الإنسان بالطبيعة.

العلاقة الأولى: علاقة الإنسان بالإنسان.

علاقة الإنسان بالإنسان في المجال الاقتصادي قانونها ثابت لا يتغير حتى لو تغير الزمان، فمنذ يوم مجيء النبي محمد وحتى يوم القيامة القانون لا يتغير. قانون علاقة الإنسان بالإنسان في المجال الاقتصادي قانون ثابت لا يتغير بتغير الأزمنة ولا بتغير الحضارات؛ لأن مشكلته مشكلة ثابتة لا تتغير، وهي مشكلة توزيع الثروة الطبيعية على المجتمع.

نحن عندنا أرض فيها نقط ومعادن أخرى، وعندنا فضاء فيه طاقات مختلقة، فهذه الطبيعة بما فيها من الثروات كيف نوزع الثروة الطبيعية على المجتمع؟ هذه هي المشكلة. مشكلة علاقة الإنسان بالإنسان في المجال الاقتصادي مشكلة واحدة ما تغيرت منذ يوم آدم إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة، إذ أنني أحتاج إلى مقدار من الثروة، وأنت أيضًا تحتاج إلى مقدار من الثروة، والثالث أيضًا يحتاج إلى مقدار من الثروة، فكلنا نحتاج إلى الثروة الطبيعية.. أحتاج طاقة الكهرباء، أحتاج الماء، أحتاج منتجات النفط... مشكلة علاقتي معك عندما نأخذ الثروة الطبيعية مشكلة ثابتة منذ يوم آدم إلى يوم القيامة، وهي مشكلة توزيع الثروة الطبيعية على أفراد المجتمع.

بما أن هذه المشكلة مشكلة ثابتة فقانونها قانون ثابت، وهذا هو القانون - كما شرحنا في ليال سابقة - أن العمل هو أساس الكسب، فمن عمل حصل على نصيبه من الثروة، ومن لم يعمل لا يحصل على نصيب من الثروة الطبيعية، فأساس اكتساب الثروة الطبيعية هو العمل. هذا قانون ثابت: العمل أساس اكتساب الثروة، لماذا القانون ثابتة؟ لأن المشكلة مشكلة ثابتة، والإسلام ركّز على أهمية العمل.

لاحظوا القرآن الكريم ماذا يقول: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ، يعني: تحرك، اكدح، اعمل على هذه الأرض، أرض العمل، وأرض الكدح والعطاء. الرسول الأعظم مر على رجل يحرث الأرض، وقد تصبب عرقًا، فأخذ الرسول يده وقبّلها - تصور أن الرسول يقبّل يد هذا الإنسان الذي يحرث الأرض - وقال: ”طلب الحلال فريضة على كل مسلم ومسلمة، ومن أكل من كدّ يده مر على الصراط كالبرق الخاطف“.

الكثير من الإخوة من شبابنا وأبنائنا وإخواننا يتحرجون في الدخول في أي عمل، يقول لك: هذا العمل لا يناسب شخصيتي، لا يناسب عائلتي، لا يناسب وضعي الاجتماعي.. يتذمرون أو يتحرجون من كثير من الأعمال؛ لأنها لا تناسب أوضاعهم العائلية أو الاجتماعية. أنت - يا أخي - بين أمرين: إما أن تكدح بأي عمل، وإما أن تعيش فراغًا، فأيهما أولى؟! أن تدخل في إطار الفراغ، والفراغ يجر إلى المفسدة، علي يقول: ”إذا كان الشغل مجهدةً فاتصال الفراغ مفسدة“. علمتَ يا مجاشع بن مسعدة أن الفراغ والشباب والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة. فأنت بين الفراغ الذي يجر إلى المفسدة، وبين أن تعمل ولو كان عملاً متواضعًا والإسلام يحثك على العمل.

الإمام الباقر كان بدينًا، أي أن جسمه كان ممتلئًا، ومع أنه إمام معصوم إلا أنه بنفسه يخرج ويحرث الأرض ويزرعها، وفي يوم من أيام الصيف شديد الحرارة وهو في وقت قريب من الظهر خرج الإمام، وما كان باستطاعته - بسبب جسمه - أن يعتمد على نفسه في مثل هذا الوقت، فاتكأ على غلامه وصار يحرث الأرض بنفسه، فمر رجل من الصوفية ورأى الإمام على هذه الحالة، فدخل عليه وقال: شيخ من أشياخ قريش - أنت رجل وجيه معروف - في حر الظهيرة في طلب الدنيا؟! لو فاجأك الموت وأنت على هذه الحالة بم كنت تعتذر؟! فقال له الإمام: ”لو فاجأني الموت فقد جاءني وأنا في طاعة الله، أكدح لنفسي وعيالي لأصد نفسي وعيالي عن مسألتك ومسألة المخلوقين أمثالك“.

هو إمام مفترض الطاعة، ولكن لم يقل: والله هذا العمل لا يشرفني ولا يناسبني! العمل الذي يحث عليه الإسلام.. العمل أساس الكسب. كيف نوزع الثروة على أفراد المجتمع؟ نوزعها على أساس العمل، فالعمل هو أساس الكسب، وهذا قانون ثابت لأن المشكلة مشكلة ثابتة.

العلاقة الثانية: علاقة الإنسان بالطبيعة.

إنسان ليس معه أحد، وإنما أمامه أرض يزرعها ويحرثها، فكيف هي علاقة الإنسان بالطبيعة؟ علاقة الإنسان بالطبيعة بحسب المنظور الاقتصادي تتغير بتغير الزمن، ولذلك فالمشكلة تتطور بتطور الزمن، وليست مثل علاقة الإنسان بالإنسان. علاقة الإنسان بالطبيعة أمرٌ يتغير ويتطور بتطور الزمن، ونتيجة لتغير المشكلة وتطورها احتاجت علاقة الإنسان بالطبيعة إلى قانون مرن غير ثابت يكون منسجمًا مع تغير المشكلة ومع تطورها.

مثلاً: علماؤنا يقولون: ”من أحيا أرضًا مواتًا فهي له“، هذا قانون شرعي، وهذه رواية شرعية موجودة عندنا، فلو خرجت من حمى البلاد وذهبتَ إلى صحراء قاحلة، أرض ليست مملوكة لأحد، تأتي لهذه الأرض وتسقيها، وتجعل فيها سمادًا وبذورًا، وتزرعها، وبمجرد أن تحييها بالزرع تصبح الأرض ملكًا لك. قبل ألف سنة إنما كان الإنسان يستطيع إحياء مئة متر مثلاً؛ لأن الوسائل كانت وسائل بدائية، فكانت القدرة على الإحياء قدرة بسيطة.

وأما الآن فالإنسان في هذا الزمن بما يملك من وسائل ضخمة يستطيع أن يسخّر وسائل وعمالاً يزرعون له خمسة وعشرين كليو متر في ساعات، ونتيجة تغير الوسائل تغيرت علاقة الإنسان بالطبيعة، فكانت علاقة الإنسان بالأرض أنه يحيي مئتين أو ثلاث مئة متر مثلاً، وأما الآن فيستطيع إحياء ثلاثين كليو متر في ساعات محدودة، فهل لازلنا نقول لهذا الإنسان: من أحيا أرضًا مواتًا فهي له؟!

نحن إذا فتحنا هذا الباب وأتى شخص وأحيا ثلاث مئة ألف كيلو متر مثلاً، أو إذا أحيا الخليج كله، فهل يكون الخليج كله له؟! هنا وُجدَت عندنا مشكلة في علاقة الإنسان في الطبيعة لم تكن موجودة في الزمان الماضي، وذلك نتيجة أن الوسائل كانت بدائية، ونتيجة تجدد الوسائل وتطورها تطورت المشكلة في علاقة الإنسان بالطبيعة، ولما تطورت المشكلة صار فتح هذا الباب أحيانًا سببًا في ضرر المجتمع. هذا إذا أعطيناه الأهلية وقلنا له أحيي مليار متر واملكه، فإن ملكه سيكون مضرًا بالمصلحة العامة للمجتمع.

من هنا تأتي مسألة الحاجة إلى منطقة الفراغ، والحاجة إلى الحكم الولايتي. يأتي الإسلام ويقول: هل يجوز الإحياء أم لا يجوز؟ هذه منطقة فراغ، إذ أن إحياء الأرض ليس واجبًا ولا حرامًا، وبما أن هذه المنطقة منطقة فراغ يقول الفقيه: أنا لو فتحتُ باب الإحياء على مصراعيه وبأي مساحة وبأي حد قد يضر ذلك بالمصلحة العامة، فأنا أصدر حكمي في منطقة الفراغ رعاية للمصلحة العامة وأقول: يحق لكل إنسان أن يحيي خمس مئة متر فقط مثلاً، أو يجوز له أن يحيي ألف متر فقط، وهكذا.

إذن فتحديد منطقة الإحياء حكمٌ ولايتيٌ، صدر عن الفقيه، فالفقيه ولي الأمر، وقد صدر عنه في منطقة فراغ، وهي الإحياء، إذ أن الإحياء ليس أمرًا واجبًا ولا محرمًا، وقد صدر عنه لأجل أن المصلحة العامة تقتضي إصدار ذلك. لماذا أعطى الإسلام هذا الحق وفتح له المجال وقال له: أيها الفقيه، أمامك منطقة فراغ، فاملأها بالأحكام الولايتية المبنية على المصالح العامة؟ فتح هذا الباب له باعتبار أن علاقة الإنسان - كمثال - بالطبيعة في المجال الاقتصادي تتطور مشكلاتها بمرور الزمن، فاحتاجت إلى قوانين تواكب هذا التطور وتنسجم معه، وهذه القوانين هي عبارة عن الأحكام الولايتية التي تصدر من الفقيه، فلو لم يفتح الإسلام هذا الباب وهذه النافذة لبقي الإسلام دينًا جامدًا لا يواكب تطور المشاكل، ولا يواكب التطور الحضاري. إذن فبالنتيجة: الحاجة إلى إيجاد منطقة الفراغ هي هذه التي شرحناها.

النقطة الثالثة: علاقة الحكم الولايتي بمسألة تقديم الأهم على المهم.

ربما تكون المنطقة ليست منطقة فراغ، لكن يتزاحم الأهم والمهم، وحينئذ من حق الفقيه أن يقدّم الأهم على المهم بحكم معين يسمّى حكمًا ولايتيًا. مثلاً: في زمان الرسول محمد كان لسمرة بن جندب - أحد أصحاب النبي - عذق في بيت أحد الأنصار، أي أن البيت ملك لرجل من المدينة، ولكن النخلة وحدها ملك لسمرة، وصار سمرة يأتي كل يوم بحجة أن هذه نخلته، فشكا الأنصاري إلى رسول الله: يا رسول الله، إنه يدخلنا علينا بلا إذن، فقال له الرسول: يا سمرة، استأذن إذا أردتَ الدخول إلى عذقك، قال: كيف أستأذن في الدخول على عذقي؟! مرة، مرتين.. يا سمرة، إن في البيت أهلاً، فإذا أردت أن تدخل على عذقك فاستأذن، ولكن بلا فائدة. قال: يا سمرة، أعطه العذق وأنا أشتري لك عذقًا آخر، فرفض سمرة وتمسك بعذقه، فقال له النبي: هبه العذق وأشتري لك عذقين مكانه، فقال: أنا أريد هذا العذق! قال له: يا سمرة، هبه العذق وأضمن لك عذقًا في الجنة.

ومعنى ذلك أن الرسول عرض عليه أن يضمن له دخول الجنة؛ إذ لا يعقل أن يدخل النار وتبقى نخلته في الجنة بوحدها! ولكن سمرة مع ذلك أصر على التمسك بعذقه ورفض الجنة! فقال النبي: ”أيها الأنصاري، اذهب واقلع عذقه، وارم بها في وجهه؛ فإنه رجلٌ مضار، ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام“.

هذا حكم ولايتي صدر عن النبي لا بما هو نبي ولا بما هو رسول، بل صدر عنه بما هو ولي الأمر، والوجه في ذلك أن هذا من موارد تزاحم الأهم والمهم، إذ أن في المقام حقين: حق العرض وحق الملك. سمرة يقول: أنا أملك العذق، فمن حقي أن أدخل على عذقي أي وقت أردت وبأي كيفية، ومن الواضح أن هذا حق، ولا يجوز غمط حقوق الآخرين، ولكن يوجد حق آخر، وهو حق العرض، وهو يقتضي الاستئذان، فلما تزاحم الحقان - حق العرض وحق المِلْك - وكان حق العرض أهم أصدر الرسول حكمًا بتقديم الأهم على المهم، وهذا ما نعبّر عنه بأنه حكم ولايتي صدر في موارد تزاحم الأهم مع المهم.

الكثير من الأحكام التي تصدر من الفقهاء هي أحكام ولايتية في موارد تزاحم الأهم والمهم، فمثلاً: مسألة الدش. الدش يفتح له القنوات الفضائية، ونرى من خلال هذه القنوات الكثير من البرامج، ونطلع على كثير من المعلومات، وهذا أمر مهم، لكن الفقيه قد يرى أن الدش بابٌ للفساد. صحيح أن قطاعًا كبيرًا من الناس يستفيد من الدش من خلال البرامج العلمية، ولكن القطاع الأغلب يستفيد منه في مواضع المجون والفسوق، ولذلك الفقيه يقول: من باب تزاحم الأهم والمهم أرى أن من حقي أن أمنع الدش، ولذلك بعض الفقهاء يحرم عندهم استعمال الدش، كشيخنا الأستاذ الشيخ التبريزي، فإنه يمنع من استعمال الدش، وذلك من باب تقديم الأهم على المهم، فهو يمنع منه من باب الحكم الولايتي في موارد تزاحم الأهم والمهم.

إذن فبالنتيجة: الآية المباركة تقول: ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، والمقصود بأولي الأمر النبي والإمام ومن يكون خليفة لهم، فولي الأمر هو من له حق إصدار الحكم الولايتي، والحكم الولايتي هو الحكم الصادر في منطقة الفراغ أو في موارد تزاحم الأهم والمهم إذا اقتضت المصلحة العامة إصداره، فاتضح من خلال حديثنا كله معنى كلمة ولاية الأمر.

نماذج من الأحكام الولايتية الصادرة عن أهل البيت:

الأئمة صدرت منهم أحكام كثيرة بما هم ولاة الأمر، فمثلاً: الإمام أمير المؤمنين عندما وصل إلى دفة الحكم صدرت منه أحكام ولايتية، فعزل معاوية، وعزل كثيرًا من الولاة، من باب الحكم الولايتي. الإمام الحسن الذي صالح معاوية بن أبي سفيان، صدرت منه أيضًا أحكام ولايتية، ففي بعض الروايات - وإن كان البعض ينسب هذه الرواية إلى الحسين ولكن البعض ينسبها للحسن - أن قافلة محمّلة بالأمتعة والذخائر كانت مارة على الحجاز متجهة إلى معاوية، فأمر الإمام الحسن غلمانه بمصادرة القافلة، فوقف الغلمان وصادروا القافلة، وحملوا الأمتعة والذخائر إلى الإمام الحسن ، فوزّع الإمام الحسن الأمتعة والذخائر على من يراه من الفقراء والمحتاجين، وقد صدر هذا العمل من الإمام الحسن - مع أنه صالح معاوية وسلّم الأمر له - كحكم ولايتي اقتضته المصلحة العامة في ذلك الوقت، ولذلك الإمام الحسن اتخذ الإجراء.

الكثير من الناس يقولون: الإمام الحسن خيّر مسالم لا يفعل شيئًا! لا، إذا اقتضى الأمر إصدار الحكم من قِبَله أصدره حتى ولو كان مصالحًا مع معاوية. معاوية كتب إليه: يا أبا محمد، أنا خيرٌ منك؛ لأن الإنسان أجمعت عليَّ ولم تجمع عليك. فكتب إليه الإمام الحسن: ”لشرٌ ما علوتَ يا بن آكلة الأكباد، إن الذين أجمعوا عليك بين مكره ومطيع، فأما المكره فهو معذور في كتاب الله، وأما المطيع فهو عاص لله، وأنا لا أقول: أنا خير منك؛ لأنه لا خير فيك، فلقد برّأني الله من الرذائل كما برّأك من الفضائل“.

الإمام الحسين أيضًا صدرت منه أحكام ولايتية. لاحظ ما يرويه الشيخ التستري، هذه قضية تستحق جدًا الالتفات والاهتمام. في الوقت الذي يرخّص فيه الإمام الحسين لأصحابه، حيث لم يجبرهم على القتال، بل قال لهم: ”أصحابي، هذا الليل قد غشيكم، فاتخذوه جملاً، وليأخذ كل رجل منكم يد رجل من أهل بيتي، وتفرقوا في سوادكم ومدائنكم“، أنتم مرخصون مخيرون، ولكنهم اختاروا القتال. يقول الشيخ التستري: خيّر أصحابه وألزم ولده علي الأكبر بأن يتقدم إلى المعركة. لماذا خيّر الآخرين بين القتال والانسحاب من المعركة بينما ألزم ولده علي الأكبر بأن يقاتل؟

تلاحظ المؤرخين يقولون: أول من برز إلى المعركة من بني هاشم علي الأكبر بأمرٍ من الحسين، لماذا؟ يريد أن يعطي الحسين مدلولاً، وأن يقول: أول من أقدمه ولدي، فلا يظن الآخرون أنني أربأ بنفسي وأقول: اجعلوني أنا وأولادي على جانب واذهبوا أنتم ثم نذهب نحن! لا، بل أمر ولده علي الأكبر - وهو مهجته وقلبه - وكان شديد الولع والتعلق به، لكن لكي يثبت للناس أن المبدأ أهم عنده من كل شيء، ولذلك أول من قدّم ولده علي الأكبر، وهذا حكم ولايتي.

القرآن الكريم بين التفسير والتأويل
الحركة الحسينية و أهدافها