الحوار المفتوح | حول محاضرات عاشوراء 1436هـ

تحرير المحاضرات

حسين آل جليح: بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله النور، ماحي الظلمة، ومبدد الديجور، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وأعظم الورى، محمد المصطفى وأهل بيته الطاهرين المعصومين، كلمات الله وصنائعه، علل إيجاد السماوات والثرى، واللعنة الدائمة المؤبدة على أعدائهم وغاصبي حقوقهم من الآن إلى قيام يوم الدين.

وبعد، لقد استقرت جراحات حسين الجمال والجلال وآهاته غائرة في قلب التاريخ الغابر، ومتوهجة في روح الحاضر المعاصر، ومتصدرة مشهد المستقبل الصائر، فإن الماضي كان عنوانه الألم المسجى على أرض الطف وتراب كربلاء، وأما الواقع الحاضر فشعاره الأمل المقترن بوهج قربان الفداء الإلهي، وما اختزله من فناء في ساحة الغوث الملكوتي والمدد القدسي، وأما المستقبل فإن غاية مساره هي القيامة والخلاص، الذي لا مفر منه ولا مناص، وظهور عنوان الإمامة العظمى، وشخص النعمة الكبرى، بقية الله عليه الصلاة والسلام، ولا عجب! إن كان حسيننا هو مرآة تكويننا، والدليل الأشرف للهدف من وجودنا، فإنه صاحب الأثر الظاهر، والأمر العالي بمرور الأيام والدهور، كما أخبرت بذلك سيدتنا ومولاتنا سيدة الصبر والعزم الإلهي .

ذلك إن من آثاره الظاهرة وبركاته الواضحة في حواضن التشيع ومناطق الولاء: أعواد منبره، التي شيدتها الدماء القانيات، والعبرات الهاملات، والنفوس المصطلمات، والتي يرقاها - أي هذه الأعواد - من يرجو أن يكون في كلمه الرضا لله، والأجر والثواب للمستمعين، ومن تلكم المنابر: منبر سماحة العلامة الحجة السيد منير الخباز دام عطاؤه، الذي يتسم بمواكبة المستجد الفكري، والمقارنة بين خطوطه واتجاهاته المختلفة، والاهتمام بقضايا العصر، وتحليل إشكالياته، والبحث في تفاصيلها، وحتى تكتمل ملامح هذه المواكبة كانت هذه الندوة الحوارية، استمرارًا لندوات الأعوام الماضية، وتفاعلاً مع الجمهور الكريم، وحرصًا على سماع صوته، وطلبًا لمعرفة رأيه، في المواضيع المطروحة، والأفكار المطروقة، من قبل سماحة السيد.

وقبل البدء في هذا الحوار، لا بد من التنويه والإشارة إلى ملاحظات ثلاث:

الملاحظة الأولى: أهمية أن تكون المداخلات والأسئلة متسمة بالإيجار؛ حرصًا على الوقت وحفاظًا عليه.

والملاحظة الثانية: أن تكون المداخلات والأسئلة في صلب المواضيع وصلب المحاور المطروحة من قبل سماحة السيد؛ حتى لا يكون هناك تشتت في الحوار، وابتعاد عنه.

والملاحظة الثالثة: إذا لم يتسع الوقت ولم يفِ لكافة الأسئلة والمداخلات، فإننا سنحيل الأسئلة المكتوبة سلفًا، أو المسموعة الآن من قبلكم، إلى الموقع الرسمي لسماحة السيد، حتى تكتمل الفائدة. والآن إن شاء الله نبدأ هذه الندوة.

أغفلتم في محاضرة النظام السياسي في الفكر الديني وجود نزاع بين المذاهب والطوائف المكوّنة للدولة الدينية، وركزتم على حقيقة الأقلية والأغلبية المذهبية، وتجاهلتم وابتعدتم عن تركيز الضوء على الهوية السياسية لهذه الدولة الإسلامية، والحال أنه عند التأمل نرى بأنه هذا التركيز على حقيقة الأغلبية والأقلية المذهبية، التي سلطتم الضوء عليها، سيؤدي بالنهاية إلى حالة تأزم وتقاتل وتنازع بين مذاهب وطوائف الدولة الدينية، وذلك لاختلاف الحالة السردية، والرموز الدينية والعقائدية، بين المذهب الإمامي والمذهب السني، فكيف تجيبون على هذه الإشكالية؟

سماحة السيد: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين. عندما عرضت ماهية الدولة الدينية، ذكرت أنه عند تعدد الأديان، أو عند تعدد المذاهب، فلا بد من إيجاد حل، يخشى من عدم وضعه، وجود نزاع في هوية الدولة، وأنها دولة سنية أو دولة شيعية أو دولة حنبلية أو دولة شافعية... ذكرت أن هناك صيغتين للعلاج، ولم أهمل هذا الموضوع أبدًا:

الصيغة الأولى: أن يقوم هناك عقد اجتماعي - وقد صرحت بذلك - بين أبناء هذه الدولة على تحكيم مذهب الأغلبية، فإذا اتفقوا على ذلك فأين المشكلة؟! كيف يتصور النزاع مع وجود عقد اجتماعي؟! إذا كان هناك عقد اجتماعي بين أبناء هذه الدولة على تحكيم مذهب الأغلبية، إذن يكون هذا العقد نافذًا، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، نحن لا نقول: الأغلبية تفرض نفسها، بل لا بد من وجود عقد اجتماعي، أي: اتفاق بين أبناء الوطن الواحد على تحكيم مذهب الأغلبية، وإن لم تمكن هذه الصيغة، ولم يتفقوا، ذهبنا إلى الصيغة الأخرى.

الصيغة الأخرى: أن يكون هناك اتفاق بين أبناء الوطن الواحد، على أن المرجع في الخلافات والأحوال الشخصية لكل مذهب بحسبه، فيكون هناك قضاء جعفري، وقضاء حنبلي، ومسيحي وإسلامي، على مستوى الأحوال الشخصية، وعلى مستوى النزاعات والخلافات المرتبطة بالأحوال الشخصية، حينئذ يكون المرجع فيها لكل مذهب بحسبه، فأبناء الوطن الواحد يتفقون على العنوان: دولة دينية، المشتركات هي التي تحكمنا، وفي القضايا الخلافية يرجع القضاء في كل مذهب بحسبه، ”أما والله لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة. الإمام علي كان هو رأس الدولة، ومع ذلك يقول: لو كنت مبسوط اليد، ولم يعارضني أحد،“ لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجليهم، وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم"، فلا أتصور وجود نزاع مع اتفاق أبناء المجتمع الواحد ضمن عقد اجتماعي على تحكيم المشتركات، والرجوع في موارد الاختلاف إلى قضاء كل مذهب بحسبه.

جليح: أحسنتم سيدنا. تعريفكم للدولة الإسلامية يلاحَظ عليه افتقاره لعنصر الحدود، وهذا الافتقار يجعله أكثر عرضة للتمييز بين المواطنين وتقسيمهم إلى طبقات وفئات مختلفة، وهذا خلاف الدولة القومية الحديثة، فإن الدولة القومية الحديثة في البلدان الغربية نراها قد عرفت وميزت الحدود المسيجة لنظامها، فإن حدها - كما تقول هي - متمثل بحدود الجماعة السياسية، والإيمان بوحدة المصير الثقافي لهؤلاء الأفراد المنتمين لهذا النظام السياسي، المتصف بصفة القومية، وهذه الفكرة - فكرة المواطنة التي أسستها الأنظمة القومية - كانت ردًا على الفكر الاستعماري أولاً، وردًا على الدول الدينية التي أوجدت ورسّخت فكرة التمييز بين المواطنين على أساس ديني أو عقدي، وهذا يجعل امتيازًا لهذه الدول القومية مثلاً على الدولة الدينية، هذا من جهة، ومن جهة ثانية: هذا خلاف ما ذكرتموه في المحاضرة عندما تفضلتم بأن المواطنة هي فكرة اخترعها النظام القومي للتمييز بين المواطنين، بينما هم يقولون هذه الفكرة اخترعت وأوجدت للمواساة بين المواطنين، فما ردكم؟

سماحة السيد: بالنسبة إلى حدود الدولة الدينية، كل جماعة دخلت في الإسلام أو في الدولة الإسلامية، ليس من الضروري أن يدخلوا في الإسلام، حتى لو انضموا إلى الدولة الإسلامية عبر عقد الذمة أو المعاهدة، أي جماعة يدخلون ضمن الدولة الإسلامية بطوع إرادتهم تشملهم الدولة الإسلامية، فحدود الدولة الإسلامية أن يدخل الفرد في هذه الدولة بقناعته واختياره، فهل في هذه الحدود تمييز؟! صحيح أن الدولة الوضعية لها حدود جغرافية، من النيل إلى النيل وأمثال ذلك، هذه حدود الدولة الوضعية، ولو سألت: ما هي حدود الدولة الإسلامية؟ حدودها مرتبطة بقناعة الفرد، فكل جماعة دخلت ضمن هذا الإطار بطوعها واختيارها كانت أرضهم ضمن الدولة الإسلامية، فتحميلهم الدولة الإسلامية، وتوفر لهم الحقوق وسائر امتيازات مواطنة الدولة الإسلامية، فحدودها حدود اختيارية وليست حدودًا قهرية، وليس في هذا أي تمييز لفئة على فئة.

بينما الدولة الوضعية هي التي تضع التمييز، فمثلاً: أبناء منطقة واحدة، منطقة الحدود بين العراق وسوريا، هم أبناء قبيلة واحدة، ولكن قسمًا منهم في سوريا وقسمًا في العراق، أليس هذا تمييزًا؟! أبناء قبيلة واحدة وعائلة واحدة ولكن قسمًا في إيران وآخر في العراق، أليس هذا تمييزًا؟! الحدود التي تتضمن التمييز هي حدود الدولة الوضعية المبنية على أساس جغرافي، فيقال: من دخل ضمن هذه الحدود الجغرافية هو منتمٍ لهذه الدولة، ومن لم يدخل ضمن حدودها، فلا ينتمي لهذه الدولة، وإن كانوا أبناء عائلة واحدة! نحن نقول: الحد الذي لا يتضمن تمييزًا هو الحد الاختياري، دولة قائمة تدخل فيها إما بأن تكون مسلمًا أو ذميًا، فلو عقدت مع هذه الدولة شرائط الذمة لكنت من مواطينها، وهذا هو الحد، لا أن الدولة ليس لها حدود.

أما مسألة المواطنة: متأخرة أم متقدمة؟ نحن نقلنا عن كتاب موجود، وهو كتاب عصر الإمبراطورية لهوبز باؤون، من 290 إلى ص320، ترجمة فايز الصيّاغ، هو الذي ذكر في هذا الكتاب أن فكرة القومية على أساس الدين والعرق واللغة كانت سابقة على فكرة الوطنية، ثم حلت أو قامت دعايات وإعلام لفكرة الوطنية على أساس أن تكون بديلاً عن فكرة القومية، بتوهم أن فكرة الوطنية هي أقل تمييزًا من فكرة القومية، فيمكن الرجوع إلى هذا الكتاب.

جليح: في نفس المحاضرة، عرفتم المواطنة بأنها علاقة قانونية بين الفرد والدولة، فكل مواطن في الدولة الوضعية له حقوق وعليه واجبات، وبالنظر والتأمل في هذا التعريف نراه بأنه عبارة عن تعريف مولود من رحم الأنظمة الوضعية، والدول الحديثة اللادينية، بينما عندما ننظر إلى تعريف المواطنة في الفكر الديني نرى بأن العمود الأساس في هذا التعريف قائم على تصنيف المواطنين إلى عدة طبقات ودرجات، فهناك مسلمون، وهناك أهل كتاب، وهناك ملاحدة، وهناك كفرة، فعلى هذا التعريف، نرى بأنه هناك جهة امتياز لتعريف المواطنة في الدولة الوضعية، على تعريف المواطنة في الفكر الديني، فما هو الجواب على هذه المفاضلة المدعاة؟

سماحة السيد: بالنسبة إلى تعريف المواطنة: نحن عرّفنا المواطنة في الدولة الوضعية، ولم نعرف المواطنة كمصطلح لجميع الدول حتى يقال: هذا التعريف للمواطنة جاء من رحم الدولة الحديثة، فكيف عممتموه للدولة الدينية؟! لا، عرفنا المحاضرة في بداية المحاضرة، المواطنة في الدول الوضعية ما هو تعريفها؟ ذكرنا أنها علاقة قانونية بين الفرد والدولة، تحكمها واجبات وحقوق على أساس الانتماء للتربة، فهذا كان تعريفًا للمواطنة في الدولة الوضعية، ثم عقبنا عليه: هل الإسلام يقبل ذلك أم لا؟ ذكرنا الملاحظات التي تسجلها الدولة الدينية على هذا التعريف للمواطنة في الدول الوضعية، فنحن لم نذكر هذا تعريفًا للمواطنة في جميع الدول، هذا أولاً.

ثانيًا: هناك مواطنة تراتبية، أي أن الدولة الدينية المواطنون فيها على رتب: المسلم مواطن بالدرجة الأولى، والذمي مواطن بالدرجة الثانية، وغير الذمي مواطن بالدرجة الثالثة.. أبدًا! الدولة الدينية - كما في عصر الإمام علي - جميع من يؤمن بالسماء ولو لم يكن مسلمًا هم في رتبة واحدة من حيث واجبات المواطنة، ومن حيث حقوق المواطنة، وكما أن الذمي مطالَب بضريبة الجزية، المسلم مطالب بضريبة الزكاة، كلاهما يدفع ضريبة، وهذا ليس تمييزًا، الدولة عندما تفرض ضريبة فلا يعد ذلك تمييزًا، بل على جميع المواطنين ضريبة، سمينا هذه زكاة لأن لها مصارف خاصة، وتلك سميناها جزية لأن لها مصارف خاصة، وإلا فالجميع ضريبة، وأخذ الضريبة من قِبَل الدولة موجود في جميع الدول الديمقراطية والدول التي تدعي أنها تمثل الإنسان وحقوقه، جميع هذه الدول تأخذ ضريبة من مواطنيها، فأخذ الضريبة من المواطن ليس تمييزًا وليس من باب المن على المواطن، أو الشرط على المواطن، وإنما هذه الضريبة لإنعاش ميزانية الدولة والوضع الاقتصادي لها، فأخذ ضريبة من الذمي كأخذ ضريبة من المسلم ليس منًا على أحد ولا شرطًا على أحد كي يقال بأنه يتضمن تمييزًا لطبقة على أخرى.

أما أن نقول بأن الدولة الدينية لا تعترف بوجود غير المسلم، هذا ليس صحيحًا، وقد ركزنا عليه في المحاضرات. الدولة الدينية تحارب فقط الإنسان المعتدي، وليس المدار على الإسلام، ولذلك حتى لو كان مسلمًا وكان فئة باغية، تقاتله الدولة الإسلامية، ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ، مع أنهم مسلمون، لكن إذا كانوا بغاة يقاتلون، فليس القتال في الدولة الإسلامية مبنيًا على الدين، بل القتال في الدولة الإسلامية مبني على البغي والاعتداء، ولا يصح لنا أن نقول بأن الدولة الإسلامية لا تعترف بوجود الذمي إلا بشرط! ولا تعترف بوجود المواطن إلا بشرط! المواطن ما دام ليس محاربًا، وما دام ليس معتديًا على الوجود الإسلامي والمجتمع الإسلامي هو محترم في الدولة الإسلامية، غاية ما في الأمر أنه يدفع ضريبة لإنعاش الوضع الاقتصادي، لا أن الضريبة من عليه، إذا كان محاربًا جاءت الآيات المباركة: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وقال: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ.

جليح: عرفتم المواطن في نفس المحاضرة بأنه هو الذي يعمّر الأرض، ولكن هذا التعريف يدخلنا في عدة إشكاليات، منها: كيف ستتعامل الدولة مع غير المؤمنين بالغيب، خاصة أنكم في المحاضرة نظّرتم إلى مفاد أن فلسفة الإيمان بالغيب والشهادة دخيلة في بناء الدولة وتشييد معالمها؟

سماحة السيد: بالنسبة إلى هذه النقطة، أولاً: من لا يؤمن بالغيب، يعني إنسان لا يؤمن بالسماء إطلاقًا، هذا تتعامل معه الدولة الدينية بعقد المعاهدة، فإذا كانت هناك معاهدة بينه وبين الدولة الدينية فهو محمي من قبلها بمقتضى هذه المعاهدة: ألا يعتدي على الدولة، والدولة لا تعتدي عليه، كما صنع رسول الله ، حيث أقام صلحًا مع مشركي قريش مرتين، وقد كان الرسول يمثل الدولة الدينية، فإذا كانت هناك معاهدة بين الدولة الدينية وبين الفئة التي لا تؤمن بالسماء، فمقتضى هذه المعاهدة أنهم محميون من قبل الدولة، كما أن المجتمع الإسلامي آمن منهم.

من جهة أخرى: مسألة الإعمار، إعمار الأرض. نحن ذكرنا هذا مناقشةً لتعريف المواطنة، وقلنا: ما هو ملاك المواطنة في الدولة الوضعية؟ قيل لنا: ملاك المواطنة في الدولة الوضعية هو الانتماء للتربة، أجبنا بأن مجرد الانتماء للتربة لا يكفي؛ لأن الانتماء للتربة تمييز، وبالنتيجة هذا إنسان بنى حضارة على الأرض، لكنه ليس منتميًا للتربة، وهذا إنسان دمّر البيئة ولكنه ابن التربة، إعطاء المواطنة للثاني دون الأول تمييز واضح، لو كان ملاك المواطنة الانتماء إلى التربة، معناه: ولد في القطيف فهو مواطن حتى لو دمر بيئتها، ولو لم يولد في القطيف وجاء وأقام فيها، وشيد حضارة، فهو ليس مواطنًا، لأنه ليس منتميًا للتربة، هذا تمييز واضح، ولذلك قلنا: الدين وضع عنصرًا آخر مع هذا العنصر، ألا وهو عنصر الإنتاج، عنصر الإعمار، واستشهدنا بآيات على هذا المعنى، ذكر عنصر الإعمار.

بالنتيجة هي دولة موجودة، وعندها سجلات مواطنين وملفاتهم ومرافق تعليمية وصحية وبلدية، وإلى آخره... من خلالها تميز الفرد المنتج من غير المنتج، الفرد غير المنتج لا يخرج عن الدولة، لكن لا يعطى جميع حقوق المواطنة، لأنه لا يمكن أن يقاس بمن قدّم حضارة وعطاء، فالمساواة بينهما ظلم: هذا ابن التربة لكنه ما قدم شيئًا، وذاك قدم، فالمساواة بينهما ظلم، ولذلك نقول: من لا ينتج مع قدرته على الإنتاج - لا مع عجزه - لا يعطى جميع حقوق المواطنة، كما يعطاها المواطن المنتج، لا أننا نخرجه عن دائرة المواطنة بتمامها، وإنما نقول: المواطنة ما هي؟ المواطنة هي عبارة عن مجموعة حقوق، وهذا لا يحصل على المواطنة الكاملة؛ لأنه غير منتج، فلا يكفي الانتماء للتربة في إعطاء المواطنة الكاملة والتامة.

جليح: هناك إشكال أيضًا يرد على نفس المحاضرة، وهو شبهة وجود خلط بين المذهبية والطائفية، فالطائفية ليست ما ذكرتم من أنها تعني وجود احتكار الحقيقة المطلقة، ووجود تيارين في الأمة والمجتمع، أحدهما متسامح، والآخر إقصائي ومتطرف، ولكن الطائفية تعني تسييس الجماعة الدينية، ومأسسة المؤسسة الدينية والطائفة للاستئثار بمصالح ومكاسب في الأمة، دون بقية الطوائف والمذاهب الأخرى، وهذا بطبيعة الحال سيؤدي إلى التقاتل والاحتراب الداخلي، وقد نظرتم - من دون علم منكم - لهذه الفكرة عندما طرحتم مضمون الأخوة الإيمانية، وأرجعتموه للأصل القرآني، وقلتم بلزوم قضاء حوائج الإخوة المؤمنين الشيعة لحوائج إخوانهم الآخرين داخل مؤسسات وأجهزة الدولة، وهذا بطبيعة الحال سيؤدي إلى حالة تفتت وتفكك داخل المجتمع.

سماحة السيد: أما بالنسبة إلى مسألة الطائفية: نحن لا نتحدث عن الطائفية كمستحدث، بل نتحدث عن بذرة الطائفية، لاحظوا المحاضرة بدقة، كنا نتكلم: ما هو منشأ الطائفية؟ ولم نكن نتكلم عن مصطلح الطائفية ما هو. صحيح أن مصطلح الطائفية يختلف عن مصطلح المذهبية، فإن مصطلح الطائفية هو تسييس جماعة معينة، أو أهل مذهب معين، أو أهل دين معين، ولكننا كنا نتكلم عن البذرة والمنشأ لحصول ذلك، فذكرنا أن منشأ الطائفية هو احتكار الحقيقة. أنا على أي أساس أميّز أهل مذهب معين، وأعطيهم حقوقًا تفوق غيرهم، وأجعلهم بمواصفات وامتيازات عابرة للحدود؟! الأساس في ذلك هو احتكار الحقيقة، لو لم أكن محتكرًا للحقيقة بحد يلغي الآخر، وينفي معذورية الآخر، لما قمت بهذا العمل التسييسي، فكان حديثنا في المنشأ والبذرة للطائفية، ولم يكن حديثنا في مصطلح الطائفية، كي يقال بأن هناك خلطًا بين المصطلحين.

الأمر الثاني: مسألة الأخوة الإيمانية التي طرحناها في محاضرة الأخوة. ذكرنا أن الأخوة أقسام: الأخوة الدينية العامة، الأخوة الإيمانية، الأخوة بمعنى الصداقة، قلنا بأن الأخوة مراتب وأقسام.. يقال: نفس هذا التقسيم، عندما تقول بأن بين الشيعة مرتبة من الأخوة، وأن علي الشيعي أن يقضي حاجات أخيه الشيعي، هذه معناها أنك تشكل فريقًا ضمن الدولة يختلف عن بقية أبناء هذه الدولة، وتشكيل هذا الفريق بالنتيجة يتضمن نوعًا من التمييز على بقية المواطنين.

أقول: أولاً: لو جئنا إلى الأخوة، إخوة من أب وأم، أو من أب، في بيت واحد، وقلنا: هؤلاء الإخوة هم الذين يتقاسمون الميراث، وأما أبناء عمهم، وأبناء خالهم، فلا يدخلون في الميراث، فهل هذا تمييز؟! هذا مجرد قانون. عندما نقول: أبناء الأب الواحد يختصون بالميراث دون أبناء عمهم وخالهم، فهل هذا التقسيم؟! بالنتيجة الأخوة أقسام: الأخوة الأسرية لها أحكام، والأخوة بمعنى الصداقة لها أحكام، والأخوة بمعنى أبناء المذهب الواحد لها أحكام، والأخوة بمعنى أبناء الدين الواحد لها أحكام.

وهذا لا يتضمن تمييزًا إطلاقًا، والسر في أنه لا يتضمن تمييزًا ننا عندما نقول بأن على الشيعي أن يقضي حاجات أخيه الشيعي، هذا لا ينفي أنه يقضي حاجات المسلمين الآخرين، وقد ذكرنا في نفس المحاضرة روايات عن إمامنا الصادق تأمرنا بأن نتعامل مع جميع المسلمين بالأمانة، ومقتضى الأمانة قضاء حقوقهم، وأن نتعامل معهم بصدق الحديث، ”إن الرجل منكم ليكون في القبيلة، فيكون زينها، أدّاهم للأمانة، أقضاهم للحقوق“، نفس الرواية التي قرأناها في المحاضرة هي تأمر الشيعي بأن يتعامل مع المسلمين كلهم بمبدأ قضاء الحقوق والحاجات، ”أدّاهم للأمانة، أقضاهم للحقوق، أصدقهم في الحديث، أورعهم في الدين“، إذن بالنتيجة: مقتضى الأخوة الدينية العامة - أي: أبناء الدين الواحد - قضاء كل أحد لحاجة أخيه المسلم، ومقتضى الأخوة الخاصة - وهي الأخوة الإيمانية - أيضًا قضاء حوائج الأخ المؤمن، ولكن ضمن القانون.

ولذلك السيد السيستاني «دام ظله» يركّز دائمًا في فتواه على حرمة مخالفة القانون، فحديثنا في ضوء القانون لا خارجه، حتى يقال: والله الشيعة يشكلون خلية اقتصادية لوحدهم، وهذه طائفية! والحنابلة يشكلون خلية اقتصادية لوحدهم، حيث يساعد بعضهم بعضًا، فهذا تمييز وطائفية! نحن نقول: على المؤمن أن يقضي حاجات أخيه المؤمن، كما يقضي حاجات أخيه المسلم، وهذا هو مقتضى الأخوة الإيمانية، كما هو مقتضى الأخوة الدينية أيضًا، ولكن ضمن القانون؛ لحرمة مخالفة القانون، وإذا كان ضمن القانون فهذا لا يشكّل تمييزًا ولا طائفيةً ولا عنصريةً إطلاقًا.

لو اجتمعت أسرة السنان مثلاً.. أكبر أسرة عندنا نحن أسرة الزاير، أسرة الزاير أكثر نفوسًا من أي عائلة أو قبيلة أخرى. نأتي لأسرة الزاير: كم تضم هذه الأسرة؟ تضم مثلاً ثلاثة آلاف شخص، وربما أكثر، هذه الأسرة لو شكّلت خلية اقتصادية، بقوتها وطاقاتها وإنتاجها، وصارت أسرة تجارية اقتصادية، فهل هذا تمييز؟! هل هذه طائفية؟! أسرة الزاير بتعبها وطاقاتها وكفاءات أبنائها شكّلت لها خلية اقتصادية، فهل هذا تمييز طائفي؟! أبدًا، كذلك نقول: لو شكّل المؤمنون الشيعة بينهم مشاريع تجارية واقتصادية مثلاً، فهذا لا يشكّل طائفية ولا تمييزًا إذا كان ضمن القانون. 

جليح: الآن نفسح المجال للجمهور، فمن عنده رغبة في المشاركة أو طرح سؤال فليتفضل.

سائل: أنا مشكل في موضوع المرتدين، كان إشكال السيد في المحاضرة حد الردة مع حرية التفكير، أنا أظن هذه ليست مشكلة لأن في إطار الإسلام نفسه توجد حرية تعبير، والدليل تعدد الأفكار داخل المذاهب وتعدد المفكرين... إلخ، هناك خطوط حمراء موجودة دائمًا في كل شيء، فلا بد للإسلام من وجود خطوط حمراء، لكنني أظن أن المشكل في هذا الموضوع هو بين حد المرتد وبين الدعوة، نحن نسمح لأنفسنا بأن ندعو للآخرين أن ينتمو للإسلام، لكن لا نسمح لأبناء المسلمين أن يؤمنوا بديانات غير الإسلام، وبالنسبة لهذا الموضوع نفسه: السيد الصدر قال بأن المرتد الذي ينكر يقينه بالعلم، فإذا كان عنده يقين بوجود الله فإنه ينكره مثلاً، أنا أظن هذا معنى الجحود، إذا كان مع إيمان سابق، فهذا سيكون بحكم المرتد، هذا بالنسبة لمحاضرة المرتد. 

عندي نقطة أخرى في المحاضرة التي تحدثت فيها عن غير الذمي في الدولة الإسلامية، فقلت بأن لهم ليس لهم حق لأنهم لا يؤمنون بالغيب، والآن ذكر السيد بالنسبة للمعاهدة، أن نعاملهم من خلال المعاهدة، أنا أعرف أن المعاهدة تأتي بين دولة وتيار مع الآخرين، وتكون في نقاط المعاهدة، فهم ليسوا في نطاق المواطنة، فكيف نفسر هذه المشكلة؟ مثلاً: في مصر توجد الفئة البهائية، وتوجد اليزيدية، وكذلك في العراق يوجد غير الكتابيين، فهل نطرد هؤلاء من الدولة وهم من أبنائها؟!

سماحة السيد: أحسنت. سؤالك الثاني مرتبط بمحورنا، لأن سؤالك الأول مرتبط بمحور سيأتي، لأن المحور الذي يتعلق بحد الارتداد، سيأتي الكلام فيه، لكننا الآن نأتي لسؤالك الثاني. بالنسبة للشخص الذي لا يؤمن بالسماء إطلاقًا، ولا يؤمن بوجود الله، نحن قلنا: علاقة الدولة الإسلامية به علاقة معاهدة، ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ، أي مشرك يستجير يجار، فكيف إذا جماعة، فكيف إذا بلدة من البلدان، طلبت معاهدة بيننا وبينهم؟! نقيم هذه المعاهدة، العلاقة بين الدولة الإسلامية وبين من لا يؤمن بالله أصلاً هي علاقة معاهدة، وأما الموجود في مصر، نحن لا نتكلم عن الدول الوضعية، نحن نتكلم عن دولة إسلامية.

أنتم الآن تستشهدون بدول وضعية، ولكن إذا افترضنا أنه قام الإسلام في دولة بعضها أبنائها من الأصل - أي أنه أبًا عن جد ابن هذا المكان - حينئذٍ ضمن عقد المعاهدة.. الحل الأولي أن يكون هناك عقد معاهدة، وضمن عقد المعاهدة تحدد: هل أن لهم حقوق المواطنة؟ هذا شيء يقرره ولي الأمر في وقته، بحسب ما تقتضيه المصلحة، هل يعطون حقوق المواطنة أم تكون لهم دولتهم؟ يبقون هم ضمن دولة صغيرة، في ضمن الدولة الكبيرة، وبين الدولتين معاهدة، هذا ليس أمرًا محسومًا عندنا، نحن لا نقول بأن هذا أمر محسوم، بل نقول: أي شخص كان ضمن التراب، وقامت الدولة الإسلامية، وهو لم يعترف بالسماء أصلاً، تجري بينه وبين الدولة الإسلامية معاهدة، على ضوء تلك المعاهدة يحدّد: إما أن يدخل ضمن المواطنين، أو يعتبر أن له دولته، فيمارس حريته في دولته، فتكون دولة صغيرة ودولة كبرى، وبينهما معاهدة.

سائل: ذكرتم تعليقًا على محاضرة ليلة الثالث عشر، الدين بين العقلانية والغيبية، السؤال بسيط: ما هو السبب الأساس في اتباع الأفراد لأديان معينة؟ مثلاً: الآن فلان شيعي، نحن معظمنا شيعة، هل السبب الأساس هو كوننا من بيئة شيعية معينة، أم أن هذا ليس له تأثير، لو لاحظنا أن 85% يموتون بالدين الأول الذي ولدوا به، فما الفضل لنا في كوننا شيعة أو مسلمين؟ الشيء الثاني: كيف نطبق العدل الإلهي، وكيف يكون الحساب يوم القيامة؟

سماحة السيد: الفضل في الدنيا يختلف عن مسألة الحساب، وإنما يرتبط سؤالك عن العدل الإلهي بالآخرة، فعندك نقطتان في السؤال: نأتي أولاً للنقطة الأولى، وهي مسألة الفضل. الفضل على قسمين: فضل ذاتي، وفضل اختياري. الفضل الاختياري يتبع الاختيار، بينما الفضل الذاتي نعمة أنعمها الله عليَّ بلا اختياري، مثلاً: الله أنعم عليك بأنك كنت من أبناء الرسول ، هذا ليس باختيارك، أنت ولدت وأنت من هذه السلسلة، فهذه نعمة ولكنها ليست نعمة اختيارية، بل هي نعمة تفضلية ذاتية، لو قالوا: ما هو فضل السيد على غيره؟ نقول: فضله غير الاختياري - هذا ليس فضلاً اختياريًا - أنه ينتمي إلى رسول الله، أو شخص ولد من أبوين غنيين، بينما ولد آخر من أب فقير، هذا ليس بيده الفضل، بل هذا فضل غير اختياري، أي أنه نعمة إلهي، فلا بد من التفريق، الفضل إذا أريد به النعمة غير الاختيارية، فهذا الذي ولد في مجتمع مسلم أو شيعي فقد حصل على نعمة ولكن بغير اختياره.

وهذا ما أشار إليه الإمام الحسين في دعاء يوم عرفة، وذلك في أوله، حيث يشكر الإمام الحسين ربه أنه ولد في ضمن الإسلام، ولم يولد ضمن الجاهلية، فهذه نعمة غير اختيارية. وأما الفضل الاختياري فمختلف، من اعتنق التشيع عن قناعة هو الذي يكون له الفضل؛ لأنه حقّق ووصل إلى قناعة ذهنية، فهو الذي له فضل اختياري، فالفضل الاختياري يعتمد على البحث والقناعة، ومن الطبيعي أن من اعتقد عن قناعة أفضل ممن اعتقد عن غير قناعة، وإنما تماشيًا مع البيئة.

وأما النقطة الثانية، وهي المرتبطة بالحساب، فنقول: ذكرت في إحدى المحاضرات: كل من لم يصل إلى الحق لعجزه عن الوصول فهو معذور، واستشهدت بالآية المباركة: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا، حتى الرجال قد يكونين مستضعفين، إما لمشكلة نفسية عنده، أو لمشكلة ذهنية عنده، أو لمشكلة اجتماعية، ولم يصل بالنتيجة. كل من لم يصل إلى الحق لمانع يعذر فيه فهو معذور، ويعامله الله بلطفه، ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، فلا فضل لهذا الشيعي الذي عاش شيعيًا ومات شيعيًا من دون تحقيق على غيره ممن هو معذور، أي أنه لم يصل إلى الحق لوجود مانع يعذر منه، إلا الفضل غير الاختياري، وإلا لا يوجد فضل اختياري.

سائل: بالنسبة للمحاضرة التي ذكرت فيها أن علينا ألا نقرأ كتب الضلال، والكتب الأخرى التي لا نستطيع أن نتحمل علومها، لأننا لا نستطيع كيف نرد عليهم وندفع شبهاتهم، فكيف نحدد هذه المعايير؟ نحن ضمن المذهب توجد اختلافات بين المراجع، ويوجد حتى بعض الشيعة.. أنتم أغلبكم تعتبرونهم منحرفين، وأنا كذلك أيضًا، كقناعات وبدون ذكر أسماء! عندهم أفكار مشبوهة، بالإضافة إلى أنك سيدنا تطيل أيام العشرة، وتثبت لنا المذهب من خلال كتب المخالفين، كصحيح البخاري ومسلم، والأحاديث التي ذكرها أحمد بن حنبل، وغيرهم... فما هي المعايير في تشخيص كتب الضلال؟ أنا مرة قرأت أن أحد المراجع ذكر أن الاختلافات بين المذهب السني والشيعي أقل من الاختلافات بين بعض المراجع.

النقطة الثانية: بالنسبة لليهود والنصارى نقول لهم: لا خوف عليكم ولا هم يحزنون، بينما هناك حديث الفرقة الناجية، فرقة واحدة من سبعين فرقة في الجنة، وباقي الفرق كلها في النار، وأنا أصلي وراء السني في الحرم، بينما هو قد يكفرني بعض الأحيان، فهذا شكّل إشكالاً عليَّ، فهل لهذا الحديث أصل؟

سماحة السيد: بالنسبة إلى معايير تمييز كتب الضلال عن غيرها، نحن نقول: الكتب التي تتحدث عن القضايا العقائدية، نحن لا نتكلم عن الخلافات الفرعية، فإن الخلافات الفرعية بين الفقهاء، بل حتى بين فقهاء الشيعة وفقهاء غير الشيعة، هذه الخلافات الفقهية لا تدخل ضمن كتب الضلال. إنما الخلافات العقائدية، ما يدخل ضمن المعتقدات، فهذا نقسّمه قسمين: عندنا معتقدات نظرية، بمعنى أنها هي نفسها محل خلاف بين فقهائنا، هل يرجع الأئمة آخر الزمان أم لا يرجعون؟ هذا محل خلاف، المهدي «عجل الله تعالى فرجه الشريف» من يخلفه في الحكم؟ هذا محل خلاف. هذه المعتقدات التي هي محل خلاف أيضًا لا ضلال فيها، أنا قرأت كتابًا يتحدث عن هذا الرأي، وأنت قرأت كتابًا يتحدث عن رأي آخر.

نحن نتحدث عن المعتقدات المتفق عليها، فلو كان هناك كتاب يتضمن بحثًا في هذه المعتقدات المتفق عليها، وهذا الكتاب يتضمن نقضًا لمعتقداتنا المتفق عليها، فهذا الكتاب يعبّر عنه الفقهاء بأنه كتاب ضلال. أنت اقرأ الثقافة الإسلامية أولاً، ثم اقرأ هذا الكتاب، فنحن لا نقف حجرًا أمام قراءة الكتاب، وإنما نقول: في البداية، صونًا لأبنائنا، كالأب تمامًا، الأب المسؤول عن الأسرة، حيث لا يسمح لأولاده أن يقرأ كل كتاب قبل أن يحصنهم ثقافيًا، ونحن نقول: تحصّن أولاً بالثقافة الإسلامية، ثم بعد ذلك اقرأ ما تشاء، لأنك بالنتيجة قادر على التمييز وقادر على الرد.

أما النقطة الثانية من كلامك: عندنا آية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، الذي يؤمن بالله واليوم الآخر فلا خوف عليه ولا هم يحزنون، وإنما الفرقة التي تعتبر في النار من أنكر أحد الإيمانين، وأما إذا آمن بالله واليوم الآخر.. من آمن بالله آمن برسله، ومن رسله محمد بن عبد ، ولذلك هذه الآية يذكر علماؤنا أنها مطلقة مقيَّدة بآيات أخرى، ومن تلك الآيات: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ يقصد القرآن الكريم ﴿لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، فإذن هذه الآيات المطلقة قُيِّدَت بآيات تشترط الإيمان بنبوة النبي محمد .

أما مسألة الصلاة خلف أهل السنة والجماعة، فهذه مسألة فرعية، لا ربط لها.. هؤلاء مسلمون مثلنا، وإخواننا في الدين، فهل يصح الائتمام بهم أم لا؟ هناك من فقهائنا من يصحّح الائتمام بهم، كالسيد الإمام الخميني، وهناك من يقول: تصلي خلفهم وتقرأ لنفسك، كالسيد الخوئي «قدس سره»، وهناك من يقول: تصلي خلفهم متابعة، فإذن هذه مسألة فرعية تختلف باختلاف الفقهاء، وكل يرجع إلى المرجع الذي يراه جامعًا للشرائط.

جليح: أعود إلى الأسئلة المكتوبة، وأفتتح محور الإسلام والحرية الفكرية بالسؤال الذي طرحه الأخ العزيز، وهو: المسلمون يعيشون ازدواجية، فبينما هم يعطون أنفسهم حقًا في دعوة الآخرين إلى الإيمان بمفاهيمهم وتصوراتهم وأحكام دينهم، نراهم في الضفة الأخرى يسلبون هذا الحق من الآخرين، كالمرتدين الذين يدعون إلى أفكارهم وتصوراتهم، فهل يمكن رفع اليد عن هذه الازدواجية أم لا؟

سماحة السيد: أنا أذكر هنا كلام الشيخ المطهري «رحمه الله»، وهو أحد مفكري الإسلام، هو يقول: لا مانع بحسب الموازين الإسلامية من أن يبلّغ المسيحي أو اليهودي لدينه ولمسيحيته إذا كان هناك تكافؤ، أي: إذا ملك المسلمون وسائل إعلام كافية، توصل فكرهم إلى الجميع، باللغات المختلفة، وبالطرق المتعددة، فحينئذ نحن لا مانع عندنا من أن نفتح المجال لكي يبلغ المسيحي أو اليهودي لدينه أو لفرقته، باعتبار وثوقنا بأصالة الفكر الإسلامي ورجاحته، ما دام يوجد له وسائل إعلام كافية، ويستفيد الشيخ المطهري هذا من هذه الآية المباركة: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ أي: إذا تبين الرشد من خلال وسائل الإعلام الكافية والوافية، فحينئذ لا إكراه في الدين، فليبلغ المسيحي أو اليهودي فكره، حيث لا محذور في ذلك.

جليح: ذكرتم في محاضرة الإسلام والحرية الفكرية قاعدة أن الأحكام تدرأ بالشبهات، ولكن كيف يمكن للحاكم الشرعي - الفقيه المجتهد الجامع للشرائط - أن يتقين بأن هذه الشبهة مستحكمة أم ليست بمستحكمة، باعتبار أن الشبهة هي أمر نفساني، ألا يولّد هذا انطباعًا لدينا بأن هذا الحكم والمقام خاص بالإمام المعصوم ؟

سماحة السيد: مسألة الشبهة المستحكمة في كل علم بحسبه، فأنت مثلاً اختصاصك طبيب، وتتحدث مع شخص يتطبب وليس طبيبًا، ويشكل لك إشكالات في الطب وكذا، فأنت كطبيب متخصص تستطيع بخبرتك في الطب أن تكتشف أن هذا لديه شبهة أم أنه إنسان ذكي وفاهم المسألة، كذلك عندما تكون أستاذًا في الرياضيات، ويأتيك شخص متريض وليس رياضيًا، فإنك بمقتضى خبرتك في الرياضيات تستطيع أن تميز أن هذا يتحدث فعلاً عن وضوح في الرؤية، أم يتحدث عن شبهة، أي أنه ليس فاهمًا القاعدة الرياضية التي يتحدث فيها. إذن تمييز صاحب الشبهة المستحكمة، أي: من لم يفقه الموضوع؛ لعدم خبرته به، ممن تحدث في الموضوع عن خبرة وفهم، هذا أمر ممكن في كل علم بحسبه.

ولذلك أعلن شخص ارتداده، وقال: أتحدى الفقهاء أن يقولوا كذا! لماذا تتحدى؟! تعال واجلس مع فقيه، لماذا تتحدى وأنت في النت؟! تعال واجلس مع الفقيه وتحداه، الفقيه بحكم خبرته، هذا يتحدث أمامه، ويقول له: عندي كذا وكذا وكذا وكذا، فيتبين للفقيه أن هذا قد فقه الموضوع وعرفه، ثم أشكل عليه، أم أنه من الأساس لم يفقه الموضوع ولم يعرف حدوده، فأعتقد أن هذا أمر ممكن وليس مشكلة.

نعم، إذا شككنا، ولم ندر هل هذا عنده شبهة أم ليست عنده شبهة، فحينئذ لا يجوز إقامة الحد، إذ لا يجوز إقامة الحد عليه حتى نتأكد أنه ليست لديه شبهة مستحكمة، وإنما يعترض عن جحود.

جليح: في بحث الإسلام والحرية الفكرية ذكرتم عدة قيود حتى يطبّق حكم الارتداد، كلزوم عدم تكذيب الرسول ، وكالتأكد من أن هذه الشبهة مستحكمة في نفس المرتد أم لا، والقيد الثالث هو لزوم عدم الترويج لفكره أمام الناس وفي الملأ، ولكن هذه القيود التي ذكرتموها لا تلغي أصل الإشكال، وإنما تقلّل من حد الإشكال؛ لأن الإشكال معنون بعنوان عدم التناسب بين الجزاء والعمل، فالجزاء هو الإعدام، وهذا الإعدام إنما هو لحصول حالة ارتداد، والارتداد أمر فكري، وليس زهق أرواح وقتل أنفس، حتى يستلزم الإعدام والقتل، فكيف نجيب على هذه الشبهة؟

سماحة السيد: الجواب عن هذا السؤال: أولاً: هذا منقوض بالحدود الأخرى، كحد الزنا الذي ذكره القرآن، شخصان ارتكبا فاحشة الزنا باختيارهما، فلماذا نقيم عليهما حد؟! هل تقيمون على شخصين حدًا لأنهما أقاما علاقة جنسية باختيارهما؟! لماذا؟! كذلك نفس الكلام هنا: أنت كيف تقيم حدًا على إنسان اختلف معك في الفكر؟! هذا لم يزهق روحًا حتى يقام عليه الحد! كذلك نفس الكلام: الزاني لم يزهق روحًا، ولا اعتدى حتى يقام عليه الحد، بل ارتكب فاحشة باختياره وباختيار المرأة التي كانت معه، وهذا جواب نقضي.

وأما الجواب الحلي: إذا قلنا بأنَّ حد الارتداد حكم متغير وليس حكمًا ثابتًا، كما ذكرنا أن هذا رأي بعض الفقهاء، أن هذا حكم تدبيري بيد ولي الأمر، فهو حكم متغير يختلف باختلاف الظروف والمصالح، فليس حكمًا ثابتًا حتى يشكل عليه؛ لأنه إذا أقامه ولي الأمر، أي أن ولي الأمر شخّص أن المصلحة في أن يقتل هذا الشخص المرتد، فهو لم يقتله لأجل فكره، حتى تقولوا: كيف جازى الشبهة الفكرية بالإعدام؟! وإنما قتله لاقتضاء الظروف - ظروف الدولة الإسلامية - قتله، فهو لم يقتله لعامل فكري، وإنما قتله لعوامل أخرى تقتضي قتله.

كذلك إذا قلنا بأن حد الارتداد حد قانوني ثابت لا كلام فيه، ولكنه في إطار ألا يكون موجبًا لإحداث فتنة، والفتنة الفكرية المؤدية إلى الفتنة الاجتماعية عبّر عنها القرآن الكريم بأنها أشد من القتل. القرآن الكريم في هذه النقطة يقول: ﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ هذا الغلام لم يرتد بعد، بل لا زال صغيرًا، ﴿قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا فأجابه الخضر بعد ذلك: ﴿وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا، وهذا الإرهاق هو معنى الفتنة.

بعض القضايا، لما لها من أثر اجتماعي وخيم، يراها الإسلام أهم بكثير من دم هذا الإنسان، أي أن وجود فتنة تمزّق المجتمع، يرهق أبوين طغيانًا وكفرًا، حرمة الأبوين وحرمة المجتمع الإسلامي أهم من حرمة الدم، فالإسلام يقول: هذه حرمة وتلك حرمة، ولكن هذه أهم، إذا كان ارتداده موجبًا لحدوث فتنة فكرية تؤدي إلى فتنة اجتماعية، فحرمة المجتمع أهم من حرمة دمه، وحينئذ يقتل، فالقتل حينئذ لم يصر على أساس فكري، بل صار على أساس آخر، وهو أنه أحدث فتنة، فلا يصح أن يقال: كيف تقابلون مشكلة فكرية بإعدام؟! إنما حكم عليه بحد الارتداد لا للمشكلة الفكرية، وإنما للمشكلة الاجتماعية، ألا وهي إحداثه الفتنة.

نظير أن يتفق العقلاء في زماننا هذا على أن من يروّج للفكر الإرهابي يُقْتَل، لو الآن مثلاً في زماننا وفي وطننا هذا، اتفق العقلاء في وطننا أن من يروّج للفكر الداعشي، ومن يروّج للفكر الإرهابي، فهو كمن يروج للمخدرات، بل يكون أشد خطرًا، أنت الآن لو تعرض على المجتمع العقلائي، شخص قتل لأنه مروج مخدرات، يقول صحيح، وشخص قتل لأنه يروج لفكر إرهابي، ليس صحيحًا؟! صحيح، فليست المشكلة فكرية، بل المشكلة أن الترويج يهدم المجتمع، والفتنة تهدم المجتمع، فقتله لا لأجل مشكلة فكرية، بل لأجل صيانة المجتمع من هذا التمزق والاختلاف.

جليح: ولكن سيدنا قد يقال بأنه حتى لو سلمنا وقبلنا وقلنا بأن الارتداد هو من سنخ أحكام الدين الوظيفي لا الواقعي، لا يفيد هذا في دفع الإشكال؛ لناحيتين: ناحية عملية، وناحية تنظيرية. أما من الناحية العملية: لأن فتوى الفقيه الفلاني لا بد من التعبد بها، وأما من الناحية النظرية، فإن هذا الرأي وإن كان ظنيًا، إلا أنه سيبقى محسوبًا على المذهب، وعلى المدرسة الفكرية الفقهية الفلانية، وليس محسوبًا على الدين، فاجتماع الناحية التنظيرية والعملية موجب لتجذر الإشكال لا دفعه.

سماحة السيد: بالنسبة للناحية الأولى: هناك فرق واضح بين الدين الواقعي والوظيفي، فإن الدين الواقعي لا مجال للاحتياط معه، بل هو واقع، انكشف لي الواقع أن الوذي طاهر مثلاً، فلا معنى للاحتياط حينئذ، الاحتياط لغو في الدين الواقعي، لو انكشف لك واقعًا أن الوذي طاهر، بينما لو كانت المسألة فتوى وليست دينًا واقعيًا، فيمكنك الاحتياط، إذ لعل المجتهد الذي أفتى بالحلية أو بالطهارة أو بأي حكم معذّر مشتبه، فحينئذ يكون مجال للاحتياط، فمسألة أنه لا فرق بينهما من ناحية عملية ليست صحيحة، بل يوجد فرق: الدين الواقعي، إذا انكشف لك الواقع، صار الاحتياط لغوًا بعد انكشاف الواقع، وأما إذا لم ينكشف الواقع، وإنما هي فتوى، فيجوز لك التعبد بها، ولكن أيضًا يمكنك الاحتياط، وإن جاز لك التعبد بالفتوى، هذا من الناحية الأولى، وهناك فروق أخرى، ولكنني ذكرت فرقًا فقط.

من باب المثال أذكر: افترض أنني قلدت السيد الخوئي، والسيد الخوئي يقول بأنه يجب الخمس في أرض السكنى، وقد توفي السيد الخوئي، فرجعت إلى الحي، حيث اعتقد بأن الأعلم أعلم أو مساو، فرجعت إليه، وقال لي: لا يجب الخمس في أرض السكنى، فلا أدفع خمسًا، فصار هناك فرق بين الدين الواقعي والوظيفي، ففي الدين الوظيفي قد تتغير وظيفتي من زمن لآخر.

أنا مثلاً ذهبت في زمان السيد الخوئي، وظللت رأسي وأنا محرم، ذهبت لعمرة مفردة، وظللت رأسي وأنا محرم في الليل، السيد الخوئي يرى أن التظليل حرام على المحرم حتى لو كان في الليل، فصارت عليَّ كفارة، ولم أدفعها، فتوفي السيد الخوئي، ورجعت إلى مرجع آخر يقول بأن التظليل في الليل بالنسبة للمحرم جائز، فلا تكون علي كفارة. إذن هناك فرق بين الدين الوظيفي والواقعي من الناحية العملية.

أما من الناحية الثانية: نحن كان كلامنا في الإشكال على الدين، وفرق بين الأمرين، نعم، من حقك أن تقول: فتوى الفقهاء الذين يقولون بحد الارتداد أنا لا أراها منسجمة مع الحرية أو مع الكرامة، بخلاف ما إذا قلت بأن الفكر الديني أو الدين في هذه النظرية لا يلتقي مع مبدأ الحرية والكرامة، فالإشكال وارد على هؤلاء، ومن حقهم أن يدافعوا عن أنفسهم، كما لو قال الفقيه: أنا لا يهمني أنه مناف للكرامة أم لا، وإنما يهمني أن هذا مدلول روايات معتبرة أنا أمشي عليها.

جليح: في نفس المحور، في نفس بحث الإسلام والحرية، ذكرتم ثلاثة أنواع من الحريات: حرية تكوينية، وحرية سلطوية، وحرية قانونية، وقلتم بأن الإكراه والجبر لا يقع في الحرية التكوينية ولا في الحرية السلطوية، ولكن بالرجوع إلى أحكام الشريعة نرى أن هناك عناصر شرعية مسيّجة بسياجَي السلب والإيجاب، أما السلب: مثلاً الحكم بلزوم عدم شرب الخمر في الأماكن العامة، والإيجاب: مثلاً الحكم بلزوم الالتزام بالحجاب الإسلامي، إن لم يكن على المسلمين فعلى الأقل على الوافدين المقيمين في الأرض التي ديانتها وعقيدتها متقومة بالإسلام، وهذه العناصر قد يراها البعض عناصر سلطوية، كنهها وحقيقتها الإكراه والإجبار، ألا يعد ذلك تناقضًا بين النظرية والتطبيق؟

سماحة السيد: بالنسبة لمسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كمنع المسيحي من ترويج الخمر وشربه في الأماكن العامة، نحن نقول: ليس للسلطة أن تفرض الدين لا فروعه، ليس كلامنا في الالتزام بالأحكام الشرعية، بل كلامنا في الدين نفسه، فليس للسلطة أن تفرض الدين، بمعنى العقيدة، العقيدة يصل إليها المواطن باختياره، كما أن المواطن حر تكوينًا في اختيار العقيدة، ليس من شأن السلطة الدينية أن تفرض عليه العقيدة بالقوة، هذا بالنسبة للعقيدة، لا بالنسبة للفروع.

وأما الفروع فكانت خارج محل كلامنا، وقد تعرض السيد الخوئي إلى هذه المسألة، وقد أرجعت إلى كتابه الجهاد في منهاج الصالحين، حيث تعرض إلى ذلك وقال: هذا ضمن عقد الذمة، ولي الأمر عندما يشرع في عقد الذمة مع المسيحيين واليهود، فلا بد من أن يضم في ضمن عقد الذمة: هل هذا مسموح لهم؟ لا بد من أن تكون هذه المسألة موضّحة مع المسيحيين أو اليهود، هل لهم أن يروجوا الخمور وأن يبنوا الكنائس والمعابد أم لهذه المسألة حدود؟ إذا اتفق الطرفان ضمن عقد الذمة على أنه ليس لغير المسلم أن يروّج لما يعتقد بحليته، كالخمر والخنزير والميتة، وليس لغير المسلم أن يروّج للكنائس والبيع وما أشبه ذلك، فهذا عقد شرعي، وإذا لم يتضمن عقد الذمة ذلك فيجوز لهم ذلك، فهذا تابع لمضمون عقد الذمة الذي يُبْرَم بين ولي الأمر وأهل الكتاب.

سائل: سيدنا، يوجد إشكال يُطْرَح: إذا جاء شخص واستشهد بأحد رموز المذهب والدين الإسلامي، يُرَدُّ عليه بأن هذا ليس رأي الدين، وإنما هو رأي الفقيه أو هذا الرمز، وعندما تستشهدون على نظرية طريقة التربية الحديثة أو نظرية المواطنة، فأنتم أيضًا تستشهدون بكتاب لأحد الرموز على أساس أنه هو هذه النظرية.

سماحة السيد: لا يوجد عندي رد! بالنتيجة هذا الإشكال يرد علي، إذا أنا استشهدت برأي شخص لا يمثل مذهبًا معينًا، لا يمثل المذهب كله، إذا استشهدت بكتاب يشكّل نظرية شخص أو تصور شخص، لا أنه يمثل علم الاجتماع مثلاً، أو لا يمثل علم النفس، فالإشكال وارد عليَّ كما يرد عليه، وليس كل إشكال نحن نهرب منه! إذا كنا نحن نستشهد بنظرية الشخص وقلنا بأن في الكتاب الفلاني قال فلان كذا، إذا قصدنا من هذا الاستشهاد أن ندين الدين كله أو المذهب أو المدرسة، فلا يصح ذلك. أنا تارة أستشهد على المذهب، فلا بد من التأكد من النسبة، وتارة أنا لا أستشهد للمذهب، وإنما أقول: هناك من يرى كذا. عندما أستشهد بشيء على المذهب، فإنني أراجع المصادر المختلفة، وأسأل أهل الخبرة في هذا الموضوع، حتى أحرز النسبة.

سائل: سماحة السيد، هل ترى في فتوى الإمام الخميني «قدس الله نفسه الزكية» في قتل سلمان رشدي تطبيقًا لحد الردة؟

سماحة السيد: مئة بالمئة.

سائل: كما فهمت في موضوع حقوق وواجبات المواطنة، يكون على حد سواء لابن الوطن وكذلك لغيره ممن هو منتج ومسالم، فلو كان ابن الوطن لا تتاح له الفرصة، أو القوانين الوضعية لا تساعده، أو تحول دون إنتاجه لهذا الوطن، فهل يكون هذا الشخص المواطن غير المنتج يستحق ويعطى أقل من غيره، وخصوصًا غير ابن الوطن؟

سماحة السيد: نحن نتحدث عن الدولة الإسلامية لا عن الدول الظالمة! والله هذا ابن التربة وابن الوطن، ولكن لم يسمح له بأن ينتج وبأن يعطي، فهل يصح حرمانه من بعض الحقوق لأنه لم ينتج؟! لا طبعًا، هذا ظلم واضح، وإنما نتحدث عن الدولة الإسلامية. عندما يكون الإسلام منطبقًا، فالعدالة مطبقة، وحينئذ الشخص الذي لم ينتج مع قدرته على الإنتاج، لا يعطى الحقوق الكاملة للمواطنة.

سائل: سيدنا، في إحدى المحاضرات، بخصوص الدولة الإسلامية، قلت: اختلف المراجع بهذا الخصوص، لا تقوم دولة إسلامية إلا بمعصوم، هذا رأي...

سماحة السيد: هذا الرأي يقول لا توجد دولة إسلامية أصلاً في عصر الغيبة لفقيه ولا لغيره.

السائل: هل هذا طبيعي؟! كيف لا تقوم دولة؟!

سماحة السيد: هذا رأي مجموعة من علمائنا، وهو أن إقامة الدولة الإسلامية من خصائص المعصوم، ومن دونه لا تقام دولة إسلامية، وهذا رأي موجود.

السائل: ما هو رأيكم أنتم؟

سماحة السيد: أنا لست مرجعًا، وليس رأيي مهمًا! بعضهم يقول: لماذا لا يذكر رأيه؟ خايف؟! لا توجد فائدة في ذكر الرأي، هذه المواطن بدلاً من أن تكون هناك أربعة آراء تصبح خمسة، ما الفائدة؟! نحن نذكر الآراء المعروفة المشهورة، وأما أن السيد منير عنده رأي، ما هو قيمة رأيي؟! هناك مجموعة من الفقهاء رأيهم أن الدولة الإسلامية لا تقوم في عصر الغيبة، وهنا قد يشكل بعض الإخوة: هل هؤلاء يقولون بعدم ضرورة حفظ النظام؟! حفظ النظام أمر واجب عقلاً! يقولون بضرورة حفظ النظام، ولكن يقولون: نكتفي بالدولة المدنية، ولذلك هم يرون الدولة المدنية، ويقولون: الدولة المدنية إذا كانت حافظة للنظام، وافية بالحقوق، فهي كافية، وأما الدولة الإسلامية فهي من خصائص المعصوم، فهؤلاء يرون ضرورة حفظ النظام عقلاً، لكن يقولون: إذا كانت الدولة المدنية حافظة للنظام، فهذا كاف.

جليح: قلتم في الليلة الثالثة ما نصه: فالربط بين الغيب والشهادة، يؤثر على الدولة الدينية بكل تفاصيلها، العمران يبتني على العلاقة بين عالم الغيب والمادة، الفن يبتني على العلاقة بين عالم الغيب والمادة، حركة الحضارة تبتني على ذلك، وكما ذكرتم في سياق المحاضرة، عندما نراجع أيام النبي والإمام علي ، نرى بأن هناك حضارة قائمة على الربط بين عالم الغيب والمادة، ولكن إذا كان الإسلام يوجب على المسلم الإيمان بالغيب والشهادة، والقرآن صريح في هذا، فهل هناك دليل على أن الدولة الدينية لا بد أن تلتزم بهذا المبدأ - مبدأ الإيمان بالغيب والشهادة - كأحد المقومات الرئيسية لقيام الدولة؟

سماحة السيد: ذكر السيد الصدر «قدس سره» أن مقتضى هذه الآية: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ، وغيرها من الآيات التي تدل على أن الإنسان خليفة في الأرض، قال: مقتضى هذه الآيات أن الحضارة الإسلامية هي الحضارة التي تمثل الخلافة، حضارة تمثل خلافة الله، وليست الحضارة تمثل مثلاً مفاهيم مادية أخرى، مقتضى الآيات التي تذكر مسألة الخلافة أن الحضارة الإسلامية هي الحضارة التي تمثل خلافة الله في الأرض، فكيف تمثل خلافة الله في الأرض؟ تأتي مثلاً إلى الفن، فن العمران مثلاً، القرآن يذكر في حق النبي سليمان «عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام»: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا، كأنما هذا فصل من فصول الحضارة الدينية السماوية، وعندما تأتي لآية أخرى: ﴿وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً، أي أن الإسلام يتدخل حتى في طريقة البناء.

يحرم مثلاً تجسيم ذوات الأرواح، معناه أنه يتدخل في الفن، وفي المسرح يضع أحكامًا، وفي الاقتصاد يمنع الربا مثلاً، وهكذا، وبالنتيجة: إذا لاحظنا القوانين الإسلامية في مجال الاقتصاد والفن والموسيقى وفي أي مجال آخر، سوف ينطبع لذهننا أن الحضارة الإسلامية حضارة تعكس الإيمان بالغيب، لأن الملامح - ملامح الغيب - تنعكس على فنها وعمرانها واقتصادها وعلاقاتها الاجتماعية، وهذا هو معنى كون الحضارة الإسلامية مظهرًا لخلافة الله في الأرض.

جليح: ما هي الشواهد على قولكم بأن مظاهر الدولة في عصر النبي والإمام كانت قائمة على الربط بين عالم الغيب والمادة؟ وهل هناك من العلماء من يصرح؟ وقد ذكرتم السيد الصدر «قدس سره»، فهل يوجد غيره أيضًا؟

سماحة السيد: كأنما البعض يسأل: هل هناك من العلماء من يصرح بأن غير المؤمن بالغيب، من لا يؤمن بالغيب، مع أنه فرد منتج معطاء، لكنه لا يؤمن بالغيب، فهل هناك من العلماء من يصرح بأنه غير مواطن في الدولة الإسلامية؟ نعم، السيد الخوئي في كتاب الجهاد في المنهاج، الجزء الأول، ص376 وص400، يقول بأن من لم يؤمن بالله، أي: لم يكن من أهل الكتاب، فليس من مواطني الدولة الإسلامية، بل لا بد من إجراء معاهدة معه، حتى لو كان فردًا منتجًا ومعطاءً.

جليح: في سياق تعدادكم لنظريات الحكم الإسلامي، قلتم في تقريبكم للنظرية الرابعة، وهي نظرية الحاكم الفقيه الحافظ للنظام، بأن هذه النظرية تعتمد على نظريتين: النظرية الأولى هي أن أصحاب هذا الاتجاه يرون بأن الأولى بإقامة النظام الإسلامي هو من يستطيع أن يقيم هذا النظام وتشييد أركانه لاستمرار هذه الدولة، ولكن ألا تعتقدون بأن هذا القيد - قيد الاستطاعة - مساوق لما عليه فقهاء العامة من أن الأولوية لمن يقيم الحكم الديني، هي بالنتيجة لمن لديه الغلبة العسكرية، والقوة العسكرية لإقامة هذا؟ فقيد الاستطاعة هنا مساوق لنظر فقهاء العامة.

سماحة السيد: أريد أن أوضح نقطة في الموضوع. أنا ذكرت النظرية الرابعة، وهي نظرية حفظ النظام، وقلت بأنها نظرية بعض فقهاء النجف، وظن البعض أنه رأي السيد السيستاني! لا، هذا ليس رأيه، بعضهم ظن أنني أقصد السيد السيستاني، وراجع كلامه، وقال: السيد ما قال هذا الكلام! أنا أقول: هذه النظرية ليست نظرية السيد السيستاني، نعم بعض فقهاء النجف يتبنى هذه النظرية، وهو موجود، ولو كان يسمح بذكر اسمه لذكرته.

وعلى كل حال، النظرية هي نظرية حفظ النظام، وليست نظرية ولاية الفقيه في حفظ النظام. نظرية ولاية الفقيه نظرية أخرى، وأما النظرية الرابعة فهي لا ربط لها بولاية الفقيه، بل لا ترى للفقيه ولاية، النظرية الرابعة ترى أن الولاية لمن يحفظ النظام، أي جماعة تحفظ النظام، حتى لو كان الحافظ إنسانًا عاديًا، فالولاية لمن له قدرة واستطاعة على حفظ النظام، وليس للفقيه. السيد السيستاني يصرّح في كتابه ”لا ضرر ولا ضرار“ أن الولاية للفقيه في الأمور النظامية إذا كان فقيهًا مقبولاً لدى عامة الناس ومبسوط اليد، هذا يرتبط بنظرية السيد السيستاني، وأنا لا أتحدث عن نظريته، وإنما تقول النظرية الرابعة: الولاية لمن يحفظ النظام فقيهًا أو غيره.

قد يقول قائل: لو حكم الناس بالقوة العسكرية، لو قام شخص بمذابح إلى أن تربّع على العرش، وصار يحفظ النظام، فهل هذا كافٍ؟! لا، ليس كافيًا؛ لأن أصحاب هذه النظرية يتحدثون عن دولة قانونها إسلامي، وإذا رجعتم إلى نفس المحاضرة ستجدون أنني تحدثت عن محورين: المحور الأول: ما هو قانون الدولة الإسلامية؟ ثم تحدثت عن السلطة التنفيذية في الدولة الإسلامية، وقلت: من ناحية القانون متفقون على أن القانون يجب أن يكون إسلاميًا، أي: لا يصح أن تقوم دولة على القتل وإراقة الدماء وتبديد الأموال، فإن مثل هذه الدولة غير شرعية، بل لا بد من أن يكون القانون الذي تقوم عليه الدولة وتطبقه قانونًا إسلاميًا، فالقانون شيء، والسلطة التنفيذية للقانون شيء آخر، وإنما اختلفوا في السلطة التنفيذية لا في القانون، من هي السلطة التنفيذية؟ هل هي الفقيه؟ هل هي الأمة عن طريق صناديق الاقتراع؟ هل هي شورى الفقهاء؟ هل هي من استطاع حفظ النظام؟ افترض أن هناك مجموعة تثق الناس بهم، ليس من اللازم عن انتخاب، بل تثق الناس بالجماعة الفلانية، وهؤلاء نتيجة وثوق الناس بهم استطاعوا حفظ النظام، هذا كافٍ.

إذن بالنتيجة: أصحاب النظرية الرابعة لا يرون الولاية للفقيه، بل يرون الولاية لمن يحفظ النظام، ولا يشمل كلامهم من تقوم دولته على استخدام القوة؛ لأن هذا منافٍ للقانون الإسلامي، وهم يتحدثون عن أن القانون لا بد أن يكون قانونًا إسلاميًا فيما تقوم به الدولة وتطبّقه.

البعض يقول: ما هو الفرق بين هؤلاء وبين العلمانيين؟! الذين يقولون هذا الكلام: نكتفي بحفظ النظام، ما هو الفرق بينهم وبين العلمانيين؟! الفرق واضح؛ لأن العلماني لا يرى أن القانون يجب أن يكون إسلاميًا، بينما هؤلاء يقولون: يجب أن يكون القانون إسلاميًا، وإنما السلطة التنفيذية لا يجب أن تكون فقيهًا أو شورى الفقهاء أو غير ذلك.

جليح: أنتم أجبتم حول الركيزة الأولى. الركيزة الثانية: ذكرتم ضرورة أن يراعي الحافظ للنظام عادات وطباع وأعراف المنطقة التي سيُحْفَظ فيها النظام، ولكن بعضهم أشكل، فقال بأن أصحاب هذه النظرية قد يظهر من كلامهم اشتراطهم مقبولية وإرادة الشعب لحكم الفقيه وبسط يده بحسب الموازين الإسلامية، لا بحسب عادات وطباع وتقاليد أهل المنطقة؛ لفساد النظام من وراء ذلك، فقد تكون العادات والأعراف في بعض المناطق منافيةً للأحكام والموازين الشرعية.

سماحة السيد: هذا ظن أنني أقصد السيد السيستاني، وراجعوا كلامه، وهذا كلام السيد السيستاني! وأنا لا أقصد السيد السيستاني، مضافًا إلى أنني ذكرت أن من يرى نظرية حفظ النظام يعتبر أن يكون القانون قانونًا إسلاميًا. نعم، عندنا مجموعة من الفقهاء - كما قلتُ - لا يرون أصلاً دولة إسلامية في عصر الغيبة، وهؤلاء لا مانع عندهم من أن تكون الدولة علمانية، إذا كانت الدولة العلمانية حافظة للنظام فما المانع عندنا؟! مجموعة من الفقهاء يقولون: لا مانع عندنا من قيام دولة علمانية، فهم يتحدون مع العلمانيين في هذه الجهة، لا مانع عندهم من أن تكون الدولة مدنية أو علمانية؛ لأنهم يرون أن الدولة الإسلامية من خصائص المعصوم فقط، إذن لا مانع من أن تكون الدولة علمانية أو مدنية، غاية ما في الأمر: لا يجب الالتزام بها شرعًا، ولا يجب تطبيق قوانينها شرعًا، وإن كان لازمًا قانونًا، يلزمك أن تطبق قوانينها من ناحية قانونية لا من ناحية شرعية وفقهية.

سائل: سماحة السيد، إذا كانت الدولة الإسلامية من خصائص الإمام المعصوم فلا توجد دولة إسلامية سوى دولة الإمام علي! ونقطة أخرى: ما الفرق بين شورى الفقهاء وولاية الفقيه؟

سماحة السيد: بالنسبة للسؤال الأول: هم لا يرون دولة سوى دولة النبي والإمام علي ودولة المهدي «عجل الله تعالى فرجه الشريف». بالنسبة لما تفضلتم به: الذي يرى شورى الفقهاء يقول: الولاية للمجلس وليس للشخص، بخلاف من يرى ولاية الفقيه، فإن من يرى ولاية الفقيه يرى أن الولاية لشخص معين، ولا بد أن يكون فقيهًا جامعًا للشرائط، فالفقيه الجامع للشرائط تثبت له الولاية، فهو الحكم، وهو الرأي الأخير، والقرار بيده، وأما من يرى الولاية للمجلس فيقول: فقهاء الأمة، لنفترض المراجع المعروفين في الساحة الشيعية مثلاً، هؤلاء المراجع يشكلون مجلسًا، كل مرجع له ممثل في هذا المجلس، ومن خلال الممثلين للمراجع في المجلس، أي قانون وأي أمر يصدر من هذا المجلس ينفذ، فالولاية للمجلس وليس لشخص الفقيه.

جليح: ذكرتم في المحاضرة الرابعة في الرد على من يدّعي الثقافة، ويقوم بنقد المعتقدات والتشريعات الدينية بحجة مخالفتها للعقل والمنطق، أن مقتضى الحكمة والإنصاف أن يكون المستشكل أو الناقد محيطًا بجميع ملاكات وتمام أسرار الحكم المنقود مثلاً، في أي باب من أبواب الفقه، وفي أي باب من أبواب الدين، ولكن هذا الكلام قد يرد أيضًا على أصحاب الفكر الديني من أصحاب أي ملة أو دين معين، فإن علماء المسيحية والديانة اليهودية قد يقولون بأنه على العلماء المسلمين، قبل أن يشكلوا ويعترضوا على معتقداتنا، أن يحطيوا بتمام ملاكات وأسرار ديننا، فما هو الجواب؟

سماحة السيد: بالنسبة إلى ”المثقف“! بعضهم صارت عنده حساسية من كلامي حول المثقفين، وأنا أعذره إذا كان مثقفًا؛ لأنني لا أقصد المثقف، وقد بيّنتُ في ليلة التاسع من شهر محرم أن الناقد لأي فكرة دينية أو غير دينية، إذا كان نقده عن بحث، وعن خبرة وتتبع، فأنا أعتبره مثقفًا، وعلى عيني ورأسي، وأتعرض لإشكالاته، وأتعرض لنقده، وأناقشه، ومستعد أن أحاوره محاورات شخصية وكتابية، ما دام ناقدًا عن بحث وخبرة وتتبع، وأما إذا أتى وكتب أفكارًا ارتجالية، فبمجرد أن يسمع أشياء يكتب حولها! هذا الدين ليس قصيدة تُكْتَب في كل وقت! الفكر الديني ليس مادة نثرية أتناولها متى ما شئت! هذه تحتاج إلى خبرة وبحث. نحن لا مانع عندنا، ابحث وتتبع الموضوع ثم اكتب فيه كتابة ناقدة، ولا مانع عندنا، نتناول كلامك ونناقشه بكل هدوء، وليست عندنا مشكلة في هذه الناحية. المثقف الحقيقي هو من ينقد عن خبرة وتتبع، لا عن ارتجال، فإن هذا النقد الارتجالي يشكّل مشاكل فكرية للناس. أنت تأتي بأفكار لم تستند فيها إلى خبرة وبحث، فيوجب ذلك مشاكل فكرية للآخرين.

نعم، مقتضى الموضوعية، عندما نقول مقتضى الموضوعية فمعنى ذلك أن العقل يفترض ذلك. العقل يفترض فيك ألا تنتقد جزءًا من نظام حتى تطلع على سائر أجزائه، نعم، تستطيع أن تقول: أنا لست مستوعبًا. من حقك إذا سمعت حكمًا معينًا، والله الإسلام يقول مثلاً الكافر نجس، أو يقول: المرتد يُقْتَل، من حقك أن تقول: أنا عقلي لا يستوعب هذا الحكم، ولا يستوعب علته وفلسفته، هذا من حقك، لكن ليس من حقك أن تقول: هذا الحكم يصطدم مع العقل والكرامة، هذا خلاف الموضوعية العقلية، وخلاف الأمانة العلمية. أنت اطلع على المنظومة التشريعية، وقارن بين الأحكام، فإذا توصلت بعد ذلك إلى أن هذا فعلاً يصطدم مع العقل، فلك حق في ذلك.

وهذا الكلام نقوله في المسيحي أيضًا: ليس لنا حق - نحن المسلمين - أن نعترض على جزء من الدين المسيحي، ما لم نطلع على منظومة الفكر المسيحي بأكملها، ونقوم بالمقارنة بينها، ثم نقول: هذا يصطدم مع العقل، أو يصطدم مع المبادئ، الكلام هو الكلام، كما هو عندنا، نقوله بالنسبة لغيرنا، على حد سواء من هذه الناحية.

وأما مسألة الدين والعقل فقد فصّلتُ فيها في الليلة الثالثة عشر، في الليلة الأخيرة بيّنت ما هو العقل، وبيّنت ما هو الدين، ومتى نقول هذا دين، ومتى نقول هذا عقل، بيّنت ذلك بشكل مفصل في الليلة الثالثة عشر، ولذلك لا تأخذوا محاضراتي بشكل مجزوء.. المحاضرات هي سلسلة يُكْمَل بعضها بعضًا، فقد أذكر حديثًا في المحاضرة الخامسة، وأتعرّض لإتمامه في المحاضرة الحادية عشر، أو في المحاضرة الثالثة عشر، وأنا أرى أن مقتضى الموضوعية أيضًا، إذا أراد شخص أن يسجّل نقدًا، وأنا أرحّب بالنقد، ولستُ معصومًا، أي نقد أرحب به وأستقبله، إذا أراد أن يسجّل نقدًا فعليه أن يقرأ هذه السلسلة من المحاضرات؛ لأن بعضها يكمل بعضًا. بالنتيجة هذه الأفكار أعدها بشكل متسلسل وأتابعها، وربما الفكرة لا أستطيع أن أوفيها في ليلة واحدة، فأضطر إلى تعقيب ذلك في ليال أخر.

جليح: الآن سنختم بسؤالين حول الإمام الحجة «عليه أفضل الصلاة والسلام». ذكرتم سيدنا في معرض ردكم على الدكتور عدنان إبراهيم، أن الإمام المهدي «عليه أفضل الصلاة والسلام» ليس بمخلد، أي أنه سيموت بعد إرساء دعائم الدولة المهدوية، ولكن من مسلّمات العقيدة أن الأرض لا تخلو من حجة، فمن الذي سيخلف الإمام الحجة بعد موته؟

سماحة السيد: ”بلى والله لا تخلو الأرض من حجة لله، إما ظاهرًا مشهورًا، أو خائفًا مغمورًا“ كما ورد عن الإمام أمير المؤمنين ، ولذلك علماؤنا يقولون: بعد رحيل الإمام الحجة «عجل الله فرجه الشريف» يرجع الأئمة إلى الحياة، ويكونون هم خلفاءه، وفي بعض الروايات أن الحسين هو الذي يحكم على إثر رحيل الإمام المهدي «عجل الله فرجه الشريف»، هذا على قول.

الرأي الآخر: أن الذي يخلفه عيسى بن مريم، فإن عيسى بن مريم ينزل من السماء، وينصر دولة الإمام المهدي «عجل الله فرجه الشريف»، ويصلي على جثمانه إذا قُتِل، وهو الذي يكون حاكمًا بعده. بعض الروايات تقول بأن الحكم للمهديين، هناك مجموعة يعبّر عنها بالمهديين، يحكمون بعد رحيل الإمام المهدي، ولا بد أن يكونوا معصومين، وبعض الآراء تقول: يحصل الهرج والمرج، فقوله: ”لا تخلو الأرض من حجة لله“ أي: لا تستقر الأرض إلا بحجة، فإذا قُتِل الإمام المهدي لا تستقر الأرض، بل يحصل الهرج والمرج، فتقوم الساعة، وعلى أي حال هذه آراء مختلفة في هذا الموضوع.

جليح: ذكرتم في نفس الليلة أن الدين الإسلامي قد استوفى تمام التشريعات والتقنينات الدينية، وبما أنها لم تطبّق كاملة لحد الآن، فإن الضرورة العقلية تستلزم أن تطبّق في عصر الإمام الحجة «عليه الصلاة والسلام»، وإلا لكان تقنين هذه التشريعات والأحكام نحوٌ من أنحاء الفوضى والعبثية واللغو، فهل هذا يتنافى مع الآية القرآنية: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ؟ بمعنى: هل هناك أحكام نزلت بعد وفاة النبي ولم يطبّقها لحد هذه الفترة؟

سماحة السيد: بالنسبة للآية الكريمة: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ لها معانٍ، بعض العلماء يقول: معناها: أكملت لكم دينكم تشريعًا لا تطبيقًا، أي: جميع التشريعات أكملتها وأودعتها عند علي بن أبي طالب، أنا لا توجد عندي فرصة لتطبيقها لأن الزمن قصير، ولكنني أودعتها تشريعًا عند علي بن أبي طالب ، ولذلك قال: ”أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها“، فإذن الرسول لم يطبق جميع التشريعات، لكنه أكملها تشريعًا وتقنينًا.

الرأي الآخر: أن المراد بإكمال الدين إكماله بإمامة الإمام أمير المؤمنين ، أي أن الدين يكتمل بإمامة علي، ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ أكملته بإمامة علي عندما نبهتكم على إمامته وضرورة بيعته، وأما بقية التشريعات فإن الأئمة كما لهم علم اكتسابي بالتشريع، فلهم علم لدني بالتشريع، وعن طريق هذا العلم اللدني تكتمل التشريعات، فلا تنافي بين الآية وبين ما ذكرناه، من أن النبي لم يتمكن من تطبيق الدين بأكمله.

جليح: هل يقصد سماحة السيد بأن الإمام الخميني «قدس سره» أصاب في حكمه على سلمان رشدي أم أنه قد تسرع في الحكم بمعنى أن الحكم خطأ؟

سماحة السيد: أستغفر الله من أن أقول عن السيد الإمام الذي أقدّسه.. الإمام الخميني أنا أقدّسه بمعنى الكلمة! أستغفر الله من أن أقول أنه أخطأ أو كذا، وإنما سألني الأخ: هل ما صدر عن الإمام الخميني كان من باب تنفيذ حكم الردة أم لا؟ فقلت له: نعم، ما صدر عن الإمام الخميني كان من باب تنفيذ حكم الردة، هذا مقصودي، ولست في مقام تصويب الرأي أو تخطئته.

جليح: في ختام هذه الندوة، لا يسعنا إلا أن نشكر سماحة العلامة الحجة السيد منير الخباز «دام عطاؤه»، على رحابة صدره، ودقيق أجوبته، كما نوجّه الشكر والتقدير للحضور الكرام والأعزة، على حضورهم وتفاعلهم وإصغائهم ومشاركتهم بالأسئلة والمداخلات، على أمل اللقاء في الأعوام التالية، هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وآله المعصومين.

سماحة السيد: وأنا أيضًا أشكركم على تحملكم 13 ليلة، مع طول الوقت، وكثرة الموضوعات، كما صبرتم على الحوار هذه الليلة، فأنا أشكركم شكرًا جزيلاً، وبالنسبة لأسئلتكم التي لم تُطْرَح، فأنا بخدمتكم في الموقع، وإن شاء الله أي سؤال لم يُطْرَح وفي ذهنكم فأنا حاضر للإجابة عنه إذا كان ضمن الموقع، والفاتحة للمؤمنين والمؤمنات تسبقها الصلاة على محمد وآل محمد.