ليلة 19 من شهر محرم الحرام 1445هـ

هل نملك الوعي والنقد البناء؟

تحرير المحاضرات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ «17» الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ «18» [الزمر: 17 - 18]

صدق الله العلي العظيم

انطلاقاً من الآية المباركة نتناول محاور ثلاثة:

  •  حقيقة الوعي.
  •  الوعي والوجود.
  •  الوعي والنقد.
 المحور الأول: حقيقة الوعي.

ما هو المقصود بالوعي؟ ما هي حقيقة الوعي؟

آناكا هاريس متخصصة في علم الأعصاب والفيزياء ولها كتاب «الوعي دليل موجز لسر العقل»، في هذا الكتاب[1]  تتحدث عن حقيقة الوعي، الإنسان لديه طاقة اسمها العقل، وهذه الطاقة لها عدة فعاليات ومن فعاليات طاقة العقل الوعي، فالوعي عبارة عن الإدراك عن خبرة وقدرة، الإدراك الذي يتضمن عنصرين: خبرة وقدرة على التمييز.

حتى تتضح هذه الحقيقة ألا وهي حقيقة الوعي نذكر المراحل التي يمر بها الإنسان حينما يريد أن يعي شيئاً أو يحلل، هناك الإدراك، ثم الحدس، ثم التمييز، فالبصيرة. مراحل أربع نمر عليها.

المرحلة الأولى: مرحلة الإدراك.

تصور الإنسان للأشياء يسمى إدراك، إدراك محض، إدراك ساذج، حتى عندما يجلس الإنسان من النوم فإنه يبدأ بالتصور ولكن ليس لديه وعي لأن الوعي يحتاج إلى استقرار.

المرحلة الثانية: الحدس.

وهو عبارة عن الشعور الغريزي بالخطأ أو الصواب، عندما تُلقى عليك معادلة رياضية أولاً يبدأ حدسك هل أن هذه الفرضية صحيحة أم هي خاطئة، فالحدس هو خطوة قبل الوصول إلى حل المعادلة، تأتي عند الإنسان حالة من الشعور الغريزي بالخطأ أو الصواب، وهي مرحلة ثانية بعد الإدراك.

المرحلة الثالثة: مرحلة التمييز.

يبدأ العقل بالانطلاق بفعالياته، ومرحلة التمييز لها عدة مظاهر وعدة تجليات، ومن مظاهرها:

1. الرشد: يقال فلان رشيد، فلان سفيه، يقول القرآن الكريم: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ [الأنبياء: 51]، ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء: 6] الرشد هو وضع الأشياء في مواضعها، ويقابله السفه ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء: 5]

2. التفكير: وهي القدرة على التحليل والاستنتاج والاستدلال، القرآن دائماً ينبه على ضرورة التفكير عندما يقول: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [العنكبوت: 20] اعملوا الاستدلال، اعملوا القدرة على التحليل والاستنتاج، لأنها فعالية من فعاليات العقل والتمييز.

3. الوعي: والوعي يعتمد على عنصرين: خبرة، وقدرة.

فالخبرة تعني الرجوع إلى الذاكرة. عندما تطرأ معلومة معينة ترى الدماغ مباشرة يذهب إلى الخزانة وهي الذاكرة، هل هذه المعلومة تدخل ضمن الأشياء التي أعرفها وتعلمتها أم لا، الرجوع إلى الذاكرة واستقراء لائحة الذاكرة يسمى بالخبرة، أن الإنسان يمتلك خبرة من خلال الرجوع إلى الخزانة المسماة بالذاكرة.

وأما القدرة على التمييز فبعد أن رجعتُ إلى الذاكرة عرفتُ أن الشيء يدخل تحت المعلومة الكذائية، وما هو المائز بينه وبين غيره.

كل معلومة تخضع لخبرة وقدرة على التمييز فهي وعي، والوعي إدراك يعتمد على عنصري الخبرة والقدرة على التمييز.

مثلاً يأتي للإنسان تساؤل هل الحمى مرض أو عرض؟ هنا يأتي الوعي يذهب الذهن إلى خزانة المعلومات ويصنف الأمراض حتى يدخل الحمى ضمن المرض أو ضمن العرض، ثم يميزه عن غيره من الأشياء.

وعندما يقال: الاعتراف بالخطأ فضيلة. هل صحيح أن الاعتراف بالخطأ فضيلة؟ وهل دائماً الاعتراف بالخطأ فضيلة؟ هنا تأتي عملية الوعي، نرجع هذه الكلمة إلى الذاكرة فنرى هل لها شبيه أم لا، ثم نميزها عن غيرها حتى نعرف هي فضيلة أم ليست فضيلة.

المرحلة الرابعة: مرحلة البصيرة.

الإنسان يصل إلى مرحلةٍ تكون الأشياء عنده واضحة وهو مطمئن بها. وضوح الأشياء مع الاطمئنان بها يسمى بصيرة، يقول القرآن الكريم عن النبي محمد : ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف: 108]

طريقي واضح وأنا مطمئن به وواثق به، مسرتي واضحة وعقائدي واضحة وأنا مطمئن بها، الوضوح والاطمئنان يُعبر عنه بالبصيرة، لذلك يقول القرآن الكريم: ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ «14» وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ «15» [القيامة: 14 - 15] أنت أبصر بنفسك من أي إنسان آخر، أنت أعرف بما يضرك وينفعك من أي إنسان آخر.

إذن في هذا المحور أردنا أن نحدد حقيقة الوعي وبينّا أن حقيقة الوعي هي إدراك الأشياء عن خبرة وقدرة على التمييز.

 المحور الثاني: الوعي والوجود.

هل الوعي يختص بالإنسان؟ أم أن الوعي ظاهرة وجودية للكون كله؟

صحيح أن الإنسان يمتلك أعلى درجات الوعي، لكن الوعي ليس حالة إنسانية، الوعي حالة وجودية، ظاهرة وجودية، في تفسير الآية المباركة: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء: 44]

عدة من المفسرين ومنهم السيد الطباطبائي صاحب الميزان يقول: هذا دليل على أن الكون كله يعيش حالة وعي وحياة، لأن الكون كله من أصغر ذرة إلى أعظم مجرة يسبح، والتسبيح فرع الحياة، ما كان ميتاً لا يمكن أن يسبح، فإذا كان كل الكون يسبح إذن كل الكون حي، كل الكون يعيش وعياً، كل ما في الكون من أصغر ذرة إلى أعظم مجرة عنده حالة وعي، حتى هذا الحجر الصلد الصلب يمتلك حالة وعي لأنه يمتلك تسبيح، ويمتلك حياة، ولكن لا تفقهون تسبيحهم.

هل العلم التجريبي يؤيد هذه الفكرة أن الكون فيه وعي وإدراك؟ هل الحجر الأصم عنده وعي وإدراك أم هي فكرة مجازية؟

هي حقيقة علمية، تذكر الدكتورة عالمة البيئة سازمان سيمارت في مذاكرتها وأرشيفها أنها لاحظت ظواهر غريبة في عالم النباتات، لاحظت أن بعض أنواع الأشجار كشجرة دوغلاس تنوب تساعد بعضها البعض بالمواد الغذائية وقت الحاجة، تقول الدكتورة: تحت الأرض عندما ننفذ إلى باطنها يوجد نظام واسع وشبكة تواصل تنقل المواد الغذائية بين الشعيرات وبين الفطريات، وبين الجذور، شجر معين في مكان بعيد جداً يحتاج إلى مادة غذائية، شجر آخر يمتلك نوعاً من الإحساس به يعطي إشارات وإيحاءات لهذه الشبكة الواسعة تحت الأرض تنقل هذه المادة الغذائية لذلك الشجر البعيد، وهذا يكشف لنا عن أن هذا الشجر الذي نعتبره مجرد كائن حي لطيف يملك وعي ويملك إدراك.

كذلك الزهرة آكلة الحشرات فإن فم هذه الزهرة ينفتح وبمجرد أن تدخل الحشرة إلى فمها انغلق عليها وابتلعتها، وهذا يكشف عن نوع من الوعي والإدراك.

إذن كل مادة تعيش تناسقاً بين جزئياتها، وهذا التناسق يحمل نظام معلوماتي داخلي في أجزائه وجسيماته، هذا النظام المعلوماتي الداخلي يساعد على تفاعل هذا المادة مع ما حولها من الوجود.

الحجر كتلة مادة أي أن فيه نظام، هذا النظام يجري في كل لحظة تريليون تريليون تريليون عملية محاسبة من دون أن يفقد هذا الحجر شيئاً من طاقته بمقتضى قانون حفظ الطاقة، حتى هذا الحجر الصلب الصلد يعيش نظام معلوماتي ويجري عمليات حسابية تقرر طريقة التفاعل بين هذا الحجر وبين غيره، لذلك لا تستغرب منطق القرآن الكريم الذي يقول: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة: 74]

هذا الحجر مادة، وهذه المادة تعيش تناسق بين جزيئاتها، هذا التناسق يعني نظام معلوماتي داخلي يقرر كيفية التفاعل بين هذا الحجر وبين ما حوله، ويقول القرآن الكريم: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: 21]القرآن لا يتكلم عن قضايا مجازية هي قضايا حقيقية، إذن هناك عملية وعي، والوعي ليس حالة خاصة بالإنسان، الوعي ظاهرة وجودية مبثوثة في كل شيء، ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء: 44] ويقول: ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت: 21] جعل لكل شيء نطق، جعل لكل شيء كلمة.

فالوعي ظاهرة وجودية لا تختص بالإنسان حتى نجمد على أن الكائن الحي الواعي هو الإنسان فقط، الكون كله كائن يعيش حياة ووعي، نعم أنت أيها الإنسان تمتلك أعلى درجات الوعي في هذا الكون، وكل من حولك يعيش الوعي ويعيش الحياة.

 المحور الثالث: الوعي والنقد.

من أهم سمات الوعي ومظاهره النقد، أن تكون إنساناً ناقداً، أن تمتلك قوة النقد وكفاءته، فإذا أردنا أن نتحدث عن النقد نذكره في عدة نقاط:

ما هي التربية النقدية؟ وما هي أهمية النقد؟ وما هي مساحة النقد؟ وما هي عناصر النقد؟

النقطة الأولى: ما هي التربية النقدية؟

هل تربي ابنك على تربية تلقينية أم تربية نقدية؟ هناك من الآباء من يربي ولده على التلقين، الأب هو من يقرر المعلومات والكل يستمع ويقبل بما يقول، هذه تربية تلقينية ونتيجتها أن ولدك يصبح مجرد جهاز كمبيوتر أو بت معلومات لا أكثر من ذلك، هو يعبَّأ فقط مجموعة من المعلومات لا أكثر فلا يصبح ولدك إنساناً قادر على التحليل والتفكير أو النقد لأنه تعود على التلقين.

وهناك نوع آخر من التربية وهي التربية النقدية، كيف نربي أبناءنا على التحدث وقول آرائهم والإفصاح عن معتقداتهم، وعلى أن يحللوا ويستنتجوا، نحتاج أن نربي أبناءنا على التربية النقدية، ما هو رأيكم ما هو نظركم، كيف نتناول هذه الفكرة، كيف ندخل لها وكيف نميزها. هذا معنى تربية الأبناء على النقد والتحليل.

مثل وظيفة المعلم هي ليست إفراغ المعلومات على الطلاب فقط ويرجو منهم أن يتحولوا إلى براميل معلومات، المعلم وظيفته أن يفتح القدرة؛ أي يسلم الطالب المفتاح. المدرس قسمان: مدرس يحتفظ بالمفتاح في جيبه ويريد من الطالب أن يمشي وراءه وهذا مدرس فاشل. ومدرس آخر يسلم الطالب المفتاح ويعطيه إياه كي ينفذ إلى المعلومات ويميزها وينقدها، هذا ما يسمى بالتربية النقدية.

النقطة الثانية: ما هي أهمية النقد؟

أهمية النقد تكمن في نقطتين:

  • النقطة الأولى: الوصول إلى الحقيقة، لولا النقد لا يمكن الوصول إلى الحقيقة، لو لا النقد ووضع الأمور والنقاط على الحروف لا يمكن الوصول إلى الحقيقة، في الدين الإسلامي المرجعية للعقل لأنه لو لا العقل لما أمكن الإيمان بالشرع، لو لا العقل لما أمكن الاستدلال على وجود الله، لو لا العقل لما أمكن إثبات نبوة النبي محمد ، لو لا العقل لما ثبتت أصول الدين الخمسة، فالعقل هو ذو المرجعية وذو المحورية، والدين يرى كذلك مما يعني أن الوصول إلى الحقيقة يحتاج إلى تحريك العقل ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ «17» الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ «18» [الزمر: 17 - 18] الألباب صلب العقول يدخلون إلى عمق العقول ويحركونها حتى تصل إلى الحقائق.
     
  • النقطة الثانية: كما أن الوصول إلى الحقيقة هدف كذلك التطوير هدف، أنت لا تستطيع أن تتطور من دون هدف، التطور فرع النقد، من لا ينقد نفسه لا يتطور، من لا ينقد وضعه لا يتطور، من لا ينقد مشاريعه لا يتطور. التطور فرع النقد، الخطيب الذي لا ينقد نفسه لا يتطور، الطبيب إذا لم ينقد أساليبه وطريقة عمله لا يستطيع أن يتطور للأمام، الإنسان مهما كان مشروعه وفي أي مهمة لا يمكن أن يتطور ما لم ينقد نفسه ويعش القدرة على التغيير، قال تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد: 11] فالمنطلق منك أنت إذا انطلقت بهاجس النقد وضرورة التغيير ستتغير، إذن التطور فرع النقد ومن هنا تأتي أهمية النقد.

النقطة الثالثة: ما هي مساحة النقد؟

هل كل شيء ننقده ونسجل عليه ملاحظات، كل شيء نضع عليه علامات استفهام؟

النقد له مساحة معينة، ومساحة النقد من خلال موردين:

المورد الأول: القضايا النظرية.

القضايا على قسمين: قضايا ضرورية وقضايا نظرية. من القضايا الضرورية «لكل مسبب سبب» هذه قضية ضرورية لا تحتاج إلى نقد، «النقيضان الوجود والعدم لا يجتمعان ولا يرتفعان» هذه قضية ضرورية لا تحتاج إلى نقد، وجود الله تبارك وتعالى وما يبتني على دينه قضايا ضرورية ليس فيها نقد. القضايا الضرورية هي القضايا الضرورية التي قياساتها معها، أو القضايا التي قام عليها البرهان الواضح، هذه ضروريات لا مجال للنقد فيها، النقد يتجه إلى القضايا النظرية، القضايا التي لا تمتلك دليل واضح، لا تمتلك برهان ساطع، هنا يأتي مجال النقد ومجال التأمل التفكير فيها.

المورد الثاني: أن لا يخلق النقد فتنة.

تارة أنا أمارس النقد بيني وبين نفسي، هذه حالة صحية، وتارة أنا أعلن النقد، أتصدى للنقد مثلاً من خلال منصة إعلامية أمتلكها فأنشر النقد، ولكن هل هذا النقد عندما أنشره وأعلنه يخلق حالة يقظة في التفكير أم يخلق فتنة بين الناس؟ أحياناً يكون النقد منشأ لفتنة فكرية، والفتنة الفكرية منشأ لفتنة اجتماعية، يعني النقد يولد حالة من الاحتراب والتقاتل، هذا النقد سيكون مبدأ لظاهرة مرضية، النقد السليم الذي إذا أُعلن أحدث يقظة فكرية وانفتاح لا فتنة بين الناس، وخصوصاً الفتنة الفكرية التي تجر إلى اقتتال وتحارب، هذا النقد ممنوع إعلانه لأنه ينشر فتنة، يقول القرآن الكريم: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة: 191]

ويقول: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة: 193]

النقطة الرابعة: ما هي عناصر النقد البناء؟

1. العنصر الأول: الكفاءة.

حتى تستطيع أن تنتقد شيئاً لابد أن تمتلك ثقافة حول هذا الشيء حتى تستطيع نقده وتمييزه ووضع النقاط على الحروف، الكفاءة العلمية والثقافة في الشيء الذي تريد أن تنقده أمر ضروري، كل شيء يحتاج إلى ثقافة خاصة به، كل حقل يحتاج إلى ثقافة ومعلومات تختص به حتى يكون النقد فاعلاً ومبنياً على أسس علمية ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ [الحج: 3]

وقال تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء: 36]

2. العنصر الثاني: التثبت.

إذا أردت أن تنقد لابد أن تتثبت من صحة الشيء، لأنه ليس كل ما يُنقل يُنقد، ليس كل ما يصل إليك تبادر إلى نقده، تثبت أولاً، التثبت هو الخطوة الأولى قبل الولوج في عملية النقد، الآن كثير من العلماء يُنقل عنهم مقاطع مقتطعة من خطبهم وكلماتهم، مقاطع صغيرة بمقدار ثلاث أو أربع دقائق، وينقد ما ذكره في هذا المقطع بينما عندما تراجع كلامه تجد أنه بعيد عن جميع ما فهمه الآخرين من ذلك المقطع. اقتطاع الكلمات من سياقاتها واقتطاع الأشياء والمعلومات من سياقاتها قبلاً أو بعداً يوجب أحياناً علامات ريبة واستفهام، والحال لو كلفت نفسي قليلاً بأن أراجع سياق المحاضرة والبحث لكان هذا النقد مرتفعاً وواهياً.

أو مثلاً تستمع لمحاضرة طرحها العالم الفلاني قد تكون عبارة عن سلسلة متواصلة من المحاضرات، ففي محاضرة يكون قد ناقش فكرة، ولكنه في محاضرة ثانية نقدها، ولكننا نقف عند المحاضرة التي ناقش فيها وننقده عليها، فإذن النقد السليم الهادف والنقد الفاعل هو النقد المبني على الإنصاف والموضوعية، ومقتضى الموضوعية والإنصاف أن لا تنسب لأي شخص سواء كان مفكر عالم باحث أي فكرة قبل أن تتثبت من سياقات الفكرة وطريقة صدورها، وما قبلها وما يليها حتى يكون النقد نقداً موضوعياً.

3. العنصر الثالث: أن لا يكون النقد مرضاً.

لدينا أشخاص لا تنقد مهما سمعت، لا تنقد لأن عقلهم مغلف بغلاف الكسل، لا يحرك عقله، لا يهمه ما يقوله الباحث، وما يقوله الخطيب، وما يقوله المفكر بينما كل ما يقولونه ليس كله قرآن وليس كله عصمة، وليس كله كتاباً منزلاً، فيه الخطأ وفيه الصواب، ليكن فكرك متحركاً ومنفتحاً، لكي تعيش القدرة على النقد.

وكما أن كسل الذهن مرض وكذلك النقد أحياناً يصبح مرض، ينقد كل شيء حوله، لا تعجبهم فكرة ولا موضوع ولا يعجبهم إلا ما يطرحونه هم لأنفسهم وما يقررونه لأنفسهم، يعيشون حالة مرض النقد، النقد إذا تحول إلى مرض صار ما يفسده أكثر مما يصلحه، هناك أشياء بمقتضى الموضوعية والإنصاف تكون صحيحة، إذن فلنحذر من المرض سواء كان مرض الكسل أو كان مرض النقد.

4. العنصر الرابع: أدب النقد.

النقد يحتاج إلى أدب وإلى لغة مهذبة، يحتاج إلى لغة إنسانية تعرف الأدب مهما اختلفت مع الآخر، عندما نقرأ مناظرات الإمام الصادق مع أبي شاكر الديصاني وقد كان ملحداً في زمان الإمام، أو مناظرات الإمام الصادق مع ابن أبي العوجاء وكان ملحداً لا دينياً لكن ترى المناظرة تحمل الأدب، أدب من الآخر وهو الديصاني أو ابن أبي العوجاء، وأدب من الإمام عندما يلاحظ عليه ويسجل عليه الأخطاء والثغرات، النقد يحتاج إلى أدب وإلى لغة مهذبة حتى يكون النقد نقداً فاعلاً، القرآن الكريم يقول: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [النحل: 125]

يجب أن تكون لغة الحوار لغة مؤدبة مهذبة تعيش السمو في الأدب والأخلاق حتى يكون النقد فاعلاً ومؤثراً، أدب النقد عنصر ضروري لفاعلية النقد.

ذكرت الليلة السابقة حديثين وأحد الإخوة جزاه الله خيراً بعد المحاضرات تحدث معي حول هذين الحديثين، قال: أين مصدر هاتين الروايتين؟ وكيف نفهمهما؟

فأنا من باب بيان أن النقد أحياناً يكون في موضعه أذكر هاتين الروايتين:

الرواية الأولى: قلت أنها منسوبة إلى الإمام علي وما قلت أن الإمام علي قالها لأن الرواية كانت عندي محل كلام وشك، نسب إلى الإمام علي أنه يقول: ركعة لي في دنياكم أحب إلي من الجنة وما فيها.

فبعد أن سألني الأخ عن المصدر وبعد مراجعة المصدر لم أجد هذه الكلمة بنفس الحرف صادر عن الإمام علي ، الأسود بن سالم أحد المتصوفة قال: ركعتان أصليهما لله أحب إلي من الجنة وما فيها. وما ورد عن الإمام علي قريب من الفكرة، ولكن ليس بهذا اللفظ، في كتاب الإرشاد عن الإمام علي قال: الجلسة في الجامع خير لي من الجلسة في الجنة لأن الجنة فيها رضى نفسي، والجامع فيه رضى ربي. ويقصد بالجلوس هو جلسة التذكر والعبادة فكأنما الإمام علي يقول العبادة خير لي من الجلسة في الجنة لأن في العبادة رضى ربي وفي الجلسة في الجنة رضى نفسي، ورضى ربي مقدم على رضى نفسي.

الرواية الثانية: ذكرنا أن الرواية تقول: أجر الغني الشاكر كأجر الفقير الصابر. أيضاً لما راجعت المصادر وجدت هذه الرواية في مشكاة الأنوار في غرر الأخبار[2] ، عن النوفل بإسناده قال: قال رسول الله : الطاعم الشاكر له من الأجر كأجر الصائم المحتسب، والمعافى الشاكر له من الأجر كأجر المبتلى الصابر، والمعطى الشاكر له من الأجر كأجر المحروم القانع.

إنسان فقير محروم قانع بما عنده وصابر عليه له أجر، وهذا الشخص الذي أعطي غنى أو نعمة أو ثروة وشكر الله عليها أيضاً له نفس الأجر، فالمعطى الشاكر أجره كأجر المحروم القانع.

5. العنصر الخامس: الوضوح.

عندما تريد أن تنقد فكرة كن واضحا، ضع النقاط على الحروف كما يقولون حتى يكون نقدك فعلاً نقداً علمياً لا نقدا مبعثرا ومشوشا، بيّن المفاصل الخاطئة في الفكرة، النقد الواضح هو النقد المفيد للآخرين، هو النقد الذي يثري الأفكار وينميها لذلك تجد أن الأئمة من أهل البيت من خلال مناظراتهم ومن خلال خطاباتهم ومن خلال تعليقاتهم دائما تكون الفكرة واضحة، تكون النقاط على الحروف حتى لا يحصل تشويش في تقبل الفكرة أو في فهمها، لذلك ترى الإمام أمير المؤمنين علي في كل مناقشاته مع معاوية ومع عمر بن العاص ومع المختلفين معه والمحاربين له كان واضحاً في النقد يضع الأمور بشكل واضح لا اغتشاش، مصداقاً لما ورد عن الرسول محمد ، فعندما يقول الإمام أمير المؤمنين علي : ”ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعامه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينونا بورع واجتهاد وعفة وسداد“.

هذا النقد الواضح تلمسه أيضاً في خطابات الإمام الحسن عندما دخل عليه بعض أهل العراق يعاتبونه على صلحه مع معاوية قال: إن الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية هو حق لي تركته لإصلاح أمر الأمة وحقن دمائها، إني خشيت أن يجتث المسلمون عن وجه الأرض فأردت أن يكون للدين ناعي. ونفس هذه اللغة الواضحة تجدها في خطابات سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين.

 

[1]  المطبوع عام 2019م
[2]  ص 27