ليلة 18 من شهر محرم الحرام 1445هـ

تتجلى الهدفية في ظواهر الكون أم العبثية؟!

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: 29]

صدق الله العلي العظيم

انطلاقاً من الآية المباركة نتناول ثلاثة محاور:

  • في التزاوج بين العلل الأربع.
  • في الفرق بين المفردة الأخلاقية والمفردة القانونية.
  • في أبعاد الملكية.
 المحور الأول: في التزاوج بين العلل الأربع.

يقول الفلاسفة العلل أربع: فاعلية، ومادية، وصورية، وغائية.

مثلاً النجار حينما يصنع الكرسي أو يصنع السرير ففي هذا العمل تجتمع عوامل أربعة، فهناك علة فاعلية وهو النجار الذي بذل جهداً في صنع هذا السرير، وهناك علة مادية وهي المادة الخشبية التي منها صنع السرير، وهناك العلة الصورية وهي الهيئة والشكل والكيفية التي على أثرها وجد السرير، وهناك العلة الغائية من صُنْع هذا السرير ألا وهي الاستخدام في مجال النوم والاستراحة.

العلل الأربع فاعلية ومادية وصورية وغائية تجتمع في عمل واحد، في جهد واحد، هذا الوجود الذي نعيش فيه تزاوجت فيه العلل الأربع واجتمعت، وتمت مسيرة الوجود عبر هذه العلل الأربع والعوامل الأربعة وذلك من خلال عدة أجزاء:

  1. الجزء الأول: عمر هذا الوجود بحسب نظرية الانفجار العظيم 13.7 مليار سنة، أربعة مليون سنة منها ظلام دامس بعد الانفجار، ثم تشكلت النجوم العملاقة، ثم لم تلبث عمراً طويلاً حتى انفجرت وتحولت العناصر البدائية بعد الانفجار إلى العناصر الثقيلة ومنها الهيدروجين والهيليوم، وتكونت منها كواكب وجسيمات.
     
  2. الجزء الثاني: أن المجرات التي يتألف منها الكون الآن ما جاءت إلا بعد الانفجار بسبع مليار سنة، جاءت من العناصر الثقيلة التي تمت عبر انفجار النجوم العملاقة، النجوم العملاقة تنفجر وتتبعثر هذه العناصر بحكم قوة الجاذبية، تجتمع فتتشكل منها هذه المجرات العظيمة. هذه المجرات التي نراها هي عبارة عن العهد الثالث للنجوم، نجوم فانفجار، ونجوم فانفجار، ونجوم فانفجار إلى أن تشكلت هذه البنية والهيئة، العلة الصورية، عبر هذه المجرات بعد سبعة مليار سنة.
     
  3. الجزء الثالث: هذه الشمس التي ننعم بدفئها وضوئها وحرارتها أيضاً تكونت من عناصر جاءت نتيجة انفجار نجوم عملاقة فتكونت هذه الشمس وبناتها، وبناتها هن المريخ والزهرة والمشتري والأرض وزحل وأورانوس ونبتون، فأصبحت تدور حولها.

    الشمس ليست جسماً صلباً مثل الأرض والقمر والمريخ، الشمس كتلة غازية تعيش على ضوء انفجارات نووية في عمقها وداخلها لذلك ترى العبير القرآني عن الشمس تعبير دقيق عندما تحدث عن الشمس قال: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [يس: 38] لم يقل القرآن أن الشمس تتحرك، ولم يقل أن الشمس تدور، قال والشمس تجري، التعبير بالجريان فيه إشارة دقيقة إلى طبيعة الشمس، الأرض لأنها كوكب صلب لذلك هي تدور وتتحرك، ولكن الشمس لأنها كتلة غازية ملتهبة فهي لا تدور ولا تتحرك مثل الأجسام الصلبة وإنما تجري كما يجري الزيت على السطح ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ «39» لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ «40» [يس: 39 - 40]
     
  4. الجزء الرابع: الأرض التي نعيش عليها، الأرض جاءت قبل أربعمئة مليار سنة، تكونت هذه الأرض فانفصلت عن الشمس، تكونت ثم بردت حتى أصبحت بهذه الهيئة، الأرض هي مجموعة هذه العناصر، أي أن الأرض من الشمس والشمس من النجوم العملاقة، فالأرض اجتمعت فيها هذه العناصر التي هي من جذور الوجود ومن النجوم العملاقة.
     
  5. الجزء الخامس: جاء الإنسان بعد مئات الملايين من السنين من وجود الأرض، جاء الإنسان من هذين العنصرين الماء والطين، الخلية الحية تبرعمت عبر هذين العاملين وفي رحم هذه البيئة، تبرعمت الخلية الحية وبدأت تطوراً معيناً إلى أن وُجِدَ الإنسان ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا «13» وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا «14» [نوح: 13 - 14] انتقلتم من طور إلى طور، ومن شكل إلى شكل إلى أن أصبح الإنسان بهذه الصورة.

    هذا ما يعبر عنه القرآن الكريم: ﴿وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ [السجدة: 7] وقال: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ [الصافات: 11] هذا الجسم يحمل العناصر الموجودة في الأرض، والعناصر الموجودة في الأرض جاءت من الشمس، والعناصر الموجودة من الشمس جاءت من انفجار النجوم العملاقة، فالإنسان هو خلاصة الكون كله وخلاصة الوجود، كل جسم الإنسان هو مؤلف من العناصر التي تألف منها الوجود كله، وتألف منها الكون، الإنسان هو خلاصة هذا الكون خلاصة هذا الوجود.

من هنا يعبر القرآن الكريم: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [الجاثية: 13] يعني أجسامكم ووجودكم هي مجموعة عناصر جاءت من كل ما في السماوات وما في الأرض، تشكلت بنيتكم وأجسادكم وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض، ويقول الشاعر:

وَتَحْسًبُ  أَنَّكَ جِرْمٌ iiصَغِيرٌ   وَفيك انطَوَى العالمُ الأكبرُ

أنت خلاصة الوجود أنت مظهر الوجود كله أيها الإنسان، الأرض بالنسبة إلى مجرتنا الشمسية التي نعيش فيها هي نسبة ذرة من الغبار إلى الأرض، فلماذا يركز القرآن على الأرض؟

التركيز على الأرض لأنها مهد الإنسان ومسكنه، التركيز على الأرض هو تركيز على الإنسان، ذكر الأرض هو إشارة إلى الإنسان الذي يعيش على الأرض، هذا الإنسان العظيم الذي قال عنه القرآن الكريم: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء: 70]، ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ [الأحزاب: 72]

الإنسان هو مركز العظمة، الإنسان هو مركز الرعاية والعناية، لذلك يذكر وعاء الإنسان وهو الأرض للإشارة إلى عظمة الإنسان نفسه. جاء الإنسان يحمل هذه العناصر كلها، عناصر الوجود كله، من هنا يتبين لنا التزاوج بين العلة الفاعلية، والعلة المادية، والعلة الصورية، والعلة الغائية.

العلة الفاعلية هو الله الذي أبدع هذا الوجود، والعلة المادية هي هذه العناصر التي تكونت منها النجوم العملاقة ثم تكونت منها المجرات، والعلة الصورية هي صورة هذا الوجود البديع الجميل الذي يقول عنه القرآن الكريم: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53] والعلة الغائية هي الإنسان، كل الوجود لأجل الإنسان، وكل النعم لأجله، جمع العناصر كلها، ولذلك ورد في الحديث القدسي: >خلقت الكون لأجلك وخلقتك لأجلي< أنت الهدف، أنت العلة الغائية.

فأي إنسان عندما يقرأ مسيرة الوجود ويقرأ نظرية الانفجار العظيم تقوده النظرية إلى الإيمان بالله عز وجل، تقوده النظرية إلى أن هناك تصميماً ذكياً هادفاً وهو الوصول إلى وجود الإنسان ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ [الأنبياء: 16]، ﴿مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ [الدخان: 39]، ﴿لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء: 17]

 المحور الثاني: في الفرق بين المفردة الأخلاقية والمفردة القانونية.

مسيرة الوجود أوصلتنا إلى لائحة الحقوق، هناك فرقٌ يذكره علماء الأخلاق بين البعد الجمالي والبعد الأخلاقي والبعد الحقوقي. هناك ثلاث مفردات: تذوق الجمال وحسن الأخلاق وأهمية الحقوق.

تذوق الجمال شيء عام، يتذوق الإنسان جمال الطبيعة، يتذوق لوحة الفنان، يتذوق الصوت الجميل. تذوق الجمال شيء أعم من الأخلاق والحقوق، تلاحظ أن الفرق بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية أن الحضارة الغربية تركز على البعد الجمالي أكثر من التركيز على البعد الأخلاقي، بينما الحضارة الإسلامية لا ترى للبعد الجمالي قيمة إلا في إطار البعد الأخلاقي.

فإذا كنتَ فنان فإن الحضارة الغربية تقول لك بما أنك فنان لك الحرية المطلقة في أن تمارس فنك وتبدع وتبرز موهبتك الفنية في هذا المجال مجال البعد الجمالي حتى لو رسمت فتاة عارية، أنت كفنان من حقك هذا.

أنت صاحب صوت جميل فمن حقك أن تلحن وتغني، أنت فنان مارس فنك، أبرز موهبتك حتى لو كانت أغنيتك مجموعة من ألفاظ الفسوق والمجون.

لذلك تلاحظ التركيز على البعد الجمالي على حساب البعد الأخلاقي والقيم الأخلاقية، بينما الحضارة الإسلامية تقول: الفن قيمة محترمة لكن في إطار الأخلاق، الفن قيمة إنسانية عظيمة لكن من خلال بُعْد الأخلاق، أنت حر أن ترسم هذه اللوحات الزيتية الجميلة لكن لا على حساب الأخلاق كأن ترسم فتاة عارية، ليس إلى هذا الحد، الفن لابد أن يكون في إطار الأخلاق.

أنت صاحب صوت جميل من حقك أن تمارس موهبتك في هذا الصوت الجميل لكن لا على حساب الأخلاق فتبرز مجموعة من ألفاظ الفسوق والمجون التي تجر الناس إلى العلاقات الشهوية غير المشروعة، الفن ضمن الأخلاق وليست الأخلاق ضمن الفن.

المفردة الجمالية تعني التذوق واللطف والشعور بالبهجة، بينما المفردة الأخلاقية هي عبارة عن قيم يمدحها المجتمع العقلائي أو يذمها. المجتمع العقلائي يمدح العادل ويذم الظالم، يمدح الصادق ويذم الكاذب، هذه هي الأخلاق.

الأخلاق قيم قامت عليها المجتمعات العقلائية فهي غير البعد الجمالي.

الفرق بين المفردة الأخلاقية والمفردة الحقوقية أن الحقوق لها ضمان جزائي، والأخلاق ليس لها ضمان جزائي، الصدق خلق والأمانة حق، يقول أحدهم أنا لست ملزم بالصدق، أصدق أو لا أصدق المهم أن لا أضر غيري، قد يكذب عليك إنسان كذباً لا يضر بك، هو هنا لم يتجاوز حق وإنما تجاوز الأخلاق. الصدق خلق وليس حق، الصدق إذا لم يكن مضراً فهو خلق وليس حق، لأن الصدق ليس له ضمان جزائي أما الأمانة هي حق، من خان الأمانة فعليه ضمان جزائي، فيعاقب وعليه أن يضمن الأمانة التي فرط فيها وخانها، لذلك نعتبر الأمانة من مفردات الحقوق لأن عليها ضمان جزائي، بينما نعتبر الصدق من مقولة الأخلاق لأن ليس عليه ضمان جزائي.

الفرق بين احترام الآخر وبين حفظ حرمة الآخر، تارة أحترم الإنسان الآخر وهذا خلق، وتارة لا أحترمه فأكون قد تجاوزت الأخلاق ولم أتجاوز الحقوق. أما حفظ حرمة الآخر فهو حق من الحقوق وليس خلق، من حق كل مؤمن عليك أن لا تغتابه وأن لا تهتك حرمته، أن لا تتعرض لكرامته، إذا تعرضت لكرامته بغيبه أو هتك فهذا العمل عليه ضمان جزائي، لأجل ذلك يفرق بين حفظ حرمة الآخر بعدم الغيبة والنميمة، وبين احترام الآخر والتواضع له، الثاني خلق والأول من الحقوق.

 المحور الثالث: في أبعاد الملكية.

من الحقوق حق الإنسان في الملكية، وهذا الحق لابد أن نتفهم أبعاده، الملكية لها بعدان كما ذكر السيد الشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس سره في كتابه اقتصادنا في حديثه عن جهاز التوزيع: بعدٌ اقتصادي، وبعدٌ قيمي.

 البعد الأول: البعد الاقتصادي.

هناك عاملان ينتجان الملكية: عامل العمل والجهد، وعامل الحاجة.

  • العامل الأول: الجهد.

كل من بذل جهداً مَلَكَ حقاً، من هنا يأتي الحق، ورد عن الرسول محمد : ”من أحيا أرضاً مواتاً فهي له“، ”من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به“.

ننتزع من هذه الكلمات النبوية قاعدة، بذل الجهد يعني المُلْك والاستحقاق، أنت تستخرج المعدن من الأرض تملكه، أنت تطور المادة المعدنية وتشكل منها شيء تملكها، أنت تبتكر شيء تملك حق الملكية له، ولذلك الآن كثير من فقهائنا يرى أن حق الاختراع وحق البراءة من الحقوق الملكية المعنوية ويراها حقوق شرعية ولا يُتجاوز عليها، لو انا اخترعت فكرة فأنا أملك هذه الفكرة، لو اخترعت طريقة علمية معينة لا يجوز استخدامها بدون إذني، كل من ابتكر وكل من اخترع وكل من أنتج فله نتيجة جهده وعمله، كل هذا يدخل ضمن هذه القاعدة «من بذل جهداً ملك حقاً» نتيجة جهده يملكه ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة: 29] أنتم تملكون ما في الأرض إذا قمتم باستخراجه أو بتطويره أن بإنتاجه أو بالعناية به فهو لكم نتيجة جهودكم.

  • العامل الثاني: الحاجة.

في الاقتصاد الرأسمالي الحاجة عامل سلبي للملك وليست عامل إيجابي، عندهم قانون وهو التوازن بين العرض والطلب، كلما زاد العرض على الطلب تضاءلت القيمة بل قد تتحول إلى كساد، إذا البضاعة زاد عرضها في السوق على طلبها تقل قيمتها، حتى الإنسان هو طاقة تُستخدم إذا زاد عرضه أكثر من طلبه تقل قيمته، يعني إذا القوى العمالية توفرت في السوق أكثر من الحاجة يقل أجر العامل، الإنسان طاقة للتنمية مثل أي بضاعة أخرى، خاضع لقانون التوازن بين العرض والطلب، إذا زاد العرض على الطلب قلت أجرة العامل، لذلك من هنا يرى الاقتصاد الرأسمالي أن الحاجة هي عامل سلبي لأن الحاجة تعني ليس هناك إنتاج ولا جهد وإنما مجرد حاجة. الناس ثلاثة: شخص ينتج أكثر من حاجته، وشخص ينتج بمقدار حاجته، وشخص لا ينتج وإنما يحتاج.

من يعمل يستحق أن يملك، ولكن من لا يعمل لكنه محتاج فهل حاجته سبب للملك والاستحقاق؟

الاقتصاد الرأسمالي يقول الحاجة عامل سلبي للملكية وليس عاملاً إيجابياً، بينما الدين الإسلامي يفترق عن المنظومة الرأسمالية في هذا المجال مجال الضمان الاجتماعي، مجال الضمان الاجتماعي في الغرب عموماً وفي الاقتصاد الرأسمالي كله شرقاً أو غرباً هو جزء من الضريبة التي تؤخذ من المواطن أو المقيم، فهو جزء من ضريبة تفرضه الدولة لسد حاجة الضمان الاجتماعي، بينما الدين يرى أن الفقير شريك معك في الأموال، القرآن الكريم عندما يقول: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة: 60]

القرآن الكريم عندما يقول: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنفال: 41]

ذلك يعني أن جزء من الثروة التي تعبت عليها وبذلت جهدك في جمعها ليس لك، ليس تفضلاً منك هو شريك أساساً معك في الثروة، هو يملك من ثروتك في هذا النصيب، بل الخمس أعظم من ذلك 20% من الثروة التي تعبت عليها وجهدت فيها وبذلت وقتك وجهدك وفكرك فيها ليس لك من الأول، هذا الفقير والمسكين وابن السبيل بدون أي عمل بمنطق الحاجة، الحاجة أصبحت سبب للملك، يملك 20% من ثروتك بدون أي جهد قام به لأنه لا يستطيع أن يقدم أي جهد، لكنه شريك معك في الثروة.

الحضارة الإسلامية لا تتكلم عن ضريبة، الزكاة ليست ضريبة، الخمس ليس ضريبة، الحضارة الإسلامية لا تتكلم عن صدقة أو تطوع، الإنفاق الاجتماعي شيء والضمان الاجتماعي شيء آخر، الإنفاق نعم تطوع وعمل خير، القرآن الكريم يقول: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [آل عمران: 92]

أما الضمان الاجتماعي تغطية حاجة الفقراء من خلال الزكاة والخمس ليس ضريبة ولا تطوع، هو شريك معك في ثروتك، هو يملك جزء من ثروتك كما قال القرآن الكريم: ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات: 19]

ولذلك ورد عن الإمام أمير المؤمنين علي : ”ما جاع فقير إلا بما متع به غني“.

هذا المال الذي يستمتع به الغني هو للفقير، ما جاع فقير إلا بما متع به غني، إذن هذا هو الفرق الأساس بين الحضارة الإسلامية وبين الحضارة الرأسمالية، الحضارة الرأسمالية ترى أن هذا إنفاق أو أنه جزء من الضريبة التي تفرضها الدولة بينما الحضارة الإسلامية ترى أن الضمان الاجتماعي يعني أن الفقير والمسكين شريك معك في الثروة، ولأنه شريك معك في الثروة إذن الحاجة سبب للملك كما أن الجهد سبب للملك.

 البعد الثاني: البعد القيمي.

الملكية حق لكنها محفوفة بالقيم، أنت لست حراً في أموالك، المحورية ليست لك المحورية لله، المحورية في كل شيء ليست للإنسان وإنما لمن استخلفه ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 30] أنت مجرد خليفة أنت لست المالك الحقيقي ولست المحور الحقيقي، أنت خليفة على المال وعلى الطاقة، خليفة على كل هذه المعادن والكنوز، والمحورية لمن استخلفك ووضعك أميناً على هذه الكنوز والطاقات والمعادن، لأجل ذلك أنت لست حر في هذه الأموال، يقول القرآن الكريم: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء: 5]

هي أموالكم لكن ليس من حقك التبذير وليس من حقك أن تؤتيها السفهاء، ليس من حقك أن تبذل الأموال في شراء المخدرات أو المسكرات أو ترويج المعاصي أو حتى التبذير، أن تشتري أشياء لا تحتاج إليها ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا [الإسراء: 27]

ليس من حقك أن تضع الثروة إلا في مواضعها التي أمرك الله بها، الثروة والاقتصاد إنما يقوم على الأموال، جعلها قيام يعني جعل قوام الاقتصاد بالثروة لذلك ليس من حقك أن تهدم هذا الاقتصاد بالتبذير ووضع الأموال في غير مواضعها.

ومن البعد القيمي للملكية أن كثير من الناس عندما يقرأ النصوص الدينية يفهم منها أن الدين لا يحث على الثروة، الدين يحث على الزهد والفقر، وأن الدين منطقه سلبي تجاه الثروة والأموال، لا يحث الإنسان على جمع الثروات والأموال، إنما يحثه على الزهد والبعد عن الدنيا والتخلي عن الدنيا، هذا هو الدين.

هذا المفهوم غير صحيح أبداً، هناك فرق بين كنز الثروة وتحصيل الثروة، الدين يحثك على تحصيل الثروة، الدين يحثك على الغنى، الدين يحثك على الكسب وعلى استعمار الأرض وإعمار الحضارة ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا [هود: 61] طلب منكم الإعمار والإنتاج.

ورد عن الإمام أمير المؤمنين علي : ”قيمة كل امرئ ما يحسنه“. قيمتك في إنتاجك وعطائك.

إذن من يتوهم أن الدين الإسلامي صورته سلبية تجاه الثروات كما أن الزهد في الدنيا خصلة جميلة، كذلك جمع الثروة وتحصيلها المقترن بشكر النعمة هو أيضاً خصلة جميلة وعظيمة يمدح عليها الدين ويحث عليها الإسلام، الإمام أمير المؤمنين علي الذي ذم الدنيا وقال حب الدنيا رأس كل خطيئة، وقال إليك يا دنيا غري غيري لقد بنتك ثلاثاً هو نفسه الذي يقول: الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار غنى لمن تزود منها، مسجد أحباء الله ومتجر أولياء الله، ومهبط ملائكة الله. الدنيا لها صفات جميلة إذا صدقها الإنسان، هي دار صدق لمن صدقها، ودار غنى لمن تزود منها، ومسجد أحباء الله لأن الإنسان يتعبد في الدنيا، لذلك ورد عن الإمام علي : ”ركعة لي في دنياكم أحب إلي من الجنة وما فيها“. أنا في الدنيا عندي نصيب من جمال اللقاء مع الله، عندي نصيب من لذة العبادة، ركعة لي في الدنيا أحب إليّ من الجنة وما فيها، مسجد أحباء الله، ومتجر أولياء الله، ومهبط ملائكة الله.

الدنيا ليست ذميمة، الذميم هو التعلق بالدنيا وليس بالدنيا، الذميم هو أن يطغى حب الدنيا على كل شؤونك وكل أعمالك، وليست الدنيا هي الذميمة.

عاصم بن زياد، والحارث بن زياد أخوان وكلاهما تاجران متمولان يملكان أموالاً وثروات، الحارث بنى له داراً واسعة وربما أكبر من حاجته، بينما عاصم ترك الثروة والأموال ولبس المسوح وترك عائلته وتفرغ للعبادة في المسجد، كلاهما كانا في زمن الإمام علي ، أقبل الإمام علي إلى الحارث بن زياد الذي بنى له الدار الواسعة، دخل عليه وقال: يا حار ما تصنع بهذه الدار؟ سكت، فقال له الإمام: إنك تستطيع أن تصل بها الآخرة. قال: وكيف؟ قال له: تقرئ الضيف وتصل الرحم وتخرج الحقوق من مخارجها، فإذا أنت فعلت ذلك فقد وصلت بها الآخرة.

أنت على ثروتك، وأجمع الأموال والثروة كما تريد، فقط صل الرحم، اقرئ الضيف، أخرج الحقوق من مخارجها فإذا أنت فعلت ذلك فقد وصلت بها الآخرة. ولذلك هناك كلمة عن الإمام علي : ”أجرُ الغني الشاكر كأجر الفقير الصابر“.

على قدر صبر الفقير وأجره على المعاناة والألم نتيجة الفقر المدقع فإن الغني الذي يُخرج الحقوق لا يقل أجره عنه، هذا الغني ينام مرتاح بنعمته وثرواته مع ذلك لأنه أخرج الحقوق ووصل الرحم أجره لا يقل عن أجر الفقير الصابر، أجر الغني الشاكر كأجر الفقير الصابر.

وبالنسبة إلى أخيه الذي ترك الدنيا وعزف عنها دخل عليه الإمام علي وقال له: يا عاص لقد استهام بك الخبيث أظننت أن الذي وهبك النعمة يحرمك منها؟ هو وهبك إياها فكيف يحرمك منها؟

فاستغرب العاصم من منطق الإمام علي، لأن الإمام يعيش حياة الزهد والتقشف والإعراض عن الدنيا فكيف يقول ذلك؟ فقال: سيدي أنا كأنت ها أنت تلبس المسوح والخشن من الثياب، وتأكل الجشب من الطعام. قال: يا عاص أنت لست كأنا إن الله فرض على أئمة العدل أن يساووا أنفسهم بضعفة الناس كي لا يتبيغ بالفقير فقره.

الموقع يختلف، موقعك أنت اجمع الثروة وتنعم بها وتمتع بشرط أن تخرج الحقوق من مخارجها، لكن موقع المرجعية والمحورية الدينية يختلف عن موقعك، موقع المرجعية والمحورية أن يساووا أنفسهم بضعفة الناس كي لا يتبيغ بالفقير فقره، الإمام علي هو وضع نفسه في هذا الموضع يعيش حياة الزهد والتقشف لأنه موضع القدوة والإمامة، موضع الزعامة الدينية بالنسبة للناس، لذلك دخل عليه ابن عباس وهو في منطقة ذي قار بالعراق يخصف نعله، التفت الإمام علي لابن عباس قال: يا ابن عباس ما قيمة هذه النعل عندكم؟ قال: لا قيمة لها. قال: إنها خير لي من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً.

الإمام أمير المؤمنين عليّ يقول: لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز ولكن هيهات أن يغلبني هواي أو يقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة ولعل باليمامة أو الحجاز من لا عهد له بالشبع ولا طمع له بالقرص، أأبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرى؟ أأقنع من نفسي أن يقال لي أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر؟ وحسبك داء أن تبيت ببطنه وحولك أكباد تحن إلى القد.

كان يحمل جراب الطعام المملوء بالخبز واللحم ويدور به على البيوت التي يتفقدها أثناء حياته ، بينما هو يأكل الخبز اليابس المرشوش بالملح والخل، وهذه السيرة انتقلت إلى أولاده، لذلك في يوم العاشر من المحرم حينما سُلب الثوب الذي على صدر الحسين ورُفع الستر عن جسمه وانكشف ظهره قال عمر بن سعد: يفخر علينا ابن فاطمة بأثر الجراب على ظهره.