بسم الله الرحمن الرحيم
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ [البقرة: 189]
صدق الله العلي العظيم
انطلاقاً من الآية المباركة يقع السؤال: هل أن هناك تصادماً وتعارضاً بين المنطق العلمي والمنطق الفقهي؟
والنموذج الأوضح والمثال الأوضح لذلك هو هل أن هناك تصادماً وتعارضاً بين الرؤية العلمية الفلكية وبين طرق ثبوت الهلال الشرعي؟
ومن أجل الدخول في هذا الموضوع نستعرض محورين:
- في عرض الحقائق العلمية المتعلقة بوضع بداية الشهر القمري.
- في النظر إلى الأدلة الشرعية التي ساقها الفقهاء والعلماء لإثبات مبانيهم ونظرياتهم في هذا المجال.
المحور الأول: في عرض الحقائق العلمية المتعلقة بوضع بداية الشهر القمري.
هنا عندنا عدة حقائق نلتفت إليها:
الحقيقة الأولى:
القمر له حركة اقترانية معاكسة لحركة الأرض، حركة الأرض من المشرق إلى المغرب، وحركة القمر من المغرب إلى المشرق، والقمر له نصفان نصف مضيء وهو النصف المواجه للشمس ونصف مظلم وهو النصف الآخر المقابل، يتحرك القمر بحركته الاقترانية إلى أن يتطابق مع الخط الواصل بين مركز الأرض ومركز الشمس، فيقع في الوسط بين هذين المركزين، فإذا وقع القمر على الخط الواصل بين مركز الأرض ومركز الشمس قابل القمر الأرض بنصفه المظلم، فلا يُر شيء منه على الأرض كلها حتى في أقاصي الأرض، وهذا ما يسمى بالمحاق، لا يمكن أن يرى شيء منه، ثم بعد ذلك يبدأ القمر في تجاوز هذه المنطقة في حركته فأول جزء يبدو من نصفه المضيء على شيء من الأرض يسمى هلال، وكلما مشى في حركته ازداد ضوءه إلى أن يقابل الأرض بتمام نصفه المضيء فيسمى حينئذ بدراً كما في ليلة الرابع عشر وليلة الخامس عشر، ثم يعود مرة أخرى يتضاءل ضوءه حتى يعود إلى نفس النقطة وهو التطابق مع الخط الذي يصل بين مركز الأرض ومركز الشمس، فيعود إلى حالة المحاق مرة أخرى.
الحقيقة الثانية:
أن البلدان والمناطق على الأرض تختلف في ناحيتين:
- الناحية الأولى: الاختلاف في خطوط الطول، فالاختلاف في خطوط الطول يقتضي أن تختلف المناطق على الأرض من ناحية الغروب، تغرب الشمس في بلد قبل غروبها في بلد آخر، وبالتالي نتيجة اختلاف البلدان لاختلافها في خطوط الطول يختلف غروب الشمس من بلد إلى آخر، ومن جهة أخرى القمر عندما يخرج من المحاق ويسير بالتدريج ضوءه يزداد شيئاً فشيئاً وهذا يعني أنه يمكن أن لا يُر القمر في البلد الشرقي أصلاً لأنه للتو خرج من المحاق، بينما بعد ساعات من الليل يُرى في البلد الغربي لأنه مضى على مسيرة القمر ساعات فكبر حجة وازداد ضوءه وأصبحت رؤيته في البلد الغربي أمراً ممكناً ميسوراً، بينما لم يكن يمكن أن يرى عند غروب الشمس في البلد الشرقي، فلو قارنت بين العراق وكينيا يمكن أن نقول أول ما خرج القمر من تحت المحاق لا يمكن رؤيته في العراق وبعد ساعات أصبحت ميسور الرؤيا في كينيا؛ لأن كينيا مختلفة عن العراق بحسب خطوط الطول، إذن البلدان ليست متحدة في إمكان الرؤية.
- الناحية الثانية: حتى لو اتحدت المناطق في خطوط الطول كما العراق واليمن مثلاً، إلا أنه علمياً لا يمكن رؤية الهلال فيهما بشكل ميسور؛ لاختلاف في خطوط العرض والمسمى بخط نصف النهار، فإذا كانا مختلفين بأكثر من درجتين في خطوط العرض فلا تلازم في رؤية الهلال، يمكن أن يُرى في الشمال ولا يُرَ في الجنوب أو بالعكس.
الحقيقة الثالثة:
القرب من خط الاستواء والبعد عن خط الاستواء، فالقرب من خط الاستواء عامل إيجابي وفي نفس الوقت هو عامل سلبي، فكيف يكون القرب من خط الاستواء عامل إيجابي في رؤية الهلال وأحياناً عامل سلبي في رؤية الهلال؟
كلما كان البلد قريب من خط الاستواء يكون النهار أطول، ومن الواضح أن ضوء الشمس يحجب ضوء القمر فيكون القرب من خط الاستواء عامل سلبي في رؤية الهلال؛ لأن النهار طويل والهلال تولد وصار موجوداً في الأفق ولكن لا يمكن رؤيته لأن ضوء الشمس يحجب ضوء القمر فلا يمكن أن يُرى وبالعكس.
أحياناً القرب من خط الاستواء يكون عامل إيجابي في رؤية الهلال، فضوء القمر كلما قَرُب من خط الاستواء يكون أكثر استقامة على الأرض، بينما كلما بَعُد عن خط الاستواء أخذ خطاً حلزونياً، فكون ضوء القمر بشكل أكثر استقامة عامل مساعد على رؤيته وتشخيصه أكثر مما لو كان ضوءه على خط منحرف أو متعرج، فيكون القرب من خط الاستواء هنا عامل إيجابي مساهماً في رؤية الهلال.
اختلاف خطوط العرض وتأثيرها في إمكانية رؤية الهلال وعدم إمكانيته، عندما تنظر إلى الصور الجغرافية التي تُنشر سنوياً من قبل علماء الفلك يُرى أن ضوء القمر غالباً بالنسبة إلى البلدان المتحدة في خطوط الطول يكون بشكل حزوني، وهذا يعني أن القمر كلما قرب من الأرض كان حجمه أكبر ورؤيته أمكن وأيسر، وكلما بَعُد صار حجمه أصغر ورؤيته أصعب، مثلاً قد يُرى القمر في استراليا قريب القطب الجنوبي ولا يُر في شمال بريطانيا قريباً من القطب الشمالي إلا بعد مرور أربع وعشرين ساعة من رؤيته في استراليا؛ أي لا يجتمعان في يوم واحد وهذا يعني حتماً سيكون بداية الشهر يومين، لأنه لا يمكن أن تجتمع إمكانية الرؤيا بين هذين الموضعين إلا بعد مرور أربع وعشرين ساعة في الموضع الأول.
الحقيقة الرابعة:
اختلاف الفصول أيضاً مؤثر؛ لأن النهار في فصل الشتاء قصير، فخروج الهلال فوق الأفق وبقاؤه وكبر حجمه يكون أيسر مما إذا كان في فصل الصيف، وعلى هذا فإن اختلاف البلدان بين شتاء وصيف يكون أيضاً دخيلاً في إمكانية الرؤية أو في تعذر الرؤية أو تعسرها.
هذه كلها حقائق علمية يفهمها الفقهاء وليسوا بعيدين عن إدراكها، وإذا راجعت ما كتبه السيد الصدر قدس سره في «الفتاوى الواضحة» [] تجد التفاصيل العلمية المتعلقة ببداية الشهر القمري الشرعي، وتجد وضوح متطابق مع التقريرات العلمية الفلكية.
بعد هذا ندخل إلى ما هو محل الكلام وما هو محل الخلاف بين الفقهاء، ذكرنا أن الشهر القمري يبدأ بخروج القمر من تحت المحاق فهل الشهر القمري أمر نسبي أو أمر حقيقي؟ أمر نسبي أي يختلف باختلاف البلدان أم الشهر القمري أمر حقيقي لا يختلف ولا يتخلف فهو أمر حقيقي مطلق بحسب كل البلدان؟
هنا نذكر آراء أربعة هي المهمة في هذا المجال وفي هذا البحث:
النظرية الأولى:
الشهر الطبيعي هو الشهر الشرعي بلا فرق؛ أي متى ما خرج القمر من تحت المحاق بثانية بدأ الشهر القمري الطبيعي إذن بدأ الشهر القمري الشرعي، ولذلك لا نحتاج إلى رؤية ولا إلى استهلال ولا شهود، فإذا اتفق الفلكيون على أنه في الساعة الفلانية وبالدقيقة والثانية الفلانية يخرج القمر من تحت المحاق يكون قد بدأ الشهر القمري الطبيعي وبدأ الشهر القمري الشرعي، ولا يهم يمكن رؤيته أم لا، ولا يهم حجمه أو مقدار بقائه في الأفق، الشهر القمري الطبيعي هو الشهر القمري الشرعي.
ولكن ماذا نصنع بقول النبي : ”صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته“؟
يقولون أن هذه الرؤية محمولة على الطريقية المحضة؛ أي أن الرؤية ليس لها مدخلية إنما في الزمن القديم زمن النبي وزمن الأئمة المعصومين لم يكن هناك طريق لتحديد خروج القمر من تحت المحاق بشكل حاسم ويقيني لذلك كان الطريق المتعارف والأداة المتعارفة هي الرؤية، لهذا قال النبي صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته، وإلا فإن الشهر القمري الطبيعي هو الشهر القمري الشرعي.
النظرية الثانية:
يقول الشهيد السيد محمد باقر الصدر قدس سره بأن هذه النظرية خاطئة والشهر القمري الطبيعي يختلف عن الشهر القمري الشرعي، يختلفان لأن الشهر القمري الشرعي يعتمد على عاملين:
العامل الأول: خروج القمر من تحت المحاق، والعامل الثاني: إمكان الرؤية، وليس المدار على أن يخرج من تحت المحاق فقط فقد يخرج من تحت المحاق يوم 28 من الشهر، ليس المدار على الخروج من تحت المحاق المدار على أن يخرج من تحت المحاق بدرجة يمكن رؤيته وإن لم ير، فالعامل الثاني الدخيل في كون البداية بداية شرعية إمكان الرؤية لأن هناك مجموعة روايات وآيات وكلها تُجمع على الرؤية؛ أي أن يصل إلى درجة من الحجم والضوء والارتفاع في الأفق بحد يمكن رؤيته.
فإذا كان كذلك يأتي سؤال آخر: هل إمكان الرؤية بمعنى أن يمكن رؤيته بحسب منطقة من الأرض وإن لم يمكن رؤيته في باقي المناطق؟
هذا ما يراه السيد الخوئي، لابد من إمكان الرؤية ويكفي إمكان الرؤية بحسب منطقة من الأرض ومن ثم تصبح بداية لكل المناطق التي تشترك مع هذه المنطقة في ليل واحد ولو بمقدار عشر دقائق.
النظرية الثالثة:
المدار على إمكان الرؤية، ولكن إمكان الرؤية يكفي فيه إمكان الرؤية بمنطقة واحدة من الأرض.
النظرية الرابعة:
والتي هي مشهور بين الفقهاء وهو رأي السيد السيستاني، أن إمكان الرؤية يعني إمكان رؤية الإنسان على الأرض، وبما أن إمكان رؤية الإنسان على الأرض يختلف باختلاف الإنسان وباختلاف المناطق وباختلاف الآفاق، إذن هناك شهور قمرية وليس شهراً قمرياً واحداً لاختلاف إمكان الرؤية لاختلاف المناطق.
فعرفنا أن الشهر القمري الطبيعي أمر كوني محسوم بمجرد أن يخرج القمر من تحت المحاق بدأ الشهر القمري الطبيعي ولكن الشهر القمري الشرعي هل هو نفس الشهر القمري الطبيعي أم غيره؟ إذا كان غيره هل المدار على الرؤية أو على إمكان الرؤية؟ إذا كان المدار على إمكان الرؤية هل يكفي إمكان الرؤية بمنطقة من الأرض أو لا يتعدد بتعدد الآفاق؟ ومن الذي يحدد هذا أم ذاك؟ ومن له الصلاحية أن يحدد ذلك ويختار قولاً من هذه الأقوال الأربعة؟
ليس لنا إلا النصوص والروايات والمستفاد من هذه الروايات، يقول السيد الشهيد: المنهج الصحيح الرجوع إلى الروايات والآيات لكي يستفاد منها ما هو مبدأ الشهر القمري.
يقول المرحوم آية الله العظمى محمد سعيد الحكيم قدس سره: أن المدار على العالم القديم، وهذا الكلام موجود عند كثير من علماء إخواننا أهل السنة، وقولهم ذلك له منشأ علمي، فلما نرجع إلى خارطة العامل القديم، الأرض كروية وتدور لمدة أربع وعشرين ساعة نصفها المقابل للشمس يسمى نهار ونصفها الآخر يكون ليل، هل لليل نهاية على الأرض؟ ليس لليل نهاية وليس للنهار نهاية لأنها في حركة مستمرة فكل آن هو ليل وكل آن هو نهار، في كل وقت وفي كل ثانية تمر على الأرض هناك ليل وهناك نهار، لا النهار له نهاية ولا الليل له نهاية ولذلك استدل بعض العلماء بهذه الآية المباركة ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾ [الأعراف: 54]
في الزمن السابق كانت اليابسة محصورة في الأراضي الممتدة من جزر الكناري الواقعة في المحيط الأطلسي القريب من المغرب إلى أقصى بلاد الصين واليابان، وكان مبدأ الأيام أول بزوغ الشمس على أول نقطة من هذه الخارطة، والنهاية غروب الشمس في هذه اليابسة أي كان الليل المخيم على القارات الثلاث أول الليل في غرب أوروبا وآخر الليل في بلاد الصين واليابان.
وبعد اكتشاف الأمريكيتين كان لابد من حسابات لبداية اليوم، فكيف نستطيع حساب بداية اليوم والليل والنهار لا حد لهما؟ ومتى يبدأ اليوم؟ لو كنا في العالم القديم قلنا يبدأ اليوم من أول شروق على اليابسة المسكونة وينتهي بآخر غروب على اليابسة المسكونة ولكن بعد معرفة أن الأرض كروية وأنها تدور وأن الليل لا نهاية له وأن النهار لا نهاية له فمتى يبدأ اليوم؟
فبعد الحسابات قالوا بأن المبدأ هو الخط المقابل لخط جرينتش الذي يمر بجنوب شرق لندن على مركز خط طول 180درجة وهذان الخطان ينصفان الكرة الأرضية فاتفقوا على أن شرق هذا الخط متقدم وغرب هذا الخط متأخر، وهذا القول هو اتفاق عقلائي وإلا فهو ليس أمراً تكوينياً خلقه الله، فالبشرية على الأرض حتى تعيش وتوقت أيامها وتعتبر البداية والنهاية اضطرت إلى أن تجعل هذا الخط الوهمي وتعتبر ما قبل غير ما بعد، لذلك بناء على هذا الخط فرَّقوا بين جزيرتين تقعان في المحيط الهادي قرب ساحل سيبيريا جزيرتي ديوميد لمرور الخط الفاصل بينهما فاعتبروا غرب الخط يوم الأحد مثلاً وشرقه السبت مع أنهما جزيرتان متقابلتان، ولكن لأن الخط يمر من بينهما فرقوا بينهما بيومين.
بناء على هذا لماذا اعتبروا أن ليل الأمريكيتين متأخر عن ليلنا وهو امتداد لليلنا؟ ما هي الحقيقة العلمية التي تثبت ذلك فلعل هذا الليل هو الليلة التالية! الجواب: هذا ما اتفقت عليه البشرية أن ليل الأمريكيتين امتداد لليلنا، أي أن ليلهم يأتي بعدنا ولكن ليس هناك حقيقة علمية تثبت ذلك.
المحور الثاني: في النظر إلى الأدلة الشرعية التي ساقها الفقهاء والعلماء لإثبات مبانيهم ونظرياتهم في هذا المجال.
الآية الأولى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ [البقرة: 189]
كيف يكون الهلال ميقات أي يحدد الوقت بداية السنة القمرية وبداية الشهر القمري، وبداية اليوم القمري؟
يقول السيد الخوئي قدس سره: يكون الهلال ميقات إذا كان الأفق واحد؛ أي إذا كانت البلدان مشتركة في ليل واحد فلهما شهر واحد لأن الهلال سيكون بداية شهرٍ لجميع البلدان المشتركة في ليل واحد فسيكون ميقات، ويقول السيد السيستاني باختلاف الآفاق؛ أي لو عدنا للزمن القديم هل تنطبق على زماننا فقط وإلا على الزمان القديم، طبعاً ينطبق على الزمان القديم لأن العرب أصلاً كان تاريخهم أصلاً على الشهر القمري لا على الشهر الشمسي ولا على الشهر الميلادي، فإذا كانوا على الشهر القمري فكيف يضبطون أن يكون الهلال ميقات والحال بأنهم لا يميزون أن كل هذه البلدان تشترك في ليل واحد، مثلاً في الزمن القديم بنى البلد الشرقي طهران مثلاً على أن الليل ثلاثين من شعبان والليلة الثانية هي أول شهر رمضان لأنهم لم يروا الهلال إلا في الليلة الثانية، بينما البلد الغربي منهم كمثل بلاد المغرب العربي رأوا الهلال في الليلة السابقة أي بدأ الشهر لديهم في الليلة السابقة وهم كانوا يظنون أنهم لم يبدأ الشهر لديهم إلا في هذه الليلة، إذن لم يصبح ميقات، فبالنسبة للزمن القديم لو بنينا على وحدة الأفق لاختل الميقات لأنه لم يمكن توحيد الناس في الزمن القديم تحت ليل واحد لانعدام وسائل التواصل، فما كان بإمكانهم أن يتحدوا في تاريخ واحد، فلو كان المدار على وحدة الأفق لزم اختلاف التاريخ واختلال الأنظمة، بخلاف ما لو بُني على اختلاف الأفق، لكل أفق ميقات.
الآية الثانية: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ [يونس: 5]
الرواية الأولى: رواية إسحاق بن عمار سألت أبا عبد الله الصادق عن هلال شهر رمضان يغم علينا في تسع وعشرين من شعبان. قال: لا تصمه إلا أن تراه فإن شهد أهل بلد آخر أنهم رأوه فاقضه.
السيد الخوئي قدس سره الشريف استدل بها على أن الأفق واحد، والمدار على البلدان التي تشترك في ليل واحد ولو بعشر دقائق، فإذن لا فرق بين البلدان المتفقة في الأفق والمختلفة في الأفق، وهذا رأي السيد الصدر قدس سره.
السيد السيستاني دام ظله اعتمد على مجموعة من الروايات نذكر منها رواية واحدة، رواية معمر بن خلاد وهو أحد الرواة الثقاة عن أبي الحسن الكاظم قال كنت جالساً عنده في آخر يوم من شعبان فلم أره صائماً فأتوه بمائدة فقال لي: ادنو. وكان ذلك بعد العصر، قلت له: جُعلت فداك صمتُ اليوم. فقال لي: ولمَ؟ قلت: جاء عن أبي عبد الله في اليوم الذي يُشك فيه أنه يوم وفق له أي من صام يوم الشك ثم تبين أنه من رمضان فقد وفق له قال: أليس تدرون إنما ذلك إذا كان لا يُعلم أهو من شعبان أم من شهر رمضان فصامه الرجل وكان من شهر رمضان كان يوماً وفق له، فأما وليس علة ولا شبهة فلا.
يقول السيد السيستاني إذا كان في المدينة يوم الثلاثين من شعبان والسماء صافية، وبنى الإمام وأهل المدينة على أنه يوم الثلاثين فلو كانت البلدان المشتركة في ليل واحد شهرها واحد سيكون يوم شك لا محالة لأنه سيحتمل رؤيته في مكان آخر حتماً، هذه ملازمة طبيعية، متى ما كان يوم ثلاثين شعبان في المدينة المنورة إذن نفس هذا اليوم في مكانٍ غرب المدينة المنورة سيكون ممكن الرؤية وسيكون هناك أول يوم من رمضان، فلو كانت البلدان تشترك كلها في أفق واحد وشهر قمري واحد وليل واحد لكان اليوم الثلاثين يوم شك، بينما الإمام يقول أن هذا اليوم ليس يوم شك، وهذا دليل على أن الآفاق تختلف؛ أي بالنسبة إلى أفق المدينة ليس يوم شك وبالنسبة لأفق آخر هو يوم شك، وبالنسبة لأفق ثالث هو رمضان أصلاً لأنه يرى فيه الهلال، فلا يستقيم معنىً لهذه الرواية إلا على القول باختلاف الآفاق لا محالة.
عرفنا أولاً أن الفقهاء رضوان الله على الماضين منهم وحفظ الله الباقين منهم ملتفتون إلى النكات العلمية والفلكية واختلافها وما تؤثر، وكيف دخلوا للمسألة شهر طبيعي، وشهر شرعي، ورؤية، وإمكان رؤية، وماذا يستفاد من الآيات وماذا يستفاد من الروايات، فأفتى سيدنا الخوئي قدس سره أن المدار على اشتراك البلدان في ليل واحد وأفتى السيد السيستاني على اختلاف الآفاق، والمشهور بين الفقهاء قبل زمان سيدنا الخوئي قدس سره هو مبنى السيد السيستاني دام ظله.
استفسارات:
طبعاً لو اتفق العقلاء واتفقت البلدان الإسلامية على لجنة واحدة وهذه اللجنة سخر كل إمكاناتها وأدواتها في تشخيص اليوم لن يختلفوا كثيراً.
يبني السيد السيستاني على هذه الرواية، فتعدد الآراء في رؤية الهلال لمجموعة واحدة فهذا يوجب تعارض حكمي بين من قال رأيته وبين من قال لم أره مع أنه معه في موقع واحد وقوة البصر واحدة والخبرة واحدة، إذن الرواية لا يمكن أن نطبقها، ولا يجزِ في الهلال أقل من شهادة خمسين.
فإذن التعارض الحكمي يكون في منطقة واحدة ويكون الشهود متقاربين في قوة البصر ومتقاربين في الخبرة، فإذا اختلفوا في التشخيص وعدمه تأتي مسألة التعارض الحكمي.
أما مسألة السيد الخوئي: إذا رؤي الهلال في بلد ثبت في جميع البلدان التي تشترك في ليل واحد فمتى ينتهي الليل؟ هل ينتهي الليل بطلوع الفجر أم بطلوع الشمس؟ فإذا رؤي في منطقة في أمريكا ونحن لدينا أن الليل قد ذهب فهل يثبت عندنا؟ هم رأوه عندهم لأنه ليل ونحن لدينا قد طلع الفجر فهل يثبت عندنا على رأي السيد الخوئي؟ المعروف بين تلامذته أنه يثبت لأن الشمس لم تطلع، فآخر الليل عنده هو طلوع الشمس وليس طلوع الفجر، إلا أن الشيخ الفياض الفياض وهو من تلامذة السيد الخوئي يقول: رأي السيد الأستاذ هو طلوع الفجر وليس طلوع الشمس. فهم مختلفون في رأي السيد الخوئي، ومن يقلد السيد الخوئي يحتاط أي يعتبر آخر الليل هو طلوع الفجر احتياطاً.
والسيد الخوئي استدل بهذا الدعاء واستدل بليلة القدر أيضاً ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [القدر: 1] فإذن ليلة القدر واحدة للأرض كلها، وليلة القدر لها فجر واحد بينما علمياً الليل ليس له فجر، لا يوجد ليل له فجر لأن الليل مستمر، وكل فترة على الأرض فيها ليل وفيها نهار، بينما الآية تقول ﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ [القدر: 5]..... انقطاع...
والنتيجة أن الأهلة كما ذكر القرآن الكريم ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ [البقرة: 189] كما أن الأهلة مواقيت فبعض الأهلة مفرحة وبعضها محزنة وبعض الأهلة يستقبلها الناس بالسرور وبعض الأهلة يستقبلها الناس بالحرقة والحزن، إذا بزغ على الناس هلال شهر رمضان فرحوا وتسابقوا إلى المساجد والصلوات والدعوات، وإذا برز على الناس هلال شهر محرم أصابهم الحزن والأسى لأنه في تلك الفترة وفي تلك الأيام وقعت أعظم مصيبة وأعظم فادحة على آل بيت رسول الله .