نص الشريط
الدرس 21
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 30/11/1434 هـ
مرات العرض: 2518
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (511)
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

وصل الكلام إلى ما تعرض إليه الأعلام  ومنهم صاحب العروة  «قدس الله أسرارهم»: أن المكلف لو أخل إخلالاً عمديّاً للصلاة بأن ترك جزء أو شرطا غير ركني، فإن هذا موجب لفساد صلاته؛ حيث كان الإخلال عمديّاً.

وفي مقابل هذا الاتفاق ما أثير من احتمال وهو أن يقال: إن مقتضى قاعدة لا تعاد صحة صلاة من اخل بصلاته في غير الخمسة ولو كان الإخلال إخلالاً عمديّاً، وهذا ما أوجب البحث المفصل لدى الأعلام في أن شمول «لا تعاد» للإخلال العمدي هل هو معقول ثبوتا وعلى فرض معقوليته ثبوتا هل هو منسجم مع ظاهرها إثباتاً أم لا؟

فهنا مقامان للبحث حول شمول دليل «لا تعاد» للإخلال العمدي.

أما المقام الأول ألا وهو المقام الثبوتي، فمن الواضح أن الإشكال الذي يتراءى للذهن أنه لا يمكن الجمع بين الجزئي وصحة الصلاة فإن مقتضى جزئية التشهد لمركب الصلاة فوفت المركب بفوته، ولا يجتمع فوت المركب مع صحته فإن الصحة هي عبارة عن مطابقة المأتي به للمأمور به، فلا يُعقل الصحة مع عدم المطابقة فإن هذا جمع بين النقيضين.

والجواب عن هذا الإشكال الثبوتي: إذا كان الملحوظ هو المأمور به الفعلي في حقه فالإشكال مستحكم بأن يقال: إن التشهد جزءا من المأمور به الفعلي ومع ذلك تصح صلاته ب تركه عمدا وهذان لا يجتمعان، أن يكون التشهد جزءا من المأمور به الفعلي ومع ذلك يكون تركه عمدا غير ضائر بامتثاله المأمور به الفعلي وهذا خلف واضح ولكن هل يمكن البحث عن وجه وتخريج للجمع بين جزئية التشهد من المأمور به الأولي وبين سقوط الأمر بأن نقول أن المأمور به الأولي في حق هذا المكلف الصلاة المشتملة على التشهد ولكن بإتيان الصلاة خالية عنه وإن كان عمدا فإن الأمر يسقط عنه. فهل هناك وجه وتخريج لذلك أم لا؟

ذكرت في المقام وجوه:

الوجه الأول: أن يقال: إن المراد بالصحة في المقام ليس هو مطابقة المأتي به مع المأمور به، فإن هذا لم يقع قطعاً. وإنما المراد بالصحة، سقوط الأمر، والأمر كما يسقط بامتثاله أو يسقط بفوات موضوعه  كما لو أمر الشارع بإنقاذ الغريق فأخذ البحر الغريق فمات، وانتفى الموضوع  فإن الأمر يسقط بتحقق ما يمنع من استيفاء غرضه فلو تحقق لدى المكلف مانع من استيفاء ملاك الأمر سقط الأمر.

وفي المقام يحتمل ذلك، أي من المحتمل أن يكون في الإتيان بالصلاة الناقصة عمداً غرض بحيث إذا تحقق هذا الغرض وهذا الأثر منع من استيفاء الغرض التام فالأمر بالصلاة معلول لغرض تام للصلاة، لكن الإتيان بها ناقصة ولو عمداً مانع من استيفاء ذلك الغرض التام، فيسقط عنه الأمر بالصلاة التامة؛ لعدم إمكان استيفاء غرضه.

فكما ينتفي الأمر بامتثاله أو بفوت موضوعه ينتفي أيضاً بعدم إمكان استيفاء غرضه؛ لأن بقاء الأمر مع عدم القدرة على استيفاء غرضه تكليف بما لا يطاق، فيسقط الأمر.

فعندما نقول: بأن صلاته صحيحة بمقتضى «لا تعاد» مع أنه أخل بالجزء عمداً، يعني سقط الأمر عنه لا أن الصحة مطابقة المأتي به للمأمور به، وإنما سقط الأمر عنه لتحقق اثر لهذه الصلاة مضاد للأثر التام الذي منع من استيفائه.

وحيث إن هذه المرتبة من الغرض فاتت ولا يمكن استيفائها بعد الصلاة الناقصة، وهي ملزمة، فيستحق العقاب على تفويتها على نفسه، فهو من جهة مستحق للعقوبة على تفويت هذه المرتبة الملزمة من الغرض، حيث إنه كان بإمكانه أن يصلي الصلاة التامة لكنه اختار الصلاة الناقصة. ومن جهة أخرى إذا أتى بالصلاة الناقصة فقد سقط الأمر عنه، ولا مانع من الجمع بين هذين الأمرين.

وقد ذكر هذا الكلام في بحث «من أتم في موضع القصر» حيث ذكر هناك أن المكلف مأمور بالقصر، ومع ذلك أفتى جمع من الفقهاء أنه لو أتى بالإتمام عمداً سقط الأمر بالقصر، فإنه لا معنى لان يكون الإتيان بالإتمام مسقطا للأمر بالقصر إلاّ أن يكون الإتمام محققاً لأثر مضاد للأثر المترتب للقصر بحيث تمنع من استيفائه فيسقط الأمر لعدم القدرة على استيفاء ملاكه، ومع ذلك يكون هذا المتم في موضع القصر آثما مستحقاً للعقوبة على تفويت تلك المرتبة الملزمة من الملاك.

الوجه الثاني لتخريج سقوط الأمر بعد الإتيان بالصلاة ناقصة: أن يقال: إن هذا من باب تعدد الأمر، فكأنه قال: أنت مأمور بالصلاة التامة، فإن لم تأت بها فأنت مأمور بالصلاة الناقصة. وهناك أمر آخر قد امتثله ألا وهو الأمر بالصلاة الناقصة، نظير أن يقال في القصر والتمام: المسافر مأمور بالقصر، فإن لم يقصر فإنه مأمور بالتمام، فهل هذا الوجه ممكن أم لا؟

وهنا أشكل المحقق الأصفهاني «قدس سره» على امتناع هذا الوجه؛ لأنه يتصور على أربع صور كلها باطلة:

الصورة الأولى: «طبعا هذا الوجوه لم يذكرها الأصفهاني هنا ولكن ذكرها في بحث القصر والتمام في آخر تنبيهات البراءة فقال: بأن نفترض أمرين تعينيين أنه أُمر بالصلاة القصر تعييناً وأُمر بالصلاة التمام أيضاً تعييناً، فأصاب أمراً وامتثل أمراً آخر.

وهذا الوجه ساقط بالضرورة للعلم بالضرورة أن ليس على المكلف إلا صلاة واحدة إما القصر أو التمام، إما الناقصة أو التامة، إما الجمعة أو الظهر، وأما أن يكون مأموراً تعييناً بكل منهما فهذا مناف لضرورة المذهب.

الصورة الثانية: أن يكون هناك أمر تخييري بين أن يأتي بالقصر أو يأتي بالتمام، فامتثل هذا الأمر التخييري؛ لأنه أمر بجامع له فردان، وقد امتثل الأمر بالجامع.

وهذا الوجه أيضاً مخدوش؛ والسر في ذلك: أن الصلاة التمام إما وافية بملاك الصلاة بحيث لا يبقى بعد الإتيان بها مرتبة تحتاج للاستيفاء، فمقتضى ذلك صحة صلاته لكن عدم استحقاقه العقوبة؛ لأنه استوفى ملاك الأمر بالصلاة، مع أنهم يلتزمون باستحقاق العقوبة إذا أخل عمداً.

وإن لم تكن صلاة التمام وافية بالغرض والملاك الذي لأجله وجبت الصلاة، فمقتضى ذلك استحالة التخيير بينها وبين الصلاة القصر أو بين الناقص وبين التام، فإن التخيير والأكثر أو الناقص والتام غير معقول، بأن يقول المولى: أنت مخير بين هذه الصلاة أو هذه المرتبة التي تكون خمسين بالمائة وبين هذه المرتبة من الصلاة التي تكون تسعين بالمائة.

إذن هذه الصورة الثانية وهي دعوى التخيير بينهما غير تامة.

الصورة الثالثة: أن نقول: إنه على نحو تعدد المطلوب، أي أن هناك مرتبتين لزوميتين مرتبة تتحقق بطبيعي الصلاة كان تاماً أو قصراً، ومرتبة في خصوصية القصر، فهناك مرتبتان من الملاك: مرتبة في طبيعي وجامع الصلاة ومرتبة في خصوصية القصر أو خصوصية الصلاة التامة، ومقتضى تعدد المطلوب أنه لو اقتصر على صلاة التمام أو اقتصر على صلاة الناقصة فقد حقق أحد المطلوبين، وبذلك تصح صلاته التي أتى بها.

وهنا أشكل المحقق الأصفهاني «قدس سره»: بأن هذا المدعى  وهو تعدد المطلوب  يتصور على نحوين:

النحو الأول: أن يكون هناك تخيير بين الإتيان بالجامع أو الإتيان بالحصة  وهي صلاة القصر مثلاً  فيقول المولى أن الإتيان بالجامع ملاكا وان الإتيان بالجامع بالقصر ملاك آخر، وأنت مخير بين هذين الملاكين.

وأُشكل عليه: بأنه غير معقول إذ لا يعقل التخيير بين الطبيعي ونفسه بأن يقول المولى: أنت مخير بين الإتيان بطبيعي الصلاة أو الطبيعي ضمن صلاة القصر، أو أن مرجعه إلى التخيير بين الأقل والأكثر، وهو غير معقول كما أسلفنا.

النحو الثاني: أن يكون على سبيل التعيين لا على سبيل التخيير، أي أن هناك مرتبتين من الملاك كل مرتبة تستدعي طلباً تعيينياً بها. وفي هذا النحو أيضاً يتصور فرضان:

الفرض الأول: أن يقال: هناك بعث واحد مؤكد نحو صلاة القصر، ولكن يسري من هذا البعث الواحد المؤكد المتعلق بصلاة القصر بعث نحو التمام أيضاً؛ لوفائها بملاك وهو ملاك الجامع بين الصلاتين.

وأشكل عليه: بأنه غير معقول، وهو محل تأمل سوف يأتي. إذ لا يعقل أن يسر الأمر من مباين إلى مباينه، فإن وجود القصر مغاير لوجود التمام، فكيف يسري الأمر الواحد المؤكد المتعلق بالقصر إلى ما هو مباين له. نعم، لو كان مقدمة بأن افترضنا أن الوجود الآخر مقدمة للوجود الأول أو ملازم له، لربما قيل: بأن الأمر يسري من ذي المقدمة إلى المقدمة أو من الملازم إلى ملازمه. وأما أن يسر الأمر من مباين إلى مباينه فغير معقول.

الفرض الثاني: أن نفترض أن هناك أمرين: أمر مؤكد بالقصر، وأمر بالتمام؛ لوفائها بملاك الجامع.

فهو يقول: لازم ذلك أن يتعلق أمران بالقصر أيضاً؛ إذ ما دامت التمام متعلقاً لأمر؛ لأنها وافية بملاك الجامع، فما الميزة بينها وبين القصر؟ فلازم ذلك: أن يتعلق أمر بالقصر أيضاً؛ لوفائها بملاك الجامع، ويتعلق أمر خاص بها؛ لوجود ملاك يختص بها. وورود بعثين على متعلق واحد غير معقول، بأن تكون صلاة القصر محل لبعثين: بعث لها بلحاظ وفائها بملاك الجامع، وبعث لها بلحاظ وفائها بملاك خصوصية القصر.

فإن قلت: بأن البعثين يتحولان إلى بعث واحد مؤكد.

قلنا: بأن الاشتداد في الاعتباريات غير معقول؛ إذ بعد أن اعتبر المولى اعتبارين: اعتبار للجامع واعتبار لصلاة القصر، فاندماج هذين البعثين تلقائياً إلى أمر واحد فغير معقول؛ لأن الاشتداد حركة، والحركة إنما تعقل في مقولة «الكيف»، لا أنها تعقل في عالم الاعتبار.

الصورة الرابعة: أن يقال بتعدد الأمر على سبيل الترتب، بأن يقول المولى: «صلِ القصر، فإن عصيت فصل التمام».، «ائت بالصلاة التامة، فإن عصيت فأتِ بالصلاة الناقصة»، فالصلاة الناقصة مأمور بها ولكن على نحو الأمر الترتبي، فتصح على نحو الأمر الترتبي.

فأشكل على ذلك المحقق الأصفهاني «قدس سره»: بأن الأمر الترتبي فرع العصيان أو فرع امتناع استيفاء الملاك، بأن يقال: «أنت مأمور بالقصر فإن عصيت فأت بالتمام»، وهذا غير متحقق؛ لأنه ما دام الوقت باقياً، فهو لم يعصِ حتى يقال: «فإن عصيت فأت بالتمام»، مع أنهم يلتزمون بأن من أتم في موضع القصر ولو كان الوقت باقياً فقد سقط الأمر بالقصر، فالأمر بالتمام مشروط بعصيان الأمر بالقصر ولا يتصور عصيان مع بقاء الوقت وإمكان الامتثال.

أو يكون الأمر بالتمام منوطاً بعدم استيفاء ملاك القصر مع وجود التمام، بمعنى «أقم القصر، فإن لم يمكنك استيفاء ملاكها فات بالتمام»، والمفروض أن المانع من استيفاء ملاكها هو نفس التمام؛ لأنه لابد أن يأتي بالتمام كي يكون إتيان بالتمام مانعاً من استيفاء ملاك القصر، والإتيان بالتمام فرع الأمر بها، فكيف يكون الأمر بالتمام فرع الأمر بها؟

بمعنى أن المفروض أن أمره بالتمام فرع تعذر ملاك القصر، وتعذر ملاك القصر بالإتيان بالتمام نفسها، وإلا فإن الإنسان إذا لم يمتثل أصلاً أمكنه استيفاء الملاك، إنما يتعذر عليه استيفاء الملاك إذا أتى بالتمام، وإلا إذا لم يأت بالتمام فيمكنه أن يستوفي الملاك.

إذن فالأمر بالتمام فرع تعذر ملاك القصر، وتعذر ملاك القصر فرع الإتيان بالتمام عن أمر؛ إذ الإتيان بالتمام بدون أمر شكل لغو لا يفوت ملاك القصر، فالأمر بالتمام فرع تعذر ملاك القصر وتعذر ملاك القصر فرع تعذر ملاك الإتمام عن أمر، فلازم إتمام الأمر عن تمام هو الدور.

إذن فالنتيجة: أنه حين الإتيان بالتمام المفوت لملاك القصر المأمور بها، لا أمر بالتمام فيه، فإن الأمر به بعد التعذر، وحين الإتيان بالتمام لم يتعذر بعد، فلا أمر بالتمام المقارن فعلها للتعذر المقارن لكون صلاة القصر مأمور بها، فلا يتصور ترتب.

فجميع الصور المطروحة لبيان تعدد الأمر، وأن هناك أمراً بصلاة التمام، أو أمراً بالصلاة الناقصة مع أنه مأمور بالصلاة التامة، غير معقولة.

يأتي الكلام في تنقيح ذلك إن شاء الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين

الدرس 20
الدرس 22