نص الشريط
أصالة الأخلاق
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مؤسسة الإمام علي (ع) - لندن
التاريخ: 10/9/1429 هـ
مرات العرض: 2649
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1211)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ

انطلاقاً من الآية المباركة نتحدث في محاور ثلاثة:

  • أصالة الخلق.
  • قيمة الخلق.
  • خلق المتدين.

المحور الأول:

في أصالة الخلق، هل الأخلاق نزعة متأصلة في الإنسان؟ أم أن الأخلاق تختلف باختلاف الاتجاهات المعرفية لدى المجتمع البشري؟

الدكتور محمد جابر العابدي في كتابه «العقل العربي» يقول: الأخلاق ليست نزعة متأصلة في الإنسان، الأخلاق تختلف باختلاف الحضارات، وتختلف باختلاف المجتمعات، نتيجة اختلاف الاتجاهات المعرفية والثقافية لدى الإنسان، هناك أخلاق وقيم يونانية، وهناك قيم فارسية، وهناك قيم عربية، وهناك قيم صوفية، وهناك قيم إسلامية، اختلاف القيم يرجع لاختلاف الاتجاهات الثقافية.

مثلاً: في الفكر اليوناني يرى أن أساس الخلق بسيطرة العقل على قوى الإنسان، الإنسان يمتلك ثلاث قوى:

قوى شهويه: تدعوه لإشباع الغريزة والميول.

وقوة غضبيه: تدعوه للثأر والانتقام.

وقوة عقلية: وهي القوة التي تحلل وتفكر وتستنتج، سيطرة القوة العقلية على القوتين الشهويه والغضبية هذه السيطرة هي الخلق وأساس الخلق لدى الفكر اليوناني لسيطرة القوة العقلية على القوة الشهويه والقوة الغضبية بأن لا يفرط الإنسان باستخدام الشهوة ولا يفرط الإنسان في الغضب والثأر والانتقام، سيطرة العقل على القوتين هذا أساس الخلق لدى الفكر اليوناني.

مثلاً: القيم الفارسة، الدكتور الجابري يقول: من القيم الفارسية قداسة الزعيم، الزعيم مقدس لدى المجتمع الفارسي، هناك فرق بين تعاطف العربي وتعاطف الفارسي، العربي يحب زعيمة ويعشق زعيمة لكنه لا يبلغ به حد القداسة بخلاف المجتمع الفارسي يبلغ به حب الزعيم، ويبلغ به التعاطف مع الزعيم إلى حد التقديس وإلى حد يفوق المستوى البشري المألوف والمتعارف.

مثلاً: هناك قيم صوفية، الصوفية ترى أن الفضيلة والخلق في البعد عن الدنيا وفي الانعزال عن الدنيا بالتفرغ لغذاء الروح وترك المجتمع والتفاعل مع أوضاع المجتمع ومآسي المجتمع جانباً، هذه قيمة صوفية.

مثلاً: القيم العربية، المجتمع العربي يرى أن أساس الخلق للنجدة ما يسمى بالمروءة عند المجتمع العربي ترتكز على عنصرين هما:

1. الكريم.

2. نجدة العشيرة.

العنصر الأول:

الكرم، الكريم هو صاحب الخلق لدى المجتمع العربي الذي يفتح مضيافة ويستقبل الجائعين والتائهين والضالين، مقياس خلقه بكرمه، لذلك كان حاتم الطائي رمزاً للفضيلة ورمزاً للكرم في المجتمع العربي.

العنصر الثاني:

نجدة العشيرة، المجتمع العربي يقدس العشيرة ويقدس القبيلة ويرى أن خلقة وفضيلته مرهونة لولاء القبيلة وتلبية نداء القبيلة، «وما أنا إلا من غزي، إن غزت غزوت، وإن تهجم غزي اهجمي»، مثلاً: عن ترك العبسي «ولقد شفى نفسي وأبرئ سقمها قيل الفوارس ويك عنتر أقدمي» نداء القبيلة والدفاع عن القبيلة هذا عنصر من عناصر الخلق العربي، هذه قيم عربية.

القيم الإسلامية، ترتكز على التقوى، مقياس الفضيلة لدى الفكر الديني هو التقوىقال تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَالتقوى هي ما يجمع الإيمان والعمل الصالح قال تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ «1» إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ «2» إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ.

إذاً ما يطرحه الدكتور الجابري: أن الخلق ليس نزعة متأصلة ومتجذرة في الإنسان، الخلق قيم تختلف باختلاف المجتمعات وباختلاف الحضارات نتيجة اختلاف الاتجاهات الفكرية والثقافية لدى هذه المجتمعات.

الاتجاه الثاني:

الاتجاه الإسلامي، يقرر أن الخلق نزعة متأصلة في الإنسان، الإنسان ولد ومعه الخلق، ولد ومعه الفضيلة، الفضيلة لم يكتسبها الإنسان من المجتمعات المختلفة باختلاف معارفها وموروثاتها، الخلق نزعة متجذرة اكتسبها الإنسان من فطرته ومن جبلته لأنه اكتسبها من البيئة والمجتمع الذي يعيش فيه، كيف؟ الفكر الديني يطرح أمرين لتدليل ولتنبيه على أن الخلق نزعة متأصلة في الإنسان، أي إنسان كان.

الأمر الأول:

أساس الفضيلة حسن العدل وقبح الظلم، العدل وهو إعطاء كل ذي حق حقه، إعطاء كل ذي حق حقه عدلاً والعدل جميل بفطرة الإنسان والعدل جميل بجبلة الإنسان لا باكتساب من مجتمعاً أو ثقافة.

الظلم وهو سلب كل ذي حق حقه، الظلم قبيح بفطرة الإنسان وجبلة الإنسان. أساس الخلق وأساس الفضيلة هاتان الكلمتان، العدل جميل والظلم قبيح وبقية الفضائل كلها تندرج وتدخل تحت هاتين الكلمتين.

مثلاً: الأمانة، الأمانة خلق جميل، لماذا؟ لأن الأمانة عدل، الخيانة خلق قبيح لماذا؟ لأن الخيانة ظلم، لأنة الأمانة من مصاديق العدل ومن صور العدل أصبحت الأمانة خلق، لأنة الخيانة من مصاديق الظلم أصبحت أمراً قبيحاً. أساس الفضيلة العدل والظلم، العدل جميل والظلم قبيح. ما هو الدليل على ذلك؟

أولاً: جميع المجتمعات البشرية منذ يوم آدم وحتى يومنا هذا مع اختلاف حضاراتها ومع اختلاف أديانها ومع اختلاف اتجاهاتها جميع المجتمعات البشرية تؤمن بجمال العدل وقبح الظلم، حتى الظالم لا يقول أنا ظالم وحتى الظالم يقول بأن الظلم قبيح وأنا لا أفعل ظلماً ولا أرتكب ظلماً الجميع يسلم بقبح الظلم وجمال العدل مما يكشف عن أن هذه القضية الأساسية قضية أصيلة في الإنسان ونابعة من فطرة الإنسان بما هو إنسان مع قطع النظر عن دينه أو لونه أو ثقافته أو حضارته.

ثانياً: المقياس، كيف نعرف أن هذا الأمر فطري أو أن هذا الأمر اكتسابي؟ المقياس الفاصل بيت الفطري والاكتسابي هو بلذة النفس به ونفور النفس منه، الشيء الذي تنفر منه النفس الإنسانية بما هي نفس هذا شيء فطري يعني قبحه فطري والشيء الذي تقبل علية النفس الإنسانية بما هي نفساً إنسانية جماله جمال فطري، مثلاً: قتل الأطفال الأبرياء تنفر منه النفس الإنسانية مع قطع النظر إلى الدين واللون والعقيدة والحضارة مما يدل على أنه قبيح بالفطرة لأنة ظلم، إعانة الضعفاء، وإعانة المحتاجين، وإنقاذ الأبرياء خلق تبتهج له النفس، وخلق تتلذذ به النفس الإنسانية مما يكشف عن فطريته.

إذاً ما تتلذذ به النفس البشرية وتبتهج به فهو فطري وهو العدل وما تنفر منه النفس البشرية وتأباه فقبحه فطري وهو الظلم هذا كله منبه على أن نزعة الخلق أي العدل والظلم نزعة متأصلة ونزعة متجذرة في ذات الإنسان، ولدت مع الإنسان بولادته ولم يكتسبها من مجتمع ولا من حضارة ولا من ثقافة قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا منذ ولادتنا ومنذ تكويننا.

الأمر الثاني:

هناك فرق بين الأدب وبين الخلق، الأشياء التي تختلف فيها البشرية هي الآداب وليست الأخلاق، الآداب ممارسات تختلف باختلاف الأعراف وتختلف باختلاف التقاليد قد تختلف المجتمعات في الأدب ولكنها لا تختلف في الخلق، مثلاً: المجتمعات البشرية ترى أن العفة خلق جميل عفة النفس خلق جميل لكن قد تختلف في الحجاب، هل الحجاب مظهر للعفة؟ أو ليس مظهراً للعفة؟

هذا اختلاف في الأدب وليس اختلاف في الخلق، الخلق هو العفة هذا ليس محلاً للخلاف، عفة النفس خلق جميل مصداق وصورة من صور العدل ولكن هل أن الحجاب مظهر للعفة أو ليس مظهراً للعفة هذا يمكن أن تختلف فيه البشر، اختلاف البشرية إنما هو في الآداب والممارسات في الطقوس وليس اختلاف في أسس الأخلاق وفي أسس القيم.

مثلاً: عندما نلاحظ بأن البشرية قد تختلف في بعض العادات والتقاليد مثلاً قبل أربعين سنة كان الخلق أن يكون الولد صامتاً أمام أبية لا يناقش أباه ولا يحاور أباه، لا يتكلم مع أبيه، خلق الولد أن يكون صامتاً بالنسبة لأبيه، الأعراف تغيرات هذا التغير فرض أن يكون الخلق أن يكون الابن صديقاً لأبيه، الخلق في الصداقة بين الولد ووالده، علاقة الولد بوالده علاقة صداقة وليس علاقة رئيس ومرؤوس وآمر ومأمور، هذا تغير في الآداب وليس تغيراً في الأخلاق.

الخلق وهو احترام الوالدين خلق ثابت لكن أدب وممارسة هذا الاحترام هل هو بالصمت؟ أم هو بالصداقة والحوار؟ هذا اختلاف في الأدب في طقس من طقوس، وفي طريقة الممارسة وألا ليس هذا اختلافا في الخلق، ورد عن الإمام أمير المؤمنين : «لاتقسروا أبنائكم على آدابكم، فأنهم خلقوا لزماننا غير زمانكم» لم يقل على أخلاقكم، يعني اختلاف الزمن يفترض اختلاف الثقافة، واختلاف الثقافة يفترض اختلاف الآداب، هناك فرقاً بين الأخلاق وبين الآداب:

الأخلاق: نزعة أصيلة ثابتة لا تتغير، والآداب: طقوس وممارسات قد تتغير بتغير الثقافات وتغير المجتمعات، إذاً ما ذكره الدكتور الجابري من أن الأخلاق قيم مبعثرة ومختلفة باختلاف القيم البشرية وباختلاف المعارف البشرية، لا الصحيح أن الخلق نزعة متأصلة ومتجذرة لدى الإنسان وأن الاختلاف هو في الآداب والممارسات.

المحور الثاني:

في قيمة الخلق، الخلق من أين يكتسب قيمته؟ يعني متى يكون العمل خلق؟ من أين يكتسب الخلق قيمته وتأثيره وأهميته؟ هناك اتجاهان في علم الأخلاق:

الاتجاه الأول:

أن الخلق يكتسب قيمته من خلال إذلال النفس، إذلال النفس هو مقياس الخلق، من أستطاع أن يذل نفسه ويحتقرها وأن يحطمها ويطأها فقد بلغ قمة الإرادة وقد بلغ قمة السيطرة على النفس وهذا هو المقياس في أهمية الخلق، وهذا هو المقياس في قيمة الخلق أن يسيطر الإنسان على نفسه سيطرة تكون النفس أمامه ذليلة وتكون النفس أمامه حقيرة، هذه السيطرة التامة هي المقياس في الخلق.

مثلاً: كتب «جامع السعادات» للشيخ النراقي علية الرحمة يركز على هذا المقياس في كثير من الأبواب، سيطرة الإنسان على نفسه وإيصال هذه السيطرة إلى حد إذلال النفس وأن تكون النفس صغيرة بين يدي الإنسان حتى أنه وهذه الممارسة قد تكون تحولت إلى ممارسة عملية في بعض البلدان يقول لكي تتعلم التواضع ولكي تكتسب خلق التواضع ولكي تكتسب هذا الخلق العظيم عليك بأن تحتقر نفسك أمام الآخرين.

مثلاً: يقدم نصيحة لبعض الزوار، زوار الحسين أن هذا الزائر يمسح أحذية الآخرين، أن هذا الزائر مثلاً يقدم كل ما عنده للآخرين في سبيل اكتساب خلق التواضع وقيمة التواضع، هذا اتجاه في علم الأخلاق وهناك اتجاه آخر يقول لا، هذا الاتجاه يعني أن الأخلاق أخلاق الموت وليس أخلاق الحياة.

فرق بين أخلاق الموت وأخلاق الحياة، الخلق الذي يرتكز على إذلال النفس هذا خلق الموت وليس خلق الحياة، الخلق الذي يرتكز على إضعاف النفس وتحقير النفس هذا ليس خلق يغني الحياة ويثري الحياة هذا خلق يعد من أخلاق الموت وليس من أخلاق الحياة، كيف؟ المقياس في أهمية الخلق ليس بإذلال النفس، النفس الكبيرة ولتبقى كبيرة، أهمية الخلق في فاعليته الاجتماعية، هذه هي أهمية الخلق.

الهدف من هذه القيم الأخلاقية التي جبلت عليها النفس البشرية: الهدف تحويل المجتمع البشري إلى مجتمع أخوي فكل ما يصب في هذا الهدف يحول المجتمع البشري إلى مجتمع أخوي فهو خلق قيمة الخلق بهدفه، وفاعليته وليس قيمة الخلق بإذلال النفس واحتقار النفس.

مثلاً: الزهد، ربما يرى بعض الناس أن الزهد فضيلة، الزهد البعد عن الدنيا والبعد عن زخارف الدنيا وتطليق الدنيا بأسرها وبشتى زخارفها وألوانها هذه فضيلة الزهد قمة الفضائل لكن المستفاد من النصوص الشريفة أن الزهد وسيلة وليست غاية، الزهد ليس دائماً فضيلة قد يكون الزهد فضيلة وقد يكون الزهد رذيلة، لو كان المقياس في الخلق هو إذلال النفس لكان الزهد فضيلة مطلقة ولكن المقياس في الخلق ليس إذلال النفس وتحطيم النفس، المقياس قي الخلق فاعليته الاجتماعية التي تحول المجتمع البشري إلى مجتمع أخوي، هنا تكمن فاعلية الخلق ومن هنا قد يكون الزهد فضيلة إذا أدى هدا الدور الاجتماعي وقد يكون رذيلة إذا لم يؤدي هذا الدور، الزهد وسيلة وليس غاية.

مثلاً: العلاء ابن زياد الحارثي دخل على الأمام أمير المؤمنين : يشكو إليه آخاه عاصم قال: إن أخي عاصم لبس المسوح يعني لا يلبس إلا الثياب الخشنة لبس المسوح وطلق الدنيا وترك عياله، الإمام أمير المؤمنين ذهب إلى العاصم ابن زياد قال: يا عاص لقد إستهم بك الخبيث، يعني الشيطان، يا عدي نفسه لقد إستهم بك الخبيث أتظن أن الله الذي وهبك هذه النعم يكره أن تأخذها، إذا كان الله لا يريدك أن تلبس اللباس الحسن، ولا يريدك أن تستفيد من الدنيا لماذا أعطاك هذه النعم؟ كيف يعطيك إياها وهو يكره أن تستفيد منها وتأخذها، أتظن أن الله الذي وهبك هذه النعم يكره أن تأخذها؟

قال تعالى: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْحدث يعني لا تتكلم، لا يعني أظهر النعمة على لبساك على مسكنك على جميع ما حولك لأنك تملك نعمة وقال تعالى: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ألتفت عاصم ابن زياد إلى الإمام علي وقال: «سيدي ها أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك» أنت تلبس اللباس الخشن وتأكل الطعام الجشب، أنت بعيد عن الدنيا وزخارفها وأنا مقتدى لك. قال: «يا عاص أنت لست كأنا إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفه الناس كي لا يتبيغ بالفقير فقره» الزهد ليس فضيلة مطلقة، الزهد لو كان المقياس في الخلق بإذلال النفس لكان الزهد فضيلة لأنه إذلال للنفس، الزهد فضيلة عندما يؤدي دوراً اجتماعياً عندما يكون له هدفاً اجتماعياً واضح حين إذن يكون الزهد فضيلة ولذلك الزهد في القادة فضيلة، القائد مرجع الأمة أو زعيم الأمة عندما يتحلى بالزهد هنا يكون زهده فضيلة، لماذا؟

لأن هذا يعطي انطباعاً للفقير ويعطي انطباعاً للمسكين أنه إنسان كسائر الناس لأن قائده يعيش بالمستوى الذي هو يعيش فيه ويعيش بالنحو الذي هو يعيش فيه كي لا يتبيغ بالفقير فقره، وأما إذا رأى الفقير أن زعامته أو قيادته لا تبالي حتى بمشاعره ولا تبالي حتى بعواطفه فبيغ به فقره وأصبح نقمة على المجتمع فأصبح إنساناً متوحشاً أمام المجتمع، إذاً عندما يكون الزهد وسيلة لتحويل المجتمع البشري إلى مجتمع أخوي هنا يعتبر الزهد خلق وفضيلة.

نأتي إلى التواضع، التواضع إذا كان بقصد إذلال النفس فهذا ليس بفضيلة هذا رذيلة، أما إذا كان التواضع يحقق هدفه الاجتماعي وهو تحقيق الأخوة والألفة بين الناس قال تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولياً حميم هنا يكون التواضع فضيلة.

لذلك ورد عن الإمام الصادق : من التواضع أن ترضى بالمجلس دون المجلس، أن تجلس في أي مكان، وأن تسلم على من تلقى، وأن تترك المرء ولو كنت محقاً، هذه الصور من التواضع صور جذابة، صور تحول المجتمع إلى مجتمع أخوي ومجتمع متآلف، يحقق الهدف القرآني من وجود المجتمع قال تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، إذاً إن قيمة الخلق ليست في إذلال النفس وليست باحتقار النفس هذه نعبر عنها بأخلاق الموت، قيمة الخلق وأهميته بتحقيق دورة وهدفه الاجتماعي وهو أن يحقق الترابط والتآلف بين أبناء المجتمع البشري.

المحور الثالث:

خلق الإنسان المتدين، الإنسان المتدين مظهراً للدين بخلقة يعكس دينه ويعكس مبادئه لذلك كثير من الناس يتصور أن التدين هو عبارة عن اعتدال للمجتمع، التدين عبارة عن أن المتدين هو الشخص الذي لا يملك كثيراً من الأصدقاء، أصدقائه معدودون، المتدين هو الذي إذا رأى العصاه ورأى الفسق قطب في وجوههم وعبس في وجوههم وتعامل معهم معاملة شذر لماذا؟

لأنهم عصاه، ولأنهم فسقه ولأن التدين يفرض عليه النهي عن المنكر ومن مظاهر النهي عن المنكر أن يعبس في وجوه العصاه والفسق وأن يقطب في التعامل معهم، بعض الناس قد يتصور أن هذا هو خلق المتدين وأن هذا هو طبع المتدين وهذا ليس صحيح. التدين الذي يعكس صفاء الإسلام، نقاء المبادئ، التدين الذي يعكس قيمة الخلق لدى الإسلام ليس بهذه الصورة أبداً، كيف؟ خلق المتدين يرتكز على ثلاثة عناصر:

العنصر الأول:

عنصر الجذب، المتدين إنسان جذاب وليس إنسان منفراً للآخرين، المتدين إنسان جذاب للآخرين، يقبل عليه الناس، لا أن ينفر عليه الناس، عنصر الجذب عنصر أساس في شخصية المتدين، جذاب بسلامه وجذاب بتحيته وجذاب بابتسامته وجذاب حتى بلباسه وحتى بشكله وحتى بمظهره، عنصر الجذب عنصراً أساس في شخصية الإنسان المتدين.

القرآن الكريم يقول: ﴿خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍالزينة مظهر للجذب ومظهر للتقارب بين أبناء المجتمع البشري.

الإمام الصادق كان يطوف بالكعبة وهناك عباد البصري وهو أحد المتصوفة يصلي عند مقام إبراهيم، مر عليه الإمام الصادق وهو يطوف فأمسك بثياب الإمام الصادق وجذبها وقال يا جعفر لقد كان جدك أمير المؤمنين يلبس النعل المخصب والثوب البالي وأنت تلبس القهوي المروي. يعني ثياب كانت أنيقة أو جميلة كان يلبسها الإمام الصادق وأنت تلبس القهوي المروي أينك عن جدك أمير المؤمنين؟، ألتفت عليه الأمام الصادق وقال له: «لقد كان جدي أمير المؤمنين في زمان بؤس وفقر فواسى أهل زمانه وإذا تحسنت أحوال الزمان فأبراره أولى به من فجاره». المسألة ليست مسألة لباس، التدين ليس شكل، التدين ليس شكلاً، التدين ليس مظاهر وطقوس، الإمام الصادق يريد أن يبين أن التدين وراء ذالك كله، التدين عنصر جذب، الشخصية المتدينة شخصية جذابة للآخرين نحو التدين، فإذا كان من عنصر الجذب طريقة اللباس فليكن لباس المتدين لباساً ينسجم مع أهل زمانه حتى يكون عنصراً جذاباً.

العنصر الثاني:

عنصر الألفة، المتدين كثير الأصدقاء لا أنه قليل الأصدقاء، المتدين كما ورد عن النبي محمد قال: «أفاضلكم، أحاسنكم أخلاقا، الموطئون أكنافا الذين يألفون ويتألفون، المؤمن يألف ويُألف» إنسان جذاب، إنسان اجتماعي، إنسان مألوف بين الناس يألف ويُألف.

وورد عنه : «إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم» ليست الأموال التي تأتي بالناس، لا «إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فسعوهم بأخلاقكم» الخلق هو عنصر التدين، وهو مظهر التدين الذي يحقق الألفة لهذا الإنسان المتدين.

قال تعالى: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ الجارية التي كانت تصب الماء على يد الإمام الحسين كما في بعض الروايات فنفلت منها الإبريق فشجت رأس الإمام ورفع طرفه إليها، قالت: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَقال: كتمت غيظي، قالت: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ، قال: عفوت عنكِ، قالت: ﴿وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، قال: أنتِ حرة لوجه الله.

العنصر الثالث:

عنصر الانفتاح، المتدين ليس منغلقاً على فئة دون فئة، ولا على جماعة دون جماعة، ولا على لون دون لون، المتدين منفتح على مختلف الفئات، مختلف الشرائح، ومختلف ألوان المجتمع، الانفتاح عنصراً أساس في خلق المتدين وهذا ما يعبر عنه بالمروءة.

المتدين منفتح حتى على أعدائه، قد يكون الإنسان عاصياً، وقد يكون فاسقاً لكن بسمة من المتدين تجذبه نحو الهدى، تعاملاً حسن من المتدين يجذب هذا العاصي، يجذب هذا الفاسق، يجذب هذا المصر على الذنوب والرذائل يجذبه إلى الدين ببسمة من المتدين، بتواضع من المتدين، باهتمام من التدين، نعم لو بلغ من الفسق والمعصية إلى حد لا يرتدع ولا يتوب ولا يئوب، ربما يرى المتدين أن مقتضى النهي عن المنكر أن يقطب في وجهه ولكن مادامت البسمة ومادام التواضع ومادام حسن التعامل معه قد يكون وسيلة لجذبة نحو التدين، فمقتضى التدين التعامل الحسن حتى مع الفساق وحتى مع العصاه، مقتضى التدين جذب هؤلاء.

ورد عن الإمام الصادق : «كونوا دعاه لنا بغير ألسنتكم». وورد عن النبي : «الدين المعاملة»، الدين ليس صلاة وصوماً فقط، الدين المعاملة.

وورد عن الإمام زين العابدين : «لا تغتروا بكثرة صلاتهم، ولا بكثرة صيامهم، فأن الرجل ربما لهج بالصلاة والصوم حتى لو تركهما استوحش ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة» اختبروهم في حسن المعاملة واختبروهم في الخلق، الخلق هو العلامة المضيئة الواضحة البارزة على التدين، أهل البيت كانوا يتعاملون بالخلق حتى مع أعدائهم، لما هجم الجيش الأموي على المدينة في واقعة الحر، وأباد رجالها وأطفالها وهتك نسائها، ثم قام أهل المدينة بثورة ضد هذا الجيش الأموي وما أبقوا أموياً في المدينة إلا ونكلوا به، مروان أبن الحكم هرب من المدينة خوفاً على نفسه، وبقي عياله في المدينة يلجئون إلى من؟، إذا بقوا هكذا يتعرضون لثأر أهل المدينة، التجأت العائلة المروانية بأسرها إلى الإمام زين العابدين مع أن الإمام عدواً لهم وبقوا تحت رعاية الإمام وحمايته إلى أن انتهت فصول أهل الثورة من أهل مدينة، فلما انتهى الموضوع قالت بنات مروان ما رأينا من الحفاوة والتكريم في بيوتنا وعند أهلنا كما لقينا من زين العابدين، هذا هو خلق المتدين.

بحث في مسائل القدر جـ8
زيارة علي بن الحسين والشهداء والعباس (ع)