نص الشريط
قيمة الإنسان في الإسلام
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 30/12/1424 هـ
مرات العرض: 3196
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (4191)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا

صدق الله العلي العظيم

حديثنا ضمن الآية المباركة في ثلاث نقاط:

  • في المدلول العام للآية.
  • في مبدأ التكريم للإنسان.
  • في الشبهات المسجّلة على التشريع الإسلامي في مجال كرامة الإنسان.
النقطة الأولى: المدلول العام للآية المباركة.

الآية تشتمل على فقرتين: فقرة التكريم، وفقرة التفضيل.

الفقرة الأولى: فقرة التكريم ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ.

تكريم الإنسان يعني إعطاءه عنصرًا يتميز به عن غيره من المخلوقات، فإنه إذا تميز على غيره من المخلوقات بعنصر من العناصر أصبح مكرّمًا، وهذا العنصر الذي يفصل الإنسان عن بقية الموجودات الأخرى ليس هو الإدراك؛ فإن المخلوقات الأخرى تمتلك نصيبًا من الإدراك، فالحيوان مثلاً يمتلك نصيبًا من الإدراك والتخطيط والوعي، وأما الذي يميّز الإنسان عن غيره فهي قدرته على التغيير.

بيان ذلك: أن الإنسان يمتلك قدرة عقلية يقتدر بها على تغيير نظام حياته وتغيير مجتمعه وتغيير أوضاعه وحضارته، فالمائز بين الإنسان وغيره هو قدرة الإنسان على التغير، فإن المخلوقات الأخرى لا تمتلك هذه الملكة، ولا تمتلك هذا العنصر، ولذلك فرّع القرآن الكريم على التكريم جملتين تتعلقان بالتغيير، حيث قال: ﴿حَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ و﴿رَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، والوجه في ذلك: أن الحمل في البر والبحر هو امتلاك وسائل النقل التي تُقْطَع بها القارات ويُتجاوَز بها الفضاءُ، ولولا قدرة الإنسان على التغيير والإبداع لما حُمِل في البر والبحر، أي: لما استطاع أن يخترع الوسائل التي تقطع به القارات وتقطع به المسافات برًا وبحرًا وجوًا.

ومن ناحية أخرى: لأن الإنسان يمتلك التغيير، لذلك رزقناه من الطيبات، أي: استطاع الإنسان بعقله أن يغيّر الأرض من أرض قاحلة إلى أرض معطاء تنتج وتثمر، ولأن الإنسان يمتلك القدرة على التغيير عمر الأرض وزرعها ووفّر غذاءه اليومي من خلال أرضه.

إذن قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ يعني: أعطيناه قدرة عقلية يستطيع بها تغيير وضعه، ولذلك حملناه في البر والبحر، حيث اخترع وسائل النقل لأنه يمتلك القدرة، ولذلك أيضًا رزقناه من الطيبات، فإنه بامتلاكه القدرة على التغيير استطاع أن يحوّل الأرض الصحراوية الرملية إلى أرض خضراء وإلى حضارة وإلى زراعة وإلى غذاء، فكل ذلك إنما هو لقدرته على التغيير.

الفقرة الثانية: فقرة التفضيل ﴿وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا.

الآية المباركة لم تقل: وفضلناهم على جميع من خلقنا، بل قالت: على كثير من خلقنا، ولست بصدد الدخول في التفاسير المختلفة، وإنما أذكر تفسيرًا واحدًا فقط.

الآية تقرّر أن الإنسان ليس أفضل المخلوقات، مع أننا نعرف أن الإنسان سيد هذا الوجود، فإنه المسيطر على هذا الكون، ولأجله سُخّر الكون، كما قال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، فكيف لا يكون الإنسان أفضل المخلوقات وهو من جهة أخرى سيد الكون؟

هناك فرق بين الفضل الذاتي والفضل العملي، فتارةً نقرأ الذوات بما هي، وتارةً نقرأ الأعمال، فإذا قصرنا النظر على الذوات - ذات الإنسان وغيره من الذوات - نجد أن ذات الإنسان ليست أفضل الذوات؛ لأنها ذات مركّبة من عنصرين: عنصر أرضي، وعنصر سماوي، وبعبارة أخرى: عنصر ناري، وعنصر نوري، والمقصود من العنصر الناري: المجموعة المكوّنة من الشهوات والغرائز، فإن هذه الطاقة الشهوية التي يمتلكها الإنسان تجره إلى الأرض، وتجره إلى الحضيض، فهي عنصر ناري أرضي، وفي المقابل توجد طاقة عقلية ترفع الإنسان عن الأرض، وتجعله أسمى من غيره، وهي طاقة العقل، وهذا هو العنصر النوري السماوي.

إذن فالإنسان مركب مزيج بين عنصر نوري يرفعه عن الأرض، وعنصر ناري يجره نحو الأرض، فإذا نظرنا إلى الإنسان بما هو ذات نجد أنه ليس أفضل المخلوقات، بل إن ذات الملك أفضل؛ لأنها ذات نورانية خالصة ليست مكدرة ولا معكرة بأي عنصر ناري أرضي، بل هي ذات صافية ليس فيها شائبة. وقد يقال بأن ذوات أهل البيت هي أفضل الذوات! والجواب عن ذلك أننا نتكلم عن الإنسان بصفة عامة، لا عن بعض الذوات التي لها خصائص معينة، فكلامنا عن الإنسان بما هو إنسان.

وأما إذا جئنا إلى الفضل العملي نرى أن الإنسان بعمله يستطيع أن يكون أرقى الموجودات وسيدها، فذاته وإن لم تكن أفضل الذوات، إلا أنه بعمله يستطيع أن يرتقي إلى قيم الفضيلة والكمال، ولذلك ورد عن الإمام أمير المؤمنين : ”إن الله خلق الملائكة عقلاً بلا شهوة، وخلق البهائم شهوة بلا عقل، وركّب في الإنسان عقلاً وشهوةً، فمن غلبه عقلُه شهوتَه فهو خيرٌ من الملائكة، ومن غلبت شهوتُه عقلَه فهو أدنى من البهائم“.

إذن فالآية المباركة تتحدث عن الفضل الذاتي لا عن الفضل العملي، فإن الإنسان وإن كان أفضل من غيره بالعمل، إلا أنه من حيث الذات ليس أفضل من غيره، ولذلك قالت الآية: ﴿وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا.

النقطة الثانية: مبدأ التكريم للإنسان.

التكريم له نوعان: تكريم تكويني، وتكريم تشريعي، وقد تحدثنا في النقطة الأولى عن التكريم التكويني، حيث ذكرنا أن الإنسان أعطي قدرةً على التغيير، أي أنه أعطي عقلاً يستطيع من خلاله أن يغيّر كل شيء، وهذا تكريمٌ تكوينيٌ، وأما التكريم التشريعي فمعناه أن التشريع الإسلامي تكفل بإكرام الإنسان، وذلك عن طريق مبادئ تكرّم الإنسان.

بيان ذلك: أن هناك أصلاً يذكره مجموعة من فقهائنا في الفقه الإسلامي مفاده أن الأصل في الإنسان الحرمة، والمقصود من أصالة الحرمة أن الإنسان بما هو إنسان محترمٌ، فمع قطع النظر عن انتماءاته، ومع النظر عن عرقه، ومع قطع النظر عن دينه، ومع قطع النظر عن مذهبه، الأصل فيه أنه محترمٌ، سواء كان عربيًا أو فارسيًا أو كرديًا أو تركيًا إو إنجليزيًا، وسواء كان مسلمًا أو كافرًا، فهو محترمٌ في دمه وماله وعرضه وشخصيته وكرامته، فالإنسان مصونٌ بحيث لا يجوز الاعتداء ولا الخدشة في دمه أو عرضه أو ماله أو شيء من شؤون حياته وشخصيته.

مثال: نحن عندما نكون في دار الإسلام، ونجد شخصًا لا ندري هل هو مسلم أم كافر، فإن الأرض - كما يقول بعض الفقهاء - أمارة على الإسلام، أي أنه مسلمٌ ما دام يعيش في أرض الإسلام، إلا أن يثبت العكس، ولكن لو ذهبنا إلى أرض الكفر، ووجدنا شخصًا لا ندري هل هو مسلم حتى نحترم أمواله ودمه وشخصيته، أم هو كافر، فيجوز لنا الاستيلاء على بعض أمواله وأملاكه، فما هو الأصل؟

يقولون: ما دام الإنسان لا يدري هل هو مسلم أم كافر فالأصل هو الحرمة، أي أن دمه وماله وعرضه محترمٌ ما لم يثبت العكس، وهذا ما يعبّر عنه بأصالة الحرمة، وقد أتى فقهاؤنا الذين يقولون بأصالة الحرمة من النصوص، فالمدرك لهذه الأصالة هو النصوص القرآنية والحديثية.

مثلاً: قوله تعالى: ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ يتحدث عن الناس لا عن المسلمين، أي أن الناس بما هم أناس لا يجوز بخس أشيائهم، وكذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ، فإن هذه الآية تتحدث عن وجوب رد الأمانة لأهلها سواء كان أهلها مسلمين أم كفارًا أم هندوسًا، كما تتحدث عن لزوم الحكم بالعدل بين الناس بما هم أناس، أي أن من حق الإنسان بما هو إنسان - مع قطع النظر عن انتماءاته وارتباطاته وعرقه ودينه ومذهبه - أن يُحْتَرَم ويُحْكَم عليه بالعدل وتؤدّى إليه الأمانة.

مثال آخر: الإمام علي سبق المنطق الحضاري، فإن نظام حقوق الإنسان في الأمم المتحدة يتحدث الآن عما تحدث عنه علي بن أبي طالب قبل 1400 سنة، من أن الإنسان محترم مع قطع النظر عن دينه وعرقه، حيث قال في عهده الرائع العظيم لمالك الأشتر: ”وأشعر قلبَك الرحمة للرعية، واللطفَ بهم، ولا تكونن عليهم سبعًا ضاريًا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخٌ لك في الدين، أو نظيرٌ لك في الخلق“، فالإنسان سواء كان أخاك في الدين أو كان نظيرًا لك في الخلق من حقه ان ترحمه وأن تعطف عليه.

وورد عن الإمام الصادق : ”ما بعث الله نبيًا إلا بثلاث: صدق الحديث، وحسن الخلق، وأداء الأمانة للبر والفاجر“، ويقول الإمام زين العابدين مطبقًا هذه المقالة: ”والله لو أن قاتل أبي الحسين ائتمني على السيف الذي قتل به والدي ما خنتُه فيه“.

هذه الروائع عبارة عن مقالات وحكم حضارية وردت عن أئمتنا ، وهي تقرّر أصالة الاحترام، بمعنى أن الأصل في الإنسان هو الاحترام، فالآية المباركة: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ تشير إلى الكرامة التشريعية كما تشير إلى الكرامة التكوينية.

النقطة الثالثة: الشبهات المسجّلة على التشريع الإسلامي في مجال كرامة الإنسان.

عرفنا أن التشريع الإسلامي كرّم الإنسان، وقال بأن الأصل في الإنسان الاحترام والكرامة، ولكن عندنا سؤالين:

السؤال الأول: إذا كان الأصل الأولي - كما يقول بعض الفقهاء - هو الكرامة، فلماذا يقرّر الإسلام عقوبة الإعدام، فيقتل القاتل؟ القاتل ثلاثة أنواع: قاتل خطأ، وهو لا يُقْتَل، وإنما تثبت الدية على العاقلة، وتارة يكون القاتل شبه عمد، وهو لا يُقْتَل، ولكن ثتبت الدية عليه لا على عاقلته وعشيرته، وتارة يكون القاتل قد قتل عمدًا، وهذا يُقْتَل، أفلا يعتبر هذا إهدارًا لحق الحياة؟! هذا القاتل عندما تقتله فقد أهدرت حقه في البقاء والوجود، فكيف نوفق بين ذلك وبين أصالة الكرامة والاحترام لدى الإنسان؟

السؤال الثاني: يقول الفقهاء بأن الكافر يجوز للمسلم الاستيلاء على أمواله وأملاكه، فأين هي أصالة الاحترام التي ينادي بها بعض الفقهاء؟! أنتم تقولون بأن الكافر لا حرمة له، ويجوز الاستيلاء على أمواله وأملاكه، فأين هي أصالة الاحترام؟!

من أجل الإجابة عن هذه السؤالين نطرح أمورًا ثلاثة:

الأمر الأول: ما هو الفرق بين الأمر الاعتباري والأمر الحقيقي؟

الأمر الحقيقي هو الذي لا يختلف باختلاف العقول، ككون الواحد نصفًا للاثنين، فإن هذه القضية لا تتغير بتغير الزمان، وكذلك «إذا بلغت درجة حرارة الماء مئة فإنه يغلي»، فإنها قضية حقيقية لا تتغير، وأما القضية الاعتبارية فهي من قبيل بداية الأسبوع، فقد تعتبر بدايته من السبت أو من الأحد أو من الاثنين مثلاً، ولذلك بعض الأقوام عطلتهم الجمعة، بينما بعض الأقوام عطلتهم السبت، وبعض الأقوام عطلتهم الأحد، مما يعني أن مبدأ الأسبوع يختلف باختلاف المجتمعات والملل، وكذلك هو الحال في معيار السنة، فهناك من يعتمد التاريخ الهجري، وهناك من يعتمد التاريخ الميلادي، وهناك من يعتمد السنة الشمسية، وهناك من يعتمد السنة القمرية، وكل ذلك يختلف باختلاف الحضارات، فهي أمور اعتبارية تختلف وتتغير بتغير المجتمعات.

العقل عندما يقول بأن من حق الإنسان الحياة فما نوع هذه القضية؟ عندما يقرّر العقل بأن من حق الإنسان أن يعطى الفرصة ليتنفس ويعيش، فهذا حكم عقلي من صنف القضايا الحقيقية لا من صنف القضايا الاعتبارية، أي أن هذه القضية لا تتغير بتغير الزمان، فمن حق الإنسان أن يحيى وأن يكرّم وأن يُحْتَرَم، وهذه قضية عقلية حقيقية وليست اعتبارية.

الأمر الثاني: ما هو معنى وجوب حفظ النظام؟

العلماء وأئمة المساجد يقولون بوجوب حفظ النظام وحرمة مخالفة النظام، فما هو المقصود من النظام؟ هل المقصود به نظام البلدية مثلاً؟! لا، بل النظام هو استقرار الحياة على الأرض، فإن العقل منذ أول يوم للبشرية على الكرة الأرضية أدرك أن آدم كائن حي، والحيوان كائن حي، والنبات كائن حي، وهناك طاقة متحركة في الفضاء أو طاقة مختزنة، والحياة لا تستقر إلا بتفاعل هذه الكائنات الحية، فالحياة لا تستقر ولا تستمر ولا تنتظم مسيرتها إلا بتفاعل هذه الكائنات، وهذا يدركه العقل بلا قرآن ولا إسلام، والعقل حجة باطنة، كما ورد في الرواية: ”إن لله حجتين: حجة ظاهرة، وهي الأنبياء والرسل، وحجة باطنة، وهي العقول“.

العقل الفطري يدرك منذ أول يوم ضرورة استمرار الحياة على الأرض، والعقل يقول بوحده أن من الضروري أن تستقر الحياة على الأرض، ومن الضروري أن تنتظم مسيرة الإنسان على الأرض حتى يستطيع أن يبني مجتمعًا ووجودًا وكيانًا، وهذا ما يعبّر عنه بحفظ النظام، فالمقصود بالنظام هو النظام الذي يحفظ الأنفس من الهلاك، ويحفظ والأموال من التلف، ويحفظ الأعراض من الهتك، ويحفظ البيئة من التلوث، ويحفظ المرافق الصحية والتعليمية من الضياع، فالنظام الذي يجب حفظه وتحرم مخالفته هو عبارة عن استقرار الحياة على الأرض.

وهذا ليس من الأمور الاعتبارية حتى تتغير، فلا يمكن أن يأتي فقيه ومجتهد ويقول بأن مخالفة النظام ليست محرمة! فإن ضرورة حفظ النظام وقبح مخالفة النظام قضية عقلية حقيقية لا تتغير بتغير الفتاوى والمجتهدين ولا بتغير الملل، بل هي قضية يدركها العقل منذ أول يوم.

والقرآن يؤكد على هذه القضية، حيث يقول: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، أي: لا يحب اختلال النظام، فالآية تقول بأن اختلال النظام وعدم توازن الحياة على الأرض مبغوضٌ عند الله، وكل من تصدى لإتلاف الأنفس والأعراض والأموال فهو يخل بتوازن الحياة واستقرارها على الأرض، وقد قال تعالى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ.

الأمر الثالث: كيف نحفظ النظام؟

ما الوسيلة والأداة التي نقوم من خلالها بحفظ النظام بحيث نجعل الحياة مستقرةً على الأرض؟ وسيلة استقرار الحياة على الأرض تسمّى في الفقه بالحركة التبادلية، بمعنى تبادل الحقوق، بحيث يعطي كل شخص الشخص الآخر حق الحياة حتى يعطيه هو أيضًا حق الحياة، ويعطي كل شخص الشخص الآخر احترامًا في أمواله وعرضه حتى يعطيه هو أيضًا احترامًا في أمواله وعرضه، وهكذا يُحْفَظ النظام.

مثال: السوق قائمة على الموازنة بين العرض والطلب، أي: بين المنتج والمستهلك، فالسوق لا تستقر إلا بموازنة بين طرف العرض وطرف الطلب، وبين طرف الإنتاج وطرف الاستهلاك، فلو زاد العرض على الطلب لكانت السوق كاسدةً، ولو زاد الطلب على العرض لكانت السوق عقيمةً، فالسوق لا تستمر ولا تستقر إلا بالتوازن بين العرض والطلب، وهذا ما عبّرنا عنه بالحركة التبادلية.

كذلك الأمر في الحياة، إذ لا يمكن أن تستقر حياة الإنسان إلا بالأخذ والعطاء، فإنه إذا لم يُعْطَ حق الحياة لم يعطِ أحدًا حق الحياة، وإذا لم يُعْطَ احترامًا في أمواله وعرضه فإنه لن يعطي أحدًا احترامًا في أمواله وعرضه، وهذا يعني أن الحياة لا تستقر على الأرض إلا بتبادل الحقوق، ولذلك لو أراد الإنسان أن يحيى على حساب الآخرين، وأراد أن يعيش الحرمة في أمواله وفي شخصيته على حساب الآخرين، فلن تستقر الحياة على الأرض، إذ أن الحياة لا تستقر إلا بالأخذ والعطاء.

من هنا يقول الإسلام: إذا قتل إنسانٌ إنسانًا آخر عمدًا، فقد خرج عن الحركة التبادلية، وصار يأخذ الحياة من الآخرين ولا يعطيهم شيئًا، وهكذا يكون قد خرج عن السلم وعن الحركة التبادلية، فأخل بنظام الحياة وبتوازنها واستقرارها على الأرض، ولذلك لا يستحق على الحياة، فإن الحق الذي لم يعطه لغيره لا يثبت له، ومن هنا يقول الإسلام بأن القضاء على مثل هذا الشخص يرجع الحياة إلى توازنها واستقرارها، كما قال تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ.

نفس الكلام في السؤال الثاني: نحن لا نقول بأن كل كافر لا حرمة له، بل نقول بأن الكافر المحارِب لا حرمة له، وأما الكافر المسالِم لا يجوز الاعتداء على عرضه ولا على ماله ولا على دمه؛ لأن الأصل في الإنسان هو الاحترام، وأما إذا ابتدأ الكافر بالاعتداء على المسلم فذلك شيء آخر، وأما ما دام مسالمًا، وما دام بينه وبين المسلم عقد أمان فلا يجوز الاعتداء عليه.

مثال: عندما يسافر الإنسان إلى بلاد الغرب، فهل يجوز له أن يسرق من متاجرهم بحجة أنهم كفار؟! وعندما يتعامل الإنسان مع شخص كافر في بلاد الغرب، ويكون قادرًا على اختلاس بعض الأموال منه، فهل يجوز له ذلك؟!

السيد الأستاذ السيستاني «دام ظله» يقول بأن هناك عقد أمان، أي أن الإنسان عندما يعرض جوازه على سفارة ذلك البلد الغربي، أو عندما يعرض جوازه في النقطة الجمركية الموجودة في المطار مثلاً، ويُخْتَم له على الجواز، فإن هذا الختم يعتبر عقدَ أمانٍ، ومعنى هذا الختم: لا تعتدي علينا فلا نعتدي عليك، أنت منا في أمان ونحن منك في أمان، ولا نأذن لك بالدخول في هذا المكان إلا عبر هذا العقد.

إذن هناك عقد أمان ضمني بين المسلم وبين الكفار في تلك البلاد، فالكافر بما هو كافر محترمٌ، وإنما الكافر المحارِب لا حرمة له، ولذلك نلاحظ دقةً في الآيات القرآنية، حيث يقول تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ، ويقول: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وهكذا غيرهما من الآيات القرآنية التي تشير إلى هذه النقطة.

إذن الكافر إذا خرج عن حالة الاحترام إلى حالة الاحتراب فهو الذي أخل بتوازن تبادل الحرمات والحقوق على الأرض، وبما أنه أخل بالحركة التبادلية لم يصبح له حق الاحترام، وإن كنا نؤكد على أن الأصل في الإنسان بما هو إنسان الاحترام.

ولذلك ورد عن الإمام الصادق متحدثًا عن النبي : ”كان إذا بعث بسرية تقاتل أجلسهم بين يديه وقال: سيروا باسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله، لا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا شيخًا فانيًا ولا صبيًا ولا امرأةً، ولا تقطعوا شجرًا، ولا تحرقوا زرعًا“، أي أن هذه العقلية الحضارية تهتم حتى بالبيئة، مما يعني أن للإنسان حق الكرامة في دمه وماله وعرضه، ولبيئته أيضًا حقٌ، فللإنسان حق الكرامة حتى في بيئته التي يعيش فيها، ولذلك نهاهم النبي عن قتل البيئة من أجل التوصل إلى مقصدهم وغايتهم. وفي صحيحة عبد بن سنان: سأل الإمام الصادق : رجلٌ قتل عظم ميتٍ، ماذا تقول؟ قال: ”عليه الدية؛ إن حرمته ميتًا كحرمته حيًا“، لو كان حيًا لدفعنا له أرش الكسر، وكذلك إذا كان ميتًا، وهذه هي أصالة الاحترام.

إذن فالإسلام يقرّر أصالة الاحترام، ولكن أول من ضرب بهذا الأصل عرض الحائط وسحقه هم الأمويون، أي: معاوية وسلالته، ومن العجيب أن يدافع البعض على شاشة التلفاز عن معاوية! مع أن الذين يشاهدون الشاشة ليسوا أغنامًا ولا مغفلين لا اطلاع لهم على الصفحات المريرة من التاريخ الأموي، كما في تاريخ الطبري مثلاً، حيث يقول متحدثًا عن معاوية: أول رأسٍ رُفِعَ على خشبة في الإسلام رأس عمرو بن الحمق الخزاعي الذي قتله معاوية، لا لشيء إلا لأنه من شيعة علي والمخصلين له ، وهكذا هي بقية المجازر والجرائم الأموية الفظيعة، كاستباحة المدينة ثلاثة أيام في عصر يزيد بن معاوية، وضرب الكعبة بالمنجنيق والاعتداء عليها في زمن الوليد بن عبد الملك.

ومع كل ذلك يعاملنا هؤلاء معاملة المغفلين، ويقولون لنا: ضع على عينيك سترًا ولا تقرأ الماضي ولا تنظر إليه، ومجّد كل من تسمع اسمه، وترضى عليه، وعظّمه إجلالاً وإكبارًا، ولا شغل لك بهذا الماضي!

الحمد لله لم نصل إلى هذا الحد! بل ما زال عندنا عقل ووعي وإدراك، فنستطيع تمييز فلان عن فلان.

البيئة ... مطلب ديني ومشروع حضاري