نص الشريط
مضامين المعية في -علي مع الحق-
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مجلس آل جمعة
التاريخ: 13/7/1442 هـ
مرات العرض: 4580
المدة: 00:51:00
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (164) حجم الملف: 14.5 MB
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

قال الرسول : ”علي مع الحق والحق مع علي، يدور معه حيث ما دار“

يدور البحث انطلاقاً من هذا الحديث النبوي الشريف في محاور ثلاثة:

وفي معاني المعية المقصودة من هذا الحديث الشريف، وفي مراتب الاقتداء بالإمام أمير المؤمنين علي :

المحور الأول: في جاذبية العظمة.

العظماء على ممر التاريخ يمتلكون سمة العظمة، وسِمَةُ العظمة بحسب علماء الاجتماع تعني الجاذبية، فالعظيم هو الذي يمتلك الجاذبية جاذبية التأثير في النفوس، وكما أن انتظام الكون يفتقر إلى الجاذبية انتظام المجتمع البشري أيضا يفتقر إلى الجاذبية، الكون لا يمكن أن يعي نظاماً إلا على هذه القوى الأربع، القوى النووية الشديدة، القوى النووية الضعيفة، القوى الكهرومغناطيسية، وقوة الجاذبية التي لو لا قوتها لتبعثر الكون وانتثرت أجزاؤه، انتظام الوجود يعتمد على قوة الجاذبية، أيضا المجتمع البشري لولا قوة الجاذبية النفسية لتبعثر المجتمع البشري، المجتمع البشري حتى ينتظم وتستقر أموره وتفاصيل حياته يفتقر إلى الجاذبية، جاذبية الحب وجاذبية الولاء، جاذبية الانتماء، جاذبية العظمة، لو لا هذه الصور من الجاذبية لتبعثر المجتمع البشري، ولولا وجود جاذبية الحب بين الزوجين، بين الوالد وأولاده وبين الصديق وصديقة، بين المحب ومحبوبه، لو لا هذه الجاذبية لتحول المجتمع البشري إلى مجتمع متوحش، ولذلك ورد عن الرسول : ”المؤمن يألف ويؤلف، أفاضلكم أحاسنكم أخلاق الموطؤون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون“.

ووراءه جاذبية الحب جاذبية الانتماء، أن أنتمي إلى قبيلة معينة، وأن أنتمي إلى بلد معين، أنتمي إلى أسرة معينة، وأنتمي إلى دين معين، فالانتماء صورة أخرى من صورة الجاذبية، ولو لا هذه الانتماءات لما أمكن للمجتمع البشري أن يتعارف بعضه مع بعض، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13]

فجاذبية الحب يحتاج إليها المجتمع، وجاذبية الانتماء يحتاج إليها المجتمع، وأعلى صور الجاذبية هي جاذبية العظمة، فالعظماء يمتلكون أقوى صورة من صور الجاذبية، وكلما اتسعت دائرة الجاذبية كلما اتسعت رقعة العظمة، العظيم تزداد عظمته بازدياد جاذبيته للنفوس وللعقول، فالعظمة تعني الجاذبية، ولذلك جاذبية العظمة لها معالم ثلاثة: المجد والقدوة والشعار، العظماء يختلفون، هناك من العظماء من أمتلك المجد، وهناك من العظماء من أمتلك الشعار، وهناك من العظماء من أمتلك المعالم الثلاثة، فهو مجد وقدوة وشعار،

المعلم الأول: المجد.

نجد أن كثير من العظماء تحولت عظمتهم إلى مجد يفتخر به ويعتز به، الفرنسيون يفتخرون بشكسبير، تحولت عظمته إلى مجد، اليونانيون يفتخرون بأفلاطون وسقراط وأرسطو، تحولت عظمة هؤلاء إلى مجد يفتخر ويعتز به، الفرس يعتزون بسعد ومولوي، تحول هؤلاء العظماء إلى مجد، العرب يفتخرون بالمتنبي تحول مجده إلى افتخار واعتزاز، العظمة هنا مجد يفتخر به، اسم وعنوان يعتز به.

المعلم الثاني: القدوة.

عظمة الأنبياء وعظمة الرسل، كعظمة إبراهيم وموسى وعيسى والنبي محمد تكمن في أنهم قدوة للبشرية ومنار يهتدى به، راية يقتدى ويحتذى بها يقول القرآن الكريم ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90]، أولئك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، هؤلاء عظمتهم في أنهم قدوة للمجتمع البشري.

المعلم الثالث: الشعار.

أن يصبح العظيم شعاراً لأمة أو شعاراً لجماعة أو شعاراً لمذهب معين أو شعاراً لدين معين، النبي من عظمته أنه أصبح شعاراً للمسلمين، ففي كل صلاة يظهر المسلمون هذا الشعار“ أشهد أن محمداً رسول الله < النبي مضافاً إلى عظمة المجد إلى عظمة القدوة أمتلك عظمة الشعار، محمد أصبح شعار للمسلمين في كل صلاة وفي كل آن وفي كل وقت.

إذن العظمة لها معالم منها القدوة ومنها الشعار ومنها المجد والافتخار، هذه المعالم الثلاثة للعظمة تجسدت في علي بن أبي طالب، علي بن أبي طالب حاز العظمة بتمام ملامحها ومعالمها وصورها، علي بن أبي طالب عظيم لأنه مجد يفتخر ويعتز ويتغنى به، وإذا استقرأت عظماء المسلمين وعظماء العرب، لن تجد شخصاً تغنت به كل المذاهب وكل الفلسفات، وتغنت به كل الأديان كما حصل للإمام أمير المؤمنين علي ، فالإمام علي تغنى به الفلاسفة، وتغنى به المسيحيون «روجيه غارودي» المفكر المسيحي «جورج جرداق»، الفيلسوف الإنجليزي «راسل»، أمين الأمم المتحدة «كوفي عنان»، كثير من الفلاسفة والمفكرين تغنوا بعلي بن أبي طالب، وتحدثوا عن مجده وتحدثوا عن عظمته، وكما قال بولس سلامة:

جَلجَلَ الحقُ في المسيحي حتى صَارَ مِن فَرطِ حُبِهِ iiعَلَويًّا
لا   تَقُل   شيعةٌ   هواةُ   علٍّي  إنَّ  كلَّ  منصفٍ  شيعيًا
أنا  مَن  يَعشقُ  البطولةَ  والإلهامَ والعدلَ والخلقَ iiالرَضِيَّا
فإذا   لم   يكن   عَليٌّ   نَبيًّا   فَلَقَد   كانَ   خُلُقَهُ  نَبوّيَا
يا سماءُ اشهَدِي ويَا ارضُ قَرِّي واخشَعِي إنَني ذَكَرتُ عَليِّا

علي مجد يفتخر به وقدوة يقتدى بها، قال الرسول : ”علي مني وأنا مِنْه سلمه سلمي، حربه حربي، من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم والي من والاه وعادي من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيثما دار“

علي قدوة بعد رسول الله وشعار، منذ أن استلم الإمام علي الخلافة افترقت الناس إلى فرقتين علوي وأموي، وأصبح علي شعار للعدالة وإن لم يقبل بها الناس، وأصبح الأموي شعار لكسب الأصوات، فعلي اكتسب قيمة المثل ومعاوية اكتسب الأصوات بأموال وبالثروات، شعار علي تميز منذ ذلك اليوم“والله لو كانت الأموال لي لساويت بينهم فكيف والمال مال الله، أتطلبونني أتأمروني أن أطلب النصر بالجور < علي أصبح شعار، شعار ورمز العدالة، كان معاوية يركز على المرحلة الآنية في كيف يستطيع الوصول إلى الحكم، وكيف يستطيع السيطرة وكيف يستطيع كسب الأصوات، أما علي فكان يركز على كيف يكون رمزاً للقيم ورمزاً للعدالة على مر العصور وعلى ممر الدهور وفي مختلف المجتمعات وفي مختلف الفئات والأصناف، معاوية وصل إلى هدفه وعلي وصل إلى هدفه.

السيد محسن الحكيم قدس سره في فتواه الشهيرة التي قال فيها:“الشهادة الثالثة رمز التشيع < الشهادة الثالثة في الأذان مستحبة بغض النظر عن الروايات الخاصة التي دلت على استحباب هذه الشهادة، الشهادة الثالثة أصبحت رمزاً وشعاراً ورايةً ولواءً، علي كما كان عظيما في مجده وكما كان عظيماً في قدوته فهو عظيم في كونه شعاراً للمؤمنين وشعاراً للمسلمين، بل شعاراً لكل من يعشق العدالة والحق من المجتمع البشري.

المحور الثاني: في تحليل معنى المعية في الحديث النبوي: ”علي مع الحق والحق مع علي“

كلنا يعرف أن الإمام علي معصوم، والمعصوم مرآةٌ لله تبارك وتعالى، ووجهٌ لله تبارك وتعالى،“ السَّلاَمُ عَلَى مَحَالِّ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَ مَسَاكِنِ بَرَكَةِ اللَّهِ < إذا كان علي وجه لله فلماذا لم يقل الرسول علي هو الحق والحق هو علي؟ لماذا عبر بالمعية ولم يعبر بالهوهوية؟ وما هو سر العدول من التعبير بالهوهوية إلى التعبير بالمعية في هذا الحديث النبوي الشريف؟

هناك ثلاثة مضامين تلحظ في العدول من التعبير بالهوهوية إلى التعبير بالمعية:

المضمون الأول: من معاني الحق التي نطق بها القرآن الكريم أن الحق هو الله تبارك وتعالى، قال القرآن الكريم: ﴿وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ [يونس: 30] ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [الحج: 62] ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ [طه: 114] فالحق اسم من أسماء الله تبارك وتعالى، والرسول الأعظم أراد أن يرفع الوهم فلو قال علي هو الحق لربما تُوهِمَ أن علي هو الله عزوجل ويكون ذلك مفتاح لعقيدة النصارى الذين يعتقدون أن الله والمسيح ومريم وجود واحد له صور متعددة، فالرسول تجنباً لأن يُفْهَم أن علي هو الله أو متحد مع الله أو أن علي هو عين الله تبارك وتعالى فَلِكَي لا تمتد هذه العقيدة ولكي لا تنتشر لم يعبر بهذا التعبير «علي هو الحق» بل عبر «علي مع الحق» حتى لا ينفتح المجال لمثل هذا التوهم، ولا ينفتح المجال لمثل هذا المعتقد، وحتى يبقى هناك فارق بين الخالق والمخلوق، وإن كان علي أكمل المخلوقات وأسمى المخلوقات بعد النبي محمد ،

المضمون الثاني: هناك فرق بين المنقبة الذاتية والمنهج العملي، تارة نتحدث عن ذات علي وهي ذات جمعت المناقب وحوت الفضائل وتارة نتحدث عن المنهج العملي الذي خطه علي بن أبي طالب وسار عليه، فإذا كنا نتحدث عن ذات علي وما حوت من الفضائل والمناقب فيكفينا قول رسول الله : ”يا علي لا يعرفك إلا الله وأنا“، لم يحط بذاته ولم يحط بفضائله ولم يحط بكنه ذاته الشريفة إلا الله والرسول الأعظم ، ولكن عندما نتحدث عن المنهج العملي الذي خطه الإمام علي فما هو هذا المنهج؟

هذا المنهج مع الحق، عندما يقول الرسول علي مع الحق فهو يتحدث عن منهج علي، وإن منهج علي مع الحق يدور معه حيثما دار، والرسول الأعظم له منهج يتحدث عنه القرآن الكريم عندما يقول: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] وعندما يقول: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف: 108] ﴿يُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [آل عمران: 164]

هذا منهج الرسول فما هو منهح علي ؟ منهج علي أنه مع الحق، والحق له معاني عدة في القرآن الكريم، الحق يأتي بمعنى الله كما ذكرنا ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ [طه: 114]، الحق يأتي بمعنى الدين ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ [التوبة: 33]، الحق يأتي بمعنى الواقع، الأشياء الواقعية التي لا غبار عليها ﴿لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ [الأنفال: 8] ﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى [يونس: 35]، ويأتي الحق بمعنى العدالة ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ [ص: 26] ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [الأعراف: 89] الرسول عندما يقول علي مع الحق فذلك يعني أنه مع الحق بكل معانيه.

المضمون الثالث: المعية في القرآن بمعنى لطف العناية، عندما يقول «فلان معك» يعني يعيش معك لطف العناية، هو معك أي أنه يعنى بك بلطف، كلمة المعية تعني لطف العناية، ونلاحظ القرآن الكريم عندما يقول ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: 153] ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [البقرة: 194] معهم يعني أنه يعنى بلطف العناية، لاحظوا القرآن الكريم عندما يقول ﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ [محمد: 35] أي أنه يدعمكم ويؤيدكم بلطف عنايته تبارك وتعالى ويقول القرآن الكريم ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد: 4]، فالمعية تعني لطف العناية، أراد الرسول الأعظم في هذا الحديث أن يبين أنه هناك عناية في أعلى درجات اللطف بين علي وبين الله عزوجل، هناك عناية بأسمى معاني اللطف بين علي وبين الحق، فأراد أن يرشد إليها الرسول محمد من خلال هذا الحديث النبوي الشريف.

المحور الثالث: قدوة علي .

ذكرنا في المحور الأول أن العظمة تعني المجد والقدوة والشعار، نأتي إلى المعنى الثاني وهو القدوة، هناك كثير من الناس يقول لا يمكن أن نطرح علي قدوة، يمكن أن نطرح علي مجداً نعتز به ونفتخر به ويمكن أن نطرح علي شعاراً للمؤمنين، شعاراً لمذهب أهل البيت ولكن لا يمكن أن نطرح علي قدوة لأنه لا يمكن الاقتداء بعلي، علي في أعلى درجات الكمال فكيف يمكن أن يقتدى به، علي بلغ من الزهد أنه يلبس النعل المخصف والثوب المرقع ويأكل قطع الخبز اليابس، يرش عليها الملح والخل ويكتفي بها، فهل يمكن لبشري أن يقتدي بمثل هذا الانسان؟، علي في عدالته بلغ به الأمر حتى مع أخيه وشقيقه ابن أمه وأبيه أنه قال:“ أيها الناس لقد جاءني أخي عقيل ومعه صبيته شعث غبر كأنما سودت وجوهم بالعظلم من شدة الفقر وطلب مني صاعاً من بركم، أن أعطيه صاع أزيد من غيره لشدة فقره وحاجته فأحميت له حديدة وأدنيتها منه ففزع منها فقلت له: ثكلتك الثواكل يا عقيل أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه وتجرني إلى نار سجرها جبارها بغضبه <

لم يكن يتعامل لا مع الأخ ولا مع الولد ولا مع القريب ولا مع البعيد إلا بشدة العدالة وصرامة الموقف فهل يمكن أن يقتدي به أحد؟ علي الذي دخل عليه عبدالله بن عباس في ذي قار وهو يخصف نعله فالتفت إلى ابن عباس وقال: يا ابن عباس ما قيمة هذه النعل؟ قال: لا قيمة لها يا مولاي. قال: إنها خير لي من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً أو أدحض باطلاً، علي بلغ في عبادته أنه يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، فهل يمكن أن يقتدي به أحد! لا يمكن حتى أن الإمام زين العابدين وهو سيد الساجدين كان يقول لابنه الإمام الباقر : ”بني ناولني صحيفة أعمال جدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فيناوله الصحيفة فيبكي ويقول من يقدر على عبادتك يا أمير المؤمنين؟“ علي لا يمكن الاقتداء به لا في زهده ولا في عدالته ولا في عبادته.

إذن لماذا يطرح علي على أنه القدوة، لماذا نصر على أن علي قدوتنا ومنارنا ونحن لا يمكننا الاقتداء به أبداً لأنه بلغ أعلى درجات العلا والكمال، ولكن مقابل هذه الفكرة هناك عدة مضامين لابد أن نلتفت إليها:

المضمون الأول: الكمال كما يقال وجود تشكيكي بمعنى أن الكمال له درجات متفاوتة ومراتب مختلفة، الكمال له درجات ومراتب وصور متعددة، إذا لم يمكن الاقتداء بعلي في أعلى درجات الكمال فيمكن الاقتداء به في أقل درجات الكمال، وليس هناك ممدوحه لأي شخص أن يعرض عن الاقتداء بعلي لأنه لا يمكن أن يصل إلى ما وصل إليه علي، ما دام يمكنه أن يقتدي بعلي ولو في صورة من صوره ولو في خطوة من خطواته يظل علي هو الرمز، يظل علي هو القدوة ولقد قال صلوات الله وسلامه عليه عن نفسه: ”ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعامه بقرصيه، ألا وأنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينونا بورع واجتهاد وعفة وسداد“ خذ درجه من درجاته وخطوة من خطواته أنت تستطيع أن تنال درجة من العفة، درجة من السداد، ودرجة من التقوى، فعليك أن تقتدي ولا ممدوحه لك.

المضمون الثاني: هناك فرق بين الروح وبين الصورة، الكمال له روح وله صور يتجلى بها، كيف نقول فلان فنان ولديه فن؟ يعني يعيش روح الفن وإن كانت صور الفن تختلف، أحيانا يكون الفن رسماً وأحيانا يكون إبداعاً في الكلام، وأحيانا يكون الفن إبداع في التفكير، فالفن واحد وروح واحدة، وإن تعددت صوره وتعددت مفرداته وتعددت أمثلته، إلا أنه روح واحدة، فالإيمان روح قد تعدد صوره، هناك من المؤمنين من ينهمك في العبادة وهذه صورة من صور الإيمان، هناك من المؤمنين من ينهمك في قضاء حوائج المؤمنين وهذه صورة من صور الإيمان أيضاً، وهناك من المؤمنين من ينهمك في طيب الخلق وطيب الشمائل هذه أيضاً صورة من صور الإيمان، فالإيمان روح واحدة له صور وأمثلة متعددة، إذن بيننا وبين علي بن أبي طالب علقة روحية فإن لم نتمكن من الاقتداء بعلي في الصور التي تجلت فيه على الأقل نقتدي فيه بالروح، الروح العلوية تجمعنا به وتجعلنا نقتدي به، مثال: عندما نأتي إلى الزهد، نرى أن الزهد روح له صور متعددة، والصور التي تجلت من علي هي أنه كان يعيش في كوخ الفقراء ويلبس لباس الفقراء المعدمين، هذه صور من صور الزهد لكن حقيقة الزهد قال عنها علي بن أبي طالب ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد: 23] الزهد يعني عدم التعلق بالدنيا، روح الزهد واحدة وإن تعددت صوره يمكنك أن تقتدي بعلي في روح الزهد، إذا لم يمكنك أن تقتدي بعلي في صور الزهد التي تجلت في شخصيته، روح الزهد أن لا تتعلق بالدنيا، أن لا تركض وراء الدنيا، أن تقتنع بما أعطاك الله، أن تقتنع بما رزقك الله، إن وهبك الله نعمة فعليك بشكرها، وإن قرنك الله بمصيبة فعليك بالصبر عليها، المؤمن الزاهد هو الذي لا يتعلق بالدنيا إن جاءت النعم شكر وإن جاءت المحن صبر، هذا هو الزهد الحقيقي، روح الزهد الحقيقية.

عندما نأتي للعبادة، العبادة أيضا لها صور، الصدقة أيضا عبادة، حسن الخلق مع الناس عبادة، العبادة لا تختص فقط بالصلاة، قضاء حوائج الناس، هذه كلها صور مختلفة للعبادة، العبادة لها روح وراء هذه الصور كلها، القرآن الكريم عندما يقول: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ «1» الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ «2» [المؤمنون: 1 - 2] روح العبادة هو الخشوع، يكفيك أن تصلي في اليوم فريضة بخشوع، أنت اقتديت بعلي في روح العبادة، يكفيك أن تصلي النافلة بقلب خاشع ومتعلق بالله بقلب مستغرق في الله أنت اقتديت بعلي في روح العبادة وإن لم تقتدي بعلي في صور العبادة وأنحاء العبادة وألوان العبادة،

إذن علي يبقى قدوة لأنه قدوة للبشرية في كل كمال بروح ذلك الكمال وإن لم تقدر البشرية على الاقتداء به في صور الكمال،

المضمون الثالث ولأخير: هناك فرق بين الاقتداء وسنن الاقتداء، ما هي سنن الاقتداء

الاقتداء هو الاتباع الحرفي، أنا أقتدي بعلي أي أسير على خطه وعلى دربه وعلى منهجة بدقه بحذافير المنهج، وهناك سنة الاقتداء تبدأ بالحب والعشق، تبدأ بالولاء لاحظوا عندما نقرأ هذه الأحاديث الشريفة:

جاء رجل إلى رسول الله قال: أنا أحبك يا رسول الله. قال: وهل الإيمان إلا الحب؟

قد لا يكون هذا الرجل مقتدياً بالرسول لكنه أمسك أول الطريق، والإمساك بأول الطريق يبدأ بالحب، وهل الإيمان إلا الحب؟ الحب أول نافذة وأول مفتاح من مفاتيح السير وراء رسول الله

جابر بن عبدالله الأنصاري في يوم العشرين من صفر عندما وقف على قبر الحسين قرأ هذا الحديث النبوي: سمعت حبيبي رسول الله يقول من أحب قوماً حشر معهم ومن أحب عمل قوم أشرك في عملهم

ومعنى أشرك في عملهم، أن محبة الشيء هي أول خطوة من خطوات الشراكة هي أول خطوة من خطوات المحاكاة والمجاراة والسير، إذن عندما تؤكد هذه الأحاديث الشريفة على أنا أول درجة من درجات الولاء الحب، ورد عن الرسول : حب علي عبادة.

وما ورد عنه ذكر علي عبادة.

أن تعيش علياً، أن تقتدي بعلي عندما تعيش علياً، تعيش عليا في قلبك لأن قلبك مفعم بحبه، تعيش عليا في لسانك لأن لسانك يلهج بذكره، تعيش عليا في صلاتك لأنك تبدأ صلاتك بالشهادة لعلي بالولاية، تعيش عليا في أمجادك وافتخارك لأن تتغنى بفضائل علي ومناقب علي عندما تعيش علياً في كل جوانحك ستعيش عليا في جوارحك، ستكون مقتدياً بعلي سنة الاقتداء هي تسبق الاقتداء، سنة الاقتداء أن تعيش المقتدى به في جوانحك في قلبك في روحك،

لا   عذّب   الله  اُمّي  إنّها  شَرِبَتْ
وكان  لي  والدٌ  يَهوى  أبا  iiحسن
  حُبَّ    الوصيّ   وغذّتنيهِ   iiباللَّبنِ
فَصِرْتُ مِن ذي وذا أهوى أبا حَسَنِ

 

انطلاقة الوجود في كلمات الزهراء (ع)
ماذا قدمت الزهراء (ع) للحضارة الإنسانية