توقعات الإنسان من الدين
عبدالله سعيد - 23/05/2018م
السلام عليكم ورحمة الله سيدنا، وحفظكم الله.

لدي بعض النقاط/التعليقات على محاضرتكم المعنونة ب «توقعات الإنسان من الدين»:

ما فهمته من المحاضرة هو أن الحياة ذات هدف سامي وهو بناء حضارة كونية، والغاية الأعلى للدين هي إيجاد نظام لتحقيق هذه الحضارة بحيث تكون عادلة وذات علاقات أخوية، ولكن:

• أين موقع عمود الدين - الصلاة - من الإعراب؟ فإذا عمّر الإنسان المجرّة وأصبح كائن متنقل بين الكواكب، فما هي الوظيفة الباقية - مادية كانت أو روحية - للعبادات كالحج والصلاة؟

• ألا يتعارض كون الهدف بناء الحضارة مع التراث الروائي المليء بالتحقير والتزهيد في الدنيا؟ وعلى رأس ذلك وصف الإمام علي الدنيا بأنها أزهد من عفطة عنز.

• هل تم إدراك هذا الهدف حديثًا؟ أم كان واضحًا منذ بداية الطريق؟

• ما الذي أنجزناه للآن للسير نحو هذا الهدف؟ فما الذي ساهمت فيه مرتكزات الدين لتحقيق هذا الهدف الأسمى؟

• هنالك في البلدان الغربية من يعمل ليلًا نهارًا سعيًا نحو نشر الحياة خارج الأرض، وعليه فهم يعملوا لتحقيق أسمى هدف وراء خلق الله تعالى للإنسان، ولكن حسب معايير ديننا الحنيف فمآل هؤلاء هو ذوبان جلودهم في نار سقر، أو لا أقل إن الإنسان المسلم هو أعلى درجات منهم لإقامته ومثابرته على العمود والشعائر. وبالنتيجة، فمن سعى نحو الهدف الأسمى كان الأقل حظًا عند الله، وغيره ممن لم يحرك ساكنًا نحو الهدف أصبح أقرب إلى الله تعالى منه.
الجواب

عليكم السلام والرحمة أخي العزيز الكريم أُحب أن أجيب عن بعض المداخلات التي تفضلت بها تعليقًا على المحاضرة:

ج1: انفتح الإنسان على الحياة ووجد أن للحياة علاقتين: علاقة بخالقه، وعلاقة بالطبيعة، ومن هنا بحث الفلاسفة منذ القدم حول الهدف والغاية القصوى من الحياة في إطار هاتين العلاقتين، وليس البحث جديدًا فقد كتب أفلاطون أن الهدف من الحياة من زاوية العلاقة الأولى أن يكون الإنسان عالمًا من المثل العليا، وأن الهدف من الحياة في ظل العلاقة الثانية تحقيق المدينة الفاضلة. ونحن أيضا نتحدث عن كلتا العلاقتين، ففي كثير من المحاضرات تحدثت عن الهدف من الحياة من زاوية العلاقة الملكوتية بين الإنسان وخالقه، وذكرت فيها أن غايتها الوصول إلى مرتبة التوكل والرضا والتسليم والفناء كما هو المستفاد من نصوص أهل البيت ، ومن القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى، وقال: ﴿إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ.

ومن الروافد المغذية لهذه الغاية السامية: الصلاة، قال تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي، فهي عمود الدين من هذه الزاوية، وهي تغذية العلاقة الأولى، أي العلاقة الملكوتية بين الإنسان وخالقه، وكذلك سائر العبادات كالحج والصوم، وتحدثت في هذه المحاضرة التي أشرتم إليها عن الهدف من الحياة ضمن العلاقة الثانية - وهي علاقة الإنسان بالطبيعة - وأوضحت أن الهدف إقامة الحضارة الكونية - لا مجرد المدينة الفاضلة -، ومن الواضح أنه لا تنافي بين الهدفين ولا تعارض بين الحديثين، بل إن تنمية الهدف من العلاقة الأولى يصب في تنمية الهدف من العلاقة الثانية.

وقد شرحت ذلك مُفصّلًا في كتابي الحقيقة المهدوية، وذلك عند الحديث عن العدالة الحضارية المهدوية، حيث إن المقصود من العلاقة الثانية إقامة حضارة عدالة أخوية، وثبات العدالة ورسوخها وشبوع روح الأخوة ونمائها يفتقر إلى رصيد روحي رادع عن الظلم والاستئثار، وهذا الرصيد توفره العبادة وفي طليعتها الصلاة، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، ولذلك فإن قوله تعالى: ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا يُقصد به من بلغ الهدف من الغايتين.

ويختلف ذلك بحسب إمكانيات كل عصر، فمثلًا الإمام علي الذي بلغ الغاية في العبادة حتى قال: «ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك»، وقال: «بك عرفتك وأنت دللتني عليك»، وبلغ الغاية في إقامة الدولة العادلة، وخير شاهد على ذلك عهده لمالك الأشتر، والذي مازال يعد بنظر بعض علماء القانون مفتاحًا للقوانين العادلة في الدولة المسؤولة، كما أن العبادة في قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ بمعناها الأعم فهي ليست مجرد الصلاة والصوم، بل تشمل إعمار الكون الذي يكون طريقًا ممهدًا للعبادة، لأن إقامة الحضارة الكونية يفتح باب التعرف على الله من أوسع أبوابه وهو اكتشاف عظمة إبداعه من خلال قراءة أسرار الكون الذي خلقه، ومعرفة الله تقود إلى عبادته، فمن أقام الحضارة العادلة فقد مهد الطريق للعبادة، فيكون بذلك مصداقًا من مصاديق الآية الكريمة: ﴿إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، وهذه المضامين التي تحدثت عنها في المحاضرة وتحديد الهدف من الحياة في إطار العلاقة بالطبيعة، تحدث عنها السيد الشهيد في المدرسة الإسلامية بشكل مفصل.

ج2: لقد تحدثت في محاضرة في بغداد في شهر رجب الماضي عن هذه النقطة وطرحت ثلاثة أجوبة:

الجواب الأول: كما أن هناك نصوصًا تذم الدنيا، فهناك نصوص تحث على العمل والإعمار والبناء والسير لاكتشاف أسرار الكون، وتعرضت هنالك لهذه النصوص.

الجواب الثاني: إن هناك فرقًا بين النظرة الاستقلالية للحياة الدنيا والنظرة الطريقية، فإذا نظرنا إليها مستقلة عن الآخرة وأنها هي الحياة الوحيدة، كانت هي النظرة المذمومة لأنها حينئذ ستكون متاعًا الغرور، أي المتاع الذي يغتر به الإنسان فلا يمتنع عن الظلم وبخس الحقوق، وإذا نظرنا إليها على أنها وسيلة وطريق إلى التجلي الأعظم الذي أشارت إليه بعض الأدعية الشريفة، والمقصود به أن تتجلى لنا عظمة الخالق عز وجل من خلال أصغر ذرة وأعظم مجرة في هذا الكون، فسوف تكون الحياة عظيمة لا حقيرة، فإنها اللوحة الزاهية بالأسرار الإلهية.

وهذا ما أشارت إليه الآية المباركة: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ فهل يمكن لنا معرفة بدئ الخلق والطبيعة واكتشاف أول سر من أسرار الطبيعة دون إقامة حضارة تكنلوجية، وكذلك ما أشارت إليه الآية الكريمة: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ «11» وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ «12» إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ «13» وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ «14»، فهل يمكن اكتشاف هاتين الحقيقتين الفيزيائية والجيلوجية في السماء والأرض دون أسس حضارية علمية دقيقة، وكذلك قوله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ، إذ كيف لنا أن نرى الآيات في جميع الآفاق دون أسس علمية حضارية، وقال عز وجل: ﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ، فنسأل أيضًا: كيف يكتشف الإنسان المدايات السبع في السماء وتطابقها في الأنظمة في الفضاء اللامتناهي؟ وكيف يتعرف أنه لا يوجد فطور في نظامها بدون حضارة تصل إلى السماء في اكتشافاتها؟ إذن هذه النصوص وغيرها ترشدنا الى الوجه الموضوعي للدنيا وهو أنها طريق لزرع معرفة الله واكتشاف إبداعه، وبذلك تكون عظيمة لا حقيرة.

ولو كان الإمام علي يرى الدنيا عفطة عنز فقط ومن جميع الزوايا، لما تحمل أعباء إقامة الدولة العادلة ووضع الأسس والقوانين في خطبه المتعددة لإدارتها، فكل ذلك يرشدنا إلى أن الدنيا لها قراءتان ونظرتان: فراءة استقلالية وبها تكون عفطة عنز، وقراءة موضوعية وبها تكون بابًا لمعرفة الله واستثمارًا للكنوز التي أودعها الله في الطبيعة ودليلًا على عظمته، قال تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.

الجواب الثالث: ما ذكره السيد الخوئي «قُدّس سرّه» في كتابه محاضرات في أصول الفقه - والكتاب مطبوع قبل 50 سنة - في مناقشته لكلام الفخر الرازي في تفسير آية: ﴿أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ، فقد أفاد أن الحياة التي نعيشها قسمان: حياة دنيا وهي مشتقة من الدناءة والحقارة، وهذه هي التي تكون متقوقعة في اللعب واللهو والزينة، وهنالك حياة عليا وهي حياة العطاء والعلم والمعرفة، قال تعالى: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، والنتيجة: إنه ليس المقصود بالحياة الدنيا العمر الذي نعيشه، فإن هذا العمر قد يكون حياة دنيا وقد يكون حياة عليا، وإنما المقصود بها الحياة المقتصرة على الفشل والتخلف.

ج3: إن المضمون الذي طرحته في المحاضرة في تحديد الهدف من الحياة ليس جديد الطرح، بل تطرق له السيد الشهيد الصدر في المدرسة الإسلامية وفي كتاب اقتصادنا، وتعرض له العلامة الطباطبائي في كتابه حول الإسلام، وكذلك الشهيد المطهري وغيرهم من عباقرة المذهب الإمامي.

ج4: السؤال عن ماذا أنجزنا من الهدف هو السؤال المحوري الحقيق بالتأمل، فإلى متى نحن المسلمون مشغولون بالنقد والحسرة على الماضي، وإضاعة الوقت في الأفكار النظرية، دون التفكير في طرح المعارف التي تربط المجتمع الإسلامي بميدان العمل بشكل مباشر، والتي تبعث فيه الروح لأن ينهض بحضارته المأمولة منه.

ج5: ذكرت في عدة محاضرات سابقُا: إن قيمة العمل بعنصرين: الحسن الفعلي والحسن الفاعلي، فالحسن الفعلي هو حجم الآثار الإيجابية التي تترتب على العمل، فكلما كان أثره أكبر وأضخم كان حسنًا، وهنالك الحسن الفاعلي وهو عبارة عن الإخلاص في العمل وتجرده من المقاصد الذاتية والمادية المحضة، كالشهرة والبروز والعنوان، لذلك كل من صرف عمره في العبادة من دون إنتاج متحرك على الأرض فقد أحسن عملًا من زاوية دون الزاوية الأخرى، لأنه قام بتحقيق الهدف الأول من الحياة وهو تحقيق الغاية من الحياة في إطار العلاقة الملكوتية مع الخالق، ومن أنتج نتاجًا فاعلًا في بناء الحضارة فقد أسهم في تحقيق الهدف من الحياة في الزاوية الثانية وهي زاوية العلاقة مع الطبيعة، ولكن حتى يكون عمله حسنًا حقيقيًا فلا بد أن يجمع العنصرين: الحسن الفعلي والحسن الفاعلي، وكل من هذين الشخصين لا يضيع عمله.

ج6: الدين ليس مراقبًا عن بعد، ولا متربصًا مستغلًا، وإنما قد طرح حياة العمل والبناء القائمة على العدالة والأخوة في القرآن الكريم قبل 1400 سنة، لا أنه انتظر البلدان الغربية في ذلك، ولكن مع الأسف عندما يقتصر تفكير المسلمين واستفادتهم من الإسلام على جانب معين دون آخر، والإصرار على حصر العطاء القرآني في زاوية معينة، فإن من الطبيعي أن تكون هذه هي النظرة السائدة، إضافة إلى أنّه لم يثبت الغرب أنه تمكن من حضارة عادلة تامة تشريعًا وتطبيقًا حتى الآن، فما زال النظام الحقوقي الذي لا يفرق بين الألوان والأجناس والأديان يعيش نقصًا في قطاع كبير من الغرب.

السيد منير الخباز
أرسل استفسارك