الليلة الثالثة محرم الحرام 1445هـ

هل أنت هرمينوطيقي؟

تحرير المحاضرات

بسم الله الررحمن الرحيم

﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا [الفرقان: 33]

صدق الله العلي العظيم

بحثنا في التفسير الهرمينوطيقي للنص، وبحثنا في هذا العنوان من خلال محاور ثلاثة:

  • شرح المصطلح وتاريخه.
  • معالم الهرمينوطيقا الفلسفية.
  • الملاحظات النقدية على هذه النظرية.
المحور الأول: شرح المصطلح وتاريخه.

كلمة هرمينوطيقا كلمة معربة من هرمونتيكس، وأيضاً مشتقة من أصل إغريقي وهو هرمونيون، وهذه اللفظة بحسب اللغة الإغريقية تعني كشف الغموض وإزالته، وعبروا عنه بلفظ هرمونيون نسبة إلى هرمس؛ لأنه كان بنظرهم إله ورسول، وكانت وظيفته إزالة الغموض عن الرسالة التي بعثها الله إليه وبيانها للبشرية، فلأجل أن هرمس كانت وظيفته إزالة الغموض عن الرسالة أطلقوا لفظ هرمونيون بمعنى إزالة الغموض، هذا هو المعنى التاريخي لهرمونتيكس أو هرمينوطيقا، ثم أصبح في الاصطلاح عبارة عن فن التأويل والتفسير، فيقال للتأويل والتفسير هرمينوطيقا.

الهرمينوطيقا أقسام ومنها: الهرمينوطيقا الكلاسيكية ومن أعلامها دان هاور، والهرمينوطيقا الرومانسية ومن أعلامها شلايرماخر، والهرمينوطيقا الفلسفية ومن أعلامها هيدغر وغادا مير، وهما من أعلام بداية القرن العشرين.

حديثنا سيكون على ضوء هذه النظرية، في بيان معالمها والملاحظات النقدية الموجهة إليها، لذلك ننتقل إلى المحور الثاني ألا وهو بيان معالم الهرمينوطيقا الفلسفية.

المحور الثاني: معالم الهرمينوطيقا الفلسفية.

تحدث عن الهرمينوطيقا هيدغر في كتابه «الوجود والزمان»، وغادا مير في كتابه «الحقيقة والمنهج»، غادا مير هو تلميذ هيدغر، وفي كتابه حاول تفصيل نظرية أستاذة وأضاف إليها بعض المقومات واختلف معه في بعض النقاط.

وهناك عدة كتب لمن أراد أن يتعمق في هذه النظرية ومنها: كتاب «فهم الفهم» للدكتور عادل مصطفى، كتاب «المدخل لنظرية المعرفة» لمحمد حسين زاده، و«كتاب الهرمينوطيقا المصطلح نشأته وتاريخه ومعناه» لصفدر إلهي زاد.

للهرمينوطيقا عدة معالم:

المعلم الأول: أصل الفهم.

بدل أن نبحث ما معنى التفكير وما معنى التأمل وما معنى الشهود وقبل أن نفهم الأشياء لابد أن نفهم ما هو الفهم، أن نفهم الفهم قبل أن نفهم به الأشياء، والفهم هو عبارة عن الديزاين أي الحقيقة الأصلية لوجود الإنسان، الحقيقة الأصلية لوجود الإنسان متقومة بالفهم، الإنسان هو الذي له فهم، فالفهم هو عبارة عن وجود أنطولوجي للإنسان وليس منهجاً معرفياً، لذلك هذه الهرمينوطيقا ليست منهجاً للمعرفة ولا منهج لفهم الأشياء ولا منهج للوصول إلى الأشياء بل هي تعبر عن حالة وجودية قائمة بالإنسان ألا وهي حالة الفهم.

الفهم أمر وجودي، يعبر عن الطبيعة البشرية للإنسان، الفهم هو عبارة عن ظهور الأشياء للإنسان، كل الأشياء تظهر للإنسان الشجر، الحجر، الإنسان الآخر، كل ما حولنا له ظهور في أذهاننا وعقولنا. ظهور الأشياء في أذهاننا وعقولنا هو المسمى بعملية الفهم، وهي ليست عملية اختيارية نقوم بها، هي نتيجة مجموعة من العوامل التي تحف بنا وتستوجب هذه العوامل أن تظهر الأشياء في أذهاننا، فظهور الأشياء في أذهاننا هو عبارة عن وجود الفهم لهذا الإنسان ذو وجود وسيع؛ أي أن وجودك هو وجود الأشياء في ذهنك، وجودك يعني أن في ذهنك كتباً وطبيعة وأسرة وما أشبه ذلك، كل الأشياء التي حولك ظهرت في ذهنك ظهورها في ذهنك هو عبارة عن وجودك، هو عبارة عن كلمة الفهم.

المعلم الثاني: فهم الأشياء.

يقول الأشياء قسمان: ظواهر فيزيائية، وظواهر متحركة.

الظواهر الفيزيائية يمكن أن نضع منهجاً لمعرفتها، علاقة الشمس بالأرض ظاهرة فيزيائية، بناء الكون على القوى الأربع ظاهرة فيزيائية، الجزيء تحت الذري ظاهرة فيزيائية. الظواهر الفيزيائية يمكن أن نضع منهجاً لمعرفتها، وهذه العلوم الطبيعية الفيزياء والفلك والكيمياء كلها لرسم هذه الظواهر الفيزيائية، يمكن أن نضع منهجاً لمعرفتها، يمكن أن نصل إلى فهم عيني لها، أما الظواهر الثانية كالفن ليس شيء ثابت، الفن متحرك، التاريخ ليس شيء ثابت شيء متحرك، الإنسان ليس شيء ثابت الإنسان متحرك يتغير من مرحلة إلى مرحلة ومن مفاهيم إلى مفاهيم، ومن ثقافة إلى ثقافة.

هذه الظواهر المتحركة المتغيرة، الفن، الإنسان، التاريخ لا يمكن أن نضع منهجاً لمعرفتها، أي لا يمكن أن نصل إلى فهم عيني ثابت لها لأنها متحركة، تعيش في صيرورة متغيرة، ولو أراد الإنسان أن يفهم التاريخ لا بد أن يخرج من التاريخ حتى يفهمه، ولا يمكن للإنسان أن يخرج من التاريخ لأن الإنسان خاضع للزمن، التاريخ هو عبارة عن الصيرورة عبر الزمن، ماض وحاضر ومستقبل وتغير وتحرك، وما دام الإنسان خاضع للزمن فهو خاضع للصيرورة، خاضع للتغير، خاضع للتاريخ فلا يمكنه الخروج من التاريخ حتى يقرأ التاريخ قراءة تجردية ويصل إلى فهم عيني للتاريخ، وهذا أمر غير ممكن.

إذن لا يمكن أن نضع منهجاً لمعرفة الأشياء المتغيرة، والأشياء التي تخضع لصيرورة التاريخ.

المعلم الثالث: فهم النص.

سواء كان النص أدبياً كشعر المتنبي والذي مدح فيه الإمام علي حيث قال:

وتركتُ   مدحي   للوصيِّ   iiتعمُّداً   إذ   كان   نوراً   مستطيلاً  شاملا
وإذا   استقلَّ  الشيءُ  قامَ  بنفسهِ   وصفاءُ ضوءِ الشمسِ يذهبُ باطلا

أو كان النص تاريخي، كالنص الذي يروي لنا قصة يوم عاشوراء. أو نص ديني مثلاً حينما يقول القرآن الكريم: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران: 85] ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة: 275] ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء: 11] سواء كان النص أدبياً أو تاريخياً أو دينياً كيف نفهم النص؟

يقول: لا يمكن فهم أي نص إلا بالقبليات، والقبليات هي المعلومات المسبقة والتوقعات، يستحيل أن تفهم خطاب وليس عندك معلومات مسبقة أو توقعات، فالذي لا يعرف لغة ولا يعرف معلومات مسبقة يستحيل أن يفهم الخطاب، مثلاً عندما نقرأ قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران: 85] نص ديني، فإذا لم تكن لديك معلومات مسبقة عن كلمة الدين فكيف تفهم الدين! وإذا لم تكن لديك معلومات مسبقة عن كلمة الإسلام فكيف تفهم الإسلام؟ وإذا لم تكن لديك معلومات مسبقة عن كلمة الله، الآخرة فكيف تفهمها؟ وهل الإسلام هو شريعة النبي أو أنه يجمع الديانات السماوية كلها؟ هل كلمة دين تعني الشريعة أو تعني المعتقدات، أو تعني الشريعة والمعتقدات؟

لابد لفهم النص من معلومات مسبقة، فإذا كانت لدي معلومات مسبقة أبدأ بتقويم النص من أجل أن أفسره على ضوء المعلومات المسبقة وأيضاً التوقعات، والتوقعات هي أسئلة أنتظر من النص أن يجيب عنها، النص عندما يقول: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ما هو الدين الذي لا يقبل الله غيره؟ هل هو الدين الواقعي وهو الوحي الذي نزل على النبي محمد أو الدين يشمل حتى الدين الظاهري والذي هو عبارة عن فتاوى الفقهاء واجتهاد المجتهدين؟ هذه أسئلة أطرحها على النص وآخذ الجواب منه.

إذن تفسير النص يحتاج إلى معلومات وتوقعات ولأجل ذلك فإن المحورية في تفسير النص هي للمفسر لأن تفسير النص يعتمد على معلومات عندي أنا المفسر القارئ، فالمحورية دائماً في تحديد معنى النص أدبياً كان أو تاريخياً أو دينياً للمفسر لا للمتكلم، وبالنتيجة لابد من عزل المتكلم عن النص كأن المتكلم غير موجود أو أحد قراء النص، ننظر إلى النص بما هو، وننظر إلى تفسيره بالقبليات الموجودة عند المفسر والقارئ والمتلقي، لا يهمنا المتكلم ماذا يقصد، يهمنا النص كيف نستخرج منه هذه المعلومات.

فلأجل ذلك أهم معلم من معالم الهرمينوطيقا الفلسفية أن المحورية للمفسر في فهم النص، وليس المحورية لقصد المتكلم ومراد المتكلم.

المعلم الرابع: تفسير النص.

سوف يكون حوار ديالكتيكي بين المفسر وبين النص، لأن تفسير النص عبارة عن سؤال وجواب، النص يقول ﴿قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة: 275] عندي معلومات وهذه المعلومات أثارت عندي أسئلة، ماذا يعني حرم الربا؟ وهل الحرمة تعني وضعية أي لا أملكه أم مجرد حرام أعاقب عليه؟ هل الربا قانون كلي أم هو خاص بزمن النبي ؟

وإذا كان قانون كلي هل يشمل الربا الإنتاجي أو يختص بالربا الاستهلاكي؟ ويقصد بالربا الاستهلاكي أن الرجل يقترض مبلغ من المال حتى يستهلكه في حياته ونفقاته فيؤخذ عليه فائدة، وأما الربا الإنتاجي أخذ الفائدة من المقترض المستثمر سواء كان استثماره في شركة أو مشروع أو غيره.

بالنتيجة تفسير النص هو عبارة عن حوار بيني أنا المفسر وبين النص، وهذا الحوار يقوم على معلومات مسبقة وتوقعات، بمعنى أسئلة أحاول أن أنتزع أجوبتها من النص.

المعلم الخامس: عنصر اللغة.

يقول غادا مير: لا يتشكل فكر بدون لغة. مستحيل أن تفكر بدون لغة، مثلاً الرضيع الذي لم يمتلك لغة بعد لا يستطيع أن يفكر، وليس المقصود باللغة الألفاظ فقط، بل يشمل حتى الإشارات والرموز، مثل الأخرس الذي لا يعرف لغة الألفاظ لكنه يملك لغة الإشارات، يستحيل أن تفكر بدون لغة ولو كانت هذه اللغة رموز وإشارات، اللغة هي تجليات للأشياء، كما تظهر الأشياء بصورها تظهر عبر لغة، مثلاً اسمك حسين تظهر لي في ذهني من خلال اسمك، هذا كتاب يظهر لي في ذهني من خلال اسمه، اللغة ظهور للأشياء وتجليات لها في الذهن، فليست اللغة أداة تواصل أو أداة فهم بل اللغة هي جزء من الوجود هي تجلياتٍ للموجودات في ذهن الإنسان.

النتيجة وهي المهمة لأننا نريد أن نطبق هذه النظرية في فهم النص القرآني وفهم النص النبوي، النتيجة هي تعدد القراءات، لا توجد قراءة واحدة للنص، لأن فهم النص يعتمد على القبليات، والمحورية في فهم النص للمفسر وليس للمتكلم، وبما أن المفسرين مختلفون في ثقافاتهم وفي قبلياتهم إذن بالنتيجة سوف يكون للنص عدة قراءات، فمثلاً يقول فقيه في تفسير الآية ﴿َأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا أن الحرمة حرمة تكليفية ووضعية، كما أن الربا حرام بمعنى العقوبة، حرام بمعنى عدم الملك حرمة تكليفية ووضعية، أنا كفقيه أفهم من كلمة الربا كل ربا محرم، كل ربا ظلم سواء كان ربا استهلاكي أو ربا إنتاجي، ربا من بنك لبنك، ربا من بنك لفرد، ربا من فرد لفرد.

هذه قراءة ولكن يقابلها قراءات وليس هناك تصويب لقراءة على قراءة لأن المحورية في القراءة للمفسر والمفسر مختلف نتيجة اختلاف الثقافات والقبليات والمخزون الثقافي لدى كل مفسر، ونتيجة اختلاف المفسرين اختلفت القراءات، ونتيجة اختلاف القراءات لم يعد هناك قراءة صائبة وقراءة خاطئة كل القراءات في عرض واحد ومستوى واحد ولا ميزة لفقيه على غيره أو لأديب على غيره أو لمؤرخ على غيره، الجميع يمتلك قراءة للنص، وقد تأثر بعض الباحثين المسلمين بهذه النظرية مثل محمد مجتهد شبستري الباحث الإيراني، وله كتاب «هرمنوتيك كتاب وسنت» فإنه قد قبل نظرية تعدد القراءات وأننا نحن نقرأ النصوص الدينية بقراءات. أو مثلاً الباحث عبد الكريم سروش في كتابه «القبض والبسط» أيضاً قال نحن نقبل بنظرية تعدد القراءات حتى البديهيات لا نفهمها إلا بقبليات، ومن البديهيات مثلاً «لكل مسبب سبب» «النقيضان لا يجتمعان» هو يقول حتى هذه البديهيات تختلف فيها القراءات وتخضع لاختلاف الأفهام والقراءات لأن كل فهم منوط بالقبليات والقبليات مختلفة.

هذا بيان للنظرية.

المحور الثالث: الملاحظات النقدية على هذه النظرية.

ما هي الملاحظات النقدية لنظرية الهرمينوطيك الفلسفي في تفسير النصوص خصوصاً النصوص الدينية؟

الملاحظة الأولى:

تقول النظرية كل فهم غير ثابت، وفهم النصوص يختلف باختلاف الأشخاص، الأمور هذه كلها تاريخية والتاريخ ليس ثابت حتى يُفهم فهماً ثابتاً، نقول هذه النظرية نفسها فهمٌ فهل هي من الفهم الثابت أم من غير الثابت؟

مثلاً إنسان يقول كل كلامي غير صحيح، نقول له قولك هذا صحيح أم غير صحيح؟ كذلك عندما تقول «كل فهم غير ثابت» هذا الفهم نفسه من الثابت أو غير الثابت؟ فإن قال غير ثابت، نقول إذا كان حتى هذا الفهم المعبر عن النظرية هو من القسم غير الثابت إذن لا يصلح لأن يكون قاعدة، ولا يصلح لأن يكون نظرية يُستند عليها، ويبنى عليها آثار ونتائج وتجارب لأنها لا تعبر عن فهم ثابت.

وأما إذا قال كل فهم لأي نص هو غير ثابت إلا هذا الفهم فهو ثابت ونظرية وقاعدة نقول هذا تحكم وترجيح بلا مرجح، كل فهم لكل نص غير ثابت إلا فهمكم لهذه النظرية هو فهم ثابت! هذا تحكم وترجيح بلا مرجح بالإضافة إلى أنه اعتراف ضمني بوجود فهم ثابت ويعتمد عليه.

الملاحظة الثانية:

نحن نركز على نظرية هيدغر وغادا مير بالذات دون النظريات الأخرى لأن لها تأثير على فهم النص الديني، ومآل هذه النظرية إلى النسبية المعرفية، ولبيان ذلك نقول:

النسبية على أقسام: نسبية وجودية، نسبية معرفية، ونسبية أخلاقية.

  1. النسبية الوجودية مثل الشر والخير، لسعة الحشرة لجسمك هذه اللسعة بالنسبة لك هي شر، ولكن بالنسبة للحشرة هي خير، فهي خير من جهة وشر من جهة أخرى، إذن الخير والشر وجوده نسبي.
     
  2. النسبية المعرفية تختلف باختلاف المواقع والظروف، أنت على الأرض تعيش 24ساعة، ولو كنت على كوكب آخر لاختلفت ساعات اليوم فيه، يختلف الموقع الذي أنت فيه بالنسبة إلى الشمس، تقدير اليوم وتقدير الزمن يختلف في كل موقع من حيث نسبته إلى الشمس، فعندما أقول الزمن يعني أن السنة اثنا عشر شهر، والشهر ثلاثين يوم، واليوم أربع وعشرين ساعة، هذا كله تقدير لمن هو على الأرض، لا لمن هو على كوكب آخر، هذه نسبية معرفية.
     
  3. النسبية الأخلاقية يقول البعض حتى الأخلاق هي أمور نسبية كالتواضع مثلاً، هل التواضع خلق في كل وقت؟ هل التواضع خلق بالنسبة لكل أحد؟ كذلك السخاء والكرم، السخاء والكرم خلقٌ عند العرب، ولكن عند غيرهم لا معنى له، فهو يختلف باختلاف المجتمعات وهذا يعني أن الخلق أمر نسبي.

فإذا قلنا بأن الفهم منوط بالقبليات أي بالمخزون الثقافي للمفسر والقارئ، والمفروض أن المخزون الثقافي يختلف باختلاف المفسرين يعني ذلك تعدد القراءات إذن النتيجة أن معرفة النص معرفة نسبية، ومآل هذه النظرية إلى المعرفة النسبية، وليس لدينا معرفة مطلقة، فإذا لم تكن لدينا معرفة مطلقة فكيف ندرس العلوم الإنسانية؟ إذا لم تكن عندنا معارف مطلقة كيف نستطيع دراسة علم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم الإدارة، وعلم القانون؟ كل العلوم الإنسانية كيف يمكن فهمها ومعرفتها إذا كانت المعرفة نسبية وتختلف باختلاف القراء والمفسرين والمخزون الثقافي لدى كل شخص؟ لذلك من هنا جاء انتقاد لهذه النظرية من مفكرين غربيين مهمين:

  • بول ريكور وهو من أتباع الهرمينوطيقا الفلسفية ومع ذلك انتقد هيدغر وغادا مير على هذه الخطوط التي وضعوها، انتقدهما في كتابه «رسالة في الهرمينوطيقا» وقال: إن هذه الفلسفة لا يمكن أن تتحاور مع العلوم الإنسانية ولا أن تجد لها طريقاً للعمل، فكيف تستطيع هذه النظرية أن تتحاور مع العلوم الإنسانية إذا كانت المعارف نسبية؟ الحوار فرع وجود مادة مشتركة بين الطرفين، الحوار فرع وجود قواعد يستند إليها ويحاكم بعضهم البعض على ضوئها، فإذا كانت المعرفة نسبية إذن لا يوجد مادة مشتركة ولا قواعد مشتركة بين الطرفين، ولا يمكن أن يتم حوار مع أي علم من العلوم الإنسانية، ولا يمكن لأي نظرية أن تجد طريقها للعمل. فحتى تعمل هذه النظرية لابد أن توجد مادة مشتركة بينها وبين النظريات الأخرى.
     
  • ايميلو بيتي فيلسوف إيطالي 1986م، يقول اشتراط الفهم بالقبليات خطر على العلوم الإنسانية.
     
  • إريك هارتش عالم أمريكي ولد عام 1928 في كتابه الاعتبار في التفسير انتقد أيضاً هذه النظرية بأنها لا توصل إلى شيء.

الملاحظة الثالثة:

كل فهم منوط بالقبليات، إذن أول فهم لأول نص كيف حصل؟ أول فهم لأول نص كيف يفهمه الإنسان وهو لا يمتلك قبليات؟ كيف نفسر ذلك؟ كيف نجعله موائماً لهذه النظرية؟

 الملاحظة الرابعة: هذه النظرية المهم فيها هو أن تعزل المتكلم وأن تنظر إلى النص وحده، تريد أن تفهم كلام الله لا تلتفت إلى الله بل إلى النص وحده، نحن والنص فقط، نظرية الهرمينوطيقا الفلسفية تشير إلى أنه لا يمكن تفسير النص على ضوء مراد المتكلم لأن بينك وبين المتكلم مسافة زمنية، بيننا وبين النبي مسافة ألف سنة، بيننا وبين المتنبي مسافة ألف سنة فكيف نفسر كلامه على ضوء مقصوده؟ بيننا وبين صاحب النص مسافة زمنية ساحقة ونتيجة هذا الفاصل الزمني لا يمكننا أن نفسر النص على ضوء مراد المتكلم، كما لا يمكن إعادة الحياة لا يمكن إعادة عالم المتكلم وقصد المتكلم، إذن لابد أن نعزل المتكلم عن النص ونكون نحن مع النص، وهذا الذي قلنا أن التفسير هو عبارة عن حوار ديالكتيكي بين المفسر وبين النص مع عزل مقصود المتكلم.

إذا عزلنا مقصود المتكلم وتعاملنا مع النص، فإن عزل المتكلم عن النص الذي تكلم به يعني إلغاء النقد الأدبي، إلغاء علم النقد، إلغاء الانتساب، عندما يأتيني نص من المتنبي وأريد أن أنقده كيف أنقده؟ لا أستطيع نقد المتنبي لأنني لا أستطيع أن أصل إلى مراده، فماذا أنقد؟!

مثلاً قولٌ من أبي العلاء المعري:

هذا ما جَنَاهُ عَلَيَّ أَبي *** وما جَنَيْتُ عَلَى أَحَدْ

مطلع بيت شعري طلب أن يُكتب على قبره بعد موته، يقول فيه أن الذي جنى عليه هو والده لأنه أولده فلو لا أن أباه أولده ما مات، ولو لا أن أباه أولده ما وصل إلى القبر، فالذي أوصله إلى القبر هو أباه، فلم يتزوج ولم ينجب حتى لا يجني على أحد.

كيف تنتقد هذا النص وأنت لن تصل إلى مراد المتعري؟ بالنتيجة نقد النص إذا كان نقداً لمراد المتكلم فأنت لا يمكنك الوصول إلى مراده، وأما إذا كان نقداً للنص في حد ذاته فلا أثر لهذا النقد، إذن نتيجة هذه النظرية هو إلغاء علم النقد وبالتالي لا يصح من هيدغر وغادا مير نقد نظريات شلايماخر أو نظريات فيلهلم دلتاي، حيث أنهما كتبا نقداً واضحاً لنظريتي مَنْ قبلهما، كيف ينقدوهما والحال أنه لا يمكن الوصول إلى مراد المتكلم!

ونتيجة هذه النظرية أيضاً إلغاء الانتساب، فلا تستطيع نسب أي كلام إلى أحد، نظريات علم النفس ونظريات علم الإدارة ونظريات علم القانون لا نستطيع أن ننسبها إلى أصحابها لأننا لا نستطيع أن نصل إلى مرادات ومقاصد أصحابها لأنه لا يمكننا أن ننسبها إليهم، من هنا نقول إلى أرباب هذه النظرية ألا وهما هيدغر وغادا مير: إذا كان لا يمكن الوصول إلى مراد المتكلم إذن لا يمكن الوصول إلى مرادكما من هذه النظرية.

ما دام لا يمكن الوصول إلى مرادات المتكلمين ولا معرفة مقاصدهم إذن لا يمكننا الوصول إلى مقاصد هيدغر وغادا مير من نظريتهما وإذا لم يمكن الوصول إلى مقصودهما إذن رسالتهما التي أرادا أن يوصلاها للمجتمع البشري لن تصل، وكذلك أيُّ إنسان عنده رسالة يريد أن يوصلها إلى المجتمع البشري لا يمكن أن تصل لأن المحورية لفهم النص للمفسر وليس للمتكلم، ومراد المتكلم لا يمكن الوصول إليه مع المسافة التاريخية الخانقة الفاصلة بينهما، فمن اللغو أن يتصدى علماء النفس والاجتماع وعلماء الإدارة إلى تأسيس النظريات وإبداعها من أجل خلق قواعد تميز بين الصحيح والخطأ لأن كل هذه الرسائل لا يمكن أن تصل إلى المجتمع البشري.

الملاحظة الخامسة:

نحن كمسلمين متدينين أو كقراء للأدب، أو قراء للتاريخ، قراء لأي نص من النصوص، كيف نتعامل مع النصوص؟ صحيح أنه لا يمكن فهم النصوص بدون قبليات ولكن ما هي القبليات؟ لابد من الدقة في هذه النقطة، القبليات على ثلاثة أقسام: قبليات آلية، قبليات استنطاقية، وقبليات استخراجية.

1. القبليات الآلية:

هي العلوم الآلية التي لابد منها في فهم النص، والعلوم الآلية هي اللغة والأدب والمنطق، هذه علوم لا يستغنى عنها في فهم أي نص، مثلاً يقول الله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [البقرة: 256] هذا النص يحتاج لغة ويحتاج أدب ويحتاج منطق لفهمه، ما معنى الإكراه لغة؟ معنى الدين، معنى الرشد؟

وتحتاج إلى الأدب وهو الذي يدرس تركيب الكلام، ﴿لَا إِكْرَاهَ هل هي جملة نافية أو جملة ناهية، هل هي جملة خبرية أم جملة إنشائية، الأديب هو من يحدد ذلك.

وتحتاج إلى علم المنطق ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ هل هي قضية كلية أو جزئية؟ هل هي قضية حقيقية تعم كل الأزمنة أو هي قضية خارجية تختص بزمن النبي؟

إذن تحتاج إلى علوم آلية لفهم النص، هذه قبليات لابد منها.

2. القبليات الاستنطاقية:

وهي القبليات التي تثير الأسئلة بحيث يراد استنطاق النص واستخراج الأجوبة من النص عليها، القبليات الاستنطاقية أيضاً صحيحة ومشروعة في فهم النص، وهي تعتمد على المقارنة بين النص وبين غيره، فعندما يأتي المفسر أو القارئ ليقرأ هذه الآية المباركة: ﴿أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة: 275] يقول ما هو المغزى من الآية؟ هل المغزى طرح قانون أو شيء آخر؟ هذا القانون أين تطبيقاته في الفقه الإسلامي؟ هذا سؤال استنطاقي مشروع.

أو عندما يأتينا نص من إنسان كقول الشاعر الفرزدق: هَذا الَّذي تَعرِفُ البَطحاءُ وَطأَتَهُ *** وَالبَيتُ يَعرِفُهُ وَالحِلُّ وَالحَرَمُ

إذا درست النص تقول من هو المؤلف، ما هي خلفيته الثقافية، في أي ظرف صدر منه هذا النص؟ كان ناظراً لأي جهة عندما صدر منه هذا النص الأدبي؟ هذه كلها أسئلة استنطاقية مشروعة حتى يتضح تفسير النص بالشكل الواضح.

3. القبليات الاستخراجية:

هي عملية تقويم، فبعد فهم النص بالعلوم الآلية واستنطاق معاني النص من خلال المعلومات الاستنطاقية والتوقعات والأسئلة تأتي مرحلة التقويم أي حدود المضمون والمعنى، وهذا ما نسميه بالقبليات الاستخراجية، يعرض النص على الثوابت العقلية والعقلائية، هل هذا النص ينسجم مع الثوابت العقلية والعقلائية؟

عندما نقرأ قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ «22» إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ «23» [القيامة: 22 - 23] ناضرة تختلف عن ناظرة، الناضرة من النضرة البهاء، ناظرة أي مبصرة. وبعد أن فهمنا النص تأتي مرحلة التقويم هل هذا المعنى ينسجم مع الثوابت العقلية؟ لا ينسجم لأن الله لا يرى ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ [الأنعام: 103] الله ليس جسماً حتى يُرى وليس في جهة معينة حتى يرى، إذا ما معنى أنها ناظرة؟ تعني أنها ناظرة إلى رحمة ربها، إلى نعمة ربها، إلى لطف ربها.

ونعرضه على الثوابت العقلائية هل هذا النص مقبول في الثوابت العقلائية؟ هل هذا النص مقبول عند العقلاء؟ عندما يُنقل عن النبي محمد : لا ضرر ولا ضرار في الإسلام. هل هذا ينسجم مع البناءات والمرتكزات العقلائية؟ نقول نعم، العقلاء أيضاً يقولون يحرم الضرر ويحرم الضرار، العقلاء أيضاً يقولون لا يلزمك أي قانون يكون بالضرر عليك، هذا ينسجم مع المرتكزات العقلائية.

هذه القبليات الصحيحة، أما القبليات الظنية بمعنى أننا نريد أن نفرض ثقافتنا على النص، ونريد أن نحمّل النص ثقافة خاصة بنا لا يحتملها بحجة تعدد القراءات، بينما هو نص مطلق، النص يقول: ﴿أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة: 275] كلمة ربا مطلقة تشمل الإنتاجي والاستهلاكي، وتشمل الربا بين شخصين، وبين شركتين، وبين شخص وشركة.... إلخ، بلا فرق، الحكم مطلق، والعرب إذا ورد عليهم نص مطلق يتمسكون بإطلاقه، ولكن فقط لأنني لست مقتنعاً بالإطلاق أفرض قناعتي على النص وأقول هذا النص لا يشمل الربا الإنتاجي!

أو عندما آتي إلى قوله تعالى: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء: 11] كيف يعطى الذكر سهم أكبر من الأنثى؟ لست مقتنعاً بذلك، فأقول لابد أنه يقصد بالحد الأدنى والحد الأعلى أي لا يأخذ الذكر من الميراث أكثر من 66% ولا تأخذ المرأة من الميراث أقل من 33%، فالآية تحدد الأعلى والأدنى لا تحدد حد حاسم، أي ليس دائماً ميراث الذكر ضعف ميراث الأنثى، الآية تتكلم عن الحد الأعلى والحد الأدنى، فقط لأنني لست مقتنعاً فأفرض قناعتي على النص.

إذن فرض الثقافة أو معلومات ظنية على النص وتحميلها دون أن يكون النص ظاهراً بحسب العرف العربي واللغة العربية فيها هو الذي نقول عنه بأنه مرفوض ولا يدخل في تعدد القراءات، للنص قراءة واحدة وهي التي تعتمد على القبليات الآلية والاستنطاقية والاستخراجية وليس له قراءات عديدة لأن النص في إطار قصد المتكلم وفي إطار مراد المتكلم، ومراد المتكلم وقصده إنما يتم تحديده عبر القبليات بأنواعها الثلاثة.

الملاحظة السادسة:

حتى لو سلمنا بهذه النظرية كلها إلا أننا لا نسلم بها في النصوص المقدسة نصوص القرآن والسنة لأن هذا القرآن وحي نازل من السماء، نزل من السماء لهدف معين فلو ألغينا مراد الله لم تصل رسالة السماء إلى الأرض، يقول القرآن الكريم: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد: 25] الهدف من الأنبياء والرسل هو تحقيق العدالة والقسط، فإذا كانت رسالة السماء لا يمكن لنا أن نفهمها لأن مراد المتكلم لا يمكن أن نصل إليه لوجود المسافة التاريخية بيننا وبينه إذن لن نفهم مراد الله، وسوف يكون فهم القرآن عبر قراءات عديدة، لا تصويب لقراءة على قراءة أخرى، فإذا لم نصل لمراد الله لن تصل إلينا رسالة الله، وإذا لم تصل إلينا رسالة الله صار ذلك نقضاً للهدف الذي من أجله أرسل الأنبياء والرسل.

إذن إرسال الأنبياء والرسل لغو لأن الرسائل التي أُعطيت للأنبياء والرسل لا يمكن أن تصل إلى الناس، لأنه لا يمكن فهم مراد المؤلف والمرسل، لأن فهم كل نص يخضع لقراءات عديدة، فإذا لم تصل رسالة السماء سوف يكون إرسال الأنبياء والرسل لغواً واللغو لا يصدر من الحكيم المطلق عز وجلَّ، لأجل ذلك النصوص المقدسة نصوص القرآن ونصوص السنة المعصومية تخضع للمنطق العقلائي والفهم العقلائي العرفي في تحديد معانيها لا أنها تخضع للقراءات المتعددة، ولو لم تكن ذات ركائز علمية منطقية.

ولذلك استوعب الجيل الأول رسالة السماء، وناضل من أجل رسالة السماء لأنه فهم الرسالة، وعرف أهدافها وناضل من أجلها ولذلك قال من هو في طليعة الجيل الأول الذين حملوا الرسالة وناضلوا من أجلها قال: والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت، وقال: والله لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً. وقال عنه رسول الله : علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار.

هكذا هو عليّ فدى الرسالة بنفسه وجهده؛ لأنه حمل أهداف الرسالة، وهكذا هم أبناء عليّ وأشبال عليّ عندما يقول: ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وجذور طابت، حجور طهرت.