الليلة الثانية عشر من شهر محرم الحرام 1445هـ

علاقة القرآن باللغة العربية، تأثير أم تأثر؟

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿حم «1» وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ «2» إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ «3» وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ «4» [الزخرف: 1 - 4]

صدق الله العلي العظيم

انطلاقاً من الآية المباركة نتناول هذه النقطة وهي هل أن الوحي تأثر باللغة العربية أم أن الوحي هو المؤثر وليس المتأثر، وهنا اتجاهان: الأول أن الوحي تأثر باللغة العربية بمعنى أن الوحي تحجم وتضيق حينما نزل باللغة العربية، والثاني أن الوحي استثمر اللغة العربية لا أنه تحجم أو تأطر بها.

الاتجاه الأول.

ما أشار إليه بعض الباحثين ومنهم محمد أركون في نقد العقل العربي، وعبد الكريم سروش الباحث الإيراني في كتابه «القبض والبسط» وهو أن الوحي تحجم عندما نزل باللغة العربية، والدليل على أن الوحي عندما نزل باللغة تحجم وتأطر وتضيق باللغة العربية دليلان: دليل عقلي، ودليل نقلي.

 الدليل الأول: الدليل العقلي.

أن الوحي قبل أن ينزل إلى عالم المادة وقبل أن يصاغ باللغة كان الوحي معلومات، والمعلومات كانت مطلقة بلا حدود، ومجردة بلا قيود، ولكن عندما نزل الوحي عبر قوالب لفظية وعبر لغة بشرية كاللغة العربية خرج من الإطلاق إلى المحدودية، كان مطلقاً أصبحاً محدوداً أي أصبح مفهوم كسائر المفاهيم اللغوية، كان مجرداً فأصبح مقيداً بقيود اللغة العربية، وهذا يعني أن الواحي خرج من الصفة الإلهية إلى الصفة البشرية؛ لأن اللغة هي لغة بشرية وإبداع بشري، فعندما ينزل الوحي بلغة بشرية يخرج عن كونه صفة إلهية إلى كونه صفة بشرية، وبالتالي لا يصلح الوحي المقولب والمصاغ باللغة البشرية للتقعيد، لا يصلح أن يكون قاعدة لكل زمن، ولكل ثقافة، ولكل مجتمع لأنه تأطر بلغة معينة، والشواهد على ذلك أربعة ترشدنا إلى أن الوحي تحول من كونه إلهي إلى كونه بشري عندما تأطر باللغة العربية، وأن اللغة العربية انعكست على الوحي بآفاتها ومشاكلها:

 الشاهد الأول: أن بعض ألفاظ اللغة العربية مجملة فصار الوحي مجمل نتيجة إجمال اللغة، مثلاً عندما يقول تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة: 38] اليد مجملة فصار الوحي مجمل، عندما يقول تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228] القرء مجمل بين الطهر وبين الحيض، ثلاث حيضات أو ثلاثة طهر بين الحيضات. صار الوحي مجمل نتيجة إجمال اللغة.

أو عندما يقول القرآن الكريم: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة: 223] أنى زمانية أم أنى مكانية، أي للرجل أن يأتي زوجته في أي زمن ما سوى زمن الحيض، فتكون أنى زمانية أو للرجل أن يستمتع بكل جسد زوجته وتكون أنى مكانية؟

إجمال اللغة انعكس على إجمال المعنى فصار الوحي مجمل لإجمال اللغة، أي أن اللغة العربية عكست ظلالها على الوحي.

 الشاهد الثاني: أن الأمثال العربية انعكست على القرآن، مثلاً قوله تعالى: ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف: 176] أو عندما يقول القرآن الكريم: ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ [الجمعة: 5] لأن المجتمع العربي يعيش فيه الحمار فانعكس المثال على القرآن الكريم.

أو عندما يقول القرآن الكريم: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [البقرة: 26] فاللغة العربية فرضت حتى أمثالها المستوردة من بيئتها على الوحي والقرآن.

 الشاهد الثالث: أن المعتقدات العربية أيضاً انعكست في القرآن، العرب يعتقدون بالجن فذكر القرآن الجن، العرب يعتقدون بالسحر فذكر القرآن السحر، العرب يعتقدون بالحسد فذكر القرآن الحسد، كل هذه خرافات اعتقد بها العرب ذكرها القرآن لأن اللغة انعكست على الوحي، أو مثلاً هيئة بطليموس كانت المجتمعات في تلك الأزمنة تعتقد بهيئة بطليموس، يعتقدون أن السماوات سبع وأن الأرضين سبع وجاء القرآن وطرح نفس المعتقد ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ [البقرة: 29] ﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا [الملك: 3] وهذا شيء أبطله العلم وأوضح زيفه.

 الشاهد الرابع: العادات، القرآن أمضى عادات العرب ومن عاداتهم تعدد الزوجات فقال القرآن ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ [النساء: 3]، ومن عادات العرب قيمومة الرجل على المرأة قال القرآن: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء: 34]، ومن عادات العرب الرقيق وقد أمضى القرآن الرقيق ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ «5» إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ «6» [المؤمنون: 5 - 6]

إذن عندما نلاحظ الشواهد الأربعة ندرك أن الوحي تأطر باللغة العربية وتأثر بها.

 الدليل الثاني: الدليل النقلي.

القرآن نفسه يذكر أن الوحي لا يكون إلا بثقافة القوم الذين ينزل عليهم، كلمة اللسان في القرآن استعملت بمعاني ثلاثة:

  •  المعنى الأول: هو التلفظ كما في قوله تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة: 16]
     
  •  المعنى الثاني: اللغة، يقول القرآن الكريم وهو يصف القوم عندما نظروا إلى القرآن: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل: 103]
     
  •  المعنى الثالث: بمعنى الثقافة، يقول الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم: 4] لسان قومه أي ثقافة قومه، كل وحي ينزل يكون منسجماً مع ثقافة قومه حتى يواكب القوم ويكون فاعلاً محركاً لهم، واللغة هي التي تعكس مستوى الثقافة، مثلاً اللغة الفرنسية تجدها لغة يغلب عليها المصطلحات الفلسفية تكتشف أن هذه اللغة عاشت فلسفات عدة قرون، اللغة الألمانية تجد فيها المصطلحات الصناعية العلمية فتكتشف أن هذا المجتمع مجتمع صناعي. اللغة تعكس ثقافة أهلها، إذن نزول القرآن باللغة العربية يعني نزول القرآن على ضوء الثقافة العربية.
 الاتجاه الثاني.

أن القرآن والوحي استثمر اللغة لا أنه تأثر بها، القرآن أخضع اللغة لأهدافه لا أنه خضع للغة العربية، فرق بين التأثر والاستثمار، بين الخضوع والتطويع والإخضاع، القرآن طوَّع اللغة لأهداف الوحي ومضامينه لا أنه خضع للغة العربية وتأثر بها فخرج من كونه مضمون إلهي إلى كونه مفهوم بشري، نذكر وجوه ثلاثة ندعم بها أن القرآن لم يتأثر باللغة وإنما استثمر هذه الأداة اللغوية:

 الوجه الأول: دليل عقلي.

ما هي المحتملات في علاقة السماء بحركة الإنسان؟

هنا أربع احتمالات في علاقة السماء بحركة الإنسان وهي:

المحتمل الأول: أن الله لا هدف له في الوجود، خلق الوجود بلا هدف، خلق الإنسان بلا هدف. وهذا المحتمل باطل طبعاً باعتبار مقتضى حكمته تبارك وتعالى، هذا المصمم العاقل الذي صمم الوجود بأجمل نظام وأدق طريقة والتي يعبر عنها القرآن الكريم: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس: 40] هذا الوجود الذي أبدعه في ضوء أنظمة دقيقة جداً يكشف عن أن المصمم عقلاً ذكياً حكيماً، لو لم يمتلك هذا العقل المصمم الذكاء والحكمة لما استطاع أن يبدع هذا الوجود بهذا النظام الدقيق، كما أن هذا المصمم يمتلك الذكاء ويمتلك العقل الكلي الذي من خلاله أبدع نظام الوجود إذن هذا المصمم يمتلك الهدفية والحكمة، من يمتلك العلم ويمتلك الذكاء فمن الطبيعي أن يمتلك الحكمة، ومقتضى حكمته تبارك وتعالى أن الإنسان وجد لهدف كما ذكر القرآن الكريم قال: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك: 2]، ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]

إذن هذا المحتمل الأول أن الإنسان خلق بلا هدف محتمل لا ينسجم أبداً مع كون الخالق العقل المصمم الذكي الذي أبدع ضمن نظام دقيق هادف.

 المحتمل الثاني: أن الله سبحانه خلق الإنسان وجعل للإنسان هدف، ولكنه لم ينزل وحياً من السماء، بل ترك الإنسان أن يصل بنفسه إلى أهدافه، هو وُجِد لكي يكون أحسن عملاً، ولكن ما هو الطريق وما هو القانون الذي يوصل الإنسان لأن يكون أحسن عملاً تُرك باختيار الإنسان، هو الإنسان بنفسه يوصل المجتمع البشري إلى الهدف والغاية، إلى أن يكون أحسن عملاً، ولا يحتاج إلى وحي.

وهذا المحتمل أيضاً باطل، إذا تأملت في فلسفة العلوم الإنسانية، فلسفة علم النفس، علم الاجتماع، علم القانون، علم الإدارة، فلسفة العلوم الإنسانية ترشدك إلى أن العقل البشري ابن أبوين وهما البيئة والتاريخ، والعقل البشري لا يستطيع أن ينفصل عن أبويه، وأحد أبويه هو البيئة، أي الزمن والمكان الذي يعيش فيه، العقل البشري لا يستطيع أن يتحرر من البيئة التي يعيش فيها.

والأب الثاني هو التاريخ؛ أي الخبرة التراكمية، الإنسان قبل ألف سنة لا يستطيع أن يخطط للإنسان الآن لأن الخبرة التراكمية للمعارف والتجارب البشرية التي كانت قبل ألف سنة لا تمتلك المادة الخام التي باستطاعة الإنسان أن يبلورها إلى قانون يصلح لألف سنة قادمة، ولا الإنسان الآن بحكم التراكم العلمي والتراكم المعرفي الذي وصل إليه الآن لا يستطيع أن يستثمر هذه المادة الخام التراكمية ليبدع قانون يصلح لمن يأتي بعد ألف سنة، العقل البشري ليست عنده القدرة، العقل البشري ابن أبويه البيئة والتراكم المعرفي التاريخي، ولا يمكن أن يتجرد من أبويه ليبدع قانوناً يُصلح الإنسان ويوصله إلى الهدف في كل زمن وفي كل مجتمع، وفي كل ثقافة.

إذن العقل البشري لا يمكن الاتكاء عليه في صياغة القانون الذي يوصل الإنسان في جميع المجتمعات والثقافات إلى الهدف الذي خلق من أجله.

 المحتمل الثالث: لوجود الإنسان هدف وهذا مقتضى العقل المصمم عقلاً حكيماً، وأن العقل البشري لا يمكن أن يوصل الإنسان إلى الهدف، ولكن نزول القانون من السماء باللغة البشرية سيعطل الهدف، صحيح أن للإنسان هدف، صحيح الإنسان لا يستطيع أن يصل للهدف بنفسه ويحتاج إلى قانون السماء ليوصله إلى الهدف، لكن نزول القانون السماوي بلغة بشرية يحول القانون إلى قانون بشري، فيعطل فاعلية الهدف.

وهذا المحتمل أيضاً محتمل باطل لأنه إذا كان مقتضى كون العقل المصمم حكيماً أن يجعل لوجود الإنسان هدفاً إذن مقتضى حكمة العقل المصمم أن يختار وسيلة لإيصال الإنسان إلى ذلك الهدف، إذا قلنا بأن نزول الوحي باللغة البشرية يوجب ضياع الهدف وتعطيل القانون السماوي رجعنا إلى اللغوية والعبث، وجود الإنسان عبث لأن الهدف من وجوده لا يمكن تحقيقه باعتبار أن القانون السماوي متى ما نزل وتقولب باللغة البشرية تعطل الهدف.

 المحتمل الرابع: أن الهدف من وجود الإنسان بالقانون السماوي يمكن تحقيقه باللغة التي ينزل بها وذلك لعاملين، كل رسالة لا يمكن أن تنجح إلا بعاملين وهما: حسن الصياغة وضمان الوسيلة.

القانون الذي تصدره الدولة لا يمكن أن ينجح ويصبح قانون فاعل إلا بعاملين أن يصاغ القانون صياغة متطابقة مع الأهداف والغايات، وأن يختار له وسيلة إعلامية مضمونة في إيصاله إلى المواطن بلا زيادة ولا نقص، حتى يكون القانون فاعلاً يحتاج إلى هذين العاملين، وهذان العاملان متحققان في نزول الوحي باللغة:

العامل الأول: حسن الصياغة.

أن الله تبارك وتعالى أنزل الوحي باللغة العربية، أو بأي لغة، صحف إبراهيم نزلت باللغة الآرامية، توراة موسى نزلت باللغة العبرية، الوحي على النبي محمد نزل باللغة العربية، الله تبارك وتعالى عندما اختار نزول الوحي باللغة العربية فمقتضى حكمته كما صمم الوجود على أحسن نظام قادر على أن يصوغ الوحي بلغة هي أقرب لمقاصده وأهدافه ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر: 57] خَلَقَ الإنسان بأجمل وأبدع خلقه، خُلق طبق نظام ميكانيكي يديره من الدماغ إلى كل عضلة وكل ذرة في جسمه، وهذا النظام وهذا الفضاء المليء بالمجرات والنجوم العملاقة خلقها بأبدع نظام وأبدع تصميم، وخلقها أكبر من خلق الناس، فالذي هو قادر على أن يبدع وجوداً بهذا المستوى عاجز عن أن يصوغ الوحي بلغة هي أقرب لمراداته وأهدافه ومقاصده؟!

لهذا الآيات القرآنية تناولت هذه النقطة، قوله تعالى: ﴿حم «1» وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ «2» إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ «3» وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ «4» [الزخرف: 1 - 4] هذا القرآن قبل أن ينزل إلينا كان في أم الكتاب، ولما كان في أم الكتاب كان علياً حكيماً، علي يسمو على الأفهام لا يمكن أن تناله الأفهام لأنه ما كان لغة وحروفاً حتى تفهم، فكان عالياً على الأفهام، خرج من حالة العلو إلى حالة الوضوح ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، خرج من حالة العلو إلى حالة الإبانة ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ «193» عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ «194» بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ «195» [الشعراء: 193 - 195]

وحكيم يعني محكم، وأيضاً خرج من حالة الإحكام إلى حالة التفصيل، القرآن نفسه يقول: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1] من إحكام إلى تفصيل، أي أن هذا القرآن كان قواعد عامة، ومن ثم انطلق إلى مرحلة التفاصيل.

السيد الأستاذ المرجع الأعلى السيد السيستاني مد ظله عنده نظرية يختص بها في علم الحديث يقول: روايات أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين تصنف إلى صنفين: تعليم وإفتاء. روايات أهل البيت ليست كلها نفس واحد ومضمون واحد، هي على صنفين، صنف يتحدث عن القواعد، يتناول قواعد عامة «لا ضرر ولا ضرار» «ما جعل عليكم في الدين من حرج» «ما غلب الله عليه فالله أولى بالعذر» «كل شيء شككت فيه وقد دخلت في غيره فشكك ليس بشيء» «لا تنقض السنة الفريضة» هذه قواعد وقد طرحها الأئمة للتعليم، ورد عن الإمام الصادق : علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع.

وقسم من الروايات هي إفتاء، الناس مثلاً تلتقي بأهل البيت في الطريق، في البيت، في المسجد الحرام، تستفتيهم في أعمالهم فيفتون لهم، فتاوى صدرت منهم في قضايا جزئية معينة.

أيضاً القرآن الكريم لدينا آيات تشكل قواعد وتسمى محكمات هن أم الكتاب﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ [الأنعام: 103]، ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الإسراء: 70]، ﴿أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة: 275]، ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد: 25]، ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13] هذه كلها قواعد، محكمات الكتاب.

والقسم الثاني من الكتاب هي تفاصيل، وحوادث جزئية ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة: 1]، ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب: 37]، ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ [التوبة: 101]، ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران: 123]، ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ «1» وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا «2» فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا «3» [النصر: 1 - 3] هذه كلها تفاصيل.

إذن القرآن محكمات وتفاصيل، خرج من الإحكام إلى التفصيل لمدة ثلاث وعشرين سنة، بالنتيجة نريد أن نقول أن الله تبارك وتعالى حقق العامل الأول لسلامة الهدف وتحقيق الهدف ألا وهو حسن الصياغة؛ صاغ الوحي بأفضل ألفاظ هي أقرب إلى مقاصده وأهدافه.

 العامل الثاني: ضمان الوسيلة.

هل الوسيلة مضمونة حتى نقول بأن الوحي وصل إلينا بلا زيادة ولا نقصان؟

نعم الوسيلة مضمونة، الله تبارك وتعالى اتخذ أربعة إجراءات لضمان الوسيلة التي من خلالها نزل الوحي وصيغ:

 الإجراء الأول: أن الله هو الذي تكفل بصياغة القرآن، ما أعطى القرآن لأي بشر حتى يصوغه، ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ «193» عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ «194» بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ «195» [الشعراء: 193 - 195] ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ «16» إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ «17» فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ «18» [القيامة: 16 - 18]

 الإجراء الثاني: العصمة، الرسول الذي يستقبل الوحي ويقرؤه ويبلغه ويطبقه معصوم في هذه النقاط الأربع، فهو معصوم في تلقيه، معصوم في قراءته، معصوم في تبليغه، معصوم في تنفيذه، هذا إجراء ثاني لسلامة الوسيلة لذلك يقول القرآن الكريم: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى [الأعلى: 6]، ويقول القرآن الكريم: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى «3» إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى «4» [النجم: 3 - 4]، يقول القرآن الكريم: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا «26» إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا «27» لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا «28» [الجن: 26 - 28]

ويقول: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ «44» لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ «45» ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ «46» [الحاقة: 44 - 46] إذن الوسيلة مضمونة بالعصمة، عصمة هذا الشخص الذي تلقى وقرأ وبلغ ونفذ.

 الإجراء الثالث: أن الله تكفل حتى ببيان القرآن وليس فقط بصياغته وجمعه، ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ «17» فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ «18» ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ «19» [القيامة: 17 - 19] حتى على مستوى البيان نحن تكفلنا به حتى نضمن سلامة الوسيلة، ولذلك قال: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [الجمعة: 2] الكتاب يحتاج إلى تعليم وبيان.

 الإجراء الرابع: أن الله وضع في القرآن الطريق الذي يزيل الإجمال والغموض، صاحب الاتجاه الأول قال إن اللفظ العربي بعضه مجمل وإجمال اللغة انعكس على الوحي فصار الوحي مجمل، لكن ما المحذور في كون بعض ألفاظ القرآن مجملة؟! إنما يكون هناك محذور لو لم يضع الله في داخل القرآن طريقاً لرفع هذا الإجمال وهذا الغموض، قال تبارك وتعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ [آل عمران: 7] الرجوع إلى الراسخين في رد المتشابهات إلى المحكمات يرفع الغموض والإجمال، قال تبارك وتعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل: 43].

إذن الرسالة لا تنجح إلى بعاملين: حسن الصياغة وضمان الوسيلة، وكلا العاملين تحققا في نزول القرآن باللغة العربية فأين المشكلة التي يقال عنها بأن الوحي تأثر باللغة وخضع لها وتأطر بها وتحجم بها، بل الوحي استثمرها.

 الوجه الثاني:

إذا كان نزول الوحي باللغة يؤطر الوحي فنحن بين خيارين: إما أن لا ينزل الوحي حتى لا يتأطر وإما أن ينزل بهذه اللغة فيصيب بعض أهدافه، فأي الخيارين أحكم في تحقيق الهدف؟ أي الطريقين هو الأكثر حكمة في مجال تحقيق الهدف؟

من الطبيعي أن يكون الطريق الثاني، لأن الطريق الأول وهو أن لا ينزل الوحي، لازم عدم نزوله إيكال القانون إلى عقل الإنسان، وإيكال القانون إلى عقل الإنسان معناه عدم وصول الإنسان إلى الهدف الحقيقي الذي من أجله وجد.

انظر إلى عصبة الأمم منذ أن تأسست إلى أن صارت هيئة الأمم، والقوانين فيها تراجع سنوياً، حذف إضافة، تفضيل، اختيار صياغة أفضل، وهذا معناه أن العقل البشري في حالة تغير وتجدد نتيجة الخبرة المعرفية التراكمية، إذن إيكال القانون الموصل إلى الهدف الصالح لكل زمن ومجتمع إلى العقل البشري معناه تعطيل الأهداف السماوية، فيتعين إذن الطريق الثاني، وهو أن ينزل الوحي ويتأطر باللغة البشرية فيصيب سبعين بالمئة من أهدافه على الأقل.

القرآن عالج حقول أربعة: الموعظة، والقانون، وأسرار الطبيعة، والغيب.

ففي الحقل الأول الموعظة والحكمة، هل اللغة العربية قاصرة عن أن تكون بياناً للموعظة والحكمة؟ طبعاً ليست قاصرة.

وفي الحقل الثاني القانون، واللغة العربية غير قاصرة على أن تكون وعاء لقانون اعتباري يدور بين وجوب أو حرمة أو حلية.

وعالج في الحقل الثالث أسرار الطبيعة ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [النمل: 88]، ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [الذاريات: 47]، ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا [الأنبياء: 30] وهذه الأسرار أراد الله بها للإنسان أن يكتشفها بخبرته وعلمه التراكمي على مدى استمرار هذا العلم والمعرفة المنبسط على عمود الزمن، أصلاً الغرض من ذكر أسرار الطبيعة هو إعطاء عقل الإنسان مزيداً من التأمل والتفكير والشحذ.

وأما الحقل الرابع وهو المغيبات فإن الإنسان لا يستطيع أن لا يصل إليه لا لمشكلة في اللغة بل مشكلة فيه لأنه غيب، حديث الله عن الموت، عن الآخرة، عن الملائكة، عن ما وراء الطبيعة لا يمكن أن يصل الإنسان لحقيقته التامة لا لأن اللغة قاصرة بل لأن المعنى نفسه هو من صنف الغيب الذي لا يمكن لمن هو في عالم الشهادة أن يناله.

إذن نزول القرآن باللغة العربية إذا لم يحقق 100% من الأهداف سوف يحقق على الأقل 70%، فإذا دار الأمر بين خيارين بين عدم نزول الوحي أو نزوله مع تحقيق 70 % من الأهداف تعين الطريق الثاني.

 الوجه الثالث:

إنما استُشهد به من قبل الاتجاه الأول لإثبات أن الوحي يتأثر باللغة، أو أن الوحي يتحجم باللغة، والشواهد التي استُشهد بها على ذلك:

الشاهد الأول: أن الأمثال العربية انعكست على الوحي، مثل الحمار، والكلب، والبعوضة، وسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، وهذا المثال محل نقاش، أولاً هذه الأمثال ليست عربية، أغلب المجتمعات فيها الكلب والحمار، فأين المشكلة في التمثيل بالكلب والحمار والبعوضة؟ هي ليست أمثال خاصة بالبيئة العربية، أغلب المجتمعات تعيش هذه الحيوانات، وتعيش هذه الألوان وتعيش هذه الأمثال، هي ليست أمثال خاصة باللغة العربية حتى يقال انعكست أمثال اللغة العربية بالوحي.

ثانياً لنفترض أنها أمثال عربية لكن القرآن ذكر النكتة في التمثيل، وبما أن القرآن ذكر النكتة في التمثيل فلا إشكال في أن يمثل بمثل عربي مع ذكر النكتة فيه فيفهمه كل من يقرأ هذه الآية، مثلاً في الكلب الهراش ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف: 176]، ومثّل للحمار في عدم الوعي ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة: 5].

ومثّل بالسراب في الصحراء كمثال للخداع ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً [النور: 39]، الأمثلة ذكرت مع النكتة والحكمة من التمثيل بها فأين المشكلة في ذلك؟ نعم توجد مشكلة إذا أوجبت خلل في الهدف أو في المعنى.

الشاهد الثاني: المعتقدات العربية، العرب يعتقدون بالسحر والجن والحسد وهيئة بطليموس، وهذه العقائد خرافات ذكرها القرآن مجاراة للعرب.

نقول أولاً الجن مخلوق موجود ولم يقم أي دليل علمي على نفي وجود الجن إطلاقاً، والقرآن الكريم كما أخبر عن طريق الوحي بالأمور الأخرى أخبر عن طريق الوحي بوجود الجن، أي عندما يقول القرآن أقيموا الصلاة ألا نقبل ذلك ونقول هذا وحي؟ كذلك يقول القرآن: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا [الجن: 1]، ذاك وحي وهذا وحي، التبعيض والتفكيك بأن يقبل الوحي في جهة دون جهة أخرى تفكيك بلا وجه، وتحكم بلا وجه، فالجن قام عليه دليل قرآني، ولم يقم دليل علمي على نفيه.

السحر ذكرنا فيما سبق أن السحر لا حقيقة له، والقرآن نفسه قال لا حقيقة له ﴿وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه: 69]، ﴿قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ [يونس: 77] إنما تناول القرآن السحر لأن السحر أمر سائد في المجتمعات البشرية كلها، ولأن القرآن كتاب هداية، ولابد من كتاب الهداية أن يحدد موقفه مما هو السائد لدى المجتمع البشري فحدد موقفه من السحر وقال: ﴿وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى

الحسد ذكرنا في ليالي سابقة أنه يمكن أن يكون الحسد حقيقي، لا نستطيع أن ننفيه ولا أن نثبته، من المحتمل أن الحسد له تأثير غيبي والعلوم التجريبية المادية لا يمكن أن تنال ما وراء عالم المادة، ويمكن أن يكون تأثيره تأثيراً مادياً لكن إلى الآن لم تستطع التجربة المادية أن تضع حدوداً لإحراز حقيقة الحسد، ولذلك القرآن نسب الشر للحاسد إذا أظهر حسده ﴿وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق: 5].

أما هيئة بطليموس نعم ذكر القرآن الكريم سبع سماوات طباق، ولم يذكر القرآن سبع أرضين وإنما قال: ﴿وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق: 12] يعني الأرض التي نحن نعيش عليها هي ذات سبع طبقات لا أن هناك سبع أرضين. وذكر سبع سماوات طباق، وبعض التفسيرات تقول طباق تعني سماء فوق سماء، وتفسير آخر يقول طباق تعني متطابقة في النظم، كل السماوات أنظمتها مشتركة، طباقاً أي متطابقة من حيث الأنظمة والطرق، يبقى العدد «سبعة» لم يقم أي دليل علمي حتى الآن على نفي هذا العدد، صحيح لم يصل العلم إليه لكن لم يصل إلى نفيه أيضاً، لم يقم أي دليل علمي على عدم وجود سبع سماوات، وإن كان العلم لم يكتشفه فذلك لا علاقة له بهيئة بطليموس إطلاقاً، لذلك هنا عدة محتملات لسبع سماوات:

  1. المحتمل الأول: أن لهذا الفضاء اللامتناهي الذي يتمدد في كل لحظة بسرعة الضوء له حدود وهمية سبعة لم يصل العلم إلى منتهاها، فنحن ما زلنا نعيش في هذه المجموعة الشمسية التي نخضع لها.
     
  2. المحتمل الثاني: نظرية الأكوان المتوازية، أي أنه من المحتمل أن وراء هذا الكون كله بكل مجراته وكل نجومه سبعة أكوان أخرى موازية لهذا الكون، ما زال عقل الإنسان صغير، ما زال الإنسان لم يصل إلى أول سنتمتر من الطريق، بعده ما وصل إلى شيء، فعندما يقول القرآن الكريم: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [الجاثية: 13] ما زال الإنسان في أول الطريق، سيصل يوماً من الأيام إلى أن يسيطر على السماوات كلها والأرض.

الشاهد الثالث: أن القرآن وافق العادات العربية وأمضاها ومن هذه العادات تعدد الزوجات، هذه ليست عادة عربية، هذا قانون، والإسلام أباح تعدد الزوجات لمصالح تقتضيها ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ [النساء: 3]

وفي قيمومة الرجل على المرأة ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [النساء: 34] القرآن جعل توازن بين النفقة والقيمومة، من أعطي القيمومة تحمّل مسؤولية النفقة، ومن أُريح من مسؤولية النفقة لم يعطَ القيمومة، ولأن القرآن ألزم الرجل بالنفقة جعل لهذه المسؤولية معادل وهو أنه أعطاه القيمومة، وقيمومة الرجل على المرأة تعني أن الطلاق بيده وأن لا تخرج من بيت الزوجية إلا بإذنه.

وأما الرقيق فأي مجتمع بشري ترك الرقيق؟ الهند والصين والأمريكيتان وأوروبا؟ الرقيق في الولايات المتحدة إلى قبل 120 سنة كان موجوداً وكانوا يعتمدون عليه اعتماداً كلياً، ليس الإسلام هو الذي أبدع الرقيق أو أباحه أو أمضاه، كل المجتمعات البشرية كانت تعيش على هذا النظام نظام الرقيق، الرقيق كانت عجلة الاقتصاد في المجتمعات البشرية قائمة عليه، الآن بعض دول الخليج قائمة على العامل الأجنبي، عجلة السوق في بعض دول الخليج قائمة على العامل الأجنبي، حركة الإنتاج والتوزيع قائمة على العامل الأجنبي، إذا خرج العامل الأجنبي تنهار حركة السوق وعجلته، هكذا كان الحال عندما جاء الإسلام إلى المجتمع البشري، كانت حركة الاقتصاد وعجلة السوق قائمة على الرقيق، لو أن الإسلام ألغى الرقيق للزم انهيار عجلة الاقتصاد، انهيار حركة السوق في مجال الإنتاج والتوزيع، لذلك الإسلام تعامل مع الرقيق بشكل تدريجي، أولاً جعل الكفاءة للتقوى وليس للحرية ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13] الأكرم هو الأتقى حراً أو عبداً، وقال تبارك وتعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء: 70]

ثانياً حث الإسلام على العتق، وجعل كفارة كثير من الأخطاء العتق، من فطر متعمداً كفارته عتق رقبة، من ظاهر زوجته كفارته عتق رقبة.... ألخ

وثالثاً رفع الإسلام بعض العبيد وجعلهم قادة وطليعة في صحابة رسول الله ، عمار بن ياسر وسلمان الفارسي وبلال بن رباح كانوا عبيداً، والإسلام رفعهم وجعلهم قادة حتى على الأحرار، وهذا ما تمثل في كثير من أصحاب أهل البيت كانوا من العبيد والرقيق، في كربلاء حسب ما أحصى بعض المؤرخين أن اثني عشر رقيقاً قتلوا في كربلاء مع الحسين، كانوا مع الحسين ومع أبناء الحسن ومع أنصار الحسين لكنهم كانوا واعين وأصحاب مبادئ وقيم، لذلك تقدموا للفداء والتضحية بين يدي الحسين يوم عاشوراء وهم من الرقيق، جون مولى أبي ذر الغفاري لما استعر القتال أقبل للحسين قال له: ائذن لي بالقتال. قال الحسين: إنما لحقتنا طلباً للعافية وهذا القتال لنا وليس لك. قال: لا يا سيدي امنن علي بالقتال أريد أن يختلط دمي الأسود بدماء آل بيت رسول الله.