نص الشريط
الدرس 17
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 23/11/1434 هـ
مرات العرض: 2630
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (416)
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

كان الكلام سابقاً فيما ذكره المحقق الأصفهاني «قدس سره» من بيان صور الزيادة التشريعية، وبلغ الكلام إلى الصورة الثالثة أو الفرض الثالث، وهو التشريع في مقام الامتثال؛ بأن يدعي المكلف أنّ المأمور به ممّا ينطبق على المأتي به وإن كان بعض ما في المأتي به ليس من المأمور به، إلاّ أنه ينطبق عليه.

وذكر المحقق «قدس سره» أنّ هذا تشريع، والتشريع إذا كان من العناوين العملية الموجبة للقبح فهو منطبق على المقام وموجب لقبح العمل ومانعيته من المقربية.

ولكن ينبغي لنا البحث في الصغرى والكبرى:

أمّا الصغرى: هل أنّ المقام من باب التشريع، أي هل أنّ المقام من باب التصرف في سلطان الشارع المقدس، أم لا؟ فإنّ المكلف مع اعترافه بأنّ الأمر هو الأمر الشرعي لم يغير فيه شيء، واعترافه بأنّ المتعلّق هو المتعلّق لم يُغير فيه شيء، فالشارع أصدر أمراً وجوبياً بصلاة الظهر المكونة من عشرة أجزاء، وهذا كله ممّا يُقر به المكلف ولم يغير منه شيء، وإنما ادعى المكلف أمراً خارجاً عن إطار الشارع نفسه، فقال: المأمور به  وهو صلاة الظهر المكونة من الأجزاء المعينة  ممّا ينطبق خارجاً على الصلاة مع تشهد ثانٍ، فهو لا يزعم فيما بيد الشارع، فإنّ ما بيد الشارع أمره ومتعلق أمره، والمكلف إنّما يدعي التصرف في مقام الانطباق، فيقول: ما أتيت به وهو الصلاة المشتملة على تشهد ثانٍٍٍ «زائد» في الركعة الأولى أو الركعة الثانية بقصد الجزئية هو مصداقٌ من مصاديق المأمور به، مع اعترافه أنّ المأمور به لم يؤخذ فيه هذا التشهد الثاني، ولكنه يزعم أنّه من مصاديقه في مقام الامتثال، وحينئذ فأي تصرف في سلطان الشارع؛ إذ مع اعتراف المكلف أنّ المأمور به على ما هو عليه من الحدود، سواءً لُوحظ بالنسبة إلى التشهد الثاني بشرط لا أو لُوحظ بالنسبة إلى التشهد الثاني على نحو اللابشرط، فالتصرف في مقام الامتثال لا يستلزم تصرفاً فيما هو بيد الشارع كي يكون تشريعاً.

ودعوى: أنّ للشارع تسبيباً لمقام الامتثال  كأن يدّعي المكلف أنّ الامتثال يتحقق بهذا الفرد، فهو يدّعى أنّ الشارع سبب لهذا الفرد، وهذا تصرف منه في سلطانه  ممنوعة، فإن وظيفة الشارع  كمشرع  إصدار الأمر وبيان حدود متعلّقه بغرض إيجاد هذا المتعلّق خارجاً، وأمّا كيفية امتثال هذا المتعلّق وضمن أي صورة أو ملابسة، فهذا ممّا لا يدخل في وظيفة الشارع بما هو مشرّع.

وقد ذكرنا سابقاً أنّ كيفيات الأفراد وملابساتها وإن لم تكن دخيلةً في المتعلّق المأمور بها، لكن الفرض لا يقع إلا بها، فالمولى وإن لم يأخذ في متعلّق أمره الزمان أو المكان أو كيفيةً معيّنة من الجسم، لكن العمل في الخارج لا ينفكّ عن هذه العوارض والملابسات، فما للشارع الشريف تسبيبٌ إليه، هو أنّ يُصدر الأمر بمتعلّق محدد بغرض أن يوجد هذا المتعلّق في الخارج.

وأمّا أن يكون له تسبيب لأي فرد من أفراد الامتثال وبأي كيفية من كيفيات الامتثال، فهذا أجنبي عن وظيفة الشارع، فلا يكون التدخل من قبل المكلف في مقام الامتثال تشريعاً.

وأمّا بالنسبة للكبرى: فعلى فرض أنّ هذا تشريع وتصرف في سلطان الشارع، فهل أنّ التشريع مبطلٌ للعمل، أم لا؟، وإذا كان مبطلاً للعمل، فهل هو مبطلٌ للعمل مطلقاً، أو في الجملة؟

الرأي الأوّل: وهو أن يقال التشريع من العناوين العملية، كما قيل بذلك في التجري، حيث ذهب سيّدنا الخوئي «قدس سره» إلى أنّ التجري من العناوين العملية، فلا يصدق على العبد أنّه تجرأ على المولى وتمرد عليه إلا إذا أتى بعمل، فإذا اعتقد أنّ هذا المائع خمرٌ ونوى شربه فهذا ليس تجرياً، إنما يتحقق التجري بإقدامه على الشرب، وإن لم يكن هذا في المائع في الواقع خمراً، فالتجري حيثية متقومة بالعمل، فهو من العناوين العملية، ولأجل ذلك يكون العمل المُتجرى به تجرياً، فيكون قبيحاً؛ لأن التجري قبيحٌ، نظير الإنحاء لشخص بقصد التعظيم، فإنّ نفس هذا الإنحاء يكون تعظيماً. وهنا أيضا إذا أقدم على شرب المائع قاصداً التمرد على المولى، كان نفس إقدامه تجرياً، فكان قبيحاً.

وكذلك التشريع من العناوين العملية، فإنّه إذا ارتكب العمل، بمعنى أنه أتى بالصلاة المشتملة التشهد الآخر قاصداً بذلك أنّ هذا التشهد جزء من مقام الامتثال، فإذا أتى به كانت هذه الصلاة تشريعاً، وبما أنّ التشريع قبيحٌ؛ لأنه تصرف في سلطان المولى، والتصرف في سلطان المولى قبيح، والتصرف في سلطان المولى اعتداءٌ والاعتداء قبيحٌ، والقبيح لا يصلح للمقربية، فيكون العمل فاسداً.

الرأي الثاني: قد ذكرنا في بحث التجري: أنّ التجري ليس من العناوين العملية وإنما العمل مبرزٌ له وحاكٍ عنه، وإلا فهو من العناوين النفسية، فالتجري هو نفس قصد التمرد على المولى والخروج عن طاعته، وإنما العمل مبرزٌ له، فلذلك نقول: تجرى بالعمل، لا أنّ العمل تجريٍ، ولذلك قلنا: بأن التجري كاشف عن القبيح لا أنّه هو القبيح.

ولو سلّمنا في باب التجري بأنّ التجري من العناوين المتقومة بالعمل، حيث إنّ التجري طغيانٌ من العبد وتمردٌ على مولاه، وهذا الطغيان متقومٌ عرفاً بعملٍ، فلا نُسلم به في التشريع، فإنّ التشريع ليس إلاّ أن ينسب إلى المولى ما لم يعلم أنّه منه. فبما أنّ التشريع هو أن يُسند إلى المولى ما لم يعلم أنّه منه، فحيثية الإسناد لا تتوقف على التصرف العملي، وإن كان التصرف العملي قد يكون مبرزاً للإسناد، وقد يكون القول مبرزاً للإسناد، وقد تكون الإشارة مبرزةً للإسناد. فما دام معنى التشريع أن يضيف للوح التشريع ما لم يعلم أنّه منه فهذه الإضافة ليست متقومة بالعمل كي يكون التشريع من العناوين العملية. فعلى ذلك لا يسري قبح التشريع إلى العمل نفسه كي يكون العمل قبيحاً ويكون قبحه مانعاً من المقربية.

الوجه الثالث: أن يُقال: صحيح أنّ قُبح التشريع لا يسري للعمل، فلا يُوجب أن يكون العمل المشرَّعُ فيه قبيحاً غير صالح للمقربية، ولكن إذا اتصف التشريع بالبدعة كان العمل قبيحاً. وبيان ذلك: أنّ النسبة بين التشريع والبدعة عموماً وخصوصاً مطلق فالبدعة أخص مطلقاً من التشريع؛ والوجه في ذلك: أنّ عنوان البدعة متقوّم بحيثية السنّ وهو أن يسنّ لغيره سنّة بغرض أن يتبعه الغير فيما شرّع وابتدع، فلا يتحقق عنوان البدعة بعمل بين الإنسان وربه، كما لو فرضنا أنّ الإنسان  بينه وبين ربه  اعتبر غُسل الجنابة مكوناً من مكوناً من ثلاثة أغسال، وهذا أمر بينه وبين ربه من دون أن يسنّه للغير، فهذا تشريع وليس ببدعة، لذلك فعنوان «التشريع» ثنائي الأطراف بينما عنوان «البدعة» ثلاثي الأطراف، فلابد من ملاحظة مُبْتَدِعٍ، ومُبْتَدَعٍ فيه  وهو الدين ، ومُبْتَدَعٍ له  وهو من أُريد استنانه بهذه البدعة واتّباعه لها .

فحيث أُخذ في مفهوم البدعة حيثية السنّ؛ لذلك كان عنوان البدعة متقوماً بمبرز للغير كي يتحقق به عنوان الابتداع أو سنّ البدعة. فمتى ما صدر منه العمل المشتمل على التشريع بقصد الغير، كما لو دخل المسجد وقال: أيها الناس الصلاة المحققة للامتثال هي هذه الصلاة، وهي المشتملة على التشهد، كان ما أتى به بدعةً. فإذا انطبق عنوان «البدعة» على عمله، والبدعة افتراء «قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ»، والافتراء قبيح، كان العمل المأتي به قبيحاً، والقبيح مانعٌ من المقربية.

فالمتحصّل: أنّ التشريع بعنوانه ليس مبطلاً وإنّما المبطل ما إذا اتسم التشريع في العمل بعنوان البدعة؛ بلحاظ أنّ البدعة عنوان قبيحٌ مانع من صلاحية العمل للمقربية، فلو سلّمنا بصغرى التشريع لم نُسلم بكبرى  وهو المبطلية  ما ينطبق عليه عنوان «البدعة».

فتحصّل من ذلك: أنّ ما ذكره المحقق الأصفهاني «قدس سره» في الفرض الثالث، محل تأمّلٍ صغرىُ وكبرىً.

الفرض الرابع: أن يزعم المكلف وجود أمر غيري أو أمر بالملازمة، كما لو فرضنا أنّ المكلف تلّقى أمراً بالصلاة مع الاطمئنان، ولكنه يزعم أنّ الاطمئنان يتوقف في الصلاة على قراءة سورة الزلزلة مثلاً، فإنّه ما لم يقرأ سورة الزلزلة لا يحصل له الاطمئنان، فبما أنّ المأمور به متوقفٌ على عمل ألا وهو قراءة سورة الزلزلة، صارت قراءة سورة الزلزلة مأموراً بها بأمر غيري مقدمي، فهو يزعم أنّ سورة الزلزلة مأمورٌ بها أمراً غيرياً، وما هو المأمور به أمراً نفسياً هو الصلاة مع الاطمئنان، لكن حيث يتوقف الاطمئنان على قراءة سورة الزلزلة فلابد حينئذ من أن يقرأ سورة الزلزلة فإنها مأمور بها أمرا غيرياً.

أو من باب الملازمة، كأن يدعي أن الأمر بالملزوم أمر باللازم، فبما أنه أمر بالاطمئنان، ولازم الاطمئنان قراءة سورة الزلزلة فهي مأمور بها من باب الملازمة.

فهل أنّ هذا العمل تشريع أي تدخلٌ في سلطان الشارع؟ وعلى فرض كونه تشريعاً هل هو مبطلٌ أم لا؟

فقد أفاد المحقق «أعلى الله مقامه» أنّ هذا تشريع، فهو ادعى وجود أمر غيري والمفروض أنّ الأمر الغيري ليس صادراً من الشارع، أو ادعى وجود أمر باللازم ولم يصدر ذلك من الشارع، أو لا يعلم صدوره، فالتشريع صادقٌ لا محالة، لكن مع ذلك هذا التشريع ليس مبطلاً للعمل.

بخلاف الصورة السابقة التي أدعى فيها أنّه لو صدق التشريع لكان مبطلاً؛ والوجه في ذلك: أنّ غاية ما حصل قبح هذا الذي أتى به، لا قبح العمل، فإذا أتى بالصلاة مشتملةً على سورة الزلزلة، ولم يدّعي أنّ سورة الزلزلة جزءٌ من الصلاة لا متعلّقاً ولا امتثالاً  كما في الفرض السابق  وإنما ادعى أنها مقدمة للصلاة، حيث إنّه أُمر بصلاة مع الاطمئنان فمن مقدماتها قراءة سورة الزلزلة وإن قرأها أثناء الصلاة إلا أنه لم يعدها ولم يعتبرها جزءاً، فما لم يدع أن سورة الزلزلة جزءٌ من الصلاة، إذاً فما أتى به بإقراره أجنبي عن الصلاة المأمور به وإنما هو مقدمة من مقدماتها، فغاية قبح التشريع قبحُ ما أتى به لا قبح الصلاة المتضمنة له، وبالتالي فالصلاة صحيحةٌ.

والحمد لله رب العالمين

الدرس 16
الدرس 18