الليلة الرابعة من شهر محرم الحرام 1445هـ

الفتوحات الإسلامية، انتصار أم احتلال؟

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة: 190]

صدق الله العلي العظيم

انطلاقاً من الآية المباركة يكون حديثنا حول الفتوحات الإسلامية التي وقعت بعد عصر الرسول المصطفى ، هل هذه الفتوحات كانت انتصاراً حضارياً للإسلام أم كانت احتلالاً للبلدان واستغلالاً للثروات؟

قبل أن ندخل في البحث لابد أن نتعرض للقاعدة الفقهية لدى الفقه الإمامي، تقول القاعدة أن القتال إنما يصح إذا كان بإشراف الإمام المفترض الطاعة، وعندنا عدة روايات صحيحة عن أهل البيت تدل على ربط القتال بالإمام، عن أبي بصير عن أبي عبد الله الصادق ، عن آبائه، عن الإمام أمير المؤمنين علي قال: لا يخرج المسلم في الجهاد مع من لا يؤمن على الحكم ولا ينفذ في الفيء أمر الله عز وجلّ فإنه إن مات في ذلك المكان كان معيناً لعدونا في حبس حقنا، والإشاطة بدامائنا، وميتته ميتة جاهلية.

وفي رواية أخرى يسأل بشير الدهان الإمام الصادق يقول: إني رأيت في المنام أنك قلت لي إن القتال مع غير الإمام المفروض طاعته حرام مثل الميتة والدم ولحم الخنزير. قال أبو عبد الله الصادق : هو كذلك، هو كذلك.

من هنا وقع البحث بين فقهائنا في أن الفتوحات التي حصلت بعد عصر النبي هل خضعت لنظر الإمام المعصوم أم لا، بعض فقهائنا ومنهم السيد الخوئي قدس سره في كتابه مصباح الفقاهة[1]  ذهبوا للقول بعدم ارتباط الفتوحات بالإمام المعصوم إلا في أرض العراق، حيث إن الإمام أمير المؤمنين علي أمضى الملكية التي حصلت للفيء والأنفال فيها.

وذهب البعض الآخر إلى أن الفتوحات مرتبطة بالإمام المعصوم وأن الإمام أمضاها، ومن هؤلاء الشيخ البحراني صاحب الحدائق في كتابه الحدائق الناضرة[2] ، والشيخ صاحب الجواهر في كتابه جواهر الكلام[3] .

والسيد الخوئي نفسه له رأيان وهو القول بإمضاء هذه الفتوحات من قِبَل الإمام المعصوم وقد ذكر ذلك في موسوعته الفقهية[4] ، فالمسألة محل بحث بين علمائنا.

ونحن الآن نريد أن نبحث الفتوحات الإسلامية في محورين:

  • تقويم الفتوحات الإسلامية سنداً ومضموناً من الناحية التاريخية.
  • تقويم الفتوحات الإسلامية من الناحية الحضارية.
المحور الأول: تقويم الفتوحات الإسلامية سنداً ومضموناً من الناحية التاريخية.

نحن لا نبحث عن أصل الفتوحات حدثت أم لم تحدث هي بالتأكيد حدثت، ولا نبحث هل الفتوحات كانت منتصرة من تمام الجهات أم لا، لأنك إذا أردت أن تدرس هذا البحث وتكون موضوعياً فيه لابد أن تقرأ روايات الطرفين، الغالب والمغلوب، أنت غالباً تقرأ روايات الغالب وهي روايات المسلمين لكن لابد أن تقرأ أيضاً روايات الذين غُلبوا وفتحت بلدانهم لا أن نقتصر على روايات الغالب وماذا قال عن نفسه في هذه الفتوحات من حيث الانتصارات ومن حيث الفوز، ومن حيث الظفر، لذلك نحن لا نبحث هذه الجهة، نحن نبحث جهة واحدة فقط من الناحية التاريخية وهي هل أن هذه الفتوحات ارتبطت بالإمام المعصوم أم لا؟

عندما تأتي إلى الكتَّاب الإمامية من علماء الشيعة تجدهم مختلفين، وهم بين اتجاهين: اتجاه مؤيد واتجاه غير مؤيد.

الاتجاه المؤيد يقول نعم هذه الفتوحات من الناحية التاريخية مرتبطة بالإمام المعصوم، ومن هؤلاء سماحة الشيخ علي الكوراني حفظه الله في كتابه قراءة جديدة في الفتوحات الإسلامية، ويذهب إلى أن الفتوحات وقعت بإشراف الإمام المعصوم إذناً أو إمضاءً.

ما هي الوجوه التاريخية التي استند إليها أصحاب القول بأن الفتوحات الإسلامية استندت فعلاً للإمام المعصوم وأنه أمضاها ورضي بها؟

الوجه الأول:

خطبة في نهج البلاغة تنسب إلى الإمام علي يشكو فيها ظلامته من قريش، ويذكر مظالم قريش له، ومنها يذكر أن قريش نسبت الفتوحات لغيره وأهملته وهذا يعني أنه كانت له يد في الفتوح وأن قريش ظلمته عندما نسبت الفتوحات الإسلامية لغيره، يقول في الخطبة: لو لا أن قريشاً جعلت اسمه ذريعة إلى الرئاسة وسلماً إلى العز والإمرة لما عبدت الله بعد موته يوماً واحداً ولارتدت في حافرتها، ثم فتح الله عليها الفتوح فأثرت بعد الفاقة وتمولت بعد الجهد المخمصة، فحسن في عيونها من الإسلام ما كان سمجاً، وثبت في قلوب كثير منها من الدين ما كان مضطرباً وقالت لو لا أنه حق لما انتصر، ثم نسبت تلك الفتوح إلى آراء ولاتها وحسن تدبير الأمراء القائمين بها فتأكد عند الناس نباهة قوم وخمول آخرين، فكنا نحن ممن خمل ذكره وخبت ناره وانقطع صوته وصيته حتى أكل الدهر علينا وشرب، ومضت السنون والأحقاب بما فيها ومات كثير ممن يعرف، ونشأ كثير ممن لا يعرف.

المدلول لهذه الكلمات أن الفتوح مستندة للإمام علي ولكن قريش نسبتها لغيره، ولأن قريش نسبتها لغيره خمل ذكره وأكل الدهر عليه وشرب، فالإمام يتظلم من أن الفتوح نسبت لغيره، وهذا دليل على أن الإمام يرى أن له يداً في الفتوح التي حصلت ولذلك يتظلم من نسبتها لغيره.

هذا الوجه عندنا محل تأمل، لابد أن نثبت أولاً أن هذه الخطبة للإمام علي لا يكفي أنها موجودة في نهج البلاغة حتى نقول هي للإمام، وإثبات أن الخطبة صدرت من الإمام علي يحتاج إلى أحد وجهين: إما سند متصل إلى الإمام علي يثبت لنا أن الخطبة صدرت منه، وإما أن الخطبة من حيث علو المضمون وحسن السبك وروعة العرض تنسجم مع خطب الأمام علي الأخرى المعروفة فيكون هذا دليلاً على صدورها من الإمام علي ، وكلاهما لم يتوفر في هذه الجملة.

أما الشاهد الأول فهذه الخطبة ليس لها سند أبداً، المرحوم العلامة السيد عبد الزهراء الخطيب في كتابه مصادر نهج البلاغة وأسانيده قام بجهود جبارة أثبت من خلال هذا الكتاب أن أغلب خطب نهج البلاغة صدرت عن الإمام وجاء بأسانيد وذكر لها مصادر، ولكن بقيت خطب مجملة ومنها هذه الخطبة، ليس لدينا أي سند يثبت اتصالها بالإمام علي .

وأما الشاهد الثاني علو المضمون وحسن السبك وروعة الأداء لم تتوفر في هذا المقطع على الأقل من الخطبة، عندما تقارنها مثلاً مع الخطبة الشقشقية وهي الخطبة المشهورة عن الإمام علي، خطبة عالية المضامين، حسنة السبك، رائعة الأداء واضح انسجامها مع النفس الأدبي مع الإمام أمير المؤمنين عليّ ، وقد ذكر ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة[5]   وهو من أهل السنة  عن مصدق بن شبيب الواسطي عن أستاذه ابن الخشاب أن الخطبة الشقشقية من الإمام علي .

فإذن بالنتيجة نحن لا نستطيع أن نركن على هذه الخطبة كدليل على انتساب الفتوحات للإمام أمير المؤمنين عليّ .

الوجه الثاني:

رواية ذكرها الشيخ الصدوق رحمه الله في كتاب الخصال[6]  وقد تضمنت هذه الرواية تصريح الإمام علي بأن الخليفة الثاني كان يشاوره في الأمور ويأخذ برأيه، قال: وأما الرابعة أي من المواطن التي امتحن الله بها الإمام علي بعد النبي صلوات الله عليهما وآلهما قال فإن القائم بعد صاحبه  يقصد الخليفة الثاني  كان يشاورني في موارد الأمور فيصدرها عن أمري ويناظرني في غوامضها فيمضيها عن رأيي، لا أعلم أحداً ولا يعلم أصحابي أحداً يناظره في ذلك غيري.

إذن إذا كانت الأمور تحت مشورة الإمام علي فإن من أهمهما أمور الحرب والفتح التي حصلت في ذلك العهد، فتح العراق فتح مصر، فتح فلسطين، هذا معناه أن ذلك تم تحت نظر الإمام علي ورأيه.

نقول عن هذه الرواية أن سندها مشتمل على جهال وضعاف، ورواية الشيخ الصدوق لها في كتابه الخصال لا يعني اعتماده عليها أو عمله بها.

الوجه الثالث:

مشاركة الحسنين في القتال لفتح شمال إفريقيا وفتح طبرستان، وهذه الرواية لم يتعرض لها الشيخ الكوراني وإنما تعرض لها علماء آخرون، العلامة البحاثة المرحوم الشيخ باقر القرشي في كتابه موسوعة أهل البيت[7] ، والعلامة المرحوم السيد هاشم معروف الحسني في كتابه سيرة الأئمة الإثني عشر[8] ، ذكرا هذه الرواية وتبنياها، بل الشيخ القرشي يعلق على الرواية بعد أن يذكرها فيقول: ورجع الحسن وقلبه مفعم بالسرور والارتياح لتوسع النفوذ الإسلامي وانتشار دين جده، وقال معلقاً على الرواية الثانية: أن الإمام الحسن ألقى الستار على ما يكنّه في نفسه من الاستياء على ضياع حق أبيه، وهو درس رائع يجب أن تستفيد منه الأحزاب السياسية.

كتب الباحث الأستاذ حسن الشيخ عبد الأمير الظالمي بحثاً بعنوان الإمام الحسن والفتوحات الإسلامية، وقد نُشر في مركز الإمام الحسن للدراسات التخصصية التابع للعتبة الحسينية، وهنا روايتان: رواية مشاركة الحسنين في فتح شمال أفريقيا، ورواية مشاركة الحسنين في فتح طبرستان.

الرواية الأولى رواها ابن خلدون في تاريخيه المسمى بالعبر[9]  قال: جهز عثمان جيشاً بقيادة عبد الله بن أبي سرح عام 26 هـ  لفتح شمال إفريقيا، وفي الجيش عبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر والحسنان. هذه الرواية ليس لها سند، وابن خلدون توفي عام 808 هـ  أي في القرن التاسع والحادثة في القرن الأول فلابد من طريق يربط بين القرنين ولا يوجد طريق إذن الرواية مرسلة لا يعتمد عليها.

والرواية الثانية هي رواية الطبري والطبري هو أول من روى هذه الرواية في كتابه تاريخ الأمم والملوك، توفي الطبري عام 310 هـ وهو من أعلام القرن الرابع، هذه الرواية التي رواها الطبري لدينا عدة ملاحظات عليها:

  1. الملاحظة الأولى: صحيح أن الرواية لها سند ولكن السند يتكون من ثلاث وسائط ما سوى من نقل الرواية للطبري، وبين القرن الرابع والقرن الأول نحتاج إلى أربع أو خمس وسائط على الأقل لذلك السند فيه ضعف من هذه الجهة، وذلك معناه أن هناك نقطة خفية في هذا السند.
     
  2. الملاحظة الثانية: ابن سعد المتوفى عام 230 هـ   وهو قبل الطبري  في طبقاته، واليعقوبي المتوفى عام 282هـ، أيضاً سبق الطبري  في تاريخه لم يذكرا في اشتراك الحسنين في المعركة إطلاقاً.
     
  3. الملاحظة الثالثة: مصادر الإمامية ما ذكرت هذه الرواية، عندما ترجع لكتاب الإرشاد للشيخ المفيد أو كتاب المناقب لابن شهر آشوب ما ذكرا هذه الرواية أصلاً، وخلو كتب الإمامية من الرواية يوجب غمزاً وعلامة استفهام على الرواية.
     
  4. الملاحظة الرابعة: رواية فتح طبرستان «يقول الطبري في أحداث سنة 30هـ عن حنش بن مالك غزا سعيد بن العاص من الكوفة خراسان، ومعه حذيفة بن اليمان والحسنان، فصالح أهل قومس ونهاوند حتى وصل إلى تخوم جرجان إلى بلدة تسمى طميسة وحاصر أهلها فسألوه الأمان فأعطاهم الأمان فلما أعطاهم الأمان فتحوا الحصن له فقتلهم جميعاً» الرواية مشتملة على مدلول يتنافى مع روح القرآن الكريم ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ [التوبة: 6]، وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [الأنفال: 61] وقوله: ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا [النساء: 90]

فإذا كانت هذه الحادثة وقعت فعلاً فكيف نتصور وجود الحسنين وعدم اعتراضهما على ما حصل حيث لم تنقل الرواية عنهما مع أنها نقلت تفاصيل المعركة! إذن هذا يدل على غمز في الرواية وبالتالي لا يعتمد عليها في إثبات مشاركة الحسنين فيما حصل من فتح شمال إفريقيا أو فتح طبرستان.

الوجه الرابع:

مشاورة الخلفاء الإمام علي في أمور الحرب، وقد أشار عليهم بذلك كما في تاريخ اليعقوبي[10] ، وتاريخ دمشق[11] ، وفي نهج البلاغة[12] ، قال اليعقوبي: أراد الخليفة الأول أن يغزو الروم فشاور جماعة من أصحاب الرسول فقدموا وأخروا، فاستشار علي بن أبي طالب فأشار عليه أن يفعل قال: إن فعلت ظفرت، فقال بشرت بخير.

وفي تاريخ دمشق قال: عرض أبو بكر على القوم أن يغزو الروم أم لا وعليٌّ في القوم ولكنه لم يتكلم فقال: ماذا ترى يا أبا الحسن؟ قال: أرى أنك إن سرت إليهم بنفسك أو بعثت إليهم نُصرت عليهم إن شاء الله. فقال: بشرك الله بخير ومن أين علمت ذلك؟ قال: سمعت رسول الله يقول لا يزال هذا الدين ظاهراً على كل من ناوأه حتى يقوم الدين وأهله ظاهرون. قال: سبحان الله ما أحسن هذا الحديث لقد سررتني به سرك الله.

وكذلك قد أشار على الخليفة الثاني بفتح فارس كما في نهج البلاغة حيث استشاره في ذلك فأشار عليه.

هذه الروايات تقول أن الإمام علي قد استشير في القتال والحرب وأشار بذلك وهذا دليل واضح على مباركة الإمام علي لتلك الفتوحات.

الوجه الخامس:

بعض المؤرخين ذكر أن خُلّص أصحاب الإمام علي شاركوا في الفتوحات كخالد بن سعيد بن العاص وهو من أصحاب الإمام علي شارك في فتح فلسطين، ومالك الأشتر، ومعد يكرب شاركا في معركة اليرموك، وسلمان الفارسي، وهاشم المرقال، وحجر بن عدي شاركوا في معركة القادسية، مشاركة هؤلاء المتقيدين المتثبتين بالإمام علي يدل على مباركته وإمضائه وإلا لا يُتصور منهم المشاركة مع عدم رضا الإمام أمير المؤمنين علي .

لدينا ملاحظتان على الوجه الرابع والخامس:

  1. الملاحظة الأولى: فتح القادسية «العراق» وفتح بلاد فارس «المحيطة بالعراق» وفتح مصر هي فتوحات حصلت لا خلاف على ذلك، وليس من البعيد أن الإمام علي بارك وأمضى ذلك، وهذه الروايات التي دلت على أن الإمام علي استُشير في فتح فارس أو في فتح مصر فأشار عليهم بذلك هي روايات ليست بعيدة، ولكن ذكر المؤرخون أيضاً أن الإسلام انتشر بكثرة في العراق وفارس ومصر قبل الفتح أي أن الفتح ما أوجد شيئاً جديداً، الإسلام كان منتشراً فيها، كما انتشر الإسلام في إندونيسيا وماليزيا عبر التواصل التجاري والعلاقات بين المسلمين وبين أهل ماليزيا وإندونيسيا هنا أيضاً مصر والعراق وفارس انتشر فيها الإسلام قبل الفتح بحيث أصبحت رقعة المسلمين رقعة كبيرة فكتبوا كتباً للخليفة في المدينة يستنصرونه أنقذنا من حكامنا حتى ندخل تحت راية الإسلام، هنا بارك الإمام أمير المؤمنين علي   إذا صحت الرواية  الفتح لأنه كان إنقاذاً لتلك الشعوب المسلمة.
     
  2. الملاحظة الثانية: هناك رواية يذكرها ابن أعثم في تاريخه ترشد إلى أن الإمام علي لم يكن يرغب بالقتال، بل بالصلح وهو ما ذكرته الرواية «يذكر ابن أعثم في فتوح البلدان[13]  أن الخليفة الأول استشار الخليفة الثاني قال: رأيت أن أجعل الأمر بيد علي بن أبي طالب أمر الحرب  لعلمه وخبرته بالحرب وقربه من رسول الله . أجابه الخليفة الثاني: إن علياً كما ذكرت وفوق ما وصفت ولكني أخاف عليك خصلة واحدة منه، أخاف أن يأتي لقتال القوم فلا يقاتلهم فإن أبى ذلك فلن تجد أحداً يسير إليهم إلا على المكروه، ولكن ذر علياً يكون عندك بالمدينة فإنك لا تستغني عنه».

إذن هذه الرواية تعارض تلك الروايات، لأن هذه الرواية تقول أن الإمام علي كان نَفَسه على الصلح ولم يكن على القتال.

بعد مناقشة هذه الروايات التاريخية نقول: عدم الدليل ليس دليلاً على العدم، ليس لدينا دليل على عدم الحصول، ولعل هذه الروايات صحيحة وصادقة، لعله فعلاً خضعت الحروب والفتوحات لرأي الإمام علي ومشورته إنما نقول لم نصل إلى دليل لا أننا نقول وصلنا إلى دليل على العدم، ممكن أن هذه الفتوحات وقعت برأي الإمام علي وإشرافه، ولذلك قلنا أن مجموعة من الباحثين الشيعة يرون ذلك ويعتبرونها وقعت بإذن الإمام علي وإشرافه، ولكن نحن نقول لم نصل إلى دليل لا أننا نقول وصلنا إلى دليل على العدم.

المحور الثاني: تقويم الفتوحات من الناحية الحضارية.

هنا اتجاهان يطرحهما الباحثون  من الشيعة وغير الشيعة :

الاتجاه الأول: اتجاه سلبي.

يقول هذا الاتجاه: الفتوحات كانت احتلالاً وتدميراً وقهراً للشعوب، واستغلالاً لثرواتهم واسترقاق للرجال والنساء، هذه الفتوحات بنظر قسم من الباحثين المسلمين وغير المسلمين شوهت صورة الحضارة الإسلامية لأنها كانت عبارة عن قتل وسبي وتدمير واستغلال للثروات.

يروي جملة من المؤرخين أن بعض الصحابة كانوا فقراء وبعد الفتوحات أصبحت لديهم ثروات حتى أن بعضهم كانت ثروته من الذهب والفضة تقطع بالكؤوس من كثرتها، فيقولون هذا استغلال للثروات ويتنافى مع قول القرآن الكريم: ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] حتى لا يصبح تكديس الثروات لدى جماعة دون جماعة.

الاتجاه الثاني: اتجاه إيجابي.

صحيح أن الفتوحات اقترنت بأخطاء واستغلال وسبي ولكن الرقعة الإسلامية التي امتدت من الهند إلى الأندلس هذه الرقعة الإسلامية مثلت حضارة إسلامية شامخة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، ولعل الأئمة باركوا هذه الفتوحات لأنها ستوصل المسلمين إلى هذه الحضارة الشامخة، لم تكن الحضارة الإسلامية مباني وأطلال، الحضارة الإسلامية التي نشأت بعد الفتوحات كانت حضارة علمية وفكرية وما زالت آثارها إلى الآن، فهذه الحضارة تستحق التبجيل والإعظام والاعتزاز والفخر، وقد صرَّح بفضل الحضارة الإسلامية وأشاد بمجدها الغرب قبل العرب ومن جملتهم:

1» غوستاف لوبون وهو أحد علماء الأنثروبولوجيا ومؤرخ وطبيب فرنسي في كتابه حضارة العرب[14]  قال: إن العرب أصحاب الفضل في معرفة أهل القرون الوسطى لعلوم الأقدمين، وإن جامعات الغرب لم تعرف لمدة خمسة قرون مورداً علمياً سوى مؤلفات العرب، وأن العرب هم الذين مدنوا أوروبا مادة وعقلاً وأخلاقاً، وأن التاريخ لم يعرف أمة أنتجت ما أنتجه العرب في وقت قصير، ولم يفقهم أحد في الإبداع الغني.

ثم يقول: حقاً من أعاجيب التاريخ أن يلبي نداء ذلك الشخص الشهير  يقصد النبي محمد  شعب جامح شديد الشكيمة، لم يقدر على قهره فاتح، وأن تنهار أمام اسمه أقوى الدول، ولا يزال يمسك وهو في جدثه ملايين من الناس تحت لواء شرعه.

ويقول[15] : لقد أنجز العرب في ثلاثة قرون أو أربعة من الاكتشافات ما يزيد على ما حققته الأغارقة في زمن أطول من ذلك بكثير، وكان تراث اليونان العلمي قد انتقل إلى البيزنطيين فما استفادوا منه شيئاً، ولما آل إلى العرب حولوه إلى أمر بحيث أصبح مخلوقاً آخر فلم نطلع على علوم قدماء اليونان والروم إلا بفضل العرب.

ويقول[16] : إذا رجعنا إلى القرن التاسع والعاشر من الميلاد كانت الحضارة الإسلامية في الأندلس ساطعة جداً، وكانت مراكز الثقافة في الغرب أبراجاً يسكنها سنيورات متوحشون يفخرون بأنهم لا يقرؤون، ودامت همجية أوروبا زمناً طويلاً إلى القرن الحادي عشر، ولم تكن الحرب الصليبية سبباً في إدخال العلوم إلى أوروبا كما يُردَّد على العموم وإنما دخلت العلوم أوروبا من أسبانيا  يعني عن طريق العرب  وصقلية وإيطاليا بواسطة مكتب المترجمين في طليطلة منذ سنة 1130م، حيث نقلت أهم كتب العرب وتُرجِمت إلى اللاتينية تحت رعاية رئيس الأساقفة ريمون.

وما وصل إليه حال شبابنا اليوم لا فخر فيه، الشاب لا يقرأ كتاب ولا يدقق في معلومة ولا يركز، تنطلي عليه الأكاذيب والمقاطع الصغيرة التي تنشر في وسائل التواصل، يبحث عن المعلومة المشتتة، كان شبابنا في الستينات والسبعينات يدأبون على الثقافة والقراءة والتركيز لذلك كانت رقعة الثقافة رقعة كبيرة في العراق ومصر والخليج والشام، ولكن أصبح الشاب الآن يعيش على فتات كلمات ومعلومات مبتورة يأخذها من وسائل التواصل وقد يعتمد عليها، ونتيجة لهذا الفقر الثقافي وهذا الهبوط في المستوى الثقافي أصبح المنبر في حيرة لا يعرف الخطيب ماذا يعرض من معلومات لأن الشباب غير معتادين على القراءة والتركيز، وغير معتادين على التدقيق في المعلومات، هذه مشكلة وعبء كبير نتيجة البعد عن الثقافة.

2» مجلة نيجر وهي مجلة إنجليزية دورية عالمية أسبوعية رائدة في مجال العلوم، يعتبرها الباحثون مرجعاً للأبحاث العلمية والأخبار الموثوق بها، تحدثت عن الحسن بن الهيثم المولود في مدينة البصرة عام 965م، له كتاب شهير اسمه المناظر ويقع في سبع مجلدات، تقول المجلة: كان تأثير الكتاب هائلاً على مناهج التفكير في كل التخصصات ابتداءً من نظرية إدراك الرؤية إلى نظرية طبيعة المنظور في العصور الوسطى في الشرق والغرب لمدة ستة قرون.

ثم تقول: تأثر به الباحثون الأوروبيون والفلاسفة ومن جملتهم ديكارد، وجاليلو، وعلماء أحياء وفيزياء تأثروا واستفادوا من الكتاب، ولا يقل تأثير كتاب المناظر عن تأثير كتاب نيوتن البصريات.

3» كتاب العلوم والهندسة في الحضارة العربية للمؤلف دونالد هيل، وهو مهندس بريطاني ومؤرخ للعلوم والتكنولوجيا، لُخص كتابه في عدد من أعداد مجلة العربي[17] ، ذكر في الكتاب أن جامعات أوروبا استفادت من عدة كتب للعرب، منها كتاب في الآلات للجزري وله مخطوطة في الخزانة البودلية في أكسفورد، وكتاب الحيل لبني موسى بن شاكر، وكتاب المهندس محمد بن الحسن الكرجي المؤلف عام 1019م، وهو كتاب إنباط المياه الخفية، وكتاب الجماهر للبيروني في علم المعادن والأحجار.

4» كتاب رياضيات مصر وبلاد ما بين النهرين، والصين والهند والإسلام للمؤلف فكتور كادز وهو عالم رياضيات أمريكي يتحدث عن الرياضيات في هذه البلدان يقول: كان الأوروبيون منذ عصر النهضة يدركون أن الجبر لم يكن كلمة عربية فحسب بل كان إبداعاً إسلامياً، وقد استفادوا من ترجمة أعمال الخوارزمي، وأن أول كتاب إنجليزي كُتِب في علم المثلثات المستوي والكروي عام 1443م اكتشف أن مادة الكتاب أكثرها مأخوذ من أعمال العالم الإسلامي جابر عفلة، وفي القرن السابع عشر عينت الجامعات الرائدة في أوروبا أساتذة للغة العربية. ومن بين المصادر التي اعتمدوها في الرياضيات عمل نصير الدين الطوسي في الفرضية الموازية المكتوبة عام 1298م، ونشر في عام 1594م.

واقرأ أيضاً كتاب تأثير الإسلام في أوروبا في العصور الوسطى ويليام مونتغمري واط، له كتاب يتحدث عن هذه المعلومات.

إذن الغربيون يتحدثون عن حضارة إسلامية شامخة شموخاً علمياً وما زالت آثارها مما يُعترف به في هذه الميادين والحقول، وهذه الحضارة الإسلامية التي عاصرها الأئمة الطاهرون صلوات الله عليهم أجمعين حاول الأئمة الحفاظ على نصاعة الحضارة بالوجه العام، اختلف الأئمة مع الحكام آنذاك ولكنهم حافظوا على الوجه العام للحضارة الإسلامية، الإمام أمير المؤمنين عندما استلم الحكم أسس نظام الشرطة، وأسس الفصل بين السلطات سلطة القضاء وسلطة التنفيذ والتشريع، كتب عهده العظيم لمالك الأشتر الذي تحدث فيه عن بنية الاقتصاد في المذهب الإسلامي،

فالإمام حافظ على وجه الحضارة عندما استلم الأمر، كذلك الأئمة من بعده، فالعملة الإسلامية التي راجت وسرت حتى إلى الروم والفرس وكانوا يتعاملون بها وأصبحت مصدراً لقوة الاقتصاد في الدولة الإسلامية والحضارة الإسلامية آنذاك هي العملة التي حصلت في زمن عبد الملك بن مروان، وقد ذكر بعض المؤرخين أن العملة الإسلامية في عهد عبد الملك بن مروان تمت بمشورة الإمام محمد الباقر .

فالأئمة كانوا يحافظون على الوجه العام للحضارة الإسلامية، وانطلاقاً من هذه الروح روح المحافظة على الحضارة، روح المحافظة على الوجه الناصح للإسلام خرج الإمام الحسين ، ما خرج الإمام الحسين مخرباً ولا مفتناً وإنما خرج للحفاظ على الصورة الناصعة للحضارة الإسلامية لذلك قال: ما خرجت أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد على هذا فالله يحكم بيني وبين القوم بالحق إنه خير الحاكمين.

[1]  ص228
[2]  الجزء الثامن عشر/ ص308
[3]  الجزء الحادي والعشرون/ ص160
[4]  الجزء الخامس والعشرون/ ص16
[5]  الجزء الأول/ ص205
[6]  الجزء الثاني/ ص400
[7]  الجزء العاشر/ ص248
[8]  الجزء الأول/ ص536
[9]  الجزء الثاني/ ص128
[10]  الجزء الثاني/ ص132
[11]  الجزء الثاني/ ص64
[12]  الجزء الثاني/ ص29
[13]  الجزء الأول/ ص72
[14]  ص30
[15]  ص452
[16]  ص586
[17]  رقم العدد 580