الليلة السابعة من شهر محرم الحرام 1445هـ

ظاهرة الفردانية تغزو مجتمعنا

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13]

صدق الله العلي العلي العظيم

انطلاقاً من الآية المباركة نتحدث حول ظاهرة الفردانية، وفي حديثنا عن هذه الظاهرة نتناول محاور ثلاثة:

  • في أصالة الروح الاجتماعية.
  • في فلسفة ظاهرة الفردانية ونقدها.
  • في كون ظاهرة الفردانية بين العوامل والنتائج، وطرق الوقاية.
 المحور الأول: في أصالة الروح الاجتماعية.

وذلك من خلال عرض نقطتين:

النقطة الأولى: منشأ التفاعل الاجتماعي.

علم النفس الاجتماعي هو العلم الذي يحتوي دراسات تتعلق بالأفكار والمشاعر والسلوكيات للأفراد التي تتأثر بوجود أفراد آخرين في حياتها. [1]  عندما ننظر إلى شخصين مثلاً الأب وولده، الزوج وزوجته، الصديق وصديقه، كل منهما يتأثر بوجود الآخر في حياته، ونتيجة تأثر كل منهما بوجود الآخر في حياته تبرز أفكار، تبرز مشاعر، تبرز سلوكيات. فعلم النفس الاجتماعي يعنى بدراسة هذه الأفكار والمشاعر والسلوكيات التي تبرز بين هذين الإنسانين أو بين هاتين الجهتين نتيجة الشعور بوجود الآخر في حياته.

هناك نقطة يبحثها علم النفس الاجتماعي وهي نقطة مهمة: ما هو منشأ التفاعل الاجتماعي؟ إذا دخلت إلى المجلس مثلاً ولقيت شخصاً إلى جانبك صافحته وبادلته التحية، هذا التفاعل الاجتماعي ما هو منشأه؟ ما الذي وراءه؟

أمامنا ثلاث نظريات في علم النفس الاجتماعي تتحدث عن منشأ التفاعل الاجتماعي، ونحن نضيف نظرية رابعة نستقيها من النصوص الدينية:

النظرية الأولى: النظرية السلوكية.

أول من نادى بها هو بافلوف الذي بنى نظريته السلوكية على تجربة الانعكاس الشرطي كما هو معروف، أي على العلاقة بين الاستجابة والمحفز، النظرية السلوكية ترى أن الإنسان إنما يبادر للتفاعل الاجتماعي مع الإنسان الآخر استجابة لمحفز، لابد أن يكون هناك حافز خارجي استجاب له لذلك صدر منه التفاعل الاجتماعي، ذلك المحفز الخارجي إما حاجة، وإما أن ثقافته الاجتماعية هكذا؛ أي رُبِّي في الأسرة على أن ينفتح على الآخرين وعلى أن يتبادل التحية مع الآخرين، تربية الأسرة حافز. أو أن هناك ثواباً اجتماعياً كأن يثني عليه المجتمع إذا قام بهذه التحيات والمبادلات. الحافز والاستجابة هي النظرية السلوكية كتحليل لمنشأ التفاعل الاجتماعي.

النظرية الثانية: النظرية الإدراكية.

ليون يعتبر الأب الروحي لعلم النفس الاجتماعي، وهو يطرح النظرية الإدراكية يقول: التفاعل الاجتماعي ينشأ عن البنية النفسية والإدراكية للإنسان لا مجرد استجابة لحوافز، ولذلك تجد إنسان منقبض اجتماعياً، وإنسان منفتح اجتماعيا، وإنسان وسط ما بين المنفتح والمنغلق.

البنية النفسية والفكرية هي التي تتمظهر للعيان من خلال علاقة اجتماعية وتفاعل اجتماعي.

النظرية الثالثة: نظرية الأدوار.

المقصود بهذه النظرية أن التفاعل الاجتماعي ليس لحظة راهنة بين شخصين التقيا في مجلس وتصافحا، النظرية السلوكية والنظرية الإدراكية تدرس هذه اللحظة لحظة اللقاء والتفاعل، ما هو منشأها، أما نظرية الأدوار تتوسع وتنظر إلى الأمر بأوسع وأعمق من ذلك، نظرية الأدوار تقول: التفاعل الاجتماعي هو قاعدة متأصلة في الإنسان تتمظهر وتتجسد على شكل أدوار اجتماعية، تماماً مثل الممثل في المسرحية الممثل يقول بعدة أدوار ومع عدة أشخاص ويقوم بهذه الأدوار عن وعي وانتظام وتخطيط، كذلك التفاعل الاجتماعي هو أدوار يمارسها الإنسان مع كل شخص بحسبه وبحسب الظرف وبحسب الأسلوب المناسب، أدوار يمارسها الإنسان هي التي تكون مظهراً وهي التي تكون منشأ للتفاعل الاجتماعي.

النظرية الرابعة: حقيقة أصالة الروح الاجتماعية في شخصية الإنسان.

الإنسان خُلق وعنده نزعة اجتماعية، يمتلك روح اجتماعية، وهذه الروح هي التي وراء تفاعلاته ولقاءاته وأدواره، الروح الاجتماعية المتأصلة في شخصيته. يقول الفيلسوف السوري ندرة اليازجي في تحليله للروح الاجتماعية: هناك عدة بنود لابد أن نركز عليها في تحليل الروح الاجتماعية:

  • البند الأول: فرق بين البعد الاجتماعي واجتماعية الإنسان، لا تقل البعد الاجتماعي للإنسان بل قل اجتماعية الإنسان، الاجتماع ليس بعد، الهيكل أو التفاعل الاجتماعي ليس بعد من أبعاد الإنسان مثل أي بعد آخر، الروح الاجتماعية هي جوهر شخصية الإنسان وليست بعد من أبعاده، الروح الاجتماعية هي قوام إنسانية الإنسان وليست بعداً من أبعاد إنسانيته أو بعداً من أبعاد شخصيته، هي قوامه، هي جوهر وجوده.

    كما أنه لا يتصور دماغ بدون جسم، كذلك لا يتصور إنسان بدون روح اجتماعية، الروح الاجتماعية قوام وجوهر الإنسانية في الإنسان.
     
  • البند الثاني: لا تقل للإنسان أنه آخر أو الطرف الآخر، مع أن الإنسان الثاني هو طرف أخر أيضاً، إنما قل الإنسان الثاني هو جزء من وجودك وليس آخر، لو لا الإنسان الثاني لما كان لك تفاعل اجتماعي، لو لا وجود إنسان لما كانت هناك أخلاق، لو لا وجود إنسان لما كانت هناك علاقات، لو لا وجود إنسان لما كانت هناك بنية اجتماعية، إذن المجتمع، البنية، التفاعل، الأخلاق تحتاج إنسان وإنسان، فالإنسان الثاني عنصر لوجودك الإنساني لأن وجودك الإنساني متقوم بالروح الاجتماعية ولا تتمظهر هذه الروح الاجتماعية إلا بالإنسان الثاني فهو ليس آخر بل هو جزء من وجودك.
     
  • البند الثالث: هناك أنا صغرى وهناك أنا كبرى، الأنا الصغرى هي الإحساس بالوجود المستقل، أن أشعر أن لي وجود، ولدي له وجود، زوجتي لها وجود، الشعور بالوجود المستقل هو أنا الصغرى التي يعبر عنها ديكارت وعي الذات، أول فكرة تعيها في حياتك هي وعيك لذاتك، أنا أفكر إذن أنا موجود، أول فكرة يعيها الإنسان في حياته وعيه لذاته، وأما الأنا الكبرى هي نحن، الشعور بالوجود الإنساني ذو المساحة الواسعة.

    إذا طغت أنا الصغرى على أنا الكبرى وصل الإنسان إلى مرحلة الأنانية فلا يرى إلا نفسه ومصلحته، فيتعامل مع المجتمع بالكبرياء والاستغلال والطبقية، وأما إذا طغت أنا الكبرى على أنا الصغرى تشكل التفاعل الاجتماعي، ويتحول إلى مظهر اجتماعي رائع، يتحول إلى التواضع ونشر المحبة، إلى خدمة الآخرين، وإلى قضاء حوائج الآخرين، إلى مصداق لما ورد عن الرسول : أفاضلكم أحاسنكم أخلاقاً الموطؤون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون.
     
  • البند الرابع: في فلسفة أصالة الروح الاجتماعية في الإنسان لا تنظر إلى مواطن التجمع، انظر إلى مواطن الاجتماع، هناك فرق بين مواطن التجمع ومواطن الاجتماع، المقهى هو موطن للتجمع، النادي هو موطن للتجمع، الشركة هو موطن للتجمع، موطن التجمع يعني اجتماع مجموعة من الأفراد لأداء غرض معين، وأما موطن الاجتماع فهو الموطن الذي يحصل فيه تفاعل وعلاقة حميمية، موطن الاجتماع هو المبرز لأصالة الروح الاجتماعية في شخصية الإنسان، العلاقة مع الأسرة، العلاقة مع الصديق، العلاقة مع الرحم... وهكذا. عليك أن تحرص على موطن الاجتماع وليس موطن التجمع، وهذه الفلسفة التي ذكرها هي ما نستقيها من النصوص والروايات الشريفة التي تؤكد أصالة الروح الاجتماعية في شخصية الإنسان.

النقطة الثانية: تجليات الروح الاجتماعية.

الدكتور محمود البستاني في كتابه دراسات في علم النفس الإسلامي في الجزء الأول يتعرض إلى بعض تجليات الروح الاجتماعية المستقاة من النصوص والروايات، وهي: الانتماء الاجتماعي، التوافق الاجتماعي، الترابط الاجتماعي، التقدير الاجتماعي، والاعتزاز الاجتماعي. خمس تجليات وكل واحد منها يعالج حاجة أساسية في شخصية الإنسان.

التجلي الأول: الانتماء الاجتماعي.

اجتماعية الإنسان تغذي حاجات أساسية في شخصية الإنسان، أولها الانتماء الاجتماعي، تنتمي إلى أسرة، إلى قبيلة، إلى مجتمع، الانتماء الاجتماعي يشبع حاجتك إلى الأمن، أن تشعر بالأمن النفسي وهو الاستقرار، أو الأمن المادي أن يشعر بأنه محمي نفساً عرضاً مالاً، الانتماء للمجتمع، الانتماء للأسرة، الانتماء للقبيلة يغذي الشعور بالأمن والحماية، ومَا أَنَا إِلَّا مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ... غَوَيْتُ وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدِ

التجلي الثاني: التوافق الاجتماعي.

لا يمكنك أن تعيش مع مجتمع إلا إذا تكيفت ووافقت، حتى الأسرة لا تستطيع أن تعيش فيها إلا إذا تكيفت، التكيف مع البيئة الاجتماعية تجل آخر لأصالة الروح الاجتماعية، وهذه أيضاً تعالج ظهور الطاقة المخبوءة، كل إنسان يحتاج إلى ان يبرز الطاقة المخبوءة في ذاته، الأسرة تكيفت معي وتأقلمت فأبرز طاقتي من خلال الأسرة ومن بعدها المدرسة، ومن ثم النادي.... وهكذا، التأقلم الاجتماعي ميدان لإشباع حاجة شخصية وهي حاجتي لإبراز طاقتي ومواهبي وإبداعاتي من خلال هذا الحقل الاجتماعي.

التجلي الثالث: الترابط الاجتماعي.

كل إنسان منا يحتاج إلى الشعور بالحب، لو لا الحب لمات الإنسان، أقيمت تجربة في ألمانيا قبل خمسة عشر سنة على مجموعة من الأطفال، قسموا الأطفال إلى قسمين جزء منهم يُعاملون معاملة حسنة، يُحملون برفق، ويُتحدث معهم بلين، ويُعطون الشراب والطعام برفق ولين، والقسم الآخر لا رفق ولا لين ولا كلمة جميلة، يعطى الطعام كما يعطى الحيوان، النتيجة خلال سنة مات الأطفال.

الشعور بالحب ضروري للحياة، لا يمكن لإنسان أن يعيش وهو يشعر أنه مكروه أو منبوذ، الشعور بالحب ضروري لبقاء الحياة واستمرارها وهذه الحاجة حاجة الإنسان للشعور بالحب يغذيها الترابط الاجتماعي، ورد عن النبي محمد : المؤمن يألف ويؤلف.

هناك بحث أجراه عالما الاجتماع البريطانيان براون وهارس وصلوا في هذا البحث إلى أن الدعم الاجتماعي يمنع من ظهور نوبة الاكتئاب عند حصول الأحداث المروعة، إنسان فقد عزيز له لو لا الدعم الاجتماعي لشعر بنوبة من الاكتئاب، إنسان فارق حبيبه، فارق زوجته بموت بطلاق، يشعر بفاجعة يحتاج إلى الدعم الاجتماعي، إنسان فقد منصبه، فقد وظيفته يشعر بفاجعة يحتاج إلى الدعم الاجتماعي، لو لا الدعم الاجتماعي لأصيب الإنسان بنوبة حادة من الاكتئاب، فالترابط الاجتماعي ضروري جداً.

التجلي الرابع: التقدير الاجتماعي.

وهذا التجلي يغذي حاجة أساسية في الإنسان وهي حاجة الإنسان إلى تثمين جهوده، كل إنسان يحتاج أن تثمن جهوده ومشاريعه، إنسان عنده مشروع، إنسان عنده طاقة جبارة، إنسان عنده موهبة، التقدير الاجتماعية عنصر ضروري لمواصلة الإنتاج، إذا أردت أن تكون منتج تحتاج إلى التقدير الاجتماعي، التثبيط الاجتماعي يطوي روح الإنتاج ويحول الإنسان إلى إنسان منغلق، منكفئ، مستهلك وليس منتج، الإنتاج يحتاج إلى تقدير اجتماعي.

التجلي الخامس: الاعتزاز الاجتماعي.

الاعتزاز الاجتماعي يغذي حاجة عند الإنسان وهي حاجة التعبير عن الذات، أنت تعبر عن ذاتك من خلال الاعزاز بمجتمعك، عندي اعتزاز بأسرتي، عندي اعتزاز بعشيرتي، عندي اعتزاز بعلماء بلدي، عندي اعتزاز بشعراء وطني، عندي اعتزاز بمواهب شباب وطني. الاعتزاز بحضارتك وبتراث حضارتك هذا الاعتزاز الاجتماعي يغذي عندك الحاجة للتعبير عن الذات.

إذن كل هذه التجليات الخمسة هي تجليات لأصالة الروح الاجتماعية عند الإنسان بصور مختلفة.

 المحور الثاني: في فلسفة ظاهرة الفردانية ونقدها.

يعاني شبابنا اليوم من عدة تحديات: تحديات ثقافية، وتحديات قيمية، وتحديات اجتماعية.

من التحديات الثقافية ضياع الهوية، وأما التحديات القيمية إذا سألته ما هي أولويات حياتك؟ هل يرى أن من أولويات حياته الدين؟ أو يقول لا الدين اختلاف في وجهات النظر وليس أولوية في حياتي، اختلاف المتدين أو اللا ديني اختلاف في وجهات النظر لا أكثر؟!

أو عندما نأتي إلى نسبية الأخلاق يقول ليس بالضرورة أن الصدق والأمانة دائماً جميل، حسب المبرر، الخلق يتبع المبرر لا أن المبرر يتبع الخلق، أو إلى علاقات الشذوذ تفسر وتفلسف على أنها تنوع في الميول، هرمونات مختلفة، وليس الشذوذ اختلالاً مرضيا، هذه تحديات قيمية.

وهناك تحديات اجتماعية ومن أبرز هذه التحديات الاجتماعية ظاهرة الفردانية، وظاهرة الفردانية التي نتكلم عنها في نقطتين: في تعريفها، وفلسفتها.

النقطة الأولى: تعريف الفردانية.

هناك فردانية بصورة إيجابية وفردانية بصورة سلبية، ونحن سنتكلم عن الفردانية بصورتها السلبية، يقول ستيفن لوكس في دراسته حول الفردانية: الفردانية في فرنسا رافقت التفكك الاجتماعي والأنانية، بينما الفردانية في ألمانيا تعني الدور الفعال للفرد في تنمية طاقاته وطموحاته، والفردانية في الولايات المتحدة وإنجلترا تعني التنافس المحموم في مجال السياسة والاقتصاد.

الفردانية لها صور، نحن نتحدث عن هذه الصور من الفردانية في نظرية الأبعاد الثقافية لهوفستد، يقول: الفردانية تعني التركيز على الحقوق أكثر من الواجبات. العناية بالنفس والأسرة الخاصة المباشرة دون الاهتمام بالآخرين، الاستقلال في القرار دائماً مستقل في قراره، بناء الهوية على الإنجازات الشخصية لا يريد أن يبني هويته على إنجازات تعاونية بل على إنجازات شخصية، هذه صور وملامح للفردانية.

الفردانية بصورتها السلبية معاكسة للروح الاجتماعية، الفردانية بصورتها التي تم تعريفها لها فلسفة ترجع إلى مفردة فلسفية محددة، وهذه الفلسفة تعتمد على ركيزتين: الحرية، وبلوغ الإنسان إلى كماله.

الركيزة الأولى: الحرية.

الكثير يعتقد أن الحرية هي أسمى هدف وغاية يصل إليها، أن يصل إلى الحرية مطلقة، الفردانية تمظهر للحرية، لأنني حر فأنا أبني إنجازاتي على شخصيتي لا على الآخرين، لأني حر أنا مستقل في قراراتي، لأني حر لا أهتم بالآخرين أهتم بنفسي، لأني حر أركز على الحقوق لا على الواجبات، الحرية تتمظهر وتتجسد في الفردانية.

الركيزة الثانية: بلوغ الإنسان إلى كماله.

يظن البعض أن الإنسان خلق لكي يبلغ كماله ولا يمكن للإنسان أن يبلغ كماله وهو يفكر في المجتمع وفي هموم الناس وقضاياهم وأوضاعهم، إنما يبلغ الإنسان كماله إذا اهتم بذاته وطموحاته وإنجازاته، وتنمية طاقاته، ولكي يبلغ كماله يحتاج أن يعيش الفردانية.

من هنا نناقش كلتا الركيزتين في هذه الفلسفة:

نقول: الحرية عندنا كفلسفة دينية هي مجرد وسيلة وليست غاية، كما أعطي الإنسان عقل، كما أعطي الإنسان مشاعر، كما أعطي الإنسان ميول، أعطي حرية، الحرية هي وسيلة من الوسائل لتحقيق التوازن بين نزعة الفرد ونزعة المجتمع، كل إنسان له نزعتان، نزعة إلى الداخل، ونزعة إلى الخارج. نزعة إلى ذاته فيصرخ أين ذاتي، وهناك نزعة للخارج فيقول جاري، رحمي، صديقي، قضيتي، شؤون مجتمعي. تحقيق التوازن بين النزعتين وبين هذين الركنين يحتاج إلى الحرية، فالحرية وسيلة لتحقيق التوازن بين النزعتين.

أنت أمرت بأن تكمل ذاتك، وأمرت بأن تبني حضارة وتعمر الأرض، وإعمار الأرض وبناء الحضارة يحتاج إلى النزعة الاجتماعية، ولذلك قال تبارك وتعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا [هود: 61] وقال: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا [الحجرات: 13] لكي تتعارف طاقاتكم وتتلاقح مواهبكم وإبداعاتكم فتشكلون الحضارة الإنسانية.

وأما بلوغ الكمال نرى حتى بعض المتدينين يركز على ذاته فقط وأن الله قال في القرآن ﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة: 105] فلا عليك بالآخرين، والكمال هو أن تبني ذاتك، وهذا خطأ، الكمال أن تثبت جدارتك على المستويين الفردي والاجتماعي، كما أنك كسؤول عن ذاتك وتنميتها وتحقيق طموحاتك أنت مسؤول عن مجتمعك وعمن حولك، ورد عن الرسول محمد : كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته. إنك مسؤول حتى عن البقاع والبهائم، أنت مسؤول عن البيئة التي تعيش فيها، ومسؤول عن الحيوانات الأليفة التي تعيش معك.

ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليّ : اجعل نفسك بينك وبين غيرك، فأحب ما لغيرك ما تحب لنفسك واكره له ما تكره لها.

 المحور الثالث: الفردانية بين العوامل والنتائج وطرق الوقاية.

ما هي عوامل ظاهرة الفردانية وما هي أسبابها؟

  • العامل الأول: تراكم الأحداث.

جاءت الشيوعية وصارت سجناً لطموحات الإنسان، وانتهت فهبت القومية وصارت مبدأ لحروب فاشلة غير محسوبة العواقب، وجاءت الأحزاب الإسلامية والدينية وصارت منشأ للتطرف والطائفية والاحتراب. ونتيجة لتراكم هذه الأحداث فقد الإنسان الثقة بالإيديولوجيات، فانكفأ الإنسان على ذاته وأصبح يفكر فقط في تحقيق طموحاته الشخصية لفقدان ثقته بالإيديولوجيات الأخرى.

  • العامل الثاني: رياح الحداثة وما بعد الحداثة.

هبت رياح الحداثة ورفعت شعار الشخصنة إلى أن بلغت عناية الإنسان بشخصيته إلى حد تضاؤل الروح الاجتماعية والتمرد على الأسرة والعرف والمجتمع، وهبت رياح ما بعد الحداثة وهو ما يعبر عنه بالثورة الاستهلاكية وهو ما تجده اليوم، العالم مشغول بسوق البورصة، مشغول بالعالم الرقمي، مشغول في كل لحظة بهذه الحياة.

الثورة الاستهلاكية حررت الإنسان من المكان والزمان، أصبح لا مكان يحده لأنه يتعامل مع العالم كله، في كل لحظة هو يتعامل مع الأرقام على الشاشة، وحررت الإنسان من الزمان فليس الزمان هو الوقت المناسب، صار الزمن كله مختصر في لحظة الربح وتحصيل الفائدة، الثورة الاستهلاكية جعلت الإنسان مشغول طول وقته بالأرقام والأرباح والفوائد، فوصل منطق الحقوق إلى منطق الفرداني، وأن حقوق الإنسان تعني أن يكون الإنسان حراً مستقلاً متفرغاً لإنجاز طموحاته الشخصية، فصارت معاكسة بين ظاهرة الفردانية وبين هذه الروح الأصيلة في الإنسان ألا وهي الروح الاجتماعية.

  • العامل الثالث: العالم الافتراضي.

انشغل الإنسان بالعالم الافتراضي عن العالم الحقيقي، انشغال الإنسان بالعالم الافتراضي جعله يستبدل الانتماء للعالم الحقيقي إلى الانتماء للعالم الافتراضي، جعله يعوض النهم العاطفي الذي يحصل عليه من خلال دفء الأسرة إلى أن يعوضه بكلمات منثورة ولقاءات على الشاشة، ومن خلال السوشل ميديا ووسائل التواصل، وهذا أثر على ترسيخ ظاهرة الفردانية عند الإنسان، أغلب وقته مشغول لوحده، معزول عن الآخرين، يشاهد لوحده، ينتقي ما يريد، يتعامل مع من يريد، يكلم من يريد، يراسل من يريد. ترسخت ظاهرة الفردانية في الأسرة الواحدة، تزور بعض الأسر ترى كل شخص جالس لوحده مشغول بنفسه لا سلام ولا كلام، العالم الافتراضي شغلهم عن العالم الحقيقي وعزلهم عنه.

ما هي نتائج هذه الظاهرة؟

النتيجة الأولى: ظهور ثقافة النسبية.

من أبرز نتائج الفردانية ظاهرة النسبية حيث انتثرت المعلومات وتداخلت الإيديولوجيات، ولم يعد هناك استقرار معرفي، ونتيجة ذلك أن الإنسان أصبح لا يرى خطأ وصواب، كل فكرة تعرض عليه لا يوجد فيها صواب كامل ولا خطأ كامل، كل فكرة هي نسبية بالنسبة إلى الواقع، نتيجة هذه النسبية لا داعي للإنسان أن ينتمي إلى دين أو إلى فكرة أو إلى مجتمع، لأن كل شيء ليس فيه صواب تام ولا خطأ تام فلماذا ينتمي؟ إذن أصبح يهرب من الانتماء لأنه لا يؤمن بوجود حقيقة مطلقة بل يؤمن بأن الأمور نسبية.

النتيجة الثانية: تأثير العالم الافتراضي السلبي.

نتيجة العكوف على العالم الافتراضي الجفاف العاطفي، وهذه مشكلة أصبحت موجودة في الأسر نتيجة الانشغال عن الأسرة، استتب الجفاف العاطفي، بدأ الجفاف العاطفي يدب بين الزوج وزوجته لأن كل منهما مشغول بعالم آخر، بدأ الجفاف العاطفي ينتشر بين الأخ وأخته، بين الأخ وأخيه، لا يرون روابط عاطفية سميكة لانشغالهم بعوامل ولقاءات وعلاقات متناثرة متعددة، أدنى تبعات الانشغال بالعالم الافتراضي الجفاف العاطفي، وأدنى تبعات الانشغال بالعالم الافتراضي التسطيح المعرفي، فقد شبابنا التركيز والدقة لأن المعلومات هائلة ومتناثرة وفي كل لحظة معلومة ولا قدرة له على التمييز، ولا قدرة له على التركيز، ولا قدرة له على الجمع، التسطيح المعرفي نتيجة من نتائج التفرد والانعزال والانشغال بالعالم الافتراضي.

النتيجة الثالثة: الهروب من المسؤولية.

أولاد اليوم لا يستطيعون تحمل المسؤولية، أصبحت روح المسؤولية روح ضعيفة، وهذا ما ساعد على عزوف الشباب عن الزواج، في عام 2019م أجري استبيان ودراسة حول معدل الزواج في أوروبا، كان معدل الزواج يقرب من 8/10، وفي عام 2020م انخفضت النسبة إلى أقل من 3/10 وذلك لعدة أسباب:

  • السبب الأول: غلاء المعيشة، غلاء الأسعار، غلاء الأثاث، غلاء الغذاء، غلاء الزينة... إلخ
     
  • السبب الثاني: طول وقت العمل بحيث لم يعد له وقت للعائلة ولا لزوجة ولا للعلاقات.
     
  • السبب الثالث: حتى لو جعلت تسهيلات في مجال العمل ووفر للأطفال رعاية صحية مجانية مع ذلك الرغبة في الهروب عن المسؤولية سبب كبير أمام العزوف عن الزواج وهذا السبب بدأ ينتشر في مجتمعاتنا الخليجية أيضاً، العزوف عن الزواج أصبح ظاهرة منشأها الهروب من مسؤولية الزواج، ومسؤولية الأسرة ومسؤولية الأولاد، هذه هي ظاهرة الفردانية في أبشع صورها، وأما من يؤمنون بالزواج يكثر عندهم الطلاق، أو منع الحمل أو الإجهاض، أو تفكك العلاقات الأسرية.

النتيجة الرابعة: تفكك الروابط الاجتماعية.

تضاءلت صلة الرحم، فلا علاقات بين الأرحام لا في المناسبات ولا في الأفراح والأتراح إلا ما قل وندر، تفكك الأسر أصبحت الأسرة الواحدة تعيش خلافات بين الأخوة والأخوات كل ذلك ناتج عن ظاهرة الفردانية، تضاؤل روح التعاون، إلحاق المسنين بدور العجزة، عدم وجود لغة التراحم.

والتبعة الأخيرة المقيتة هي عدم الاهتمام بقضايا الأمة وبقضايا المجتمع، أصبح الإنسان آخر ما يفكر فيه الدين ومذهب أهل البيت، وقضايا المجتمع وقضايا الأمة، أصبحت قضايا الأمة وقضايا المجتمع آخر الاهتمام أو لا اهتمام لها، انسلخ من قضايا أمته ومجتمعه لأنه يعيش ظاهرة الفردانية، والقرآن الكريم يقول: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران: 110]

ويقول: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143]

ويقول الرسول محمد : لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم.

وقال: كيف بكم إذا فسق شبابكم وفسدت نساؤكم وتركتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قالوا: أو يحصل ذلك يا رسول الله؟ قال: بلى، وترون المنكر معروفاً والمعروف منكراً.

ما هي طرق الوقاية من هذه الظاهرة؟

نحن لا نستطيع أن نضع حلول جذرية حاسمة لظاهرة الفردانية وهي تنتمي إلى سيطرة حضارية رأسمالية على العالم كله، ولكن نذكر بعض طرق الوقاية:

الطريق الأول: اهتمام المنابر والمساجد بالخطاب الديني الجذاب للشباب.

شبابنا يحتاج إلى خطاب ديني يجذبه، يحتاج إلى أن يجد في المنابر والمساجد والمآتم ما يجيب عن أسئلته وما يشاركه في همومه، ويشاركه في قضاياه، يحتاج أن يشعر بانتمائه للمسجد، بانتمائه للمأتم، بانتمائه للمنبر، لأن المنبر يعيش معه في همومه وقضاياه وأسئلته ومشاكله، لكي نحتضن هذه الفئة الكبيرة من مجتمعنا ألا وهي فئة الشباب، نحتاج إلى جذب لهم إلى هذه الحقول وهذه الميادين، ومن الواضح أن المسجد والمنبر والمأتم هو ميدان اجتماعي يقوي الروابط الاجتماعية والروح الاجتماعية.

 الطريق الثاني: الدمج الاجتماعي.

وهذا الطريق ذُكر في عدة دراسات أن الشركات بدأت تحتاج إلى ما يسمى بالدمج الاجتماعي، كل موظف لا علاقة له بالموظف الثاني وهذا يحول الشركة إلى أدوات ميكانيكية تعمل، ولذلك الآن كثير من الشركات تفكر في الدمج الاجتماعي وهو أن تجعل أثناء العمل فرصاً لتكوين علاقات بين الموظفين حتى تشيع بينهم روح التعاون، وأن يضحي بعضهم لأجل الآخر، وأن يخدم بعضهم البعض الآخر، وأن يتعامل معه بمنطق وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان.

 الطريق الثالث: استثمار المواسم الاجتماعية.

نحن عندنا نعمة كبيرة، أيام عاشوراء نعمة وأيام الحج نعمة أنعمها الله على المسلمين، تقوي الروابط الاجتماعية تجعل القلوب منفتحة على بعضها. كذلك وضع لنا الأئمة هذه المواسم المباركة وفياتهم ومواليدهم، هذه المناسبات خصوصاً أيام عاشوراء نستثمرها في تقوية الانتماء الاجتماعي، في تقوية الروابط الاجتماعية، في أن نجعل مآتمنا ومجالسنا تعتمد على شبابنا حتى يشعر الشاب بأن له وجود في هذا المجلس وفي هذا المسجد وهذا المأتم.

استثمار هذه المآتم والاجتماعات في تقوية الروح الاجتماعية التي تشدنا نحو فكر أهل البيت ورد عن الإمام الصادق : أتجلسون وتتحدثون؟ قلت: بلى سيدي. قال: إني أحب تلك المجالس فأحيوا فيها أمرنا.

 الطريق الرابع: الاستقاء من سيرة عمالقة التاريخ.

الاستقاء من سيرة عمالقة التاريخ الذين رسخوا الروح الاجتماعية بأروع صورها وأجمل أمثلتها، وفي طليعتهم النبي محمد ، النبي كان مظهراً للروح الاجتماعية، وكان يطوي يومه جوعاً وبيده الثروات والأموال لأنه لا يدخر في بيته شيئاً وإنما هذه الثروات والأموال التي تصب على يده كلها للفقراء والمساكين وأبناء السبيل.

النبي الأعظم يخرج مع أصحابه في سفر فيقول أحدهم عليَّ ذبح الشاة ويقول الثاني علي سلخها، ويقول الثالث علي طبخها، ويقول النبي علي جمع الحطب، قالوا: إنا نكفيك يا رسول الله. قال: علمت ذلك، ولكني أكره أن أتميز عليكم.

علي بن أبي طالب الذي كان يحمل جراب الطعام على ظهره ويدور به على فقراء المدينة والكوفة، ويقول لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي أو يقودني جشعي إلى تحير الأطعمة، فلعل باليمامة أو الحجاز من لا عهد له بالشبع ولا طمع له بالقرص، أأبيت مبطاناً وحولي بطونا غرثى وأكباد حرى! أأقنع من نفسي أن يقال لي أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر.

ومن أروح صور الإيثار والروح الاجتماعية ما ذكره القرآن الكريم في مدح أهل بيت النبوة ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا «7» وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا «8» إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا «9» [الإنسان: 7 - 9]

وكان الحسن والحسين طفلين وكانا يبيتان النهار جوعاً فإذا جاء وقت الإفطار تقدم المسكين واليتيم والأسير في كل يوم ويتبرع هؤلاء الأطفال بأرغفة الخبز إلى المسكين أو اليتيم أو الأسير، كل ذلك تجسيداً للإيثار ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر: 9]

وقد تجلى هذا الإيثار وهذه الروح الغيرية والروح الاجتماعية يوم كربلاء عندما تسابق الشيوخ والشبان والأطفال لنصرة الدين والمبدأ، لنصرة الحسين .

[1]  كتاب علم النفس الاجتماعي للدكتور فجر جودة النعيمي.